الآيات الدالّة على طهورية الماء 

الكتاب : التنقيح في شرح العروة الوثقى-الجزء الثاني:الطهارة   ||   القسم : الفقه   ||   القرّاء : 12814


    المناقشات في الاستدلال

   هذا وقد نوقش في الاستدلال بالآية المباركة من جهات :

   الجهة الاُولى : هي ما نقل عن بعض أهل اللغة من أن الطهور بمعنى الطاهر (3) ، وعليه فلا تدل الآية على مطهرية الماء لغيره . وعن بعض آخر أن الطهور فعول وهو من إحدى صيغ المبالغة كالأكول ومعناه : أن طهارة الماء أشد من طهارة غيره من الأجسام فهو طاهر بطهارة شديدة بخلاف غيره من الأجسام، فالآية لا دلالة لها على مطهّرية الماء .

   وهذان الايرادان فاسدان .

   أمّا الأول : فلأجل أن الطهور غير ظاهر في الطاهر من دون أن يكون مطهراً لغيره ، وإلاّ فلو صحّ إطلاق الطهور على ما هو طاهر في نفسه خاصة لصحّ استعماله في غير الماء من الأجسام أيضاً فيقال : الشجر أو الخشب طهور أو يقال : البواطن طهور وظاهر الحيوانات طهور مع أن الاطلاق المذكور من الأغلاط الفاحشة .

   وأمّا الثاني : فلأن الطهور وإن كان فعولاً وهو من صيغ المبالغة بمعنى أ نّها ربّما

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) التذكرة 1 : 11 .

(2) الفرقان 25 : 48 .

(3) المصباح المنير : 379 .

ــ[5]ــ

يستعمل في المبالغة كما في مثل الأكول ، إلاّ أ نّه في المقام ليس بهذا المعنى جزماً . وتوضيح ذلك : أن استعمال الطهور بمعنى أشد طهارة وكونه أنظف من غيره وإن كان صحيحاً ، وربّما يستعمل بدله لفظ أطهر فيقال : إن هذا الشيء أطهر لك كما في قوله تعالى : (هؤلاءِ بناتي هُنّ أطهر لكم ) (1) أي أوقع في الجهات الشهوية من غيرها . وقوله تعالى : (شراباً طهُوراً ) (2) أي أشد نظافة إلاّ أن ذلك كلّه في الاُمور الخارجية التي لها واقع ، كما في الطهارة الخارجية بمعنى النظافة فيقال : هذا الثوب أطهر من ثوبك أي أشدّ نظافة من ثوبك .

   وأمّا في الاُمور الاعتبارية التي لا واقع لها إلاّ حكم الشارع واعتباره كما في الطهارة المبحوث عنها في المقام والملكية والزوجية وغيرها من الأحكام الوضعية التي اعتبرها وجعلها في حق المكلفين ، فهي مما لا يعقل اتصافه بالأشدية والأقوائية كما ذكرناه في بحث الأحكام الوضعية ، فلا يصح أن يقال : إن ملكك بالدار أشدّ من ملكك بالكتاب أو إن حكم الشارع بالطهارة في هذا الشيء أشدّ من حكمه بها في الشيء الآخر ، فإنّ الشارع إن حكم فيهما بالطهارة أو بالملكية فهما على حد سواء ، وإلاّ فلا  طهارة ولا ملكية في البين أصلاً ، ففي الاُمور الاعتبارية لا معنى للاتصاف بالشدّة والضعف ، بل الأمر فيها يدور دائماً بين الوجود والعدم والنفي والاثبات ، وعليه فلا  يعقل استعمال الطهور في الآية بمعنى المبالغة .

   وتوهّم أن شدّة الطهارة في الماء باعتبار أ نّه لا ينفعل بملاقاة النجس ما لم يتغير .

   يدفعه أولاً : أنّ هذا مما يختص ببعض أفراد المياه ولا يعم جميعها ، مع أن الطهور وصف لطبيعي الماء أين ما سرى .

   وثانياً : أنّ استعمال لفظ الطهور لو كان بلحاظ عدم الانفعال بملاقاة النجس لصحّ حمله على البواطن ، بل على ظاهر الحيوان أيضاً على قول مع أ نّه من الاغلاط .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) هود 11 : 78 .

(2) الانسان 76 : 21 .

ــ[6]ــ

   وممّا يدلّنا على ما ذكرناه : ما ورد في الأخبار من أن التراب أحد الطهورين (1) فإنّه لو اُريد من الطهور فيها ما هو طاهر في نفسه لما صحّ هذا الاستعمال قطعاً ، فإن سائر الأجسام أيضاً من الطاهرات كالخشب والمدر فما وجه تخصيصه التراب والماء بذلك ؟ كما هو الحال ـ  أي لا يصح الاستعمال المذكور  ـ فيما لو اُريد منه المبالغة ، لأن التراب نظير غيره من الأجسام ، وليس فيها أشدية في الطهارة كما لا يخفى .

   أضف إلى ذلك كلّه ما في بعض الروايات من أن التيمم طهور (2) فإنّه صريح فيما ادعيناه في المقام من عدم كون هيئة الطهور موضوعة للطاهر أو للمبالغة ، فإن التيمم ليس إلاّ ضربة ومسحة وما معنى كونهما طاهرين أو كونهما أشد طهارة ؟ وعليه فلا  مجال لهذين الايرادين بوجه .

   وإذا بطل هذان المعنيان تتعين إرادة المعنى الثالث ، وهو كونه بمعنى ما يتطهر به نظير السحور والفطور والحنوط والوضوء والوقود ، بمعنى ما يتسحر به أو ما يفطر به وهكذا غيرهما . وبعبارة اُخرى ما يكون منشأ للطهارة أو التسحر والجامع ما يحصل به المبدأ ، وبهذا المعنى استعمل في الخبرين المتقدمين . وعليه فالطهور يدل بالدلالة المطابقية على أن الماء مطهّر لغيره ومنشأ لطهارة كل شيء ، وبالدلالة الالتزامية يدل على طهارة نفسه ، فإن النجس لا يعقل أن يكون منشأ للطهارة في غيره . ولعلّ من فسّره من الفقهاء ومنهم صاحب الجواهر (قدس سره) : بما يكون طاهراً في نفسه ومطهّراً لغيره (3) ، أراد ما ذكرناه من دلالته على المطهرية بالمطابقة وعلى طهارته بالالتزام ، وإلاّ فلم توضع هيئة الطهور «فعول» للمعنى الجامع بين الطاهر والمطهّر .

   ودعوى أن الروايتين وردتا في الطهارة الحدثية ، وهي المراد من مادة الطهور فيهما والكلام في الأعم من الطهارة الحدثية والخبثية .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) كما ورد مضمونه في صحيحة محمد بن حمران ، وجميل بن دراج جميعاً عن أبي عبدالله (عليه السلام) المرويّة في وسائل الشيعة 3 : 385 / أبواب التيمم ب 23 ح 1 .

(2) ورد مضمون ذلك في صحيحتي زرارة المروية في الوسائل 3 : 381 / أبواب التيمم ب 21 ح 1 ومحمد بن مسلم المروية في الوسائل 3 : 370 / أبواب التيمم ب 14 ح 15 .

(3) الجواهر 1 : 64 .

ــ[7]ــ

   مندفعة بأنهما وإن وردتا في الحدثية من الطهارة ، إلاّ أن الكلام في المقام إنّما هو في هيئة صيغة الطهور لا في مادتها ، سواء أ كانت مادتها بمعنى الخبثية أم كانت بمعنى الحدثية ، فالتكلّم في مادتها أجنبي عمّا هو محط البحث في المقام . وقد عرفت أن الهيئة في الطهور بمعنى ما تنشأ منه الطهارة وما يحصل به المبدأ .

   الجهة الثانية من المناقشات : أنّ الآية على تقدير دلالتها فإنّما تدلّ على طهورية الماء المنزل من السماء وهو المطر ، فلا دلالة فيها على طهورية مياه الأرض من ماء البحر والبئر ونحوهما .

   وهذه المناقشة لا ترجع إلى محصّل ، وذلك لما ورد في جملة من الآيات وبعض الروايات (1) من أن المياه بأجمعها نازلة من السماء ، إما بمعنى أن الله خلق الماء في السماء فهناك بحـار وشـطوط ثم أنزله إلى الأرض فتشكّل منه البحار والأنهار والشطوط والآبار ، أو بمعنى أن الله خلق الماء في الأرض إلاّ أ نّه بعد ما صار أبخرة باشراق الشمس ونحوه صعد إلى السماء فاجتمع وصار ماء ، ثم نزل إلى الأرض كما هو مذهب الحكماء والفلاسفة ، وهذا المعنى لا ينافي نزول الماء من السماء لأ نّه بمعنى نزول أمره من السماء . ويدل عليه قوله تعالى : (وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للنّاس ) (2) فإنّه لم يتوهّم أحد ولا ينبغي أن يتوهّم نزول نفس الحديد من السماء .

   ومن جملة الآيات الدالّة على ما ادعيناه من نزول المياه بأجمعها من السماء قوله تعالى : (وإن من شيء إلاّ عندنا خزائنه وما ننزله إلاّ بقدر معلوم ) (3) وقوله تعالى : (ألم ترَ أن الله أنزل من السّماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض ) (4) وقوله تعالى :

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) ففي البرهان المجلد 3 ص 112 عن تفسير علي بن إبراهيم ما هذا نصه : «ثم قال : وعنه وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكنّاه في الأرض ... فهي الأنهار والعيون والآبار» ولا يرد عدم اشتمال الرواية على ماء البحر ، فإنّه إنّما يتشكل من الأنهار ، فلا يكون قسماً آخر في مقابلها .

(2) الحديد 57 : 25 .

(3) الحجر 15 : 21 .

(4) الزمر 39 : 21 .

ــ[8]ــ

(وأنزلنا من السّماء ماء بقدر فاسكنّاه في الأرض وإنّا على ذهاب به لقادرون ) (1) إلى غير ذلك من الآيات . فهذه المناقشة ساقطة .

   الجهة الثالثة من المناقشات : أن الماء في الآية المباركة نكرة في سياق الاثبات وهي لا تفيد إلاّ أن فرداً من أفراد المياه طهور ، ولا دلالة فيها على العموم .

   ويدفعها : أن الله سبحانه في مقام الامتنان على جميع طوائف البشر لا على طائفة دون طائفة ، وهذا يقتضي طهارة جميع المياه . على أن طهورية فرد من أفراد المياه من دون بيانه وتعريفه للناس مما لا نتعقل فيه الامتنان أصلاً ، بل لا يرجع إلى معنى محصل ، فالآية تدل على طهورية كل فرد من أفراد المياه .

   ومن جملة الآيات التي يمكن أن يستدل بها على طهورية الماء ، قوله تعالى : (وينزل عليكم من السّماء ماءً ليطهّركم به ) (2) وهذه الآية سليمة عن بعض المناقشات التي أوردوها على الآية المتقدمة ، كاحتمال كون الطهور بمعنى الطاهر أو بمعنى المبالغة . نعم ، يرد عليها أيضاً مناقشة الاختصاص بماء السماء ومناقشة عدم دلالتها على العموم لكون الماء نكرة في الآية المباركة ، والجواب عنهما هو الجواب فلا نعيد .

   ثم إنّه ربّما تورد على الاستدلال بهذه الآية مناقشة اُخرى كما تعرض لها في الحدائق (3) وغيره . وملخّصها عدم دلالة الآية على التعميم ، لا لأجل أن الماء نكرة بل لأ نّها وردت في طائفة خاصة، وهم المسلمون الذين كانوا يحاربون الكفّار في وقعة بدر ، ومع اختصاص المورد لا يمكن التعدي عنه .

   والجواب عن ذلك : أن هناك روايات دلتنا على أن ورود آية من آيات الكتاب في مورد ، أو تفسيرها بمورد خاص لا يوجب اختصاص الآية بذلك المورد ، لأن القرآن يجري مجرى الشمس والقمر ، ويشمل جميع الأطوار والأعصار من دون أن يختص

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) المؤمنون 23 : 18 .

(2) الأنفال 8 : 11 .

(3) الحدائق 1 : 172 .

ــ[9]ــ

بقوم دون قوم ، بل وفي بعض الأخبار أن الآية لو اختصت بقوم تموت بموت ذلك القوم(1) ، وفي رواية (2) أن الإمام (عليه السلام) طبّق قوله تعالى : (الّذين يصلون ما أمر الله به أن يُوصل ) (3) على أنفسهم وقال : إنها وردت في رحم آل محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وقد تكون في قرابتك ثم بيّن (عليه السلام) أن مرادنا من ورود الآية في مورد أ نّه مصداق وممّا ينطبق عليه تلك الآية ، لا أن الآية مختصة به . فهذه الشبهة أيضاً مندفعة فلا مانع من الاستدلال بها من تلك الجهات .

   تزييف الاستدلال : ولكن الانصـاف أن الآيتين ممّا لا دلالة له على المـطلوب والوجه في ذلك : أن الطهور والطهارة مما لم تثبت له حقيقة شرعية ولا متشرعية في زمان نزول الآيتين ، ولم يعلم أن المراد من الطهور هو المطهّر من النجاسات ولم يظهر أ نّه بمعنى الطهارة المبحوث عنها في المقام ، ولعلّ المراد منها أن الله منّ عليكم بخلق الماء وجعله طاهراً عن الأوساخ المنفّرة ، ومطهّراً من الأقذار العرفية ، فإن الإنسان ليس كالحيوان بحيث لو لم يرَ الماء شهراً أو شهوراً متمادية لا يكون مورداً للتنفّر عرفاً ولا يستقذره العقلاء ، بل هو يحتاج في تنظيف بدنه ولباسه وأوانيه وغيرها إلى استعمال ماء طهور ، فهو طاهر في نفسه ومطهّر عن الأقذار وقد جعله الله تعالى كذلك من باب

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) فروى العياشي في تفسيره [ ج 1 ص 10 ] باسناده عن أبي جعفر (عليه السلام) انّه قال : «القرآن نزل أثلاثاً ثلث فينا وفي أحبائنا ، وثلث في أعدائنا وعدو من كان قبلنا ، وثلث سنة ومثل ، ولو أن الآية إذا نزلت في قوم ثم مات اُولئك القوم ماتت الآية لما بقي من القرآن شيء ولكن القرآن يجري أوله على آخره» الحديث . رواه في الوافي المجلد التاسع في باب متى نزل القرآن وفيم نزل من أبواب القرآن وفضائله [ ص 1769 ] . ونقل في مرآة الأنوار ص 5 من الطبعة الحديثة مضمونه عن تفسير العياشي تارة وعن تفسير فرات بن إبراهيم اُخرى . ونقل غير ذلك من الأخبار التي تدل على ما ذكرناه ، فليراجع .

(2) وهي ما رواه في الكافي 2 : 156 / 28 عن عمر بن يزيد قال : قلت لأبي عبدالله (عليه السلام) (الّذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ) قال : نزلت في رحم آل محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وقد تكون في قرابتـك ثم قال : فلا تكوننّ ممّن يقول للشيء إنّه في شيء واحد .

(3) الرعد 13 : 21 .

ــ[10]ــ

الامتنان ، إذ لولاه لوقع الإنسان موقع التنفّر والاستقذار ، فالآية ناظرة إلى بيان هذا المعنى لا بمعنى أن الماء مطهّر من النجاسات المصطلحة المبحوث عنها في المقام ، لعدم ثبوت الحقيقة الشرعية والمتشرعية في شيء من الطهارة والطهور ، بل ولعلّ أحكام النجاسات لم تكن ثابتة في الشريعة المقدسة حين نزول الآيتين أصلاً ، حيث إن تشريع الأحكام كان على نحو التدريج لا محالة .

   ويؤيد ذلك أن الآيات القرآنية لم تشتمل على شيء من عناوين النجاسات وقذارتها إلاّ في خصوص المشركين لقوله تعالى : (إنّما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام ) (1) . على أن فيه أيضاً كلاماً في أن المراد بالنجس هل هو النجاسة الظاهرية المصطلحة ، أو أنه بمعنى النجاسة المعنوية وقذارة الشرك كما يناسبها تفريعه تعالى بقوله : (فلا يقربوا المسجد الحرام ) فإنّ النجس الظاهري لا مانع من دخوله وإدخاله المسجد على المعروف كما يأتي في محلّه .

   وكيف كان فلا دلالة في الآيتين على المطلوب . أجل ، لا نضايق من إلحاق النجاسة الحدثية أعني الجنابة بالأقذار العرفية في دلالة الآية على طهورية الماء بالاضافة إليها والوجه في ذلك : أن الصلاة كانت مشروعة من ابتداء الشريعة المقدسة قطعاً ولا صلاة إلاّ بطهور ، وقد استعمل الطهور في الاغتسال عن الجنابة في قوله تعالى : (وإن كنتم جنباً فاطهروا ) (2) فإنّه في مقابل التيمم عن الجنابة عند عدم وجدان الماء في قوله تعالى : (وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النّساء فلم تجدوا ماءً فتيمّموا صعيداً طيباً ) وبهذا نلحق الاغتسال عن الجنابة إلى مفاد الآيتين ، كما يناسبه مورد الآية الثانية ، فمعناها : أن الله أنزل عليكم الماء ليزيل عنكم أقذاركم من الدماء والأوساخ الطارئة في الجدال ، وأحداثكم إذا ابتليتم بالجنابة .

   وقد يقال : إن المراد بالطهور في الآية الاُولى هو المطهّر من الأحداث والأخباث كما

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) التوبة 9 : 28 .

(2) المائدة 5 : 6 .

ــ[11]ــ

أن المراد بالتطهير في الآية الثانية هو التطهير منهما ، ويستدل على ذلك بما ورد في جملة من الروايات النبويات : من أن الله خلق الماء طهوراً لا ينجّسه شيء إلاّ ما غيّر ريحه أو طعمه ، وفي بعضها أو لونه أيضاً (1) .

   ولا يخفى ما فيه أمّا أولاً : فلأن هذه الأخبار لم ترد تفسيراً للآيتين فلا وجه لحملهما عليها . وأمّا ثانياً : فلضعف سندها فإنّها بأجمعها مروية من طرق العامة ولم يرد شيء منها من طرقنا .

   وعلى الجملة لا دلالة للآية الاُولى على مطهّرية الماء بالمعنى المبحوث عنه في المقام ، وإنّما هي في مقام الامتنان بتكوين الماء لإزالة الأقذار والأوساخ ، ومن هذا يظهر عدم دلالة الآية الثانية أيضاً على مطهّرية الماء بعين الاشكال المتقدم ، وتزيد الآية الثانية على الاُولى بمناقشة اُخرى وهي اختصاصها بماء المطر ، لأ نّها على ما  قدّمناه نزلت في وقعة بدر حيث لم يكن عند المسلمين ماء فأنزل الله الماء عليهم من السماء ليتطهّروا به فتختص الآية بماء المطر ، ولا تقاس بالآية المتقدمة لأ نّها كما عرفت وردت في مقام الامتنان على جميع طوائف البشر ، وهو يقتضي طهارة كل فرد من أفراد المياه ، فإنّها بأجمعها نازلة من السماء على ما أسمعناك آنفاً ، هذا .

   ويمكن الجواب عن هذه المناقشة بوجهين :

   أحدهما : أن الغالب في استعمال ماء المطر في إزالة الحدث أو الخبث هو استعماله بعد نزوله ووقوعه على الأرض واجتماعه في الغدران أو الأواني ، وأمّا استعماله حين نزوله

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) المروية في الوسائل 1 : 135 / أبواب الماء المطلق ب 1 ح 9 عن المحقق في المعتبر ، والحلّي في أول سرائره . ونقلها في المستدرك 1 : 190 أبواب الماء المطلق ب 3 ح 10 عن عوالي اللئالي عن الفاضل المقداد قال : قال النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وقد سئل عن بئر بضاعة خلق الله ... وفي سنن البيهقي المجلد الأوّل ص 259 عن رسول الله «الماء لا ينجسه شيء إلاّ ما غلب عليه طعمه أو ريحه» وفي ص 260 عن أبي امامة عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال : «انّ الماء طاهر إلاّ أن تغيّر ريحه أو طعمه أو لونه بنجاسة تحدث فيها» . وفي كنز العمّال [ 9 : 396 /26652 ] : الماء لا ينجسه شيء إلاّ ما غلب على ريحه أو طعمه . وهي كما ترى غير مشتملة على جملة «خلق الله الماء طهوراً» .

ــ[12]ــ

في شيء من رفع الحدث أو الخبث فهو نادر جداً ، ومن الظاهر أن حكم ماء المطر بعد نزوله حكم سائر مياه الأرض ولا يختلف حكمه عن حكمها .

   وثانيهما : أن الضمير في قوله تعالى : (ليطهّركم به ) إنّما يرجع إلى الماء لا إلى الماء بقيد نزوله من السماء وهو نظير قولنا : قد أرسلت إليكم ماءً لتشربوه ، أي لتشربوا نفس الماء ، لا الماء بقيد الارسال ، فالآية تدل على مطهّرية جميع أفراد المياه لو لا ما ذكرناه من المناقشة المتقدمة . نعم ، لا بأس بدلالة هذه الآية أيضاً على مطهّرية الماء عن الاحداث كدلالة الآية المتقدمة ، لما ورد من أن بعض المسلمين في وقعة بدر اُصيب بالجنابة فأنزل الله الماء ليتطهّروا به عن الجنابة .

   فذلكة الكلام : أن الآيتين تدلاّن على طهارة الماء في نفسه ، لما مرّ من أنهما في مقام الامتنان بتكوين الماء وجعله مزيلاً للأقذار والأوساخ . ومن البيّن أ نّه لا امتنان في إزالة الأوساخ بالنجس ، فإنّه يوجب تنجس البدن أو الثياب أو غيرهما زائداً على ما  فيهما من الأقذار . فلا محيص من دلالتهما على طهارة الماء في نفسه كما دلّتا على مطهّرية الماء من حدث الجنابة ، بل لولاهما أيضاً لأمكننا استفادة مطهّرية الماء عن الأحداث مطلقاً من قوله تعالى : (إذا قمتم إلى الصّلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم ... وإن كنتم جُنباً فاطّهّروا ) (1) أي بالماء لقوله تعالى في ذيل الآية المباركة : (فلم تجدوا ماءً فتيمّموا صعيداً طيِّباً ) فالماء مطهّر من الأحداث صغيرة كانت أم كبيرة وأمّا أ نّه مطهّر على نحو الاطلاق حتى من الأخباث فلا يمكن استفادته من الآيات ، فلا بدّ فيه من مراجعة الروايات الواردة في المقام .




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net