أخبار انفعال القليل 

الكتاب : التنقيح في شرح العروة الوثقى-الجزء الثاني:الطهارة   ||   القسم : الفقه   ||   القرّاء : 13074

ــ[1]ــ

 بسم الله الرّحمن الرّحيم

 

[  كتاب الطّهارة  ]

فصل في المياه

   الماء إمّا مطلق أو مضاف كالمعتصر من الأجسام ، أو الممتزج بغيره ممّا يخرجه عن صدق إسم الماء (1) .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

كتاب الطّهارة

   (1) ينقسم المائع إلى قسـمين : قسم يصح سلب عنوان الماء عنه بما له من المعنى ولا يطلق عليه الماء بوجه لا على نحو الحقيقة ولا على نحو المجاز ، وهذا كما في اللبن والدهن والنفط والدبس وغيرها . والقسم الآخر ما يصح إطلاق الماء عليه ، وهو أيضاً قسمان :

   أحدهما : ما لا يصح إطلاق لفظ الماء عليه بما له من المعنى على نحو الحقيقة من غير إضافته إلى شيء. نعم ، يصح أن يطلق عليه باضـافته إلى شيء ما كماء الرمّان فإنّ الماء من غير إضافته إلى الرمان لا يطلق عليه حقيقة فلا يقال : إنّه ماء إلاّ على سبيل العناية والمجاز ، وهذا القسم يسمى بالماء المضاف .

   ثانيهما : ما يصح إطلاق لفظ الماء عليه على وجه الحقيقة ولو من غير إضافته إلى شيء ، وإن كان ربّما يستعمل مضافاً إلى شيء أيضاً ، إلاّ أن استعماله من غير إضافة أيضاً صحيح وعلى وجه الحقيقة ، وهذا كماء البحر والبئر ونحوهما ، فإن إطلاق الماء عليه من غير إضافته إلى البحر أو البئر إطلاق حقيقي فإنّه ماء ، ويصح أيضاً أن

ــ[2]ــ

   والمطلق أقسام : الجاري والنابع غير الجاري والبئر والمطر والكرّ والقليل (1) .

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 يستعمل مضافاً إلى البحر فيقال : هذا ماء بحر أو ماء بئر ، وهذا بخلاف القسم السابق فإنّه لا يستعمل مجرّداً ، ولا يصح إطلاقه عليه إلاّ باضافته إلى شيء ، ويسمّى هذا القسم بالماء المطلق .

   ومن هنا يظهر أن تقسيم الماء إلى مطلق ومضاف من قبيل تقسيم الصلاة إلى الصحيحة والفاسدة ، بناء على أن ألفاظ العـبادات أسام للصحيحة منها دون الأعم فهو تقسيم لما يستعمل فيه الماء والصلاة ولو مجازاً ، وليس تقسيماً حقيقياً ليدل على أن إطلاق الماء على المضاف إطلاق حقيقي .

   وبما ذكرناه تعرف أن أقسام المائع ثلاثة :

   أحدها : هو ما لا يمكن إطلاق الماء عليه لا على وجه الحقيقة ولا على وجه المجاز ، ولم ينقل عن أحد دعوى كونه مطهّراً أو غيره من الآثار المترتبة على المياه شرعاً ، فهو خارج عن محل الكلام رأساً .

   وثانيها : المضاف وتأتي أحكامه عن قريب إن شاء الله تعالى .

   وثالثها : الماء المطلق وهو المقصود بالكلام هنا .

   أقسام الماء المطلق

   (1) المعروف بين الأصحاب تقسيم الماء المطلق إلى أقسام ثلاثة : الجاري وماء البئر والمحقون بكلا قسميه من الكر والقليل، وكأنهم (قدس سرهم) نظروا في تقسيمهم هذا إلى مياه الأرض ، ولذا لم يعدّوا منها ماء المطر وعنونوه بعنوان آخر مستقل .

   وقد قسمه في المتن إلى الجاري والنابع غير الجاري والبئر والكر والقليل ، وهذا هو الصحيح ، لأن النابع غير الجاري مما لا يصدق عليه شيء من عنواني الجاري والبئر ، فهو قسم آخر مستقل ولا وجه لادراجه تحت أحدهما كما صنعوه ، ومن هنا لا تجري الأحكام الخاصة المترتبة على الجاري والبئر في النابع المذكور ، ككفاية

ــ[3]ــ

   وكل واحد منها مع عدم ملاقاة النجاسة طاهر مطهّر من الحدث والخبث (1)

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الغسل مرة من البول في الجاري ووجوب نزح الجميع أو سائر المقدرات في البئر ، فإنّه على القول به يختص بالبئر ولا يأتي في النابع بوجه .

   وعلى الجملة إن كان نظر المشهور في تقسيمهم هذا ، إلى الأحكام الخاصة المترتبة على كل واحد من الأقسام فلا بدّ من إضافة النابع غير الجاري إلى تقسيمهم فلا  يصح الاقتصار على تثليث الأقسام كما عرفت ، وإن كان نظرهم في ذلك إلى خصوص الانفعال وعدمه من الآثار وتقسيم الماء بهذا اللحاظ ، فحينئذ لا بدّ من تثليث الأقسام ولكن لا كما ذكروه ، بل بأن يقسّم الماء إلى كر وغير كر ، وغير الكر إلى ما له مادة وما ليس له مادة ، والكر والقليل الذي له مادة لا ينفعلان بملاقاة النجس ، والقليل الذي ليس له مادة ينفعل لا محالة .

   وعلى كل تقدير فلا بدّ من إضافة ماء الحمّام أيضاً في كل من تقسيمي المعروف والمتن ، إذ لماء الحمّام مباحث خاصة كما تأتي في محلّه . فإن عدم انفعال الأحواض الصغيرة في الحمّامات إنّما هو من جهة اتصالها بالمادة الجعلية فيها وهي عالية عن سطح الحياض ، مع أن اعتصام السافل بالعالي كاعتصام العالي بالسافل على خلاف المرتكز عند العقلاء ، ويحتاج إلى دليل لاعتبار التساوي بين الماءين في الاعتصام بنظرهم .

   وعليه فلا بدّ من تربيع الأقسام بأن يقال : الماء إما كر أو غير كر ، والثاني إما أن يكون له مادة أو لا يكون ، وما له المادة إما أن تكون مادته أصلية وإما أن تكون جعلية .

    طهوريّة الماء المطلق

   (1) قد تسالم المسلمون كافة على طهارة الماء المطلق في نفسه ومطهّريته لغيره من الحدث والخبث ، بجميع أقسامه من ماء البحر والمطر والبئر وغيرها ، ولم ينقل من أحد منهم الخلاف في ذلك إلاّ عن جماعة منهم أبو هريرة وعمرو بن العاص ، وعبدالله

ــ[4]ــ

ابن عمر حيث نسب إليهم الخلاف في مطهّرية ماء البحر عن الحدث (1) ، وصحة النسبة وعدمها موكولة إلى غير المقام . وهذا مضافاً إلى التسالم المتقدم ذكره وأن الضرورة قاضية بطهارة الماء في نفسه ومطهّريته لغيره ، يمكن أن يستدل عليه ببعض الآيات وجملة من الروايات الواردة في المقام .

   فمنها قوله تعالى : (وأنزلنا من السّماء ماءً طهُوراً ) (2) حيث إنّه سبحانه في مقام الامتنان وبيان نعمائه على البشر ، وقد عدّ منها الماء ووصفه بالطهور ، وظاهر صيغة الطهور هو ما يكون طاهراً في نفسه ومطهّراً لغيره على ما اعترف به جمع كثير .

    المناقشات في الاستدلال

   هذا وقد نوقش في الاستدلال بالآية المباركة من جهات :

   الجهة الاُولى : هي ما نقل عن بعض أهل اللغة من أن الطهور بمعنى الطاهر (3) ، وعليه فلا تدل الآية على مطهرية الماء لغيره . وعن بعض آخر أن الطهور فعول وهو من إحدى صيغ المبالغة كالأكول ومعناه : أن طهارة الماء أشد من طهارة غيره من الأجسام فهو طاهر بطهارة شديدة بخلاف غيره من الأجسام، فالآية لا دلالة لها على مطهّرية الماء .

   وهذان الايرادان فاسدان .

   أمّا الأول : فلأجل أن الطهور غير ظاهر في الطاهر من دون أن يكون مطهراً لغيره ، وإلاّ فلو صحّ إطلاق الطهور على ما هو طاهر في نفسه خاصة لصحّ استعماله في غير الماء من الأجسام أيضاً فيقال : الشجر أو الخشب طهور أو يقال : البواطن طهور وظاهر الحيوانات طهور مع أن الاطلاق المذكور من الأغلاط الفاحشة .

   وأمّا الثاني : فلأن الطهور وإن كان فعولاً وهو من صيغ المبالغة بمعنى أ نّها ربّما

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) التذكرة 1 : 11 .

(2) الفرقان 25 : 48 .

(3) المصباح المنير : 379 .

ــ[5]ــ

يستعمل في المبالغة كما في مثل الأكول ، إلاّ أ نّه في المقام ليس بهذا المعنى جزماً . وتوضيح ذلك : أن استعمال الطهور بمعنى أشد طهارة وكونه أنظف من غيره وإن كان صحيحاً ، وربّما يستعمل بدله لفظ أطهر فيقال : إن هذا الشيء أطهر لك كما في قوله تعالى : (هؤلاءِ بناتي هُنّ أطهر لكم ) (1) أي أوقع في الجهات الشهوية من غيرها . وقوله تعالى : (شراباً طهُوراً ) (2) أي أشد نظافة إلاّ أن ذلك كلّه في الاُمور الخارجية التي لها واقع ، كما في الطهارة الخارجية بمعنى النظافة فيقال : هذا الثوب أطهر من ثوبك أي أشدّ نظافة من ثوبك .

   وأمّا في الاُمور الاعتبارية التي لا واقع لها إلاّ حكم الشارع واعتباره كما في الطهارة المبحوث عنها في المقام والملكية والزوجية وغيرها من الأحكام الوضعية التي اعتبرها وجعلها في حق المكلفين ، فهي مما لا يعقل اتصافه بالأشدية والأقوائية كما ذكرناه في بحث الأحكام الوضعية ، فلا يصح أن يقال : إن ملكك بالدار أشدّ من ملكك بالكتاب أو إن حكم الشارع بالطهارة في هذا الشيء أشدّ من حكمه بها في الشيء الآخر ، فإنّ الشارع إن حكم فيهما بالطهارة أو بالملكية فهما على حد سواء ، وإلاّ فلا  طهارة ولا ملكية في البين أصلاً ، ففي الاُمور الاعتبارية لا معنى للاتصاف بالشدّة والضعف ، بل الأمر فيها يدور دائماً بين الوجود والعدم والنفي والاثبات ، وعليه فلا  يعقل استعمال الطهور في الآية بمعنى المبالغة .

   وتوهّم أن شدّة الطهارة في الماء باعتبار أ نّه لا ينفعل بملاقاة النجس ما لم يتغير .

   يدفعه أولاً : أنّ هذا مما يختص ببعض أفراد المياه ولا يعم جميعها ، مع أن الطهور وصف لطبيعي الماء أين ما سرى .

   وثانياً : أنّ استعمال لفظ الطهور لو كان بلحاظ عدم الانفعال بملاقاة النجس لصحّ حمله على البواطن ، بل على ظاهر الحيوان أيضاً على قول مع أ نّه من الاغلاط .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) هود 11 : 78 .

(2) الانسان 76 : 21 .

ــ[6]ــ

   وممّا يدلّنا على ما ذكرناه : ما ورد في الأخبار من أن التراب أحد الطهورين (1) فإنّه لو اُريد من الطهور فيها ما هو طاهر في نفسه لما صحّ هذا الاستعمال قطعاً ، فإن سائر الأجسام أيضاً من الطاهرات كالخشب والمدر فما وجه تخصيصه التراب والماء بذلك ؟ كما هو الحال ـ  أي لا يصح الاستعمال المذكور  ـ فيما لو اُريد منه المبالغة ، لأن التراب نظير غيره من الأجسام ، وليس فيها أشدية في الطهارة كما لا يخفى .

   أضف إلى ذلك كلّه ما في بعض الروايات من أن التيمم طهور (2) فإنّه صريح فيما ادعيناه في المقام من عدم كون هيئة الطهور موضوعة للطاهر أو للمبالغة ، فإن التيمم ليس إلاّ ضربة ومسحة وما معنى كونهما طاهرين أو كونهما أشد طهارة ؟ وعليه فلا  مجال لهذين الايرادين بوجه .

   وإذا بطل هذان المعنيان تتعين إرادة المعنى الثالث ، وهو كونه بمعنى ما يتطهر به نظير السحور والفطور والحنوط والوضوء والوقود ، بمعنى ما يتسحر به أو ما يفطر به وهكذا غيرهما . وبعبارة اُخرى ما يكون منشأ للطهارة أو التسحر والجامع ما يحصل به المبدأ ، وبهذا المعنى استعمل في الخبرين المتقدمين . وعليه فالطهور يدل بالدلالة المطابقية على أن الماء مطهّر لغيره ومنشأ لطهارة كل شيء ، وبالدلالة الالتزامية يدل على طهارة نفسه ، فإن النجس لا يعقل أن يكون منشأ للطهارة في غيره . ولعلّ من فسّره من الفقهاء ومنهم صاحب الجواهر (قدس سره) : بما يكون طاهراً في نفسه ومطهّراً لغيره (3) ، أراد ما ذكرناه من دلالته على المطهرية بالمطابقة وعلى طهارته بالالتزام ، وإلاّ فلم توضع هيئة الطهور «فعول» للمعنى الجامع بين الطاهر والمطهّر .

   ودعوى أن الروايتين وردتا في الطهارة الحدثية ، وهي المراد من مادة الطهور فيهما والكلام في الأعم من الطهارة الحدثية والخبثية .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) كما ورد مضمونه في صحيحة محمد بن حمران ، وجميل بن دراج جميعاً عن أبي عبدالله (عليه السلام) المرويّة في وسائل الشيعة 3 : 385 / أبواب التيمم ب 23 ح 1 .

(2) ورد مضمون ذلك في صحيحتي زرارة المروية في الوسائل 3 : 381 / أبواب التيمم ب 21 ح 1 ومحمد بن مسلم المروية في الوسائل 3 : 370 / أبواب التيمم ب 14 ح 15 .

(3) الجواهر 1 : 64 .

ــ[7]ــ

   مندفعة بأنهما وإن وردتا في الحدثية من الطهارة ، إلاّ أن الكلام في المقام إنّما هو في هيئة صيغة الطهور لا في مادتها ، سواء أ كانت مادتها بمعنى الخبثية أم كانت بمعنى الحدثية ، فالتكلّم في مادتها أجنبي عمّا هو محط البحث في المقام . وقد عرفت أن الهيئة في الطهور بمعنى ما تنشأ منه الطهارة وما يحصل به المبدأ .

   الجهة الثانية من المناقشات : أنّ الآية على تقدير دلالتها فإنّما تدلّ على طهورية الماء المنزل من السماء وهو المطر ، فلا دلالة فيها على طهورية مياه الأرض من ماء البحر والبئر ونحوهما .

   وهذه المناقشة لا ترجع إلى محصّل ، وذلك لما ورد في جملة من الآيات وبعض الروايات (1) من أن المياه بأجمعها نازلة من السماء ، إما بمعنى أن الله خلق الماء في السماء فهناك بحـار وشـطوط ثم أنزله إلى الأرض فتشكّل منه البحار والأنهار والشطوط والآبار ، أو بمعنى أن الله خلق الماء في الأرض إلاّ أ نّه بعد ما صار أبخرة باشراق الشمس ونحوه صعد إلى السماء فاجتمع وصار ماء ، ثم نزل إلى الأرض كما هو مذهب الحكماء والفلاسفة ، وهذا المعنى لا ينافي نزول الماء من السماء لأ نّه بمعنى نزول أمره من السماء . ويدل عليه قوله تعالى : (وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للنّاس ) (2) فإنّه لم يتوهّم أحد ولا ينبغي أن يتوهّم نزول نفس الحديد من السماء .

   ومن جملة الآيات الدالّة على ما ادعيناه من نزول المياه بأجمعها من السماء قوله تعالى : (وإن من شيء إلاّ عندنا خزائنه وما ننزله إلاّ بقدر معلوم ) (3) وقوله تعالى : (ألم ترَ أن الله أنزل من السّماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض ) (4) وقوله تعالى :

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) ففي البرهان المجلد 3 ص 112 عن تفسير علي بن إبراهيم ما هذا نصه : «ثم قال : وعنه وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكنّاه في الأرض ... فهي الأنهار والعيون والآبار» ولا يرد عدم اشتمال الرواية على ماء البحر ، فإنّه إنّما يتشكل من الأنهار ، فلا يكون قسماً آخر في مقابلها .

(2) الحديد 57 : 25 .

(3) الحجر 15 : 21 .

(4) الزمر 39 : 21 .

ــ[8]ــ

(وأنزلنا من السّماء ماء بقدر فاسكنّاه في الأرض وإنّا على ذهاب به لقادرون ) (1) إلى غير ذلك من الآيات . فهذه المناقشة ساقطة .

   الجهة الثالثة من المناقشات : أن الماء في الآية المباركة نكرة في سياق الاثبات وهي لا تفيد إلاّ أن فرداً من أفراد المياه طهور ، ولا دلالة فيها على العموم .

   ويدفعها : أن الله سبحانه في مقام الامتنان على جميع طوائف البشر لا على طائفة دون طائفة ، وهذا يقتضي طهارة جميع المياه . على أن طهورية فرد من أفراد المياه من دون بيانه وتعريفه للناس مما لا نتعقل فيه الامتنان أصلاً ، بل لا يرجع إلى معنى محصل ، فالآية تدل على طهورية كل فرد من أفراد المياه .

   ومن جملة الآيات التي يمكن أن يستدل بها على طهورية الماء ، قوله تعالى : (وينزل عليكم من السّماء ماءً ليطهّركم به ) (2) وهذه الآية سليمة عن بعض المناقشات التي أوردوها على الآية المتقدمة ، كاحتمال كون الطهور بمعنى الطاهر أو بمعنى المبالغة . نعم ، يرد عليها أيضاً مناقشة الاختصاص بماء السماء ومناقشة عدم دلالتها على العموم لكون الماء نكرة في الآية المباركة ، والجواب عنهما هو الجواب فلا نعيد .

   ثم إنّه ربّما تورد على الاستدلال بهذه الآية مناقشة اُخرى كما تعرض لها في الحدائق (3) وغيره . وملخّصها عدم دلالة الآية على التعميم ، لا لأجل أن الماء نكرة بل لأ نّها وردت في طائفة خاصة، وهم المسلمون الذين كانوا يحاربون الكفّار في وقعة بدر ، ومع اختصاص المورد لا يمكن التعدي عنه .

   والجواب عن ذلك : أن هناك روايات دلتنا على أن ورود آية من آيات الكتاب في مورد ، أو تفسيرها بمورد خاص لا يوجب اختصاص الآية بذلك المورد ، لأن القرآن يجري مجرى الشمس والقمر ، ويشمل جميع الأطوار والأعصار من دون أن يختص

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) المؤمنون 23 : 18 .

(2) الأنفال 8 : 11 .

(3) الحدائق 1 : 172 .

ــ[9]ــ

بقوم دون قوم ، بل وفي بعض الأخبار أن الآية لو اختصت بقوم تموت بموت ذلك القوم(1) ، وفي رواية (2) أن الإمام (عليه السلام) طبّق قوله تعالى : (الّذين يصلون ما أمر الله به أن يُوصل ) (3) على أنفسهم وقال : إنها وردت في رحم آل محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وقد تكون في قرابتك ثم بيّن (عليه السلام) أن مرادنا من ورود الآية في مورد أ نّه مصداق وممّا ينطبق عليه تلك الآية ، لا أن الآية مختصة به . فهذه الشبهة أيضاً مندفعة فلا مانع من الاستدلال بها من تلك الجهات .

   تزييف الاستدلال : ولكن الانصـاف أن الآيتين ممّا لا دلالة له على المـطلوب والوجه في ذلك : أن الطهور والطهارة مما لم تثبت له حقيقة شرعية ولا متشرعية في زمان نزول الآيتين ، ولم يعلم أن المراد من الطهور هو المطهّر من النجاسات ولم يظهر أ نّه بمعنى الطهارة المبحوث عنها في المقام ، ولعلّ المراد منها أن الله منّ عليكم بخلق الماء وجعله طاهراً عن الأوساخ المنفّرة ، ومطهّراً من الأقذار العرفية ، فإن الإنسان ليس كالحيوان بحيث لو لم يرَ الماء شهراً أو شهوراً متمادية لا يكون مورداً للتنفّر عرفاً ولا يستقذره العقلاء ، بل هو يحتاج في تنظيف بدنه ولباسه وأوانيه وغيرها إلى استعمال ماء طهور ، فهو طاهر في نفسه ومطهّر عن الأقذار وقد جعله الله تعالى كذلك من باب

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) فروى العياشي في تفسيره [ ج 1 ص 10 ] باسناده عن أبي جعفر (عليه السلام) انّه قال : «القرآن نزل أثلاثاً ثلث فينا وفي أحبائنا ، وثلث في أعدائنا وعدو من كان قبلنا ، وثلث سنة ومثل ، ولو أن الآية إذا نزلت في قوم ثم مات اُولئك القوم ماتت الآية لما بقي من القرآن شيء ولكن القرآن يجري أوله على آخره» الحديث . رواه في الوافي المجلد التاسع في باب متى نزل القرآن وفيم نزل من أبواب القرآن وفضائله [ ص 1769 ] . ونقل في مرآة الأنوار ص 5 من الطبعة الحديثة مضمونه عن تفسير العياشي تارة وعن تفسير فرات بن إبراهيم اُخرى . ونقل غير ذلك من الأخبار التي تدل على ما ذكرناه ، فليراجع .

(2) وهي ما رواه في الكافي 2 : 156 / 28 عن عمر بن يزيد قال : قلت لأبي عبدالله (عليه السلام) (الّذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ) قال : نزلت في رحم آل محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وقد تكون في قرابتـك ثم قال : فلا تكوننّ ممّن يقول للشيء إنّه في شيء واحد .

(3) الرعد 13 : 21 .

ــ[10]ــ

الامتنان ، إذ لولاه لوقع الإنسان موقع التنفّر والاستقذار ، فالآية ناظرة إلى بيان هذا المعنى لا بمعنى أن الماء مطهّر من النجاسات المصطلحة المبحوث عنها في المقام ، لعدم ثبوت الحقيقة الشرعية والمتشرعية في شيء من الطهارة والطهور ، بل ولعلّ أحكام النجاسات لم تكن ثابتة في الشريعة المقدسة حين نزول الآيتين أصلاً ، حيث إن تشريع الأحكام كان على نحو التدريج لا محالة .

   ويؤيد ذلك أن الآيات القرآنية لم تشتمل على شيء من عناوين النجاسات وقذارتها إلاّ في خصوص المشركين لقوله تعالى : (إنّما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام ) (1) . على أن فيه أيضاً كلاماً في أن المراد بالنجس هل هو النجاسة الظاهرية المصطلحة ، أو أنه بمعنى النجاسة المعنوية وقذارة الشرك كما يناسبها تفريعه تعالى بقوله : (فلا يقربوا المسجد الحرام ) فإنّ النجس الظاهري لا مانع من دخوله وإدخاله المسجد على المعروف كما يأتي في محلّه .

   وكيف كان فلا دلالة في الآيتين على المطلوب . أجل ، لا نضايق من إلحاق النجاسة الحدثية أعني الجنابة بالأقذار العرفية في دلالة الآية على طهورية الماء بالاضافة إليها والوجه في ذلك : أن الصلاة كانت مشروعة من ابتداء الشريعة المقدسة قطعاً ولا صلاة إلاّ بطهور ، وقد استعمل الطهور في الاغتسال عن الجنابة في قوله تعالى : (وإن كنتم جنباً فاطهروا ) (2) فإنّه في مقابل التيمم عن الجنابة عند عدم وجدان الماء في قوله تعالى : (وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النّساء فلم تجدوا ماءً فتيمّموا صعيداً طيباً ) وبهذا نلحق الاغتسال عن الجنابة إلى مفاد الآيتين ، كما يناسبه مورد الآية الثانية ، فمعناها : أن الله أنزل عليكم الماء ليزيل عنكم أقذاركم من الدماء والأوساخ الطارئة في الجدال ، وأحداثكم إذا ابتليتم بالجنابة .

   وقد يقال : إن المراد بالطهور في الآية الاُولى هو المطهّر من الأحداث والأخباث كما

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) التوبة 9 : 28 .

(2) المائدة 5 : 6 .

ــ[11]ــ

أن المراد بالتطهير في الآية الثانية هو التطهير منهما ، ويستدل على ذلك بما ورد في جملة من الروايات النبويات : من أن الله خلق الماء طهوراً لا ينجّسه شيء إلاّ ما غيّر ريحه أو طعمه ، وفي بعضها أو لونه أيضاً (1) .

   ولا يخفى ما فيه أمّا أولاً : فلأن هذه الأخبار لم ترد تفسيراً للآيتين فلا وجه لحملهما عليها . وأمّا ثانياً : فلضعف سندها فإنّها بأجمعها مروية من طرق العامة ولم يرد شيء منها من طرقنا .

   وعلى الجملة لا دلالة للآية الاُولى على مطهّرية الماء بالمعنى المبحوث عنه في المقام ، وإنّما هي في مقام الامتنان بتكوين الماء لإزالة الأقذار والأوساخ ، ومن هذا يظهر عدم دلالة الآية الثانية أيضاً على مطهّرية الماء بعين الاشكال المتقدم ، وتزيد الآية الثانية على الاُولى بمناقشة اُخرى وهي اختصاصها بماء المطر ، لأ نّها على ما  قدّمناه نزلت في وقعة بدر حيث لم يكن عند المسلمين ماء فأنزل الله الماء عليهم من السماء ليتطهّروا به فتختص الآية بماء المطر ، ولا تقاس بالآية المتقدمة لأ نّها كما عرفت وردت في مقام الامتنان على جميع طوائف البشر ، وهو يقتضي طهارة كل فرد من أفراد المياه ، فإنّها بأجمعها نازلة من السماء على ما أسمعناك آنفاً ، هذا .

   ويمكن الجواب عن هذه المناقشة بوجهين :

   أحدهما : أن الغالب في استعمال ماء المطر في إزالة الحدث أو الخبث هو استعماله بعد نزوله ووقوعه على الأرض واجتماعه في الغدران أو الأواني ، وأمّا استعماله حين نزوله

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) المروية في الوسائل 1 : 135 / أبواب الماء المطلق ب 1 ح 9 عن المحقق في المعتبر ، والحلّي في أول سرائره . ونقلها في المستدرك 1 : 190 أبواب الماء المطلق ب 3 ح 10 عن عوالي اللئالي عن الفاضل المقداد قال : قال النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وقد سئل عن بئر بضاعة خلق الله ... وفي سنن البيهقي المجلد الأوّل ص 259 عن رسول الله «الماء لا ينجسه شيء إلاّ ما غلب عليه طعمه أو ريحه» وفي ص 260 عن أبي امامة عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال : «انّ الماء طاهر إلاّ أن تغيّر ريحه أو طعمه أو لونه بنجاسة تحدث فيها» . وفي كنز العمّال [ 9 : 396 /26652 ] : الماء لا ينجسه شيء إلاّ ما غلب على ريحه أو طعمه . وهي كما ترى غير مشتملة على جملة «خلق الله الماء طهوراً» .

ــ[12]ــ

في شيء من رفع الحدث أو الخبث فهو نادر جداً ، ومن الظاهر أن حكم ماء المطر بعد نزوله حكم سائر مياه الأرض ولا يختلف حكمه عن حكمها .

   وثانيهما : أن الضمير في قوله تعالى : (ليطهّركم به ) إنّما يرجع إلى الماء لا إلى الماء بقيد نزوله من السماء وهو نظير قولنا : قد أرسلت إليكم ماءً لتشربوه ، أي لتشربوا نفس الماء ، لا الماء بقيد الارسال ، فالآية تدل على مطهّرية جميع أفراد المياه لو لا ما ذكرناه من المناقشة المتقدمة . نعم ، لا بأس بدلالة هذه الآية أيضاً على مطهّرية الماء عن الاحداث كدلالة الآية المتقدمة ، لما ورد من أن بعض المسلمين في وقعة بدر اُصيب بالجنابة فأنزل الله الماء ليتطهّروا به عن الجنابة .

   فذلكة الكلام : أن الآيتين تدلاّن على طهارة الماء في نفسه ، لما مرّ من أنهما في مقام الامتنان بتكوين الماء وجعله مزيلاً للأقذار والأوساخ . ومن البيّن أ نّه لا امتنان في إزالة الأوساخ بالنجس ، فإنّه يوجب تنجس البدن أو الثياب أو غيرهما زائداً على ما  فيهما من الأقذار . فلا محيص من دلالتهما على طهارة الماء في نفسه كما دلّتا على مطهّرية الماء من حدث الجنابة ، بل لولاهما أيضاً لأمكننا استفادة مطهّرية الماء عن الأحداث مطلقاً من قوله تعالى : (إذا قمتم إلى الصّلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم ... وإن كنتم جُنباً فاطّهّروا ) (1) أي بالماء لقوله تعالى في ذيل الآية المباركة : (فلم تجدوا ماءً فتيمّموا صعيداً طيِّباً ) فالماء مطهّر من الأحداث صغيرة كانت أم كبيرة وأمّا أ نّه مطهّر على نحو الاطلاق حتى من الأخباث فلا يمكن استفادته من الآيات ، فلا بدّ فيه من مراجعة الروايات الواردة في المقام .

    الروايات الدالّة على طهارة الماء

   أمّا ما يستفاد منه طهارة الماء في نفسه فهو طوائف من الأخبار يمكن دعوى تواترها إجمالاً ، وإليك بعضها :

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) المائدة 5 : 6 .

ــ[13]ــ

   منها : ما دلّ على أن الماء كلّه طاهر حتى تعلم أ نّه قذر (1) فإنّه يدل على طهارة الماء في نفسه ، سواء قلنا بدلالته على حكم واحد وهو الطهارة الواقعية الثابتة على الماء في نفسه أو الطهارة الظاهرية الثابتة عليه حال الشكّ في طهارته ، أم قلنا بدلالته على كلا الحكمين وأنّ الطهارة ثابتة على الماء واقعاً ، وهي محكومة بالاستمرار ظاهراً إلى زمان العلم بقذارته بالاستصحاب أو بقاعدة الطهارة على الخلاف في مفاده ، وعلى كل يدل على أن الماء طاهر ، وغاية ما هناك أ نّه على تقدير كونه ناظراً إلى إثبات الطهارة الواقعية على الماء يدل على طهارته بالمطابقة ، وعلى تقدير أ نّه متكفّل لبيان الطهارة الظاهرية في الماء يدل على طهارته بالالتزام .

   ومنها : ما دلّ على أن الماء إذا بلغ قدر كر لا ينجّسه شيء (2) والوجه في دلالته على طهارة الماء أ نّه لو لا طهارة الماء في نفسه لم يبق معنى لقوله (عليه السلام) لا ينجسه شيء على تقدير بلوغه قدر كر ، فإن النجس لا يتنجس ثانياً والتنجس من طوارئ الأشياء الطاهرة .

   ومنها : ما دلّ على أن الماء يطهِّر ولا يُطهَّر (3) .

   ومنها : كل رواية دلّت على تطهير الأواني والألبسة وغيرهما من المتنجسات بالماء(4) ، لدلالتها على طهارة الماء في نفسه إذ لا يمكن تطهير المتنجس بالنجس .

   ومنها : ما دلّ على أن ماء البئر واسع لا يفسد شيء (5) والوجه في دلالته واضح ، إذ مع نجاسة الماء في نفسه لا معنى لقوله (عليه السلام) لا يفسده شيء ، لما عرفت من أن النجس لا يتنجّس ثانياً .

   ومنها : ما دلّ على أن بني إسرائيل كانوا إذا أصاب أحدهم قطرة بول قرضوا

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 1 : 134 / أبواب الماء المطلق ب 1 ح 5 و ص : 142 ب 4 ح  2 .

(2) الوسائل 1 : 158 / أبواب الماء المطلق ب 9 ح 2 .

(3) الوسائل 1 : 134 / أبواب الماء المطلق ب 1 ح 6 .

(4) الوسائل 3 : 397 / أبواب النجاسات ب 2 ح 1 .

(5) الوسائل 1 : 170 / أبواب الماء المطلق ب 14 ح 1 .

ــ[14]ــ

لحومهم بالمقاريض وقد وسّع الله تعالى عليكم بأوسع ما بين السماء والأرض ، وجعل لكم الماء طهوراً (1) ودلالته على طهارة الماء ظاهرة .

   ومنها : غير ذلك من الأخبار ، كما لا تخفى على المتتبع الخبير .

    الروايات الدالّة على مطهرية الماء

   وأمّا ما دلّ من الأخبار على مطهّرية الماء من الحدث والخبث فهي أيضاً كثيرة قد وردت في موارد متعدّدة وأبواب مختلفة ، كالروايات الآمرة بالغسل والوضوء بالماء (2) وما دلّ على مطـهّرية الماء عن نجاسـة البـول(3) وولوغ الكلـب(4) وغـيرهما من النجاسات ، وبعض الأخبار المتقدمة عند الاستدلال على طهارة الماء في نفسه وسنتعرّض إلى تفاصيل هذه الأخبار عند التكلّم في آحاد النجاسات وتطهيرها بالماء فلا نطيل .

   نعم ، لا دلالة لها بأجمعها على حصول الطهارة بمجرد الغسل بالماء وإن لم تنفصل غسالته أو لم يتعدّد الغسل ، لعدم كونها في مقام البيان من تلك الجهات فلا إطلاق لها بالإضافة إليها ، والمتّبع فيها دلالة الدليل الموجود في كل مسألة بخصوصها .

    تنبيه

   هل الطهورية الثابتة للمياه بالروايات والآيات تختص بخصوص الماء النازل من السماء ـ  ولو بحسب أصله  ـ أو أ نّها ثابتة لمطلق المياه ، ولو كانت مخلوقة لنا باعجاز أو بتركيب بضم أحد جزئيه إلى الآخر ؟ الصحيح هو الثاني ، لأن المفروض أ نّه ماء بالنظر العرفي وهو صادق عليه صدقاً حقيقياً ، ومعه لا وجه للتردّد والشكّ .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 1 : 133 / أبواب الماء المطلق ب 1 ح 4 .

(2) الوسائل ، 1 : 201 / أبواب الماء المضاف ب 1 ح 2 .

(3) الوسائل 3 : 397 / أبواب النجاسات ب 2 ح 1 .

(4) الوسائل 1 : 226 / أبواب الأسآر ب 1 ح 4 .

ــ[15]ــ

   [ 73 ] مسألة 1 : الماء المضاف مع عدم ملاقاة النجاسة طاهر (1) لكنّه غير

  ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

   والذي يحتمل أن يكون مانعاً عن ذلك هو ما تقدّم(1) من قوله تعالى : (وأنزلنا من السّماء ماءً طهورا ) بتوهّم اختصاصها بالماء النازل من السماء ولكنك عرفت أن الطهور فيها ليس بمعناه المصطلح عليه في المقام ، ونحن إنّما اثبتنا الطهورية للماء بواسطة الأخبار المتقدمة ، هذا .

   ثم لو سلّمنا دلالتها على طهورية الماء فهي حكم ثبت بالآية لطبيعي المياه والطبيعة صادقة على ذلك الفرد كما تقدم . وإنّما خص الماء النازل من السماء بالذكر لأجل غلبته وكثرة وجوده ، ونحن قد ذكرنا في محلّه أن المطلق لا يختص بالأفراد الغالبة لأجل كثرة وجودها ، بل يشملها كما يشمل الأفراد النادرة . وبالجملة إذا ثبت أ نّه ماء وشملته الاطلاقات فلا محالة يكون طهوراً كغيره . فإذا فرضنا أن الهواء أحدث بخاراً ، وانجمد ذلك البخار على زجاجة لمكان حرارة أحد طرفيها وبرودة الآخر ، ـ  وهذا كثيراً ما يتفق في البلاد الباردة  ـ ثمّ أ ثّرت فيه الحرارة وتبدل البخار المنجمد ماءً وأخذ بالتقاطر فلا محالة يكون الماء المجتمع منه طهوراً ، مع أ نّه لم ينزل من السماء . ولا نظن فقيهاً بل ولا متفقهاً يفتي بوجوب التيمم عند انحصار الماء بذلك . وعلى هذا إذا حصلنا الماء من أي مائع مضاف ، كماء الرمان أو البرتقال أو غيرهما بالتصعيد بحيث صار ما فيه من الماء بخاراً ، وتصاعد إلى الفوق دون شيء من أجزاء الرمان أو البرتقال أو مادة حلاوتهما ـ  فإنهما لا يتصاعدان  ـ وأخذنا البخار بالتقطير فهو ماء مطلق طهور كغيره . واحتفظ بهذا فإنه ينفعك في بحث المضاف إن شاء الله .

    الماء المضاف وأحكامه

   (1) لا ينبغي الاشكال كما لم يستشكل أحد في أن المضاف في نفسه طاهر فيما إذا كان ما أضيف إليه طاهراً ، بخلاف ما إذا كان المضاف إليه نجساً أو متنجساً كما إذا عصرنا لحم كلب واستخرجنا ماءه ، أو عصرنا فاكهة متنجسة فإن الماء الحاصل منهما محكوم بالنجاسة حينئذ .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) في ص 7  .

ــ[16]ــ

مطهّر لا من الحدث ولا من الخبث ولو في حال الاضطرار (1) .

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

   عدم مطهريّة المضاف من الحدث

   (1) الكلام في ذلك يقع في مسألتين :

   المسألة الاُولى : في أن المضاف يرفع الحدث أو لا يرفعه حتى في حالة الاضطرار ؟ المشهور عدم كفاية المضاف في رفع الحدث ولو اضطراراً ، خلافاً لما حكي عن الصدوق (طاب ثراه) من جواز الوضوء والغسل بماء الورد (1) ، وقد استدلّوا على ذلك بوجوه :

   الأول : دعوى الاجماع على عدم كفاية المضاف في الوضوء والغسل . وأمّا ما ذهب إليه الصدوق (قدس سره) فقد ردّوه بأ نّه مسبوق وملحوق بالاجماع على خلافه . ويدفعها ما ذكرناه غير مرة من أن الاجماع في أمثال المقام مما لا يمكن الاعتماد عليه لأ نّا نعلم أو نظن ولا أقل من أنا نحتمل استناد المجمعين في ذلك إلى أحد الأدلة المذكورة في المقام ، ومعه كيف يكون إجماعهم تعبدياً وكاشفاً عن قول المعصوم (عليه السلام) .

   الثاني : ما صرّح به في الفقه الرضوي (2) من عدم جواز رفع الحدث بالمضاف . وفيه : أن كتاب الفقه الرضوي على ما ذكرناه غير مرة أشبه بكتب الفتوى ، ولم يثبت كونه رواية فضلاً عن اعتباره .

   الثالث : أن المضاف أيضاً لو كان كالمطلق من مصاديق الطهور للزم على الله سبحانه أن يأتي في الآية المتقدمة بما هو أعم من الماء ليشمله ويشمل المضاف لأ نّه في مقام الامتنان ، وحيث إنه تعالى خصّ الطهور بالماء فمنه يعلم أن المضاف ليس بطهور وإلاّ لم يكن لتركه في مقام الامتنان وجه . والجواب عن ذلك :

   أوّلاً : أن الطهور في الآية لم يثبت كونه طهوراً شرعياً كما هو المطلوب ، وإنّما هو

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) المختلف 1 : 61 .

(2) فقه الرضا : 92 قال : وكل ماء مضاف أو مضاف إليه فلا يجوز التطهير به ويجوز شربه .

ــ[17]ــ

طهور تكويني مزيل للقذارات والأوساخ كما تقدّم ، والمضاف ليس له هذا المعنى بل هو بنفسه من الأوساخ كمائي الرمّان والبطّيخ ونحوهما ، ولذا لا بدّ من إزالتهما عن الثياب وغيرها إذا تلوّثت بأمثالهما من المياه المضافة .

   وثانياً : هب أ نّه بمعنى الطهور شرعاً ، ولكنه لا يستكشف من عدم ذكر المضاف في الآية المباركة أ نّه ليس من مصاديق الطهور ، إذ لعلّ عدم ذكره في الآية من أجل قلّة وجود المضاف ، كيف وهو لا يتحصل لأغلب الناس ليشربوه فضلاً عن أن يزيلوا به الأحداث فإنّه يحتاج إلى مؤونة زائدة ويسار .

   فالصحيح أن يستدل على عدم طهورية المضاف بقوله تعالى : (إذا قمتم إلى الصّلاة فاغسلوا وجوهكم ... فلم تجدوا ماءً فتيمّموا صعيداً طيباً ) (1) حيث حصر سبحانه الطهور في الماء والتراب فلا طهور غيرهما ، بل ولا حاجة إلى الاستدلال بالآية المباركة في المقام ، لكفاية ما ورد في الروايات الدالّة على تعيّن الوضوء والغسل بالماء ووجوب التيمم على تقدير فقدانه في إثبات المرام ، ففي رواية أبي بصير عن أبي عبدالله (عليه السلام) «عن الرجل يكون معه اللّبن ، أيتوضّأ منه للصلاة ؟ قال : لا ، إنّما هو الماء والصعيد» (2) ونظيرها ما نقله عبدالله بن المغيرة عن بعض الصادقين قال : «إذا كان الرجل لا يقدر على الماء وهو يقدر على اللّبن» فلا يتوضّأ باللّبن، إنّما هو الماء أو التيمّم» (3) فإنّ اللّبن وإن كان من المائعات التي لا يطلق عليها الماء ولو على وجه المضاف وهو خارج عن محل الكلام ، إلاّ أنّ تعليله (عليه السلام) بقوله إنّما هو الماء والصعيد أو إنّما هو الماء أو التيمم يقتضي انحصار الطهور بهما كما لا يخفى .

    كشف اشتباه في كلمات الأصحاب

   لا يخفى أن الأصحاب (قدس الله أسرارهم) نقلوا الآية المتقدمة في مؤلفاتهم بلفظة «إن لم تجدوا» «فإن لم تجـدوا» وهو على خلاف لفظة الآية الموجودة في الكتاب ، بل

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) المائدة 5 : 6 .

(2) ، (3) الوسائل 1 : 201 / أبواب الماء المضاف ب 1 ح 1 ، 2 .

ــ[18]ــ

لا توجد هاتان اللفظتان في شيء من آيات الكتاب العزيز ، فإن ما وقفنا عليه في سورتي النساء(1) والمائدة(2) «فلم تجدوا» كما أن الموجود في سورة البقرة (ولم تجدوا كاتباً ... )(3)، فراجع .  وظنّي أنّ الاشتباه صدر من صاحب الحدائق (قدس سره)(4) وتبعه المتأخرون عنه في مؤلفاتهم اشتباهاً ولا غرو فإنّ العصمة لأهلها ، وكيف كان فما ذهب إليه المشهور هو الصحيح .

   وخالفهم في ذلك الصدوق (قدس سره) وذهب إلى جواز الوضوء والغسل بماء الورد (5) ، ووافقه على ذلك الكاشاني (6) (قدس سره) ونسب إلى ظاهر ابن أبي عقيل جواز التوضّؤ بالماء الذي سقط فيه شيء غير محرّم ولا نجس وغيّره في أحد أوصافه الثلاثة حتى اُضيف إليه ، مثل ماء الورد وماء الزعفران وغيرهما مما ورد في محكي كلامه إلاّ أ نّه قيّده بصورة الاضطرار (7) ولعلّه يرى مطهّرية المضاف مطلقاً ، وإنّما ذكر الاُمور المشار إليها في كلامه من باب المثال .

   فأما الصدوق (قدس سره) فقد استدلّ على ما ذهب إليه بما رواه محمد بن يعقوب عن علي بن محمد ، عن سهل بن زياد ، عن محمد بن عيسى ، عن يونس ، عن أبي الحسن (عليه السلام) قال «قلت له : الرجل يغتسل بماء الورد ويتوضأ به للصّلاة ؟ قال : لا بأس بذلك» (8) .

   المناقشة في سند الرواية : وقد نوقش في هذه الرواية سنداً ودلالة بوجوه : فأما في سندها فبوجهين : فتارة باشتماله على سهل بن زياد لعدم ثبوت وثاقته . نعم قال

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الآية : 43 .

(2) الآية : 6 .

(3) الآية : 283 .

(4) لاحظ الحدائق 4 : 241 .

(5) المختلف 1 : 61 .

(6) مفاتيح الشرائع 1 : 47 .

(7) المختلف 1 : 57 .

(8) الوسائل 1 : 204 / أبواب الماء المضاف ب 3 ح 1 .

ــ[19]ــ

بعضهم : إن الأمر في سهل سهلٌ ، ولكنك عرفت عدم ثبوت وثاقته . واُخرى باشتماله على محمد بن عيسى عن يونس ، وقد قالوا بعدم الاعتبار بما يرويه محمد بن عيسى عن يونس فالسند ضعيف . وعن الشيخ (قدس سره) أ نّه خبر شاذ شديد الشذوذ وإن تكرر في الكتب والاُصول فإنّما أصله يونس عن أبي الحسن (عليه السلام) ولم يروه غيره وقد أجمعت العصابة على ترك العمل بظاهره .

   المناقشة في دلالتها : وأمّا في دلالتها فأيضاً نوقش بوجهين :

   أحدهما : وهو من الشيخ (قدس سره) على ما ببالي أن الوضوء والغسل في الرواية لم يظهر كونهما بالمعنى المصطلح عليه ولعلّهما بمعناهما اللغوي ، أعني الغسل المعبّر عنه في الفارسبة بـ «شستشو كردن» ولو لأجل التطيب بماء الورد للصلاة كما قد استعملا بهذا المعنى في كثير من الموارد ، ولا مانع من الاغتسال والتوضؤ بالمعنى المذكور بماء الورد (1) .

   وهذه المناقشة كما ترى خلاف ظاهر الوضوء والغسل ، لا سيما مع تقييدهما في الرواية بقوله : للصلاة ، فإن ظاهره هو الوضوء الواجب لأجل الصلاة أو الغسل اللاّزم لأجلها ، دون معناهما اللغوي .

    أقسام ماء الورد

   وثانيهما : أن ماء الورد على ثلاثة أقسام :

   أحدها : ما اعتصر من الورد كما يعتصر من الرمان وغيره ولم يشاهد هذا في الأعصار المتأخّرة ، ولعلّه كان موجوداً في الأزمنة السالفة .

   وثانيها : الماء المقارن للورد ، كالماء الذي اُلقي عليه شيء من الورد ، وأدنى المجاورة يكفي في صحة الاضافة والاسناد فيصح أن يطلق عليه ماء الورد ، فإنّه لأجل المجاورة يكتسب رائحة الورد ويتعطّر بذلك لا محالة ولكن هذا لا يخرج الماء المقترن بالورد عن الاطلاق ، كما كان يخرجه في القسم السابق ، وهذا لوضوح أن مجرد التعطر بالورد

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) التهذيب 1 : 219 .

ــ[20]ــ

باكتساب رائحته لا يكون مانعاً عن إطلاق الماء عليه حقيقة ، وهو نظير ما إذا اُلقيت عليه ميتة طاهرة كميتة السمك واكتسب منها رائحة نتنة ، فإن ذلك لا يخرجه عن الاطلاق ويصح استعماله في الوضوء والغسل قطعاً . نعم ، يدخل الماء بذلك تحت عنوان المتغيّر وهو موضوع آخر له أحكام خاصة ، والمتغير غير المضاف إذ المضاف على ما أسمعناك سابقاً هو الذي خلطه أمر آخر على نحو لا يصح أن يطلق عليه الماء حقيقة بلا إضافته إلى شيء كما في ماء الرمان وفي القسم المتقدم من ماء الورد ، إلاّ على سبيل العناية والمجاز . وأمّا إذا كان الماء أكثر مما اُضيف إليه بحيث صحّ أن يطلق عليه الماء بلا إضـافته كما صحّت إضـافته إلى الورد أيضاً ، فهو ماء مطلق كما عرفت في نظائره من ماء البحر أو البئر ونحوهما .

   وثالثها : ماء الورد المتعارف في زماننا هذا ، وهو الماء الذي يلقى عليه مقدار من الورد ثم يغلى فيتقطر بسبب البخار ، وما يؤخذ من التقطير يسمى بماء الورد ، وهذا القسم أيضاً خارج عن المضاف ، لما قدمناه من أن مجرد الاكتساب وصيرورة الماء متعطّراً بالورد لا يخرجه عن الاطلاق ، فإنّه إنّما يصير مضافاً فيما إذا خلطه الورد بمقدار أكثر من الماء حتى يسلب عنه الاطلاق كما في ماء الرمان ، وليس الأمر كذلك في ماء الورد فإن أكثره ماء والورد المخلوط به أقل منه بمراتب ، وهو نظير ما إذا صببنا قطرة من عطور كاشان على قارورة مملوءة من الماء فإنّها توجب تعطر الماء بأجمعه ، مع أن القطرة المصبوبة بالاضافة إلى ماء القارورة في غاية القلة . فامثال ذلك لا يخرج الماء عن الاطلاق ، وإنّما يتوهّم إضافته من يتوهّمها من أجل قلته ، فلو كان المضاف كثير الدوران والوجود خارجاً لما حسبناه إلاّ ماءً متغيراً بريح طيب ، ومن هنا لو فرضنا بحراً خلقه الله تعالى بتلك الرائحة لما أمكننا الحكم باضافته بوجه .

   فإلى هنا ظهر أن لماء الورد أقساماً ثلاثة : الأول منها مضاف والقسمان الأخيران باقيان على إطلاقهما ، وعليه فلا محيص من حمل الرواية على القسمين الأخيرين ، فإن القسم المضاف منها لا يوجد في الأعصار المتأخرة ولعلّه لم يكن موجوداً في زمان الأئمة (عليهم السلام) أيضاً فلا تشمله الرواية ، وجواز الوضوء والغسل في القسمين الأخيرين على طبق القاعدة ، هذا .

ــ[21]ــ

   ثم لو شككنا في ذلك ولم ندر أن المراد بماء الورد في الرواية هل هو خصوص القسمين المطلقين ، أو الأعم منهما ومن قسم المضاف فنقول : إن مقتضى إطلاق الرواية جواز الغسل والوضوء بجميع الأقسام الثلاثة المتقدمة مطلقها ومضافها ، ومقتضى إطلاق الآية المباركة (إذا قمتم إلى الصّلاة ) وغيرها مما دلّ على انحصار الطهور بالماء والتراب وجوب الوضوء والغسل بالماء وبالتيمم على تقدير فقدانه مطلقاً ، سواء أ كان متمكناً من القسم المضاف أم لم يكن ، فلا يكون وجوده مانعاً عن التيمم بحسب إطلاق الآية المباركة ، والنسبة بينهما عموم من وجه فيتعارضان في مادة اجتماعهما وهي ما إذا لم يكن هناك ماء وكان متمكناً من القسم المضاف ، فإنّها مورد للتيمّم بحسب إطلاق الآية المباركة ، ومورد للوضـوء حسب ما يقتضيه إطلاق الرواية وبذلك تسقط الرواية عن الاعتبار ويحكم بوجوب التيمم مع وجود القسم المضاف وذلك لما بيناه في محله من أن الرواية إذا كانت معارضة للكتاب بالعموم من وجه فمقتضى القاعدة سقوطها عن الاعتبار لمخالفتها للكتاب في مادة الاجتماع وهذه المناقشة هي الصحيحة .

   وربّما يجاب عن الاستدلال بالرواية بوجه آخر وهو : أن لفظة «ورد» يحتمل أن تكون بكسر الواو وسكون الراء ، وماء الوِرد بمعنى الماء الذي ترد عليه الدواب وغيرها للشراب ، ولعلّ السائل كان في ذهنه أن مثله مما تبول فيه الدواب ، ولأجله سأله عن حكم الوضوء والغسل به ، وعليه فالرواية مجملة لا يمكن الاستدلال بها على شيء .

   ويدفعه : ان هذا الاحتمال ساقط لا يعتنى به ، لأ نّه إنّما يتجه فيما لو كانت الأخبار الواجب اتباعها مكتوبة في كتاب وواصلة إلى أرباب الحديث بالكتابة ، فبما أ نّها ليست معرّبة ومشكّلة يمكن أن يتطرق عليها احتمال الكسر والفتح وغيرهما من الاحتمالات ، ولكن الأمر ليس كذلك فإنّهم أخذوا الأخبار عن رواتها الموثوق بهم بالقراءة ، ووصلت إليهم سماعاً عن سماع وقراءةً بعد قراءة على الكيفية التي وصلت إليهم ، وحيث إن راوي هذه الرواية وهو الصّدوق (قدس سره) قد نقلها بفتح الواو حيث استدلّ بها على جواز الوضوء بالجلاّب فيجب اتباعه في نقله ، ولا يصغى معه إلى

ــ[22]ــ

احتمال كسر الواو ، فإنّه يستلزم فتح باب جديد للاستنباط لتطرق هذه الاحتمالات في أكثر الأخبار ، وهو يسقطها عن الاعتبار ، هذا كلّه فيما ذهب إليه الصّدوق (طاب ثراه) .

   وأمّا ابن أبي عقيل ، وهو الذي ذهب إلى جواز الوضوء بالمضاف فقد يستدل عليه بما رواه عبدالله بن المغيرة عن بعض الصادقين قال : «إذا كان الرجل لا يقدر على الماء وهو يقدر على اللبن فلا يتوضأ باللبن إنّما هو الماء أو التيمم فإن لم يقدر على الماء وكان نبيذ ، فإنّي سمعت حريزاً يذكر في حديث : أن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قد توضأ بنبيذ ولم يقدر على الماء» (1) .

   واُجيب عنها بأن المراد بالنبيذ فيها ليس هو النبيذ المعروف لأ نّه نجس فكيف يصح الوضوء بمثله ، حتى أن ابن أبي عقيل أيضاً لا يرضى بذلك ، بل المراد به على ما في بعض الأخبار (2) هو الماء المطلق الذي تلقى عليه تمرة أو تمرتان أو كف من التمر حتى يكتسب بها ما يمنع عن تسرع الفساد إليه ، من دون أن يخرج بذلك عن الاطلاق ، فضلاً عن أن يتصف بالاسكار أو يحكم عليه بالنجاسة .

   ولا يخفى ما في هذا التأويل والجواب من المناقشة فإنّ ما يسمّى بالنبيذ لو كان كما ذكره المجيب ماءً مطلقاً ـ  لوضوح أنّ إلقاء كف من التمر على الماء لا يخرجه عن الاطلاق  ـ لما كان معنى محصل لقوله (عليه السلام) في الرواية : «فإن لم يقدر على

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 1 : 202 / أبواب الماء المضاف ب 2 ح 1 .

(2) وهو رواية الكلبي النسابة ، انّه سأل أبا عبدالله (عليه السلام) عن النبيذ ؟ فقال : حلال فقال: إنّا ننبذه فنطرح فيه العكر وما سوى ذلك . فقال : شه شه تلك الخمرة المنتنة . قلت : جُعلت فداك فأي نبيذ تعني ؟ فقال : إن أهل المدينة شكوا إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) تغير الماء وفساد طبائعهم ، فأمرهم أن ينبذوا فكان الرجل يأمر خادمه أن ينبذ له ، فيعمد إلى كف من تمر فيقذف به في الشن فمنه شربه ومنه طهوره . فقلت : وكم كان عدد التمر الذي في الكف ؟ قال : ما  حمل الكف فقلت : واحدة أو اثنتين ؟ فقال : ربّما كانت واحدة وربّما كانت اثنتين ، فقلت : وكم كان يسع الشن ماء ؟ فقال : ما بين الأربعين إلى الثمانين إلى ما فوق ذلك . فقلت : بأي الأرطال ؟ فقال : أرطال مكيال العراق . الوسائل 1 : 203 / أبواب الماء المضاف ب 2 ح 2 .

ــ[23]ــ

الماء وكان نبيذ ...» فإن النبيذ على هذا ماء مطلق ، فما معنى عدم القدرة على الماء كما هو واضح ، فهذا الجواب على خلاف مفروض الرواية حيث فرض فيها عدم القدرة على الماء ، ففرض النبيذ من الماء المطلق والقدرة عليه خلاف مفروضها .

   فالصحيح في الجواب عن الرواية أن يقال : إنّه لم يعلم أن عبدالله بن المغيرة رواها عن أحد المعصومين (عليهم السلام) فإنّه نقلها عن بعض الصادقين والمراد به بعض العدول ، لأن صيغة الصادقين التي هي صيغة جمع في الرواية ـ  لمكان البعض  ـ لم يرَ استعمالها وارادة الأئمة منها في شيء من الموارد . نعم ، الصادقين بصيغة التثنية يطلق على الباقر والصادق (عليهما السلام) من باب التغليب كالشمسين والقمرين ، وقد عرفت أن الصادقين في المقام ليس بتثنية . وبالجملة أن تعبيره ببعض الصادقين مشعر بعدم ارادته المعصوم (عليه السلام) هذا أوّلاً .

   وثانياً : لو سلمنا أ نّه رواها عن الإمام (عليه السلام) فلم يظهر أن ذيلها ـ  وهو ما  اشتمل على حكم الوضوء بالنبيذ  ـ منه (عليه السلام) ولعلّه مما أضافه عبدالله بن المغيرة من عنده نقلاً عن حريز . ولم يعلم أن الواسطة بين النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وحريز من هو ؟ وهذا الاحتمال يسقط الرواية عن الاعتبار ، ومعه لا يمكن إثبات حكم مخالف للقواعد بمثلها .

   وثالثاً : هب أن ذيل الرواية من الإمام (عليه السلام) لكنه لم يظهر منها إمضاؤه لما نقله عن حريز ، فإنّه لو كان مورداً لامضائه لما كان وجه لاسناده إلى حريز ، بل كان يحكم بعدم البأس من قبله ، فاسناده ذلك إلى حريز مشعر بعدم رضائه وأ نّه نقله تقية حيث ظهر من حكمه بعدم جواز الوضوء باللّبن أ نّه لا يرضى بالوضوء بالنبيذ النجس بطريق أولى ، وكأ نّه تصدى لدفع هذا الاستظهار بإظهاره الموافقة مع العامّة بنقل ما حكاه حريز عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وهذا بناءً على صحّة ما  نسبه بعض أصحابنا إلى العامّة من ذهابهم إلى جواز الوضوء بالنبيذ (1) .

 ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) ففي الخلاف 1 : 55 بعد حكمه بعدم جواز الوضوء بشيء من الأنبذة المسكرة ما هذا نصّه : وبه قال الشافعي. وقال أبو حنيفة بجواز التوضي بنبيذ التمر إذا كان مطبوخاً عند عدم الماء وهو قول أبي يوسف . وقال محمد : يتوضّأ به ويتيمّم . وقال الأوزاعي : يجوز التوضي بسائر الأنبذة .

ــ[24]ــ

   ولكنا لم نقف عليه في الفقه على المذاهب الأربعة ولا نكتفي بذلك في الجزم بعدم صحّة النسبة ، فلا بدّ في تحقيق ذلك من مراجعة كتبهم المفصلة (1) . وعلى الجملة فلا يثبت بهذه الرواية على علاتها حكم مخالف لما كاد أن يكون ضرورياً من مذهب الشيعة ، هذا كلّه في المسألة الاُولى .

    عدم مطهريّة المضاف من الخبث

   المسألة الثانية : في أن المضاف يرفع الخبث أو لا يرفعه : المعروف بين الأصحاب أنّ المضاف لا يكتفى به في إزالة الأخباث والقذارات الشرعية ، ويمكن إسناد المخالفة في هذه المسـألة إلى المحدِّث الكاشـاني (قدس سره) حيث ذهب إلى عدم سراية

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) المسألة خلافية بينهم ، نصّ على ذلك الترمذي في صحيحه ج 1 ص 147 حيث قال : وقد رأى بعض أهل العلم الوضوء بالنبيذ ، منهم سفيان وغيره. وقال بعض أهل العلم : لا يتوضأ بالنبيذ ، وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق . وفي المحلّى لابن حزم المجلد الأول ص 202 بعد أن حكم بعدم جواز الوضوء بغير الماء كالنبيذ ما نص عبارته : وهذا قول مالك ، والشافعي وأحمد ، وداود ، وقال به الحسن ، وعطاء بن أبي رياح ، وسفيان الثوري، وأبو يوسف ، وإسحاق وأبو ثور ، وغيرهم . وعن عكرمة أن النبيذ وضوء إذا لم يوجد الماء ، ولا يتيمّم مع وجوده . وقال الأوزاعي لا يتيمّم إذا عدم الماء ما دام يوجد نبيذ غير مسكر ، فإن كان مسكراً فلا يتوضأ به . وقال حميد صاحب الحسن بن حي : نبيذ التمر خاصة يجوز التوضؤ به والغسل المفترض في الحضر والسفر ، وجد الماء أو لم يوجد ولا يجوز ذلك بغير نبيذ التمر ، وجد الماء أو لم يوجد . وقال أبو حنيفة في أشهر قوليه : انّ نبيذ التمر خاصّة إذا لم يسكر فإنّه يتوضأ به ويغتسل فيما كان خارج الأمصار والقرى خاصّة عند عدم الماء ، فإن أسكر فإن كان مطبوخاً جاز الوضوء به والغسل كذلك ، فإن كان نيئاً لم يجز استعماله أصلاً في ذلك ولا يجوز الوضوء بشيء من ذلك ، لا عند عدم الماء ولا في الأمصار ولا في القرى أصلاً وإن عدم الماء ، ولا بشيء من الأنبذة غير نبيذ التمر ، لا في القرى ولا في غير القرى ، ولا عند عدم الماء . والرواية الاُخرى عنه : إن جميع الأنبذة يتوضأ بها ويغتسل ، كما قال في نبيذ التمر سواء سواء . وقال محمد بن الحسن يتوضأ بنبيذ التمر عند عدم الماء ويتيمّم معاً .

ــ[25]ــ

النجاسة إلى ملاقيها ، وأن غسل ملاقي النجاسة غير واجب إلاّ في بعض الموارد كما في الثوب والبدن للدليل ، وأمّا في الأجسام الصيقلية كالزجاج ونحوه فيكفي في طهارتها مجرد إزالة عين النجاسة ولو بخرقة أو بدلك وأمثالهما ، بلا حاجة معها إلى غسلها فالأجسام نظير بواطن الإنسان وظاهر الحيوان لا يتنجس بشيء (1) .

   وذهب السيد المرتضى (2) والشيخ المفيد (3) (قدس سرهما) إلى أن غسل ملاقي النجاسات وإن كان واجباً شرعاً ، إلاّ أن الغسل لا يلزم أن يكون بالماء بل الغسل بالمضاف بل بكل ما يكفي في إزالة العين ، وصدق عنوان الغسل وإن كان خارجاً عن المضاف أيضاً كاف في طهارته كالغسل بالنفط أو بالاسپرتو إذا قلنا بعدم نجاسته في نفسه ، فإنّهما مائعان وليسا بماء ولا مضاف ، فهناك مقامان للكلام :

    ما ذهب إليه الكاشاني (قدس سره)

   أحدهما : فيما سلكه الكاشاني (قدس سره) وأن ملاقاة النجاسة بشيء هل توجب سراية النجاسة إليه ، بحيث يجب غسل ذلك الشيء بعد إزالة العين عنه أو أ نّها لا  توجب السراية ولا دليل على وجوب غسله بعد إزالة العين عنه ، فاللاّزم هو الازالة دون غسل المحل إلاّ فيما دلّ دليل على وجوب غسله كالبدن والثوب ، وينبغي أن تضاف الأواني أيضاً إلى البدن والثوب ، لقيام الدليل على لزوم غسل الآنية التي يشرب فيها الخمر أو يأكل فيها الكفار أطعمة نجسة كاللّحم النجس(4) ولعلّه (قدس سره) إنّما ذكر البدن والثوب من باب المثال ، وإن كان ظاهر كلامه الاختصاص . وكيف كان فقد ادعى عدم دلالة دليل على وجوب الغسل في ملاقي النجاسات بعد إزالة العين عنه .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) مفاتيح الشرايع 1 : 77 .

(2) الناصريّات : 183 السطر 2 .

(3) نقل عنه في الحدائق 1 : 399 .

(4) الوسائل 3 : 419 / أبواب النجاسات ب 14 ح1 و ص 517 ب 72 ح  2 .

ــ[26]ــ

   ويدفعه : ان العرف يستفيد من الأوامر الواردة في موارد خاصة بغسل ملاقي النجاسات بعد إزالة عينها عدم اختصاص ذلك بمورد دون مورد، فإذا لاحظوا الأمر بغسل الثوب والبدن والفرش والأواني وغيرها بعد إزالة العين عنها بشيء فهموا منه عمومية ذلك الحكم وجريانه في كل شيء لاقاه نجس ، وأمّا أن الغسل الواجب لا بدّ وأن يكون بالماء أو يكفي فيه الغسل بالمضاف أو بشيء آخر أيضاً ، فهو مطلب آخر يأتي بعد هذه المسألة .

   وثانياً : قد ورد في موثقة عمار بن موسى الساباطي : «أ نّه سأل أبا عبدالله (عليه السلام) عن رجل يجد في إنائه فأرة ، وقد توضأ من ذلك الإناء مراراً أو اغتسل منه أو غسل ثيابه ، وقد كانت الفأرة متسلخة ؟ فقال إن كان رآها في الاناء قبل أن يغتسل أو يتوضأ أو يغسل ثيابه ، ثم يفعل ذلك بعد ما رآها في الاناء ، فعليه أن يغسل ثيابه ويغسل كل ما أصابه ذلك الماء ويعيد الوضوء والصلاة ...» (1) وهي تدلنا على وجوب الغسل في ملاقي النجس بلا فرق في ذلك بين أفراده وموارده لعموم الرواية ، حيث اشتملت على لفظة «كل» في قوله : «ويغسل كل ما أصابه ذلك الماء» .

   ثم إنّ الفرق بين هذا الوجه والوجه المتقدم لا يكاد يخفى ، فإن الاستدلال هناك إنّما كان بفهم العرف واستفادته عموم الحكم من ملاحظة الأمر بالغسل في الموارد المخصوصة ، وأمّا هنا فإنّما نستدل على عمومية الحكم بدلالة الموثقة عليها وإن لم يكن هناك استفادة العموم عرفاً من ملاحظة خصوصيات الموارد ، وكم فرق بين الاستدلال بالخبر والاستدلال بالفهم العرفي من ملاحظة الموارد الخاصة ، فما ذهب إليه المحدث الكاشاني (طاب ثراه) ممّا لا يمكن المساعدة عليه وهو متفرد فيما سلكه في المقام ، ولا نعلم موافقاً له من الأصحاب ، ومن هنا طعن عليه كاشف الغطاء (قدس سره) على ما ببالي في شرحه للقواعد بأ نّه يأتي بفتيا غريبة ومسائل لم يقل بها الأصحاب .

   وأمّا ما أشار إليه في ضمن كلامه من عدم تنجس باطن الإنسان وظاهر الحيوان

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 1 : 142 / أبواب الماء المطلق ب 4 ح 1 .

ــ[27]ــ

وكفاية زوال العين فيهما بلا حاجة إلى غسلهما ، فهو وإن كان كما أفاده على خلاف في الأخير لتردّده بين عدم التنجس رأساً وتنجسه مع طهارته بمجرّد زوال العين عنه ، إلاّ أن الحكم بعدم وجوب الغسل شرعاً لا يثبت بهذين الموردين . وقياس غيرهما عليهما مما لا اعتبار به عندنا .

    ما ذهب إليه السيد والمفيد (قدس سرهما)

   وثانيهما : فيما ذهب إليه السيد والمفيد (قدس سرهما) من أن ملاقاة النجاسة وإن كانت موجبة للسراية ولوجوب غسل ما لاقاها ، إلاّ أن الغسل باطلاقه يكفي في تطهير المتنجسات بلا حاجة إلى غسلها بالماء وقد استدلّ على ذلك بوجوه :

   الوجه الأوّل : ما ورد من إطلاقات الأمر بالغسل في المتنجسات (1) من غير تقييده بالماء ، فمنها يظهر كفاية مطلق الغسل في تطهير المتنجسات .

   وقد يجاب عن ذلك بأن المطلقات الآمرة بغسل المتنجسات تنصرف إلى الغسل بالماء ، لمكان قلة الغسل بغير الماء وندرته وكثرة الغسل بالماء وأغلبيته .

   وفيه : أن كثرة الأفراد وقلّتها لا تمنع عن صدق الاسم على الأفراد النادرة والقليلة ، وبعبارة اُخرى الغسل ليس من المفاهيم المشكّكة حتى يدّعى أن صدقه على بعض أفراده أجلى من بعضها الآخر ، بل الغسل كما يصدق على الغسل بالماء كذلك يصدق على الغسل بغيره حقيقة ، كالغسل بماء الورد بناءً على أ نّه مضاف ، إذ الغسل ليس إلاّ بمعنى إزالة النجاسة والقذارة ، وهي صادقة على كل من الغسلين ، وبعد صدق الحقيقة على كليهما فلا تكون قلة وجود أحدهما خارجاً موجبة للانصراف كما هو ظاهر .

   فالصحيح في الجواب أن يقال : المستفاد من ملاحظة الموارد التي ورد فيها الأمر

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) كما في صحيحتي محمد عن أحدهما (عليهما السلام) وابن أبي يعفور عن أبي عبدالله (عليه السلام) لاشتمالهما على الأمر بالغسل مرتين . وهو مطلق وهما مرويتان في الوسائل 3 : 395 / أبواب النجاسات ب 1 ح 1 ، 2 وأيضاً ورد ذلك في موثقة عمار المتقدمة ، فراجع .

ــ[28]ــ

بالغسل بالماء ، وتتبع الأخبار الواردة في مقامات مختلفة أنّ الغسل لا بدّ وأن يكون بالماء ، ولا يكتفى بغيره في تطهير المتنجسات وبها تقيد المطلقات ، أعني ما دلّ على لزوم الغسل مطلقاً ، فنحملها على إرادة الغسل بالماء ، ولنذكر جملة من تلك الموارد :

   منها : ما ورد في الاستنجاء بالأحجار (1) حيث حكم (عليه السلام) بكفاية الأحجار في التطهير من الغائط ، ومنع عن كفايته في البول وأمر بغسل مخرج البول بالماء ، فلو كان غير الماء أيضاً كافياً في تطهير المخرج لما كان وجه لحصره بالماء .

   ومنها : الموارد التي سئل فيها عن كيفية غسل الكوز والاناء إذا كان قذراً ، حيث أمر (عليه السلام) بغسله ثلاث مرات (2) يصب فيه الماء فيحرك فيه ثم يفرغ منه ، ثم يصبّ فيه ماء آخر فيحرّك فيه ثم يفرغ منه ، وهكذا ثلاث مرات .

ومنها : أمره (عليه السلام) بغسل الثوب بالماء في المركن مرتين، وفي الماء الجاري مرة واحدة(3).

   ومنها : أمره (عليه السلام) بتعفير الاناء أولاً ثم غسله بالماء (4) .

   ومنها : أمره بغسل الأواني المتنجسة بالماء (5) .

   ومنها : أمره بصب الماء في مثل البدن إذا تنجس بالبول ونحوه (6) ، وبهذه المقيّدات نرفع اليد عن المطلقات المقتضية لكفاية الغسل مطلقاً . وببيان آخر إذا ثبت وجوب

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) راجع رواية بريد بن معاوية عن أبي جعفر (عليه السلام) المروية في الوسائل 1 : 317 / أبواب أحكام الخلوة ب 9 ح 6 .

(2) ورد ذلك في موثقة عمار الساباطي عن أبي عبدالله (عليه السلام) المروية في الوسائل 3 : 496 / أبواب النجاسات ب 53 ح 1 .

(3) كما في صحيحة محمد بن مسلم المروية في الوسائل 3 : 397 / أبواب النجاسات ب 2 ح 1 .

(4) كما في صحيحة الفضل أبي العباس عن أبي عبدالله (عليه السلام) المروية في الوسائل 3 : 415 / أبواب النجاسات ب 12 ح 2 .

(5) كما في موثقة عمار بن موسى المروية في الوسائل 3 : 494 / أبواب النجاسات ب 51 ح 1 .

(6) كما في صحيحة الحسين بن أبي العلاء المروية في الوسائل 3 : 395 / أبواب النجاسات ب  1 ح 4 وغيرها .

ــ[29]ــ

الغسل بالماء في الموارد المنصوصة المتقدمة فيثبت في جميعها ، لعدم القول بالفصل حتى من السيد (قدس سره) لأن من قال باعتبار الغسل بالماء في الموارد المتقدمة قال به في جميع الموارد ، وكيف كان فلا نعتمد على شيء من المطلقات الواردة في المقام .

   الوجه الثاني : الاجماع ، حيث استدلّ به السيد المرتضى (قدس سره) على كفاية الغسل بالمضاف في تطهير المتنجسات ، وهذا الاجماع ـ  مضافاً إلى أ نّه مما لا يوافقه فيه أحد من الأصحاب غير الشيخ المفيد (قدس سره)  ـ اجماع على أمر كبروي وهو أن الأصل في كل ما لم يدلّ دليل على حرمته أو نجاسته هو الحلية والطهارة ، وقد طبقها هو (قدس سره) على المقام بدعوى أ نّه لم يرد دليل على المنع من تطهير المتنجس بالمضاف ، فهو أمر جائز وحلال والمغسول محكوم بالطهارة ، وصدور أمثال ذلك منه (طاب ثراه) في المسائل الفقهية غير عزيز .

   ثم إن الاجماع الذي ادعاه على الكبرى المتقدمة وإن كان كما أفاده تاماً إلاّ أن الاشكال كلّه في تطبيقها على المقام ، وذلك لأ نّا إن قلنا بما سلكه المشهور من جريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية ، فإن المورد من موارد استصحاب النجاسة بعد غسله بالمضاف ، ومعه لا تصل النوبة إلى قاعدة الطهارة والحلية وهو ظاهر . نعم ، إذا بنينا على ما سلكناه من عدم جريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية لمعارضته دائماً باستصحاب عدم الجعل ـ  على ما حققناه في محلّه  ـ فلا مانع من تطبيق الكبرى الاجماعية على المقام من تلك الناحية ، إذ لا استصحاب هناك حتى يمنع عن جريان قاعدة الطهارة بعد غسل المتنجس بالمضاف ، أو عن جريان البراءة عن حرمة أكله أو شربه ، كما أن مقتضى البراءة جواز الصلاة فيه ، بناءً على ما حققناه في محلّه من جريان البراءة عند دوران الأمر بين الأقل والأكثر ، وبها ندفع اشتراط الغسل بالماء إلاّ أ نّا ندعي قيام الدليل الاجتهادي على بقاء النجاسة بعد الغسل بالمضاف ، وهو الأخبار المتقدمة الواردة في مقامات مختلفة ، لأ نّها دلّت على تقييد إطلاقات الغسل بالماء ، وكيف كان فلا تنطبق الكبرى الاجماعية على المقام .

   الوجه الثالث : أن الغرض من وجوب الغسل في المتنجسات ليس إلاّ إزالة النجاسة عن المحل ، والازالة كما تتحقق بالغسل بالماء كذلك تحصل بالغسل بالمضاف

ــ[30]ــ

أو بغيره من المائعات .

   والجواب عن ذلك : أنّ هذه الدعوى مصادرة لأ نّها عين المدّعى ، فمن أخبرنا أنّ الغرض من وجوب الغسل مجرّد إزالة العين كيف ما اتفقت كيف ولو صحت هذه الدعوى لتمّ ما ذهب إليه الكاشاني (قدس سره) من عدم وجوب الغسل رأساً (1) ، فإنّ الازالة كما تحصل بالغسل تحصل بالدلك والمسح أيضاً ، إذن فما الموجب لأصل وجوب الغسل ، فهذا الوجه استحساني صرف ، والسيد أيضاً لا يرتضي بذلك ، لأ نّه يرى أصل الغسل واجباً كما مرّ ، ولا يكتفي بمجرد إزالة العين في حصول الطهارة .

   الوجه الرابع : قوله تعالى (وثيابك فطهِّر ) (2) بتقريب انه سبحانه أمر نبيّه الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بتطهير ثيابه، ولم يقيّد التطهير بالماء. فمنها يظهر أنّ المطلوب مجرد التطهير سواءً كان بالماء أو بشيء آخر .

   وفيه : أن الآية لا دلالة لها على المدعى بوجه ، لأ نّا إن حملنا التطهير في الآية المباركة على معناه اللغوي ، وهو إزالة الأوساخ والقذارات كما هو المناسب لمقام النبوّة ، فإنّه لا تناسبها الوساخة والقذارة في البدن والثياب المسببتان لاثارة التنفّر والانزعاج ، وهو خلاف غرض النبي (صلىّ الله عليه وآله وسلّم) بل خلاف قوله أيضاً فإنّه الذي أمر الناس بالنظافة وعدّها من الإيمان بقوله : «النظافة من الإيمان» (3) .

   ويؤيّده أنّ أحكام النجاسات لعلّها لم تكن ثابتة في الشريعة المقدسة حين نزول الآية المباركة ، فإن السور القصار إنّما نزلت حين البعثة ، ولم يكن كثير من الأحكام وقتئذ ثابتة على المكلفين ، فلا تكون الآية مربوطة بالمقام ، لأن البحث إنّما هو في الطهارة الاعتبارية ، لا في إزالة القذارة والوساخة التي هي معنى التطهير لغة .

   وكذا الحال فيما إذا حملنا التطهير في الآية على ما نطقت به الأخبار الواردة في

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) مفاتيح الشرايع 1 : 77 .

(2) المدثر 74 : 4 .

(3) نهج الفصاحة : 636 .

ــ[31]ــ

تفسيرها (1) حيث دلت على أن المراد منها عدم التسبب لتنجس الثياب باطالتها وترك تشميرها كي تحتاج إلى تطهيرها ، فمعنى الآية : قصّر ثيابك لئلاّ تطول وتتلوث بما على الأرض من النجاسات ، وتحتاج إلى تطهيرها ، وليس المراد بها تطهير ثيابه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بعد تنجسها نظير قوله تعالى : (يريد الله ليذهب عنكم الرِّجس أهل البيت ويطهِّركم تطهيرا ) (2) فإن معناه ليس هو تطهيرهم بعد صيرورتهم غير طاهرين ، فالآية أجنبية عن المقام .

   وإن حملنا التطهير فيها على التطهير شرعاً ، الذي هو مورد الكلام ، فلا يمكن الاستدلال بها في المقام أيضاً ، فإن الآية على هذا إنّما دلت على لزوم تطهير الثياب وأمّا أن التطهير يحصل بأي شيء فهي ساكتة عن بيانه ولا دلالة لها على كيفية التطهير ، وأ نّه لا بدّ وأن يكون بالماء أو بالأعم منه ومن المضاف أو بكل ما يزيل العين وإن لم يكن من المضاف أيضاً ، فلا يستفاد منها شيء من هذه الخصوصيات ، فلو دلت فإنّما تدل على مسلك الكاشاني (قدس سره) من عدم اعتبار الغسل رأساً (3)، ولا يرضى به المستدلّ .

   الوجه الخامس : الروايات الواردة في جواز التطهير بالمضاف وهي أربع :

   إحداها : مرسلة المفيد (قدس سره) حيث قال بعد حكمه بجواز الغسل بالمضاف : إنّ ذلك مرويّ عن الأئمة (عليهم السلام) (4) .

 ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) رواها في الكافي 6 : 455 / 1 ، ونقلها عنه في البرهان في المجلد الرابع ص  399 ـ 400، كما نقل غيرها فإليك شطر منها : (منها) ما عن علي بن إبراهيم ثيابك فطهر قال تطهيرها تشميرها ، أي قصرها ، ويقال شيعتنا مطهرون . (منها) ما عن معلى بن خنيس عن أبي عبدالله في رواية ، والله تعالى يقول : وثيابك فطهِّر قال : وثيابك ارفعها ولا تجرها (منها) : ما عن رجل من أهل اليمامة كان مع أبي الحسن (عليه السلام) أيام حبس ببغداد، قال قال لي أبو الحسن : إن الله تعالى قال لنبيه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وثيابك فطهر وكانت ثيابه طاهرة ، وإنّما أمره بالتسنيم .

(2) الأحزاب 33 : 33 .

(3) مفاتيح الشرائع 1 : 77 .

(4) كما نقله في الحدائق 1 : 402 نقلاً عن المحقق .

ــ[32]ــ

   ثانيتها : رواية غياث عن أبي عبدالله (عليه السلام) عن أبيه عن علي (عليه السلام) قال : لا بأس أن يغسل الدم بالبصاق (1) .

   ثالثتها : صحيحة حكم بن حكيم بن أخي خلاد الصيرفي أنه سأل أبا عبدالله (عليه السلام) فقال له : «أبول فلا اُصيب الماء وقد أصاب يدي شيء من البول فأمسحه بالحائط وبالتراب ، ثم تعرق يدي فأمسح وجهي أو بعض جسدي أو يصيب ثوبي ، فقال : لا بأس به» (2) .

   رابعتها : مرسلة الكليني (قدس سره) حيث قال : روي أ نّه لا يغسل بالريق شيء إلاّ الدم (3) وهذه جملة الأخبار التي استدلّ بها على جواز غسل المتنجس بالمضاف ولا يتمّ شيء من ذلك .

   أمّا مرسلة الكليني فقد نطمئن بعدم كونها رواية اُخرى غير ما ورد من أنّ الدم يغسل بالبصاق كما في رواية غياث ، بل هي هي بعينها .

   وأمّا مرسلة المفيد فهي التي طالبه بها المحقق (قدس سره) إذ لا أثر منها في شيء من كتب الروايات ، ولعلّها صدرت منه اشتباهاً وهو غير بعيد ، كما نشاهده من أنفسنا حيث قد نطمئن بوجود رواية في مسألة وليس منها عين ولا أثر .

   وأمّا رواية حكم بن حكيم فهي وإن كانت صحيحة بحسب السند إلاّ أنها أجنبية عمّا نحن فيه رأساً ، إذ الكلام في مطهّرية المضاف دون المسح على الحائط والتراب ، بل لا قائل بمطهرية المسح من الفريقين في غير المخرجين لأن العامة إنّما يرون (4) المسح

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 1 : 205 / أبواب الماء المضاف ب 4 ح 2 .

(2) الوسائل 3 : 401 / أبواب النجاسات ب 6 ح 1 .

(3) الوسائل 1 : 205 / أبواب الماء المضاف ب 4 ح 3 .

(4) كما جرت على ذلك سيرتهم عملاً ، فإن الحائط عندهم كالأحجار عندنا في الاستنجاء بلا فرق في ذلك عندهم بين مخرج الغائط والبول ، كما في مغنى المحتاج : 1 / 43 والفقه على المذاهب الأربعة ص 97 ـ 100 من الجزء الأول . نعم حكى فيه عن المالكية القول بكراهة الاستنجاء على جدار مملوك له . بل سووا بين المخرجين في الاستنجاء بالأحجار أو بغيرها في جميع الأحكام والمستحبات . فهذا هو الشوكاني قال في نيل الأوطار المجلد 1 ص 94 قال أصحابنا : ويستحب أن لا يستعين باليد اليمنى في شيء من أحوال الاستنجاء إلاّ لعذر ، فإذا استنجى بماء صبه باليمنى ومسح باليسرى ، وإذا استنجى بحجر فإن كان في الدبر مسح بيساره ، وإن كان في القبل وأمكنه وضع الحجر على الأرض ، أو بين قدميه بحيث يتأتى مسحه أمسك الذكر بيساره ومسحه على الحجر ، وإن لم يمكنه واضطر إلى حمل الحجر حمله بيمينه وأمسك الذكر بيساره ومسح بها ، ولا يحرك اليمنى ..

ــ[33]ــ

على الحائط مطهّراً في خصوص المخرجين دون غيرهما ، فالرواية مخالفة لجميع المذاهب فلا محيص من طرحها أو تأويلها . نعم ، هي على تقدير تماميتها سنداً ـ  كما هي كذلك  ـ ودلالة من جملة الأدلّة الدالّة على عدم منجسية المتنجس . ويأتي الكلام عليها في محلّه إن شاء الله تعالى .

   وأمّا الرواية الثانية : فهي ضعيفة السند بغياث بن إبراهيم ، إذ لا يعمل على ما يتفرّد به من رواياته (1) ، هذا على أ نّها مختصة بالبصاق والدم ، ولو فرض أ نّها عامّة شاملة لغير الدم أيضاً عارضها ما نقله نفس غياث في رواية اُخرى له من أن البصاق لا يغسل به غير الدم (2) وعليه فتكون الرواية أخص من المدعى ، فإنّ السيد يرى جواز الغسل بمطلق المضاف دون خصوص البصاق ، كما أ نّه يرى المضاف مطهّراً من جميع النجاسات لا في خصوص الدم ، فعلى تقدير تمامية الرواية لا بدّ من الاقتصار على موردها وهو مطهّرية البصاق في خصوص إزالة الدم ، وهو ما ذكرناه من أخصية الدليل عن المدعى .

   والمتحصل : أن ما ذهب إليه المشهور من عدم رافعية المضاف في شيء من الحدث والخبث هو الصحيح .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) هكذا ذكره المحقق (قدس سره) في المعتبر كما في الجزء الأوّل من الحدائق من الطبعة الأخيرة ص  406 ، ولكن الحق انّ الرجل موثق قد وثقه النجاشي (قدس سره) [ 305 / 833 ] ، وكونه بتري المذهب لا ينافي وثاقته كما ان الظاهر أن موسى بن الحسن الواقع في سند الرواية هو موسى بن الحسن بن عامر الثقة لأ نّه المعروف والمشهور ، وقد روى سعد عنه في عدّة مواضع ، إذن فالرواية موثقة .

(2) الوسائل 1 : 205 / أبواب الماء المضاف ب 4 ح 1 .

ــ[34]ــ

وإن لاقى نجساً تنجس وإن كان كثيراً ، بل وإن كان مقدار ألف كر فإنّه ينجس بمجرّد ملاقاة النجاسة ولو بمقدار رأس إبرة في أحد أطرافه فينجس كلّه (1) .

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

    وأمّا ما ذهب إليه ابن أبي عقيل من جواز الغسل بالمضاف عند الاضطرار فلعلّه اعتمد في ذلك على الرواية المتقدمة (1) الدالّة على أن المضاف يرفع الحدث عند عدم الماء ، فإن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) توضأ بالنبيذ عند عدمه ، حيث يستفاد منها كفاية المضاف في رفع الخبث عند عدم الماء بطريق أولى ، ولكنا قدمنا أن المضاف لا يكفي في شيء من رفع الحدث والخبث بلا فرق في ذلك بين وجود الماء وعدمه وأنّ الرواية مؤولة ولم يثبت أنها من الإمام (عليه السلام) وقد ورد في بعض الأخبار المعتبرة التي قدمنا نقلها في أوائل الكتاب : «أنّ بني إسرائيل كانوا إذا أصابهم قطرة بول قرضوا لحومهم بالمقاريض ، وقد وسع الله عليكم بأوسع ما بين السماء والأرض وجعل لكم الماء طهوراً ، فانظروا كيف تكونون» (2) وهي قد دلّت على حصر الطهور في الماء بقرينة اقتصاره (عليه السلام) عليه في مقام الامتنان ، فلا طهور غيره من المائعات بلا فرق في ذلك بين صورتي الاختيار والاضطرار .

   (1) والكلام في ذلك يقع في مقامين :

   أحدهما : في أصل انفعال المضاف بملاقاة النجاسة .

   وثانيهما : في أ نّه على تقدير انفعاله هل يفرق فيه بين كثيره وقليله ؟ فإذا كان بمقدار الكر فحكمه حكم الماء المطلق أو انه لا فرق بين قلته وكثرته ؟

    المضاف ينفعل بالملاقاة

   أمّا المقام الأول: فقد تسالموا على أن المضاف ينفعل بملاقاة النجاسة، ولم يستشكل في ذلك أحد من الأصحاب ، ويدل عليه جميع ما دلّ على عدم جواز استعمال سؤر

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 1 : 202 / أبواب الماء المضاف ب 2 ح 1 .

(2) الوسائل 1 : 133 / أبواب الماء المطلق ب 1 ح 4 .

ــ[35]ــ

الكلب والخنزير والكافر والكتابي على تقدير نجاسته ، بل الناصب على ما في بعض الروايات (1) ولو لا نجاسة تلك الأسآر بمباشرة أحد هذه المذكورات لم يكن وجه للمنع من استعمالها، وإطلاق تلك الأخبار يشمل ما إذا كان السؤر من المائعات المضافة ، إذ المراد بالسؤر مطلق ما باشره جسم حيوان ولو بغير الشرب ، فلا اختصاص له بالماء ولا بالمباشرة بالشرب ، فالذي تحصّل إلى هنا : أن ملاقاة النجاسة تقتضي نجاسة ملاقيها مطلقاً ، والحكم بعدم الانفعال في بعض الملاقيات يحتاج إلى دليل وهو مفقود في المقام .

   أمّا المقام الثاني : فالصحيح أ نّه لا فرق في انفعال المضاف بين قلّته وكثرته والوجه في ذلك : أن المستفاد من روايات الأسآر أن نجاسة الملاقي من آثار نجاسة الملاقى كما يستفاد هذا من موثقة عمّار المتقدمة (2) حيث دلت بعمومها على وجوب غسل كل ما لاقاه متنجس، فنجاسة الملاقى بنفسها تقتضي نجاسة كل ما لاقاه كثيراً كان الملاقي أم قليلاً ، ماءً كان أو مضافاً ، والخروج عن ذلك يحتاج إلى دليل ، ومن يدعي عدم انفعال الملاقي للنجس في مورد فعليه إثبات عدم تأثره وانفعاله بالملاقاة وقد أثبتنا ذلك في الكر من الماء بما يأتي في محله . وأمّا غيره كالماء القليل أو المضاف قليله وكثيره فلم يقم دليل على عدم انفعاله بملاقاة النجس ، فمقتضى ما ذكرناه من القاعدة عدم الفرق في انفعال المضاف بالملاقاة بين قليله وكثيره .

   ومما يوضح ما ذكرناه ويؤكده : الاستثناء الواقع في بعض روايات الأسآر (3) حيث إنه بعد ما منع عن استعمال سؤر الكلب في الشرب استثنى منه ما إذا كان السؤر حوضاً كبيراً يستقى منه ، فإن الاستقاء قرينة على أن المراد بالحوض الكبير هو

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) وهي موثقة ابن أبي يعفور عن أبي عبدالله (عليه السلام) في حديث قال : «واياك أن تغتسل من غسالة الحمّام ، ففيها تجتمع غسالة اليهودي والنصراني والمجوسي والناصب لنا أهل البيت فهو شرهم ، فإن الله تبارك وتعالى لم يخلق خلقاً أنجس من الكلب وأنّ الناصب لنا أهل البيت لأنجس منه» المروية في الوسائل 1 : 220 / أبواب الماء المضاف ب 11 ح 5 .

(2) الوسائل 1 : 142 / أبواب الماء المطلق ب 4 ح 1 .

(3) الوسائل 1 : 226 / أبواب الأسآر ب 1 ح 7 .

ــ[36]ــ

الحوض المحتوي على الماء لأ نّه الذي يستقى منه للحيوان أو لغيره ، والحوض الكبير يشمل الكر بل الأكرار ، فالرواية دلت على نجاسة السؤر في غير ما إذا كان كراً من الماء ، بلا فرق في ذلك بين ما كان ماءً ولم يكن كراً وما إذا لم يكن ماءً أصلاً ، كما إذا كان مضافاً ، قليلاً كان أم كثيراً ، فالخارج عن الحكم بنجاسة الملاقي للنجس ليس إلاّ الكر من الماء .

   ويدل على ذلك أيضاً أمران :

   أحدهما : ما ورد في بعض الأخبار من أن الفأرة إذا وقعت في السمن فماتت فيه فإن كان جامداً فألقها وما يليها وكُلْ ما بقي ، وإن كان ذائباً فلا تأكله ، واستصبح به والزيت مثل ذلك (1) حيث إننا نقطع من قوله (عليه السلام) والزيت مثل ذلك أن الحكم المذكور ـ أعني نجاسة ملاقي النجس ـ ليس مما يختص بالسمن أو الزيت وإنّما هو مستند إلى ميعانهما وذوبانهما ، فكل مائع له ذوبان يحكم بنجاسته إذا لاقى نجساً بلا  فرق في ذلك بين كثرته وقلته .

   وبعبارة اُخرى السمن والزيت وإن كانا خارجين من المضاف ، إلاّ أ نّا نقطع بعدم خصوصية لهما في الحكم ، وأ نّه مستند إلى ذوبان الملاقي وميعانه مضافاً كان أم لم يكن وعلى الأوّل قليلاً كان أم كثيراً .

   وثانيهما : موثقة عمار الساباطي عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : «سُئل عن الخنفساء والذباب والجراد ، والنملة ، وما أشبه ذلك يموت في البئر ، والزيت ، والسمن ، وشبهه ، قال : كل ما ليس له دم فلا بأس» (2) حيث يظهر من قوله (عليه السلام) وشبهه أ نّه لا خصوصية للزيت والسمن المذكورين في الرواية ، بل المراد منهما مطلق المائع والرواية دلت على أنّ المائع إذا وقعت فيه ميتة ما لا نفس له لم يحكم بانفعاله وأقرت السائل فيما هو عليه من أن وقوع الميتة مما له نفس سائلة في شيء من المائعات

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 17 : 97 / أبواب ما يكتسب به ب 6 ح 2 ، والوسائل 1 : 205 / أبواب الماء المضاف ب 5 ح 1 .

(2) الوسائل 3 : 463 / أبواب النجاسات ب 35 ح 1 .

ــ[37]ــ

   نعم ، إذا كان جارياً من العالي ((1)) إلى السافل ولاقى سافله النجاسة لا ينجس

  ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

يقتضي نجاسته ، وقد دلت باطلاقها على عدم الفرق في المائع بين المضاف والمطلق وبين كثرته وقلته .

   ومما يؤيد به المدعى روايتان : إحداهما ما عن السكوني (2) وثانيتهما : رواية زكريا ابن آدم (3) وقد اشتملتا على السؤال عن حكم المرق الكثير الذي وجدت فيه ميتة فأرة كما في اُولاهما ، أو قطرت فيه قطرة خمر أو نبيذ مسكر كما في ثانيتهما وقد حكم (عليه السلام) في كلتيهما بأن المرق يهراق ، وأمّا اللحم فيغسل ويؤكل حيث دلتا على انفعال المضاف أعني المرق وهو ماء اللّحم مع فرض كثرته عند ملاقاته النجس ، ولا استبعاد في كون المرق بمقدار كر لما حكاه سيدنا الاستاذ (أدام الله إظلاله) من أن العرب في مضايفهم ربّما يطبخون بعيراً في القدور ، والقدر الذي يطبخ فيه البعير يشتمل على مرق يزيد عن الكر قطعاً ، ولا سيما على ما يأتي منّا في محلّه من تحديد الكر بسبعة وعشرين شبراً .

   ودعوى انصراف الأخبار عن المضاف الكثير لقلّة وجوده ـ لو سلّمت ـ فإنّما تتمّ في البلدان والأمصار دون القرى والبوادي ، لأ نّهم كثيراً ما يجمعون الألبان (4) في القدور أو غيرها بما يزيد عن الكر بكثير . فإذا دلّت الأخبار على انفعال المضاف بقليله وكثيره بالملاقاة ، فلا يفرق فيه الحال بين أن يكون كراً أو أزيد منه فإنّه ينفعل بملاقاة النجس مطلقاً حسب الأدلة المتقدمة .

   ثم إن قلنا بعدم انفعال المضاف الكثير فإن قلنا بعدم انفعاله أصلاً فهو كما مرّ مخالف للأدلّة المتقدمة ، وإن قلنا بانفعاله لا في تمامه بل في حوالي النجاسة الواقعة فيه وأطرافها، فيقع الكلام في تحديد ذلك وأ نّه يتنجس بأي مقدار ، مثلاً إذا وقعت قطرة

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) المناط في عدم التنجس أن يكون الجريان عن دفع وقوة من دون فرق بين العالي وغيره .

(2) الوسائل 1 : 206 / أبواب الماء المضاف ب 5 ح 3 .

(3) الوسائل 3 : 470 / أبواب النجاسات ب 38 ح 8 .

(4) المراد بها هو الذي يصنع منه الزبد المعبر عنه في الفارسية بـ «دوغ» لا الحليب فلا تستبعد .

ــ[38]ــ

العـالي منه كما إذا صبّ الجُـلاّب من إبريق على يد كافر ، فلا ينجس ما في الإبريق وإن كان متّصلاً بما في يده (1).

  ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

دم في مرق كثير فهل نقول بتنجس المرق بمقدار شبر أو نصف شبر من حوالي تلك القطرة فيه أو بأزيد من ذلك أو أقل ؟ .

   لا سبيل إلى تعيين شيء من ذلك ، إذ لو قدّرنا الانفعال بمقدار شبر مثلاً ، فلنا أن نسأل عن أ نّه لماذا لم يقدّر شبر ومقدار إصبع ، وهكذا فيتعيّن أن يحكم بنجاسة جميعه وهذا أيضاً من أحد الأدلة على انفعال المضاف الكثير بملاقاة النجس .

   (1) إن ما ذكرناه آنفاً من انفعال المضاف بملاقاة النجس يختص بما إذا عدّ المضاف بأسفله وأعلاه شيئاً واحداً عرفاً، كما إذا كان واقفاً وقد لاقى أحد طرفيه نجساً، فيحكم بنجاسة الجميع لأ نّه شيء واحد عرفاً . وأمّا إذا كان متعدداً بالنظر العرفي ، كما إذا جرى المضاف من طرف إلى طرف بقوة ودفع ولاقى أسفله نجساً ، فلا نحكم بنجاسة الطرف الأعلى منه لأن السافل منه حينئذ مغاير لعاليه عرفاً وأحدهما غير الآخر في نظره ، ومن هنا لو فرضنا إبريق ماء يصب منه الماء على ماء سافل وقد وقعت قطرة دم أو نجس آخر في ذلك الماء السافل لا نحكم بنجاسة العالي لأجل اتصاله بما وقع فيه نجس ، أو إذا فرضنا أن الماء يندفع من أسفله إلى أعلاه ، وتنجس أعلاه بنجس فلا نحكم بنجاسة أسفله ، لتعددهما ومغايرتهما عرفا كما في الفوارات والأنابيب المستعملة فعلاً .

   وعليه فلا وقع لكون الماء عالياً أو سافلاً أو مساوياً ، لما يأتي في محله من أن الميزان في عدم سراية النجاسة والطهارة من أحد طرفي الماء إلى الآخر ، إنّما هو جريان الماء بالدفع سواء أ كان من الأعلى إلى الأسفل أو من الأسفل إلى الأعلى ، فإنّ السيلان والاندفاع يجعلان الماء متعدداً بالنظر العرفي ، فسافله غير عاليه وهما ماءان فلا تسري النجاسة من أحدهما إلى الآخر ، كما لا تسري الطهارة من أحدهما إلى الثاني على ما يأتي في مورده فلا يتقوى ولا يعتصم بسافله ، ومن هنا إذا صببنا ماء إبريق على ماء سافل منه وهو كرّ ثم وقعت نجاسة على الابريق ، فلا نحكم بطهارة ما  فيها لتقوّيه بالماء السافل واتصاله به لأنهما ماءان ، بل لو لم يكن دليل على تقوّي السافل

ــ[39]ــ

   [ 74 ] مسألة 2 : الماء المطلق لا يخرج بالتصعيد عن اطلاقه . نعم ، لو مزج معه غيره وصعّد كماء الورد يصير مضافاً  ((1)) (1) .

  ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

بالعالي كما في ماء الحمّام إذ الماء في الحياض في الحمّامات يجري إليها من المادة الجعلية وهي أعلى سطحاً من الحياض ، لم نلتزم بالتقوّي فيه أيضاً ، إذ قد عرفت أن الدفع والجريان يجعلان الماء متعدداً ، ويمنعان عن تقوّي عاليه بسافله وسافله بأعلاه ، إلاّ أ نّهم (عليهم السلام) حكموا بالتقوّي في الأحواض الصغيرة وأن ماءها يعتصم بالخزانة وبالمادّة الجعلية وإن كانت أعلى سطحاً من الحياض إلحاقاً لماء الحمّام بالجاري ، ولأجل ذلك نلتزم بالتقوّي فيه تعبداً .

    عدم زوال الاطلاق بالتصعيد

   (1) كما إذا صيّرناه بخاراً وانقلب البخار ماء ، ولا إشكال في ذلك غير ما أسلفناه من أن الماء الحاصل بالتصعيد ماء جديد قد وجد بعد انعدام الماء الأوّل ، إذ المفروض أ نّه انقلب بخاراً والبخار غير الماء عرفاً ، فإن الماء أخذ فيه السيلان ولا سيلان في البخار ، فالحاصل منه ماء مغاير للماء السابق وعليه فلا يحكم عليه بالطهور لاختصاص الطهورية بالماء النازل من السماء وهو المطر .

   ودعوى أن الاستحالة غير مؤثرة في مثله لأ نّه قبل استحالته كان ماء ، وكذا بعد استحالته فهو عين الماء السابق ولم تحدث الاستحالة فيه شيئاً .

   مندفعة : بأن الأمر لو كان كما ادعيت ، فلماذا أفتى (قدس سره) في المسألة الرابعة بطهارة المطلق أو المضاف النجس بالتصعيد ، إذ المفروض أن الاستحالة لم تحدث فيه شيئاً لأ نّه كان ماء قبل تصعيده ، وكذا بعد تصعيده .

   لا يقال : إن البخار كالغبار ، فكما أ نّه لم يفت فقيه بل ولم يتوهّم متفقه ولا عاقل بطهارة التراب الحاصل من الغبار إذا اُثير من تراب متنجس ، بدعوى أن التراب

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) في إطلاقه منع ظاهر ، والمدار على الصدق العرفي . ومنه تظهر حال المسألة الثالثة .

ــ[40]ــ

   [ 75 ] مسألة 3 : المضاف المصعّد مضاف (1) .

   [ 76 ] مسألة 4 : المطلق أو المضاف النجس يطهر بالتصعيد ((1)) لاستحالته

  ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المتنجس قد استحال غباراً وانقلب الغبار تراباً ، فهو موضوع جديد غير التراب السابق فليكن الحال كذلك في البخار .

   لأ نّه يقال : القياس مع الفارق ، لأن الغبار عين التراب عرفاً ، ولا فرق بينهما إلاّ في الاجتماع والافتراق إذ التراب هو الغبار المجتمع ، والغبار هو التراب المتشتت في أجزاء دقيقة صغار ، وأين هذا من البخار لأ نّه أمر مغاير للماء عندهم لما قدّمناه من أن السيلان مأخوذ في مفهوم الماء عرفاً ولا سيلان في البخار .

   والظاهر أ نّه لا مدفع لهذا الاشكال إلاّ ما أسلفناه من عدم اختصاص الطهورية بالماء النازل من السماء، وإنّما هي حكم مترتب على طبيعي المياه أينما سرى، والمفروض أن الماء الحاصل بالتصعيد مما تصدق عليه الطبيعة ، فإذن لا وجه للتوقف في الحكم بطهوريته . ومن هنا أشرنا سابقاً إلى أن الماء المصعد من المضاف ماء مطلق طهور وكذا نفتي بذلك في المصعّد من النجس فانتظره .

    المضاف المصعّد

   (1) لا يمكن المساعدة على ما أفاده (قدس سره) في هذه المسألة بوجه ، لعدم صدق المضاف على المصعّد من المضاف ، أمّا في بعض الموارد فبالقطع واليقين، كما إذا امتزج الطين بالماء حتى أخرجه عن الاطلاق فصار وحلا ، ثم صعّدناه وحصلنا ماءه فإنّه ماء مطلق قطعاً لعدم تصاعد شيء من الأجزاء الترابية بالتصعيد ، وأمّا في بعض الموارد الاُخر ، كما في تصعيد ماء الورد ، فلما قدّمناه سابقاً من أن مجرد تعطر الماء واكتسابه رائحة من روائح الورد أو غيره لايخرجه عن الاطلاق ، فلا وجه لعدم طهورية المصعّد منه وإن كان تعطّر بالورد .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) بل الحكم كذلك في الأعيان النجسة فيما إذا لم يكن المصعّد بنفسه من أفرادها كما في المسكرات.

ــ[41]ــ

بخاراً ثم ماء (1) .

  ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

    طهارة المائع المتنجِّس بالتصعيد

   (1) قد عرفت أن هذا هو الحق الصراح الذي يدعمه البرهان ، فإن الحاصل بالتصعيد موجود مغاير للموجود السابق وهو ماء مطلق ، فلا وجه للتوقف في الحكم بطهوريته ، إذ لا تختص ذلك بالماء النازل من السماء كما مرّ إلاّ أن له لازماً لا ندري أن السيد (قدس سره) هل يلتزم به أو لا ، وهو الحكم بطهارة الماء المصعّد من الأعيان النجسة ، كالمصعد من الخمر والبول والميتة النجسة كالكلب ، وإن كان مقتضى ما ذكره (قدس سره) في الكلام على الاستحالة من طهارة بخار البول هو الالتزام بذلك مطلقاً .

   والحق أ نّه لا مانع من الحكم بطهارته في جميع الموارد ، اللّهم إلاّ أن ينطبق على المصعّد عنوان آخر نجس ، وهذا كما في المصعّد من الخمر المعبّر عنه عندهم بالعَرَق فإنّه كأصله مسكر محكوم بالنجاسة شرعاً (1).

 ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) وهذا لا ينافي ما ذكرناه في الجزء الثاني من كتاب الطّهارة ذيل مسألة 201 من أنّ مقتضى القاعدة طهارة المادّة المتّخذة من الخمر المعبّر عنها بجـوهر الخمر (اسپرتو) التي تتحصّل بتبخيرها ، وذلك لأنّ العَرَق الذي حكمنا بنجاسته هو الذي يُعدّ من جملة الخمور وشربه أمر متعارف عند أهله ، ولا فرق بينه وبين غيره من الخمور إلاّ في أ نّه يشتمل على المادة الألكليّة بنسبة الأربعـين في المائة ـ  في العَرَق العـراقي  ـ فما زاد ، وأمّا بقـيّة الخـمور فمنها ما يشتمل على المادة الألكليّة بنسـبة العشرة في المائة ، ومنها غير ذلك ممّا لا حاجة إلى ذكره . كما أنها في الفقّاع بنسبة الخمسة في المائة ـ  كذا في بعض الكتب الكيمياوية الحديثة  ـ وأمّا الاسـپرتو وجـوهر الخمر فهو عبارة عن نفس المادّة الألكليّة التي منها تتكـوّن المسـكرات على اختلاف أقسـامها وهي غير قابلة للشرب بوجه ، وهذا هو الذي حكمنا بطهـارته على طبق القاعـدة . فالعَرَق والأسـپرتو موضـوعان متغايران وإن اشـتركا في بعض مقدّمات صنعهما وتحصيلهما .

ــ[42]ــ

   [ 77 ] مسألة 5 : إذا شكّ في مائع أ نّه مضاف أو مطلق فإن علم حالته السابقة اُخذ بها ((1)) وإلاّ فلا يحكم عليه بالاطلاق ولا بالاضافة ، لكن لا يرفع الحدث والخبث ، وينجس بمـلاقاة النجاسـة إن كان قليـلاً ، وإن كان بقـدر الكـر لا ينجس ، لاحتمال ((2)) كونه مطلقاً والأصل الطّهارة (1) .

  ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

    صور الشكّ في الاضافة والاطلاق

   (1) للمسألة صور عديدة :

   الصورة الاُولى : الشكّ في إطلاق المائع وإضافته من جهة الشبهة الموضوعية . وهو قسمان :

   أحدهما : ما إذا علم إطلاق الماء سابقاً ، ثم اُلقي عليه مقدار ملح أو غيره ، وشكّ في أن الخليط هل كان بمقدار منّ مثلاً كي يخرجه عن الاطلاق ، أو أ نّه أقل من ذلك فالماء باق على إطلاقه ؟ ففي هذه الصورة لا إشكال في جواز الرجوع إلى استصحاب بقاء الاطلاق السابق .

   ثانيهما : عكس ذلك بأن علم إضافة الماء سابقاً ، ثم صبّ عليه مقدار من الماء فشكّ في أن الماء هل كان بمقدار كر مثلاً حتى يخرجه من الاضافة إلى الاطلاق ، أو أ نّه كان أقل من ذلك فهو باق على إضافته ؟ وفي هذه الصورة يرجع إلى استصحاب بقاء الإضافة السابقة ، ويترتب عليه جميع أحكام المضاف كما كان يترتب عليه أحكام الماء المطلق في الصورة المتقدمة .

   الصورة الثانية : ما إذا كان الشكّ في الاطلاق والإضافة من جهة الشبهة الحكمية كما إذا ألقينا مناً من الحليب على منّ من الماء ، وشككنا في أن المركب منهما هل هو من

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) هذا إذا كان الشكّ لأمر خارجي كما لعلّه المراد في المسألة ، وأمّا إذا كانت الشبهة مفهومية فلا  يجري الاستصحاب .

(2) الظاهر أ نّه ينجس ، ولا أثر للاحتمال المزبور .

ــ[43]ــ

مصاديق الماء عرفاً ، أو لا ينطبق عليه هذا المفهوم وإن لم يطلق عليه الحليب أيضاً فالشبهة مفهومية حكمية ، وقد تعرضنا لتفصيلها في محلّه ولا نعيد وحاصله : أن الاستصحاب لا يجري في الشبهات المفهومية في شيء ، أمّا الاستصحاب الحكمي فلأجل الشكّ في بقاء موضوعه وارتفاعه ، وأمّا الاستصحاب الموضوعي فلأ نّه أيضاً ممنوع إذ لا شكّ لنا في الحقيقة في شيء ، لأن الأعدام المنقلبة إلى الوجود كلّها والوجودات الصائرة إلى العدم بأجمعها معلومة محرزة عندنا ، ولا نشكّ في شيء منهما ومعه ينغلق باب الاستصحاب لا محالة لأ نّه متقوّم بالشكّ في البقاء . وقد مثّلنا له في محلّه بالشكّ في الغروب ، كما إذا لم ندر أ نّه هو استتار قرص الشمس أو ذهاب الحمرة عن قمة الرأس ، فاستصحاب وجوب الصوم أو الصلاة لا يجري لأجل الشكّ في بقاء موضوعه، والموضوع أيضاً غير قابل للاستصحاب إذ لا شكّ لنا في شيء، فإن غيبوبة القرص مقطوعة الوجود وذهاب الحمرة مقطوع العدم ، فلا شكّ في أمثال المقام إلاّ في مجرد الوضع والتسمية ، وأن اللفظ هل وضع على مفهوم يعم استتار القرص أو لا ؟

   هذا وإن شئت قلنا : إن استصحاب الحكم لا يجري في الشبهات المفهومية ، لأ نّه من الشبهة المصداقية لدليل حرمة نقض اليقين بالشكّ ، وذلك لأجل الشكّ في بقاء موضوع الحكم وارتفاعه ، فلا ندري أن رفع اليد عن الحكم في ظرف الشكّ نقض لليقين بالشكّ ، كما إذا كان الموضوع باقياً بحاله ، أو أ نّه ليس من نقض اليقين بالشكّ كما إذا كان الموضوع مرتفعاً وكان الموجود موضوعاً آخر غير الموضوع المحكوم بذلك الحكم ، فلم يحرز اتحاد القضيتين : المتيقنة والمشكوكة ، وهو معتبر في جريان الاستصحاب .

   واستصحاب الموضوع أيضاً لا يجري في تلك الشبهات ، لعدم اشتماله على بعض أركانه وهو الشكّ ، فلا شكّ إلاّ في مجرد التسمية ، وعليه فلا بدّ من مراجعة سائر الاُصول ، وهي تقتضي في المقام بقاء الحدث والخبث وعدم ارتفاعهما بما يشكّ في كونه ماء .

   وأمّا انّه هل ينفعل بملاقاة النجاسة أو لا ينفعل ، وتجري فيه قاعدة الطهارة أو

ــ[44]ــ

لا تجري ؟ ففيه تفصيل وذلك لأ نّا إن قلنا بما بنى عليه شيخنا الاُستاذ (قدس سره) (1) من أن الاسـتثناء إذا علّق على عنوان وجودي وكان المستثنى منه حكماً إلزامياً أو ملزوماً له كما في المقام ، فلا بدّ من إحراز ذلك العنوان الوجودي في الخروج عن الالزام أو ملزومه ، مثلاً إذا نهى السيد عبده عن أن يأذن لأحد في الدخول عليه إلاّ لأصدقائه فلا يجوز له الإذن لأحد في الدخول إلاّ بعد احراز صداقته ، فلا محالة نلتزم بعدم جريان قاعدة الطهارة في المقام ، لأن المستثنى من الحكم بالانفعال عنوان وجودي أعني الكر من الماء وهو غير محرز على الفرض ، واحرازه معتبر في الحكم بعدم الانفعال . وأمّا إذا لم يتم ما أفاده كما لا يتم ذلك لما بيناه في الاُصول ويأتي تفصيله في محلّه فلا مانع من جريان قاعدة الطهارة فيه للشك في طهارته ، هذا فيما إذا كان الخليط بمقدار كر ، وأمّا إذا كان أقل منه فهو محكوم بالانفعال بالملاقاة مطلقاً كان أم مضافاً ولا شكّ في نجاسته .

   الصورة الثالثة : ما إذا توارد على المائع الملاقي للنجس حالتان متضادتان ، كما إذا علمنا بإطلاقه في زمان وإضافته في زمان آخر وشككنا في المتقدم والمتأخر منهما، وقد عرفت أن الاستصحاب الحكمي غير جار في المقام لأجل الشكّ في بقاء موضوعه وارتفاعه ، ومعه لا يجري الاستصحاب في الأحكام لأ نّه من الشبهة المصداقية . وأمّا الاستصحاب الموضوعي فهو أيضاً لا يجري في المقام ، لأ نّه بناء على ما ذهب إليه صاحب الكفاية (قدس سره) لا مجرى له أصلاً ، لعدم إحراز اتصال زمان اليقين بالشكّ وإحرازه معتبر عنده (2) ، وأمّا بناء على المختار فهو وإن كان يجرى في نفسه ، إلاّ أ نّه يسقط من جهة المعارضة باستصحاب مقابله ، والنتيجة على كلا المسلكين عدم جريان الاستصحاب على كل تقدير .

   وأمّا قاعدة الطهارة في نفس الماء عند الشكّ في انفعاله فالكلام فيها هو الكلام المتقدم في الصورة الثانية ، إذ لا مجرى لها على مسلك شيخنا الاُستاذ (قدس سره) كما

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) أجود التقريرات 1 : 464 .

(2) كفاية الاُصول : 419 .

ــ[45]ــ

لا مانع من جريانها على مسلكنا . وكذا الحال في الرجوع إلى سائر الاُصول من استصحاب الحدث والخبث ، فإن حالها حال الصورة المتقدمة من هذه الجهات .

   الصورة الرابعة : ما إذا شكّ في إطلاق المائع وإضافته من غير علم بحالته السابقة أو من غير وجود الحالة السابقة أصلاً ، وجريان الاستصحاب في هذه الصورة لاثبات النجاسة مبني على القول بجريان الأصل في الأعدام الأزلية كما بنينا عليه في محلّه وفاقاً لصاحب الكفاية (قدس سره) (1) وعليه فلا بدّ من الحكم بنجاسة المائع المشكوك بالملاقاة .

   وذلك لأن مقتضى الأدلة المتقدمة أن المائعات كلّها يتنجس بالملاقاة وإنّما خرج عنها عنوان الكر من الماء ، فهناك عام قد خصص بعنوان وجودي والمفروض أنا أحرزنا وجود الكر خارجاً ، ولا ندري هل وجد معه الاتصاف بصفة المائية أيضاً أم لم يوجد معه ذاك الاتصاف ؟ والأصل أ نّه لم يتصف به ولم يوجد معه الاتصاف ، لأ نّه قبل أن يوجد لم يكن متصفاً بالماء ، والاتصاف إنّما هو بعد خلقته لا قبلها ، فإن الاتصاف بالماء ليس قديماً بل هو أمر حادث مسبوق بالعدم بالضرورة فيستصحب عدم اتصافه به ، وأ نّه الآن كما كان لا اتصافه بعدمه كما لا يخفى ، فإذا ثبت عدم اتصافه بعنوان المخصص وهو الماء الكر ، فيبقى المائع تحت عموم ما دلّ على انفعال المائعات بالملاقاة ، كما ذكرنا نظيره في الشكّ في قرشية المرأة وعدمها .

   وأمّا إذا منعنا عن جريان الأصل في الأعدام الأزلية كما عليه شيخنا الاُستاذ (قدس سره) (2) خلافاً لصاحب الكفاية وما اخترناه ، فلا مانع من الحكم بطهارة المائع المشكوك بقاعدة الطهارة أو استصحابها ، فإن المانع عنهما ليس إلاّ استصحاب عدم المائية المقتضي لاحراز موضوع النجاسة ، وقد فرضنا عدم جريانه ، وكم لجريان الأصل في الأعدام الأزلية من فوائد وثمرات في باب الطهارة ، وتأتي الإشارة إليها في مواردها إن شاء الله تعالى .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) كفاية الاُصول : 223 .

(2) أجود التقريرات 1 : 464 .

ــ[46]ــ

   [ 78 ] مسألة 6 : المضاف النجس يطهر بالتصعيد كما مرّ (1) ، وبالاستهلاك في الكر أو الجاري (2) .

  ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

هذا كلّه إذا كان المائع المشكوك بمقدار الكر ، وهو الذي أفتى فيه السيد (قدس سره) بالطهارة بقاعدة الطهارة أو باستصحابها ، وذكرنا نحن أ نّها تبتني على القول بعدم جريان الأصل في الأعدام الأزلية ، وأمّا إذا كان قليلاً فلا ينبغي الاشكال في الحكم بانفعاله بالملاقاة ماء كان أم مضافاً .

   ثم إنّه إذا حكمنا بطهارة المائع المشكوك فيه بأصالة الطهارة أو باستصحابها فلا يثبت بها أ نّه ماء ليرتفع به الحدث أو الخبث وعليه فلا مانع من استصحاب بقائهما ، والحكم بعدم كفاية المائع المشكوك فيه في رفعهما .

   (1) قد قدّمنا الكلام في ذلك وذكرنا أن هذا هو الصحيح ، لأجل استحالة المضاف بخاراً وانقلاب البخار ماء بتأثير الهواء ، وهو عند العرف ماء جديد حصل من البخار وليس عين الماء السابق كما لا يخفى .

    طهارة المضاف بالاستهلاك

   (2) غرضه منهما هو التمثيل ، ومراده مطلق العاصم ولو كان ماء بئر أو مطر ، ونظره في ذلك إلى حصر طريق التطهير في المائعات المضافة المتنجسة بالتصعيد والاستهلاك في ماء معتصم .

   وقد حكي عن العلاّمة (قدس سره) أ نّها كما تطهر بهما تطهر بأمر ثالث أيضاً ، وهو اتصالها بما له الاعصام من كر أو مطر ونحوهما ، ولم نعثر على من يوافقه في ذلك من الأصحاب ، كما لم يقم دليل على مدعاه فإن الآيات المتقدمة قد عرفت عدم دلالتها على مطهرية الماء من الأخباث شرعاً ، وعلى تقدير دلالتها على ذلك لا تعرض لها على كيفية التطهير كما مرّ .

   وأمّا الروايات فلا دلالة فيها أيضاً على مدعاه . أمّا ما ورد من «أن الله وسّع عليكم

ــ[47]ــ

بجعل الماء طهوراً فإن بني إسرائيل ...» (1) فلأ نّها لو دلّت على أن الماء مطهّر من الأخباث فلا تدل على كيفية التطهير بالماء ، إذ لا تعرض فيها لذلك بوجه . وأمّا قوله (عليه السلام) الماء يطهّر ولا يطهر (2) فلأ نّه إنّما يدل على أن الماء طهور ، وأمّا أ نّه مطهر لأي شيء أو بأية كيفية فلا ، وهو نظير أن يقال : إن الله سبحانه يرزق ولا يُرزق فإنّه يدل على اسـتناد الرزق إلى الله تعالى وأمّا أ نّه يرزق أي شيء ، بنتاً أو إبناً أو مالاً وأن رزقه على نسق واحد ، فلا يمكن استفادته منه بوجه لامكان اختلافه حسب اختلاف الموارد كما هو الواقع .

   نعم ، يمكن الاستدلال على ما ذهب إليه العلاّمة بما رواه هو (قدس سره) في مختلفه مرسلاً عن بعض علماء الشيعة عن أبي جعفر (عليه السلام) من أ نّه أشار إلى غدير ماء وقال : إن هذا لا يصيب شيئاً إلاّ وطهّره (3) كما استدلّ بها على كفاية مجرد الاتصال بالكر في تطهير القليل كما يأتي في محلّه .

   وبمرسلة الكاهلي عن أبي عبدالله (عليه السلام) في حديث «.... أن كل شيء يراه ماء المطر فقد طهر» (4) والاستدلال بهما مع ما فيهما من الارسال يتوقف على حمل الاصابة والرؤية فيهما على مفهومهما العرفي ، ولا نحملهما على معنى آخر بقرينة حالية أو مقالية حتى ولو كانت هي المناسبة بين الحكم وموضوعه ، وحينئذ يمكن أن يقال : المضاف المتصل بالكر أو المطر مما أصابه الكر أو رآه المطر .

   إلاّ أن ابقاءهما على معناهما العرفي غير ممكن لاستلزامه القول بطهارة مثل الخشب ، فيما إذا كان كلا طرفيه نجساً واتصل أحدهما بالكر أو المطر دون الآخر ، أو

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) وهي صحيحة داود بن فرقد المروية في الوسائل 1 : 133 / أبواب الماء المطلق ب 1 ح 4 .

(2) المصدر السابق ح 6 .

(3) المختلف 1 : 15 ذكر بعض علماء الشيعة : أ نّه كان بالمدينة رجل يدخل إلى أبي جعفر محمد ابن عليّ (عليهما السلام) وكان في طريقه ماء فيه العذرة والجيف ، وكان يأمر الغلام يحمل كوزاً من ماء يغسل رجله إذا أصابه فأبصره يوماً أبو جعفر (عليه السلام) فقال : إن هذا لا يصيب شيئاً إلاّ طهّره فلا تعد منه غسلاً .

(4) الوسائل 1 : 146 / أبواب الماء المطلق ب 6 ح 5 .

ــ[48]ــ

كان المتنجس أحد طرفيه خاصة واتصل طرفه الطاهر بالكر أو المطر دون الطرف المتنجس ، حيث يصح أن يقال عرفاً إنه مما أصابه الماء أو رآه المطر ، مع أ نّه لا وجه لطهارة الطرف الآخر الذي لم يلاقه الماء أو المطر ، وهل يطهر المتنجس من دون أن يلاقي شيئاً من المطهرات ؟ فدعوى أن الماء أو المطر إذا أصابا السطح العالي من المضاف يحكم بطهارة السطح السافل منه أمر لا وجه له ، وعليه فلا بدّ بملاحظة المناسبة بين الحكم وموضوعه من حمل الاصابة والرؤية في المرسلتين على معناهما التحقيقي دون العرفي المسامحي ، وأن إصابة كل موضع من الأجسام المتنجسة للماء أو رؤية المطر له إنّما توجب طهارة ذلك الموضع بخصوصه ، دون الموضع الذي لم يصبه الماء أو لم يره المطر ، هذا كلّه في المضاف .

   وأمّا الماء المتنجس فهو وإن التزمنا بطهارته بمجرد الاتصال بالعاصم كراً كان أو مطراً ، ولا نعتبر في تطهيره ملاقاة العاصم بجميع أجزائه ، إلاّ أ نّه إما من جهة الاجماع ولا اجماع في المضاف لاختصاصه بالماء ، وإما من جهة صحيحة ابن بزيع (1) الدالّة على طهارة ماء البئر بعد ذهاب تغيره معللاً بأن له مادة ، لأن العلّة متحققة في غير البئر أيضاً ، كما يأتي تفصيله في محلّه ، واختصاصها بالماء ظاهر .

   وقد تبيّن أن ما ادعاه العلاّمة في المقام مما لم يقم عليه دليل ، فطريق تطهير المضاف منحصر بالتصعيد واستهلاكه في ماء معتصم .

   ثم إن في المقام عنوانين : أحدهما : المضاف وثانيهما : التغير . وأحكام التغير وإن كانت تأتي في محلّها على وجه البسط إن شاء الله إلاّ أ نّا نشير إلى بعضها في المقام على وجه الاختصار فنقول :

   تارة : يمتزج المضاف النجس بالمطلق المعتصم ويستهلك فيه ، بمعنى أ نّه ينعدم في المطلق بنفسه ووصفه من غير أن يؤثر فيه شيئاً بل هو باق على إطلاقه ، غير أ نّه كان منّاً مثلاً قبل الامتزاج ، وقد زاد على وزنه بذلك فصار منّاً وزيادة ، ومثل هذا الماء لا إشكال في طهارته لا من جهة طهارة المضاف النجس بالامتزاج ، بل من جهة ارتفاع

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 1 : 141 / أبواب الماء المطلق ب 3 ح 12 و ص 1 : 172 ب 14 ح  6 .

ــ[49]ــ

   [ 79 ] مسألة 7 : إذا اُلقي المضاف النجس في الكر  فخرج عن الاطلاق إلى الاضافة تنجس إن صار مضافاً قبل الاستهلاك ، وإن حصل الاستهلاك والاضافة دفعة لا يخلو الحكم بعدم تنجسه عن وجه ، لكنّه مشكل ((1)) (1) .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 الموضوع إذ لا وجود للمضاف النجس أصلاً، والماء مطلق معتصم تشمله الاطلاقات. ومن هنا يظهر أن قولنا : يطهر المضاف النجس بالاستهلاك مبني على المسامحة فإنّه لا مضاف حتى يطهر .

   واُخرى : يمتزج المضاف بالمطلق ويستهلك فيه أيضاً ولكنه بنفسه لا بوصفه فيحدث أثراً في لون المطلق أو طعمه أو غير ذلك من التغيرات . وهل هذا يوجب تنجس المطلق بتغيره بأوصاف المتنجس أو لا يوجبه ؟ فيه وجهان مبنيان على ما  يأتي في محلّه من أن التغير يقتضي نجاسة الماء مطلقاً أو أ نّها تختص بالتغير بأوصاف النجس ، وأمّا التغير بالمتنجس فلا دليل على كونه موجباً للنجاسة ، ويأتي منّا في محلّه إن شاء الله تعالى أن الثاني هو الصحيح ، وعليه فلا يكون تأثير المضاف في تغيّر المطلق موجباً لانفعاله بعد وضوح أن التغير غير الاضافة ، وهي لا تحصل بالتغيّر وإنّما يحدث التغير أثراً في وصف المطلق ، لا أ نّه يسبب الاضافة كما نشاهده في ماء الشط فإن لونه متغيّر بالوحل مع انه مطلق ، ولا يعد من المضاف . وستعرف ان التغير بأوصاف غير النجس لا يوجب التنجيس .

   وثالثة : يمتزج المضاف بالمطلق ، ويستهلك الماء في المضاف على عكس الصورتين المتقدمتين ، ولا كلام في انفعال الماء في هذه الصورة ، لأ نّه مضاف وقد لاقى نجساً فيتنجس لا محالة .

    إلقاء المضاف النجس في الكر

   (1) قد خص الكلام بالكر وهو المعتصم بنفسه ولم يعممـه إلى المعتصم بمادته

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الظاهر أنّ يحكم بنجاسته على تقدير إمكان الفرض ، لكن الأظهر استحالته كما يستحيل الفرض الأول .

ــ[50]ــ

كالجاري وإن عممه إليه في الفرع المتقدم ، حيث قال : وبالاستهلاك في الكر والجاري وسيتضح وجه تخصيصه هذا في طي تفاصيل الصور إن شاء الله تعالى .

   ثم إن للمسألة صوراً ثلاثاً لم يتعرض الماتن لإحداها :

   الصورة الاُولى : ما إذا حصل الاستهلاك قبل الإضافة بأن يستهلك المضاف في الكر أوّلاً ثم يوجب إضافته ثانياً بعد مدّة وزمان ، وتصوير ذلك من الوضوح بمكان كما إذا مزجنا نصف مثقال من النشاء في مقدار قليل من الماء ، فإنّه يستهلك في الماء حين امتزاجهما ، ثم إذا أوصلنا إليه حرارة يتثخن بذلك وينقلب الماء مضافاً ، وهذه الصورة هي التي لم يتعرض السيد (قدس سره) لحكمها ، ولعلّه من أجل وضوح المسألة حيث لا موجب للحكم بالنجاسة في مفروض الكلام ، فإن المضاف النجس بعد ملاقاته الكر وقبل انقلاب الكر مضافاً قد حكم عليه بالطهارة لاستهلاكه في الكر ، فإذا انقلب الكر إلى الإضافة فهو ماء مضاف لم يلاق نجساً ، فلا وجه للحكم بنجاسته .

   الصورة الثانية : ما إذا حصلت الإضافة قبل الاستهلاك على عكس الصورة المتقدمة ، وقد حكم في المتن بنجاسة الكر في هذه الصورة لأ نّه خرج عن الاطلاق إلى الإضافة حين ملاقاته للمضاف النجس ، وغير المطلق ينفعل بملاقاة النجاسة ولو كان بمقدار كر وهو ظاهر ، ولا ينفع استهلاك المضاف بعد ذلك إذ لم يرد عليه مطهر شرعي بعد نجاسته ، وخروج الماء من الإضافة إلى الاطلاق ليس من أحد المطهرات شرعاً فهو ماء مطلق محكوم بالنجاسة على كل حال .

   الصورة الثالثة : ما إذا حصلت الإضافة والاستهلاك في زمان واحد معاً وذكر في المتن أن الحكم بطهارة الماء حينئذ لا يخلو عن وجه ولكنه مشكل ، والوجه الذي أشار إليه هو أن الماء في حال الملاقاة وقبل استهلاك المضاف فيه ماء مطلق معتصم فلا وجه لانفعاله ، وأمّا بعد استهلاك المضاف فيه المساوق لانقلاب المطلق مضافاً فلا مضاف نجس حتى يلاقي الماء وينجسه لاستهلاكه في المطلق على الفرض ، هذا .

   وقد أورد عليه شيخنا الاُستاذ (قدس سره) في هامش العروة بأن المضاف في كلا الشقين يستحيل أن يستهلك في الماء الملقى عليه وذكرنا نحن أيضاً في تعليقتنا على

ــ[51]ــ

الكتاب أن الصورة الثانية كالثالثة غير معقولة ، ثم على تقدير إمكان الصورتين فالماء محكوم بالنجاسة دون الطهارة .

   فلنا في المقام دعويان إحداهما : أن الصورتين مستحيلتان ، وثانيتهما : أن الحكم فيهما على تقدير إمكانهما هو النجاسة دون الطهارة .

   وقبل الشروع في إثبات الدعويين ينبغي أن يعلم أن مفروض كلام السيد (قدس سره) هو صورة ملاقاة المضاف النجس للماء الذي هو بمقدار الكر خاصة ، لا ما يزيد عليه ولا الجاري ولا غيرهما مما له مادة أو ما في حكمها مما يعتصم به على تقدير انفعاله ، وذلك لأن الماء إذا كان أكثر من كر واحد وحصلت الإضافة في مقدار منه بحيث كان غير المتغير كراً فلا يبقى وجه للحكم بالانفعال في الجميع ، فإن غير المقدار المضاف منه باق على طهارته وهذا ظاهر . نعم ، المقدار المتغير منه محكوم بالنجاسة ما  دام متغيراً فإذا زال عنه تغيره بنفسه نحكم عليه بالطهارة لاتصاله بالكر . وقد دلتنا على ذلك صحيحة ابن بزيع الواردة في البئر(1) ، لدلالتها على أن ماء البئر إذا تغير ينزح حتى يذهب ريحه ويطيب طعمه ، وانّه يطهر بذلك معللاً بأن له مادة ، والعلّة المذكورة متحققة في المقام أيضاً ، ولأجل هذا لم يضف (قدس سره) الجاري على الكر في عنوان المسألة كما أضافه عليه في الفرع المتقدم على هذا الفرع . وإذا عرفت ذلك فلنرجع إلى ما كنّا بصدده فنقول :

   أمّا الصورة الاُولى : وهي ما إذا استهلك المضاف في الماء ولم يوجب إضافته بالفعل وإنّما صار سبباً لصيرورته مضافاً بعد زمان ، فلا إشكال في معقوليتها وإمكانها ، وأن حكمها هو الطهارة وسيأتي نظيره في أحكام التغير فيما إذا لاقت النجاسة ماء ولم تغيره حين ملاقاته وإنّما أوجبت تغيره بعد مضي زمان .

   وأمّا الصورة الثالثة : فهي كما أشرنا إليه غير معقولة ، بيان ذلك : أن المراد بالاستهلاك هو انعدام المستهلك إنعداماً عرفياً ، على نحو يعد المركب من المضاف والماء شيئاً واحداً عرفاً فكأن المضاف لا وجود له أصلاً ، لاندكاكه في ضمن المطلق

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 1 : 141 / أبواب الماء المطلق ب 3 ح 12 ، وفي ص 172 ب  14 ح 6 .

ــ[52]ــ

إذا كان قليلاً بالاضافة إلى الماء بحيث لا يقال إن المركب منهما شيئان ، ومن هنا لو باع حليباً مزجه بشيء من الماء فليس للمشتري دعوى بطلان المعاملة ، وأن المبيع ليس بحليب بل حليب وغير حليب والوجه فيه : أن الماء بعد استهلاكه واندماجه في الحليب يعد المركب منهما شيئاً واحداً . نعم ، يثبت للمشتري في المثال خيار تخلف الشرط وهو أمر آخر ، ولو لا ما ذكرناه لبطل أغلب البيوع ، فإن المبيع كالخبز والسمن وأمثالهما يختلط بشيء آخر غالباً ولو بمثقال من تراب أو مقدار من الدردي والمفروض أ نّه يوجب تعدّد المركّب وبه تفسد البيوع ، مع أن صحة المعاملة في مثلهما ليست مورداً للخلاف ، ولا وجه له إلاّ أن المركب من الدقيق والتراب أو السمن والدردي شيء واحد عرفاً من جهة الاستهلاك والاندماج ، وإن كان لا يخرج بذلك عن التعدّد عقلاً والتركب من جزئين واقعاً ولكنهما شيء واحد عرفاً كما مرّ ، وليس ذلك من جهة التسامحات العرفية في التطبيق وإنّما هو ـ  كما ذكرناه في محلّه  ـ من جهة سعة المفهوم عندهم على نحو يعم الماء المختلط بمقدار يسير من التراب ، أو السمن الممتزج بشيء قليل من الدردي وهكذا ... فإذا تبينت ذلك فنقول :

   إن ملاقاة المضاف للمطلق لا يخلو عن إحدى صور ثلاث لا رابع لها :

   الاُولى : أن يستهلك المضاف في المطلق لكثرته وقلّة المضاف على وجه يراهما العرف ماء واحداً ، ولا يكون بنظرهم مركباً من ماء ومضاف ، ولا تأمّل في مثله في الحكم بطهارة الماء ، إذ لا وجود للمضاف والمفروض أن الماء عاصم لا ينفعل بشيء .

   الثانية : أن يستهلك المطلق في المضاف لكثرته وقلة المطلق ، وفي هذه الصورة أيضاً لا إشكال في الحكم بنجاسة الماء وانفعاله لأ نّه مضاف ولو كان ذلك بضرب من المسامحة ، إذ لا وجود حينئذ للمطلق حتى ينفعل فإنّه انعدم في المضاف عرفاً .

   الثالثة : أن لا يستهلك شيء منهما في الآخر لتوازنهما في الكثرة والقلة وعدم غلبة أحدهما على الآخر بحيث يراهما العرف شيئين ، وربّما يولد اجتماعهما أمراً ثالثاً نظير اجتماع الخل والسكر في السكنجبين ، والماء في هذه الصورة أيضاً محكوم بالنجاسة إذ لا يطلق عليه الماء ، لأن الفرض عدم استهلاك المضاف في الماء وتعددهما بالنظر العرفي ، فإذا لم يكن مطلقاً فهو مضاف لا محالة غاية الأمر لا بمرتبة عالية منه تستهلك

ــ[53]ــ

المطلق ، بل بمرتبة نازلة من ذلك وملاقاة مثله للنجس توجب الانفعال ، وهذه الصور هي التي نتعقلها في المقام ولا نتعقل صورة رابعة لها بأن يفرض حصول كل من الاستهلاك والإضافة في زمان واحد معاً ، والوجه في استحالتها أن فرض استهلاك المضاف في المطلق فرض أن المضاف لا وجود له مع المطلق عرفاً كما عرفت في معنى الاستهلاك . وفرض حصول الإضافة أن العرف لا يرى للمطلق وجوداً وانّه عندهم مضاف ، وهما أمران لا يجتمعان ففرض الاستهلاك والإضافة معاً خلف ظاهر .

   فإذا عرفت استحالة هذه الصورة وأن فرض الاستهلاك فرض عدم حصول الإضافة وفرض الإضافة فرض عدم حصول الاستهلاك ، تظهر لك استحالة الصورة الثانية أيضاً وذلك لأ نّا إذا فرضنا خروج المطلق إلى الإضافة لغلبة المضاف ، فكيف يتصوّر إنقلابه إلى الاطلاق بعد ذلك بالاستهلاك إذ المطلق قد استهلك في المضاف ولا وجود له كما تقدم في معنى الاستهلاك ، وما لا وجود له كيف يتغلّب على المضاف ويقلبه إلى الاطلاق بالاستهلاك . نعم ، لا مانع من انقلاب المضاف مطلقاً على غير وجه الاستهلاك كما إذا اختلط الوحل بالماء وأوجب اضافته ، فإنّه إذا مضى عليه زمان تترسب الأجزاء الترابية وتنفك عن الماء لا محالة وبه ينقلب إلى الاطلاق ولكنّه لا بالاستهلاك كما لا يخفى ، هذا كلّه في الدعوى الاُولى واستحالة الصورتين .

   وأمّا الدعوى الثانية : وهي أ نّه على تقدير إمكان حصول الإضافة والاستهلاك معاً لا وجه لحكمه (قدس سره) بالطهارة ، فالوجه فيها أن مستند حكم الماتن بطهارة الماء حينذاك ، أن المطلق قبل ملاقاته للمضاف باق على إطلاقه واعتصامه ، وأمّا بعد ملاقاتهما وانقلاب المطلق مضافاً فلأ نّه وإن انقلب إلى الإضافة على الفرض إلاّ أ نّه بعد كونه كذلك لم يلاق مضافاً آخر نجساً حتى يحكم بنجاسته ، فالماء محكوم بالطهارة لا محالة .

   وهذا الذي اعتمد عليه الماتن في المقام لا يتم إلاّ بالالتزام بامكان أمر مستحيل ووقوعه ، وهو فرض ملاقاة المضاف النجس للمطلق بجميع أجزائه دفعة واحدة حقيقية ، بأن يلاقي كل جزء من المضاف لكل جزء من المطلق دفعة واحدة ويستهلك كل جزء منه في جزء من المضاف في آن واحد عقلي .

ــ[54]ــ

   [ 80 ] مسألة 8  : إذا انحصر الماء في مضاف مخلوط بالطـين ، ففي سعة الوقت يجب عليه أن يصـبر حتى يصفو ويصير الطـين إلى الأسـفل ، ثم يتوضّأ على الأحوط((1)) وفي ضيق الوقت يتيمم ، لصدق الوجدان مع السعة دون الضيق (1) .

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

    وهذا كما ترى أمر مستحيل ، إذ لا يمكن تلاقي كل واحد من أجزاء أحدهما لجزء من أجزاء الآخر دفعة ، وإنّما يلاقي بعض أجزاء المضاف لبعض أجزاء المطلق أوّلاً ثم تلاقي الأجزاء الباقية منه لأجزاء المطلق ثانياً وهكذا ، فالدفعة العقلية غير ممكنة إلاّ في مثل تكهرب الماء وسراية القوة الكهربائية إلى جميع الأجزاء المائية فإن الدفعة فيه أوضح ، ولكنها فيه أيضاً غير عقلية لأن للقوة الكهربائية أيضاً سيراً لا محالة ـ  لاستحالة الطفرة  ـ إلاّ أ نّه سريع . نعم ، الدفعة العرفية معقولة كما ذكروها في الغسل ارتماساً ، لتعذر وصول الماء إلى جميع البدن دفعة حقيقية ، فإذا استحالت ملاقاة أجزاء كلّ منهما مع الآخر دفعة حقيقية فلا محيص من الحكم بنجاسة الماء ، وذلك لأن الجزء الأوّل من المطلق إذا لاقاه جزء من المضاف النجس وصيّره مضافاً يتنجّس لا محالة وإذا تنجس جزء منه تنجست الأجزاء الباقية منه أيضاً لأ نّها أقل من كر ، فتنفعل بملاقاة النجاسة لما مرّ من أن مفروض كلام الماتن (طاب ثراه) هو الماء البالغ كراً خاصة ، فإن الباقي إذا كان بمقدار كر أيضاً لما كان لنجاسة الجزء الملاقي للمضاف وجه بعد زوال تغيره ، لاتصاله بالعاصم وهو مانع من انفعال الجزء المضاف . وعلى الجملة الماء في الصورة المفروضة محكوم بالنجاسة ، والذي يسهل الخطب أن الفرض فرض أمر مستحيل .

   (1) لا تبتني هذه المسألة على تفسير الوجدان بوجود الماء خارجاً أو بالقدرة عليه ، ليكـون عدم الوجـدان بمعنى عدم الماء في الخارج أو عدم القـدرة عليه(2) بل تبتني بكلا هذين المعنيين على أن الاعتبار في وجوب الوضوء على الواجد بالمعنيين ووجوب التيمم على الفاقد بالمعنـيين ، بمجموع الوقت أو بخصـوص زمان العمل

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) بل على الأظهر .

(2) المستمسك 1 : 118 .

ــ[55]ــ

والامتثال ، فإن جعلنا المناط بالوجدان والفقدان في تمام الوقت فلا إشكال في وجوب الوضوء على المكلف في المقام ، فلا بدّ له من أن يصبر حتى يصفو الماء فإن المفروض أ نّه يصير واجداً إلى آخر الوقت بكلا معنيي الوجدان ، كما أ نّه إذا جعلنا المناط بالوجدان والفقدان في خصوص وقت العمل فلا تأمل في وجوب التيمم عليه في المسألة لأ نّه حين قيامه إلى الصلاة ليس بواجد بكلا المعنيين ، لفرض إضافة الماء حينذاك فلا قدرة له على الماء كما أن الماء ليس بموجود خارجاً .

   ومقتضى ظهور الآية المباركة : (إذا قمتم إلى الصّلاة ... فلم تجدوا ماء فتيمّموا صعيداً طيِّباً )(1) هو الثاني وأن الاعتبار في الوجدان والفقدان بزمان القيام إلى العمل ، نظير وجوب القصر على المسافر والتمام على الحاضر ، فإن المدار فيهما على كون المكلف حاضراً أو مسافراً في زمان العمل ، فعلى الأول يتم وعلى الثاني يقصّر وإن صار مسافراً أو حاضراً بعد ذلك ، هذا كلّه حسبما تقتضيه القاعدة .

   وأمّا ما يستفاد من الأخبار : فقد ورد في بعضها الأمر بالانتظار فيما إذا احتمل الوجدان إلى آخر الوقت(2) ومعه لا يجوز البدار ، وقد أفتى السيد (قدس سره) بجوازه في مبحث التيمم عند احتمال الوجدان إلى آخر الوقت ، وعدمه فيما إذا علم بحصوله على تقدير الانتظار إلى آخر الوقت (3) كما في ما نحن فيه إلاّ أ نّه لم يجر على هذا في المقام حيث لم يفت بوجوب الانتظار للوضوء جزماً وإنّما أوجبه احتياطاً، ولعلّ الوجه في ذلك ظهور الآية المتقدمة في أن الاعتبار في وجوب التيمم بفقدان الماء حين القيام إلى العمل ، وقد استظهرنا نحن من روايات هذا الباب أن المدار في وجوب التيمّم على الفقدان في تمام الوقت ، ومن هنا نحكم في المقام بوجوب الانتظار للوضوء . هذا كلّه مع سعة الوقت ، وأمّا مع الضيق فلا ينبغي التأمل في وجوب التيمم لأ نّه فاقد للماء

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) المائدة : 5 : 6 .

(2) كما في صحيحة محمد بن مسلم عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : «سمعته يقول إذا لم تجد ماءً وأردت التيمم فأخر التيمم إلى آخر الوقت ، فإن فاتك الماء لم تفتك الأرض» وغيرها المروية في الوسائل 3 : 384 / أبواب التيمم ب 22 ح 1 .

(3) يأتي في المسألة [ 1141 ] .

ــ[56]ــ

   [ 81 ] مسألة 9 : الماء المطلق بأقسامه (1)

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

بكلا معنيي الفقدان .

   ثمّ لا يخفى ان ذكر هذه المسألة في المقام في غير محلّه ، لأ نّها من فروع مسألة التيمم ولا ربط لها بمسألة المضاف ، فكان الأولى تأخيرها إلى بحث التيمم .

   أحكام الماء المتغيِّر

   (1) قد قسمنا الماء بلحاظ الانفعال وعدمه إلى أقسام ثلاثة :

   أحدها : ما لا ينفعل لاعتصامه بمادته كما في البئر ، والجاري ، والحمّام .

   وثانيها : ما لا ينفعل لاعتصامه بنفسه وكثرته كما في الكر .

   وثالثها : ما لا مادّة له ولا كثرة فيه وهو قابل للانفعال .

   وهذه الأقسام بأجمعها ينفعل إذا تغير بأحد أوصاف النجس من الطعم والرائحة واللون بملاقاته . والمستند في ذلك هو الروايات المستفيضة الواردة من طرقنا وهي من الكثرة بمكان ربّما يدعى تواترها ، ومعها لا حاجة إلى الاستدلال بالنبويات المروية بطرق العامة من قوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) «خلق الله الماء طهوراً لا ينجسه شيء إلاّ ما غيّر لونه أو طعمه أو ريحه» (1) ولا يحتمل فيها الانجبار لوجود ما يعتمد عليه من طرقنا ، كما لا نحتاج إلى التمسك بما رواه في دعائم الإسـلام عن علي (عليه السلام) «في الماء الجاري يمر بالجيف والعذرة والدم يتوضأ منه ويشرب وليس ينجسه شيء ما لم يتغير أوصافه : طعمه ولونه وريحه» (2) لارسال رواياته ، وإن كان مصنفه وهو قاضي نعمان المصري فاضلاً ومن أجلاء عصره . والأخبار الواردة من طرقنا على طوائف ثلاث :

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 1 : 135 / أبواب الماء المطلق ب 1 ح 9 . وقد قدّمنا نقلها [ في ص 11 ] عن كنز العمّال وموضعين من سنن البيهقي .

(2) المستدرك 1 : 188 / أبواب الماء المطلق ب 3 ح 1 . وعن دعائم الإسلام 1 : 111 .

ــ[57]ــ

   الطائفة الاُولى : ما دلّ على انفعال طبيعي الماء بالتغير بأحد أوصاف النجس كصحيحة حريز بن عبدالله عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : «كلما غلب الماء على ريح الجيفة فتوضّأ من الماء واشرب ، فإذا تغير الماء وتغير الطعم فلا توضّأ منه ولا  تشرب» (1) وموثقة سماعة عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : «سألته عن الرجل يمر بالماء وفيه دابة ميتة قد أنتنت ؟ قال : إذا كان النتن الغالب على الماء فلا  يتوضّأ ولا  يشرب» (2) والمذكور فيهما كما ترى طبيعي الماء على وجه الاطلاق .

   الطائفة الثانية : ما دلّ على انفعال ما لا مادّة له وهو الكر بالتغير بأوصاف النجس ، كصحيحة عبدالله بن سنان قال : «سأل رجل أبا عبدالله (عليه السلام) وأنا حاضر عن غدير أتوه وفيه جيفة ؟ فقال : إن كان الماء قاهراً ولا توجد منه الريح فتوضأ» (3) وما رواه زرارة قال قال أبو جعفر (عليه السلام) : «إذا كان الماء أكثر من راوية لم ينجسه شيء تفسخ فيه أو لم يتفسخ إلاّ أن يجيء له ريح تغلب على ريح الماء» (4) ورواية حريز عن أبي بصير عن أبي عبدالله (عليه السلام) «أ نّه سُئل عن الماء النقيع تبول فيه الدواب ؟ فقال : إن تغيّر الماء فلا تتوضأ منه ، وإن لم تغيره أبوالها فتوضأ منه ، وكذلك الدم إذا سال في الماء وأشباهه» (5) . ومحل الاستشهاد فيها هو قوله (عليه السلام) وكذلك الدم إلى قوله وأشباهه . وأمّا صدرها وهو الذي دلّ على نجاسة أبوال الدواب فلعلّه محمول على التقيّة، لأن العامّة ذهبوا إلى نجاسة أبوال البغال والحمير ونحوهما (6) وهذه الروايات قد اشتملت على الماء النقيع وهو الماء النازح

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 1 : 137 / أبواب الماء المطلق ب 3 ح 1 .

(2) الوسائل 1 : 139 / أبواب الماء المطلق ب 3 ح 6 .

(3) الوسائل 1 : 141 / أبواب الماء المطلق ب 3 ح 11 .

(4) الوسائل 1 : 140 / أبواب الماء المطلق ب 3 ح 8 .

(5) الوسائل 1 : 138 / أبواب الماء المطلق ب 3 ح 3 .

(6) قال ابن حزم في المحلّى المجلد 1 ص 168 البول كلّه من كل حيوان : إنسان أو غير إنسان ممّا يؤكل لحمه أو لا يؤكل لحمه نحو ما ذكرنا كذلك ، أو من طائر يؤكل لحمه أو لا يؤكل لحمه  

ــ[58]ــ

حتى الجاري منه ينجس إذا تغيّر بالنجاسة في أحد أوصافه الثلاثة من الطعم

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المجتمع في الغدران وماء الغدير وغير ذلك من المياه البالغة كراً من دون أن تكون لها مادّة .

   الطائفة الثالثة : ما دلّ على انفعال ماله مادّة كالبئر إذا تغير بأحد أوصاف النجس ، وهي كصحيحة محمد بن إسماعيل بن بزيع عن الرضا (عليه السلام) قال : «ماء البئر واسع لا يفسده شيء إلاّ أن يتغيّر ريحه أو طعمه فينزح حتى يذهب الريح ويطيب طعمه لأن له مادّة» (1) وهي واردة في ماله مادّة وهو ظاهر ، وبهذه الطوائف الثلاث نبني على انفعال مطلق الماء إذا تغيّر بأحد أوصاف النجس .

ــــــــــــــــــــــــــــ

 فكل ذاك حرام أكله وشربه إلى أن قال: وفرض اجتنابه في الطهارة والصلاة ، إلاّ ما لا يمكن التحفّظ منه إلاّ بحرج فهو معفو عنه كونيم الذباب ، ونجو البراغيث. وقال أبو حنيفة : أمّا البول فكله نجس سواء كان مما يؤكل لحمه أو مما لا يؤكل لحمه ، إلاّ أن بعضه أغلظ نجاسة من بعض . فبول كل ما يؤكل لحمه من فرس ، أو شاة أو بعير ، أو بقرة . أو غير ذلك لا ينجس الثوب ، ولا تعاد منه الصلاة إلاّ أن يكون كثيراً فاحشاً فينجس وتعاد منه الصلاة أبداً . ولم يحد أبو حنيفة ـ  في المشهور عنه  ـ في الكثير حداً ، وحده أبو يوسف بان يكون شبراً في شبر . قال : فلو بالت شاة في بئر تنجست وتنزح كلّها . قالوا : وأمّا بول الانسان وما لا يؤكل لحمه فلا تعاد منه الصلاة ، ولا ينجس الثوب إلاّ أن يكون أكثر من قدر الدرهم البغلِّي ، فإن كان كذلك نجس الثوب ، وأعيدت منه الصلاة أبداً ، فإن كان قدر الدرهم البغلِّي فأقل لم ينجس الثوب ولم تعد منه الصلاة وأمّا الروث فإنّه سواء كلّه كان مما يؤكل لحمه أو مما لا يؤكل لحمه من بقر كان أو من فرس أو من حمار أو غير ذلك . وإن كان في الثوب منه أو النعل ، أو الخف ، أو الجسد أكثر من قدر الدرهم البغلِّي بطلت الصلاة وأعادها أبداً وإن كان قدر الدرهم البغلِّي فأقلّ لم يضرّ شيئاً إلى أن قال : وأمّا بول ما لا يؤكل لحمه ونجوه ، ونجو ما يؤكل لحمه فكل ذلك نجس . وقال مالك : بول ما لا يؤكل لحمه ونجوه نجس وبول ما يؤكل لحمه ونجوه طاهران . وقال داود : بول كل حيوان ونجوه ـ  أكل لحمه أو لم يؤكل  ـ فهو طاهر ، حاشا بول الانسان ونجوه فقط ، فهما نجسان . وقال الشافعي : مثل قولنا الذي صدرناه به . راجع المجلد 1 ص 16 الفقه على المذاهب الأربعة .

(1) الوسائل 1 : 141 / أبواب الماء المطلق ب 3 ح 12 ، و ص 172 ب  14 ح 6 .

ــ[59]ــ

والرائحة واللّون (1) بشرط أن يكون بملاقـاة النجاسـة ، فلا يتنجّس إذا كان

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

   التغيّر باللّون

   (1) وقد وقع النزاع في أن سبب النجاسة بالتغيّر هل هو التغيّر بالطعم والرائحة خاصّة كما هو المصرح بهما في أكثر روايات الباب ، أو أن التغيّر باللون أيضاً سبب للانفعال ؟

   وقد يدعى(1) عدم ذكر اللون في شيء من الأخبار الواردة في المقام ، ولأجله يستشكل في إلحاقه بالطعم والريح . والتحقيق أن الأمر ليس كما ادعي ، فإن اللون كأخويه مذكور في جمله من الأخبار ، فدونك رواية أبي بصير المتقدمة المشتملة على قوله (عليه السلام) وكذا الدم (2) فإن التغيّر بالدم على ما يستفاد منه عرفاً ليس إلاّ التغيّر باللون دون الطعم أو الريح ، ورواية العلاء بن الفضيل قال : «سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن الحياض يبال فيها ؟ قال : لا بأس إذا غلب لون الماء لون البول» (3) لأ نّها نصّت على أن التغيّر باللون أيضاً سبب للانفعال .

   ثم على تقدير المناقشة في الروايتين بضعفهما فحسبك صحيحة محمد بن الحسن الصفار في كتاب بصائر الدرجات عن محمد بن إسماعيل يعني البرمكي عن علي بن الحكم عن شهاب بن عبد ربّه قال : «أتيت أبا عبدالله (عليه السلام) أسأله ، فابتدأني فقال : إن شئت فسل يا شهاب ، وإن شئت أخبرناك بما جئت له ، قلت : أخبرني ، قال : جئت تسألني عن الغدير يكون في جانبه الجيفة ، أتوضأ منه أو لا ؟ قال : نعم قال : توضأ من الجانب الآخر ، إلاّ أن يغلب الماء الريح فينتن . وجئت تسأل عن الماء الراكد من الكر (4) ممّا (5) لم يكن فيه تغيّر أو ريح غالبة ، قلت : فما التغيّر ؟ قال : الصفرة

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) ذكره صاحب المدارك 1 : 57 .

(2) الوسائل 1 : 138 / أبواب الماء المطلق ب 3 ح 3 .

(3) الوسائل 1 : 139 / أبواب الماء المطلق ب 3 ح 7 .

(4) وفي طهارة المحقق الهمداني (رحمه الله) [ ص10 سطر 10 ] وبعض نسخ الكتاب «من البئر».

(5) كذا في النسخة المطبوعة أخيراً من الوسائل والصحيح «ما» .

ــ[60]ــ

بالمجاورة كما إذا وقعت ميتة قريباً من الماء فصار جائفاً (1) .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 فتوضأ منه ، وكلما غلب [ عليه ] كثرة الماء ، فهو طاهر (1) وهي أيضاً صريحة : في أن التغيّر باللّون وهو الصفرة يوجب الانفعال .

   هذا على أن التغيّر باللون في النجاسات يلازم التغيّر بالطعم أو الريح ولا يوجد التغيّر باللون إلاّ والتغيّر بالطعم أو الريح موجود معه ، ولا تقاس النجاسات الخارجية بالأصباغ فإن التغيّر بسببها يمكن أن يكون باللون خاصة ، وهذا بخلاف التغيّر بالنجاسات كما في الميتة واللحم ، لأ نّها إذا أثرت في تغيّر لون الماء بالصفرة أو بغيرها فلا ينفك عن التغيّر بالطعم والريح ، ولعلّه لأجل هذا التلازم لم يتعرض (عليه السلام) فيما تقدم من صحيحة ابن بزيع للتغير باللون .

    التغيّر بالمجاورة

   (1) اشترط الفقهاء (قدس الله أسرارهم) في انفعال الماء بالتغيّر أن يكون التغيّر مستنداً إلى ملاقاة الماء للنجس ، وأمّا إذا نشأ بغير الملاقاة من المجاورة والسراية فهو لا  يؤثر في الانفعال ، كما إذا كانت الميتة قريبة من الماء فأنتنت وسرى النتن إلى الماء وهذا هو الصحيح ، فإنّ الروايات الدالّة على نجاسة الماء بالتغيّر بين ما وردت في خصوص ملاقاة الماء المتغيّر للنجس بوقوع الميتة أو البول في الماء ، كما في بعض الأخبار (2) . أو تفسخ الميتة فيه كما في بعضها الآخر (3) . وصراحتها في ملاقاة الماء للنجس غير محتاجة إلى البيان ، وبين ما لم ترد في ذلك المورد ، إلاّ أ نّها دلّت على إرادة الملاقاة بواسطة القرائن الخارجية كصحيحة ابن بزيع ، فإنّها وإن لم ترد في ملاقاة النجس للماء ، وقوله (عليه السلام) فيها «ماء البئر واسع لا يفسده شيء إلاّ أن يتغيّر ...» مطلق يشمل التغيّر بالملاقاة والمجاورة ، إلاّ أن القرينة قامت على ارادة التغيّر بالملاقاة خاصّة .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 1 : 161 / أبواب الماء المطلق ب 9 ح 11 .

(2) الوسائل 1 : 139 / أبواب الماء المطلق ب 3 ح 4 ، 6 ، 7 ، 11 .

(3) الوسائل 1 : 139 / أبواب الماء المطلق ب 3 ح 8 ، 9 .

ــ[61]ــ

   وبيان تلك القرينة هو أن الشيء في قوله (عليه السلام) لا يفسده شيء لم يرد به مطلق ما يصدق عليه مفهوم الشيء بل المراد به هو الذي من شأ نّه أن ينجس الماء إلاّ أ نّه لا ينجس ماء البئر لأ نّه واسع . كما هو الحال في قوله (عليه السلام): «الماء طاهر لا ينجسه شيء» ، وقوله: «إذا بلغ الماء قدر كر لا ينجسه شيء» ، لوضوح عدم إرادة الأشياء الأجنبية عن التنجيس من لفظة الشيء فيهما ، ومن البين أن تقرب الماء من الميتة مثلاً ليس مما شأ نّه التنجيس ، ولم يثبت كونه موجباً للانفعال ما لم تتصل الميتة بالماء لبعدها أو لوجود مانع في البين .

   فمن ذلك يظهر أن المراد من قوله (عليه السلام): «ماء البئر واسع لا يفسده شيء» : أ نّه لا تفسده ملاقاة النجاسة إلاّ أن توجب تغيره ، وبذلك تظهر صحّة ما ذهب إليه الأصحاب من أن الموجب للانفعال هو التغيّر الحاصل بالملاقاة لا بالمجاورة ونحوها .

    فرع

   إذا لاقى الماء جزء من النجس ولم يكن ذلك الجزء موجباً للتغيّر في الماء ، وكان له جزء آخر يوجب التغيّر إلاّ أ نّه لم يلاق الماء ، كما إذا لاقى الماء شعر الميتة أو عظمها ولم يلاق لحمها ، والشعر والعظم لا ينتنان بمرور الأيام ولا يحدثان التغيّر في شيء بخلاف اللّحم لتسرع الفساد إليه ، فهل مثل هذه الملاقاة توجب الانفعال ؟ .

   الظاهر أ نّه لا ، لأن ما لاقى الماء لا يوجب التغيّر وما يوجب التغيّر لم يلاق الماء وقد اشترطنا في نجاسة الماء أن يستند تغيره إلى ملاقاة النجس الذي يوجب التغيّر لا إلى مقارنة نجس آخر كما هو المستفاد من الأخبار ، ومثل ذلك ما إذا وقع نصف النجس في الماء وكان نصفه الآخر خارجاً عنه والنصف الداخل لم يكن سبباً للتغيّر بل كان سببه المجموع من النصف الداخل في الماء والنصف الخارج عنه ، فإن الظاهر عدم انفعال الماء بذلك ، لأن الملاقي لم يوجب التغيّر وما أوجبه لم يلاق الماء ، ويعتبر في انفعال الماء استناد التغيّر إلى ملاقاة النجس الذي يوجب التغيّر .

   فما عن المحقق الهمداني من أن التغيّر سبب للانفعال في هذه الصورة إذ يصدق عرفاً أن يقال : إن الماء لاقى نجساً يوجب التغيّر (1) لا يمكن المساعدة عليه لأن ما يصدق

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) مصباح الفقيه (الطهارة) : 10 السطر 19 .

ــ[62]ــ

وأن يكون التغيّر بأوصاف النجاسة دون أوصاف المتنجس (1) فلو وقع فيه دبس

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

عرفاً هو أن الماء لاقى ميتة ولكن النجاسة إنّما ترتبت على عنوان ملاقاة النجس الذي يوجب التغيّر ، وهذا العنوان لم يحصل في المقام ، وهو نظير ما إذا لم يكن الملاقي للماء سبباً للتغيّر بنفسه ، وإنّما أوجبه بانضمام شيء آخر إليه ، كما إذا القي مقدار من دم وصبغ أحمر على ماء ، واستند تغيره إليهما بحيث لو كان الدم وحده لما تأثر به الماء ، فإنّه لا يوجب الانفعال كما يأتي في كلام الماتن (طاب ثراه) والوجه فيه أن ما لاقاه الماء من النجس لا يوجب التغيّر ، وما يوجبه وهو مجموعهما ليس بنجس كما هو ظاهر .

    التغيّر بأوصاف المتنجِّس

   (1) وقع الخلاف في أن التغيّر هل يعتبر أن يكون بأحد أوصاف النجس ، أو أن التغيّر بأوصاف المتنجس أيضاً كاف في الانفعال ؟ .

   والظاهر أن صورة انتشار أجزاء النجس في المتنجس الذي يوجب انتشار تلك الأجزاء في الماء على تقدير ملاقاته إياه خارجة عن محل الكلام . والوجه في خروجها ظاهر ، لأن التغيّر فيها مستند إلى أوصاف النجس دون المتنجس ، كما إذا صببنا مقداراً من الدم في ماء وحللناه فيه ثم ألقينا ذلك الماء على ماء آخر ، فتغيّر الماء الثاني بعين الأجزاء الدموية المنتشرة في الماء الأول بالتحليل ، كما أن صورة خروج الماء عن الاطلاق بملاقاة المتنجس خارجة عن محل النزاع قطعاً . فالذي وقع فيه الكلام له صورتان :

   إحداهما : ما إذا تغيّر شيء بالنجاسة من غير أن تنتشر فيه أجزاء النجس ، ثم لاقى هذا المتغيّر بالنجس ماءً وغيّره بالوصف الحاصل فيه بالتغيّر ، كما إذا وقعت ميتة في الماء ولم تتفسخ فيه وتغيّر الماء بريحها ثم ألقينا ذلك الماء في ماء آخر كر وتغيّر بما في الماء من نتن الميتة من دون انتشار أجزاء الميتة في شيء من الماءين .

   وثانيتهما : ما إذا لاقت نجاسة شيئاً ونجّسته ، ثم لاقى المتنجس كراً من الماء فغيّره بأحد أوصاف نفسه دون أوصاف النجس ، كما هو الحال في العطور إذا لاقتها يد كافر

ــ[63]ــ

مثلاً ثم ألقيناها في حوض من الماء فإنّها تغيّر الماء بريحها لا محالة .

   ولنقدم الكلام في الصورة الثانية ، لأن التغيّر فيها إذا صار موجباً للانفعال فهو يوجب الانفعال في الصورة الاُولى بطريق أولى .

   فنقول : إنّه نسب القول بالنجاسة في صورة التغيّر بأوصاف المتنجس إلى الشيخ الطوسي (قدس سره) واستدلّ عليه بالنبوي المعروف : «خلق الله الماء طهوراً لا ينجسه شيء إلاّ ما غيّر لونه ، أو طعمه ، أو ريحه» (1) . فإن قوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلاّ ما غيّر يشمل النجس والمتنجس كليهما .

   وفيه : أن الحديث نبوي قد ورد بغير طرقنا ، كما صرح به صاحب المدارك (2) وأمضاه صاحب الحدائق (قدس سرهما) (3) فلا يعتد به ، وإنّما نقول بالنجاسة في مفروض الكلام لو قلنا بها من جهة الروايات الواردة من طرقنا ، كما في صحيحة محمد بن إسماعيل بن بزيع : «ماء البئر واسع لا يفسده شيء إلاّ أن يتغيّر ريحه أو طعمه ،  ...» بدعوى أنّ قوله (عليه السلام): «لا يفسده شيء إلاّ أن يتغيّر» أيضاً شامل لكل من النجس والمتنجس .

   بل الصحيح عدم تمامية هذا الاستدلال أيضاً ، لاختصاص الرواية بالتغيّر بالنجس دون المتنجس، ويدل عليه استثناؤه (عليه السلام) في الصحيحة بقوله : «إلاّ أن يتغيّر ريحه أو طعمه ، فينزح حتى يذهب الريح ويطيب طعمه» . فإن هذا الاطلاق والاستعمال : «حتى يذهب الريح ويطيب طعمه» إنّما يصح إذا كان التغيّر الحاصل بالطعم أو الريح تغيّراً بريح كريهة أو طعم خبيث ، إذ مع فرض طيب الطعم أو الريح لا  معنى لطيبه ثانياً . وكراهة الريح والطعم تختص بالتغيّر الحاصل بالنجاسات ، وأمّا المتنجسات فربّما يكون ريحها في أعلى مرتبة اللطافة والطيب ، كما في العطور المتنجسة أو طعمها كما في السكر والدبس المتنجسين ، ولا يصح في مثلهما أن يقال : ينزح حتى

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) المبسوط 1 : 5 .

(2) المدارك 1 : 28 .

(3) الحدائق 1 : 298 .

ــ[64]ــ

يذهب الريح ويطيب طعمه . وبالجملة فالمقدار المتيقن منها هو الحكم بالانفعال في التغيّر بالنجس ، فلا بدّ من الاقتصار عليه ، هذا كلّه في هذه الرواية . وأمّا سائر الروايات فهي بأجمعها كما عرفت واردة في التغيّر بأعيان النجاسات من الميتة والبول ونحوهما ، ولا يستفاد من شيء منها انفعال الماء بالتغيّر بالمتنجسات فراجع .

   وحيث قلنا بعدم الانفعال في الصورة الثانية فلا بدّ من التكلّم في الصورة الاُولى أيضاً ، ليرى أن التغيّر فيها يوجب الانفعال أو لا يوجبه ، وهي ما إذا تغيّر الماء بملاقاة المتنجس ولكن لا بأوصاف نفسه بل بأوصاف النجس ، وقد أشار إليه في المتن بقوله : نعم لا يعتبر أن يكون ... والمعروف انّه يوجب الانفعال وقد استدلّ عليه بوجوه :

   أحدها : أن تغيّر الماء بالأعيان النجسة قليل ، ولا يوجد إلاّ نادراً ولا يصح حمل اطلاقات التغيّر على الفرد النادر ، فلا محيص من تعميمه إلى التغيّر بالمتنجسات أيضاً فيما إذا أوجبت تغيّر الماء بأوصاف النجس ، والوجه في ذلك : أنّ الميتة أو غيرها من النجاسات إذا وقعت في كر أو أكثر منه فهي إنّما تغيّر جوانبها الملاصقة لها في شيء من أوصافها الثلاثة أوّلاً ، ثم تغيّر حوالي ما يتصل بها وما جاورها ثانياً ، ثم تلك المجاورات تغيّر مجاوراتها الملاصقة وهكذا ... إلى أن ينتهي إلى آخر الماء ، فالميتة مثلاً تغيّر الماء بواسطة المجاورات المتنجسة لا بنفسها وبلا واسطة ، فلا محيص من تعميم التغيّر الموجب للانفعال إلى التغيّر بأوصاف النجس إذا حصل بملاقاة المتنجس .

   وهذا الوجه وإن ذكر في كلمات الأكثرين ولكنّه لا يخلو عن مناقشة ، لأنّ سراية التغيّر إلى مجموع الماء وإن كانت بواسطة المتنجسات لا بعين النجاسة كما ذكر ، إلاّ أن الدليل لم يدلنا على نجاسة الماء المتغيّر بملاقاة المتنجس وإن كان التغيّر بأوصاف النجس ، فإن الدليل إنّما قام على انفعال الماء المتغيّر بملاقاة نفس النجس ، فلا بدّ من الاقتصار عليه .

   ثانيها : صحيحة محمد بن إسماعيل بن بزيع المتقدمة ، فإن إطلاق قوله (عليه السلام) فيها «لا يفسده شيء إلاّ أن يتغيّر ...» يشمل كل ما هو صالح للتنجيس ، ومن الظاهر أن المتنجس الحامل لأوصاف النجس كالماء المتغيِّر بأوصاف النجاسة صالح لأن يكون منجساً ، ومن هنا ينجس ملاقيه من الماء القليل واليد وغيرهما ، فإطلاق

ــ[65]ــ

الرواية يشمل النجس والمتنجس إذا لاقى ماء البئر وغيره بأحد أوصاف النجاسة وإنّما خرجنا من إطلاقها فيما إذا غيّره بأوصاف نفسه من أجل ما استفدناه من القرينة الداخلية كما مرّ ، وهذا الوجه هو الذي ينبغي أن يعتمد عليه في المقام .

   ثالثها : وهو وجه عقلي حاصله : أن الماء المتنجس الحامل لأوصاف النجس إذا لاقى كراً وغيّره بأحد أوصاف النجس فهو لا يخلو عن أحد أوجه ثلاثة :

   فإمّا أن نقول ببقاء كل من الملاقي والملاقى على حكمهما ، فالماء المتنجس نجس والكر المتغيّر طاهر ، وهو مما نقطع ببطلانه فإن الماء الواحد لا يحكم عليه بحكمين ، أو نقول بطهارة الجميع ، وهو أيضاً مقطوع الخلاف لما ثبت بغير واحد من الأدلّة الآتية في محلّها من أن الماء المتغيّر لا يطهر من دون زوال تغيّره ، والقول بطهارة الجميع في المقام قول بطهارة الماء المتغيّر وهو الذي لاقى كراً مع بقاء تغيره ، وهو خلاف ما ثبت بالأدلة التي أشرنا إليها آنفاً ، أو نقول بنجاسة الجميع وهو المطلوب .

   والجواب عن ذلك أن هذا الوجه ينحل إلى صور ثلاث :

   الاُولى : أن يكون الماء المتغيّر موجباً لتغيّر الكر بأحد أوصاف النجاسة مع استهلاكه في الكر لكثرته وقلّة المتغيّر .

   الثانية : الصورة مع استهلاك الكر في المتغيّر لكثرته بالإضافة إلى الكر ، كما هو الحال في ماء الأحواض الصغيرة في الحمّامات ، فإنّه إذا تغيّر بنجس ولاقاه الكر الواصل إليه بالأنابيب ، فلا محالة يوجب تغيّر الواصل واستهلاكه لقلته بالإضافة إلى ماء الحياض ، فإنّه يصل إليه تدريجاً لا دفعة .

   الثالثة : الصورة من دون أن يستهلك أحدهما في الآخر لتساويهما في المقدار. وهذه صور ثلاث :

   أمّا الصورة الاُولى : فنلتزم فيها بطهارة الجميع ولا منافاة في ذلك للأدلّة الدالّة على عدم طهارة المتغيّر إلاّ بارتفاع تغيّره ، وذلك لأ نّها إنّما تقتضي نجاسته مع بقاء التغيّر على تقدير بقاء موضوعه ، وهو الماء المتغيّر لا على تقدير الارتفاع وانعدام موضوعه بالاستهلاك في كر طاهر .

ــ[66]ــ

   وأمّا الصورة الثانية : فنلتزم فيها بنجاسة الجميع ، ولا ينافيه ما دلّ على اعتصام الكر وحصر انفعاله بالتغيّر بملاقاة الأعيان النجسة ، والكر لم يلاق عين النجس في المقام ، وذلك لأن ما دلّ على اعتصام الكر إنّما يقتضي طهارته مع بقاء موضوعه وهو الكر الملاقي لغير العين النجسة لا مع انعدامه باستهلاكه في المتغيّر .

   وأمّا الصورة الثالثة : فيتعارض فيها ما دلّ على انفعال الكر المتغيّر بملاقاة العين النجسة ، واعتصامه في غير تلك الصورة ، مع ما دلّ على أن المتغيّر لا يطهر إلاّ بارتفاع تغيّره ، فإن مقتضى الأول طهارة الماء في مفروض الكلام ، لأ نّه لم يتغيّر بملاقاة عين النجس ، ومقتضى الثاني نجاسته لبقاء تغيّره على الفرض ، وبما أن الماء الواحد لا يحكم عليه بحكمين متضادين فيدور الأمر بين أن نحكم عليه بالنجاسة لنجاسة المتنجس ، أو نحكم عليه بالطهارة لطهارة الكر ، وإذ لا ترجيح في البين فيتساقطان ويرجع إلى قاعدة الطهارة في الماء ، بلا فرق في ذلك بين القول بجريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية وعدمه ، إذ بناء على القول بجريانه أيضاً كان الاستصحابان متعارضين ، فيرجع بالنتيجة إلى قاعدة الطهارة .

   وبذلك يظهر أن الوجه الصحيح في الحكم بالنجاسة في المقام منحصر باطلاق صحيحة ابن بزيع .

   نعم ، إن هناك وجهاً رابعاً يمكن أن يستدل به على نجاسة الكر المتغيّر بأوصاف النجس بملاقاة المتنجس ، وهو الاستدلال بصحيحة محمد بن إسماعيل بن بزيع من ناحية اُخرى غير اطلاقها ، وحاصله : أنّ الإمام (عليه السلام) قد أمر فيها بنزح ماء البئر حتى يطيب طعمه وتذهب رائحته ، ومن الظاهر البيّن أن تقليل الماء المتغيّر بأخذ مقدار منه لا يوجب ارتفاع التغيّر عن الباقي من الرائحة أو الطعم ، وهو من البداهة بمكان لا يحتاج إلى زيادة التوضيح ، فالنزح لا يكون رافعاً لتغيّر الماء الباقي في البئر وعليه يتعيّن أن يكون الوجه في قوله (عليه السلام) «ينزح حتى ...» شيئاً آخر ، وهو أن البئر لما كانت ذات مادّة نابعة كان نزح المتغيّر منها وتقليله موجباً لأن ينبع الماء الصافي من مادتها ، ويزيد على المقدار الباقي من المتغيّر في البئر ، وباضافته تقل الرائحة والطعم من الباقي ، وكلما نزح منه مقدار أخذ مكانه الماء الصافي النابع من

ــ[67]ــ

نجس فصار أحمر أو أصفر لا ينجس ، إلاّ إذا صيره مضافاً . نعم ، لا يعتبر أن يكون بوقوع عين النجس فيه، بل لو وقع فيه متنجس حامل لأوصاف النجس فغيّره بوصف النجس تنجس أيضاً . وأن يكون التغيّر حسياً (1) .

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مادّتها حتى إذا كثر النابع بتقليل المتغيّر غلب على الباقي وأوجب استهلاكه في ضمنه وبذلك صحّ أن يقال ينزح حتى يذهب الريح ويطيب طعمه .

   ومن هذا يظهر أن النابع من المادّة لا يحكم بطهارته عند ملاقاته للباقي من المتغيّر فيما إذا تغيّر بملاقاته ، وإنّما يطهر إذا غلب النابع على الباقي وأوجب زوال رائحته وتبدل طعمه لقوله (عليه السلام) «ينزح حتى يذهب ...» فقوله هذا يدلنا على ما  قدمناه من أن الماء النابع الملاقي للمتنجس المتغيّر غير محكوم بالطهارة ، لتغيّره بأوصاف النجس من الريح والطعم بملاقاة المتنجس الحامل لتلك الأوصاف ، وإنّما يطهر حتى يذهب ... فالرواية دلت على أن أي ماء لاقى متنجساً حاملاً لأوصاف النجس ، وتغيّر بها فهو محكوم بالانفعال للقطع بعدم خصوصية في ذلك لماء البئر .

   ثم لا يخفى أن مورد هذه الصحيحة من قبيل الصورة الثانية من الصور المتقدِّمة في الوجه العقلي ، وهي ما إذا لاقى متنجس حامل لأوصاف النجس ماءً وغيّره بأوصاف النجس مع استهلاك الماء في المتغيّر ، وقد ذكرنا انا نلتزم فيها بنجاسة الجميع من غير أن ينافي هذا الأدلّة الدالّة على اعتصام الكر إلاّ بالتغيّر بملاقاة عين النجس ، لأ نّه فرع بقاء موضوع الكر ، ولا يتم مع استهلاكه وانعدامه ، ويستفاد هذا من الصحيحة المتقدمة حيث دلت على أن النابع محكوم بالنجاسة لملاقاته المتغيّر الباقي في البئر واستهلاكه فيه إلاّ أن يكثر ويغلب عليه .

    اعتبار التغيّر الحسي

   (1) لا ينبغي الاشكال في أن التغيّر الدقي الفلسفي الذي لا يدرك بشيء من الحواس لا يوجب الانفعال شرعاً ، كما إذا وقع مقدار قليل من السكر أو غيره في الماء ، لأ نّه عقلاً يحدث تغيراً فيه لا محالة ، إلاّ أ نّه غير قابل للادراك بالحواس ، فمثله إذا حصل

ــ[68]ــ

من النجس لا يستلزم النجاسة قطعاً ولا كلام في ذلك .

   وإنّما المهم بيان أن التغيّر المأخوذ في لسان الدليل هل هو طريق إلى كم خاص من النجس ، ليكون هذا الكم هو الموجب للانفعال وأن التغيّر بأحد الأوصاف طريق إليه ولا موضوعية له في الحكم بالانفعال حتى لا يدور الحكم مدار فعلية التغيّر وهو القول بكفاية التغيّر التقديري أو أن التغيّر بنفسه موضوع للحكم بالانفعال لا أ نّه طريق ، وهذا لاختلاف النجاسات في التأثير ، فيمكن أن يكون مقدار خاص من دم مؤثراً في تغيّر الماء ، ولا يكون دم آخر بذلك المقدار مؤثراً فيه لشدّة الأوّل وضعف الثاني وغلظة أحدهما ورقّة الآخر هذا في اللون ، وكذلك الحال في غيره من الأوصاف ، فإن اللحوم مختلفة فبعضها يتسرع إليه النتن في زمان لا ينتن فيه بعضها الآخر مع تساويهما بحسب الكم والمقدار ، فيدور الحكم مدار فعلية التغيّر ؟

   الصحيح هو الثاني : لأن جعل التغيّر طريقاً إلى كم خاص من النجس ـ  وهو الموضوع للحكم بالانفعال  ـ إحالة إلى أمر مجهول ، إذ لا علم لنا بذلك الكم ، على أ نّه خلاف ظاهر الأدلّة ، لظهورها في أن التغيّر بنفسه موضوع لا أ نّه طريق إلى أمر آخر هو الموضوع للحكم بالانفعال ، إذ القضايا ظاهرة في الفعلية طراً . ومع هذا كلّه ربّما ينسب إلى بعض الأصحاب القول بكفاية التغيّر التقديري في الحكم بالانفعال .

   وتفصيل الكلام في المقام : أن التقدير الذي نعبّر عنه بكلمة لو إما أن يكون في المقتضي كما إذا وقع في الكر مقدار من الدم الأصفر بحيث لو كان أحمر لأوجد التغيّر في الماء ، ففي هذه الصورة المقتضي للتغيّر قاصر في نفسه .

   وإما أن يكون في الشرط ، كما إذا وقعت ميتة في الماء في أيام الشتاء بحيث لو كانت الملاقاة معه في الصيف تغيّر بها الماء ، فإن الحرارة توجب انفتاح خلل الميتة وفرجها فيخرج عنهما النتن وبه يفسد الماء ، كما أن البرودة توجب الانقباض وتسد الخلل فيمنع عن انتشار نتنها ، فالحرارة شرط في تغيّر الماء بالنتن وهو مفقود فالقصور في الشرط .

   وإمّا أن يكون التقدير في المانع ، كما إذا صبّ مقدار من الصبغ الأحمر في الماء ثم

ــ[69]ــ

وقع فيه الدم ، فإن الدم يقتضي تغيّر لون الماء لولا ذلك المانع وهو انصباغ الماء بالحمرة قبل ذلك ، أو جعلت الميتة قريبة من الماء حتى نتن بالسراية وبعد ما صار جائفاً وقعت عليه ميتة ، فإنّها تغيّر الماء بالنتن لولا اكتسابه النتن بالسراية قبل ذلك فعدم التغيّر مستند إلى وجود المانع في هذه الصورة ، هذه هي صور التقدير ولا نتعقل له صورة غيرها .

   أمّا الصورتان : الاُولى والثانية : فلا ينبغي الاشكال في عدم كفاية التقدير فيهما لأنّ الانفعال قد علق على حصول التغيّر في الماء والمفروض أ نّه غير حاصل لا واقعاً ولا ظاهراً ، إما لقصور المقتضي وإما لفقدان شرطه ، ومثله لا يوجب الانفعال وإن نسب إلى العلاّمة (قدس سره) القول بكفاية ذلك ، حيث جعل التغيّر طريقاً إلى كم خاص من النجس(1) .

   وأمّا الصورة الثالثة : فالتحقيق أن التقدير بهذا المعنى كاف في الحكم بالانفعال إذ الفرض أن التغيّر حاصل واقعاً لتمامية المقتضي والشرط ، غاية الأمر أن الحمرة أو النتن يمنع عن إدراكه وإلاّ فالأجزاء الدموية موجودة في الماء وإن لم يشاهدها الناظر لحمرته ، وهو نظير ما إذا جعل أحد على عينيه نظارة حمراء ، أو جعل الماء في آنية حمراء فإنّه لا يرى تغيّر الماء إلى الحمرة بالدم حيث إنّه يرى الماء أحمر لأجل النظارة أو الآنية ، والأحمر لا ينقلب إلى الحمرة بالقاء الدم عليه مع أ نّه متغيّر واقعاً .

   وأظهر من جميع ذلك ما إذا فرضنا حوضين متساويين كلاهما كر وقد صبغنا أحدهما بصبغ أحمر ، وفرضنا أيضاً مقداراً معيناً من الدم فنصفناه ، وألقينا كل نصف منه على كل واحد من الحوضين ، وتغيّر بذلك الحوض غير المنصبغ بالصبغ أفلسنا نحكم حينئذ بتغيّر المنصبغ أيضاً بالدم ؟ لأن الماءين متساويان ، وما اُلقي على أحدهما إنّما هو بمقدار الملقى على الآخر وإن لم نشاهد تغيّر الثاني لاحمراره بالصبغ (2) وكيف

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) نسب السيِّد الحكيم (قدس سره) في المستمسك 1 : 121 إلى العلامة في القواعد 1 : 183 .

(2) فإن الماء كما ادعوه لا لون له غير لون الماء كما أن الشعر لا لون له غير البياض ، وإنّما يرى الماء أو الشعر أحمر أو أصفر أو بغيرهما من الألوان لأجل ما يدخلهما من الأجزاء المتلونة ، فهما    كالزجاجة التي تتلون بما في جوفها من المواد . فهي حمراء إذا كان في جوفها شيء أحمر أو سوداء إذا كان في جوفها شيء أسود وهكذا ، مع أنّ لون الزجاجة هو البياض ، فالشعر إنّما يرى أسود لما جعل فيه من مادّة سوداء ، ولذا يرى بلونه الطبيعي في الشيبة لانتهاء مادّة السوداء في الشيبوبة ، وكذا الحال في الماء .

ــ[70]ــ

فالتقديري لا يضر ، فلو كان لون الماء أحمر أو أصفر فوقع فيه مقدار من الدم كان يغـيّره لو لم يكـن كذلك لم ينجس ((1)) . وكذا إذا صُبّ فيه بول كثير لا لون له بحيث لو كان له لون غيّره . وكذا لو كان جائفاً فوقع فيه ميتة كانت تغيّره لو لم يكن جائفاً وهكذا ، ففي هذه الصور ما لم يخرج عن صدق الاطلاق محكوم بالطهارة على الأقوى .

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 كان فالصحيح في الصورة الثالثة كفاية التقدير كما بنى عليه سيدنا الاستاذ مدّ ظلّه في تعليقته المباركة على الكتاب ، فإنّ الصورتين اللّتين أشار إليهما (دام ظلّه) من قبيل الصورة الثالثة ، فراجع .

   ثم إنّا كما نلتزم بالنجاسة في التغيّر التقديري إذا كان موجوداً واقعاً وقد منع مانع عن إدراكه بإحدى الحواس الظاهرية ، كذلك نلتزم بالطهارة في عدم التغيّر التقديري مع وجود التغيّر ظاهراً . وتوضيح ذلك :

   أ نّا أسمعناك سابقاً أن التغيّر إنّما يوجب النجاسة فيما إذا استند إلى ملاقاة نفس النجس على نحو الاستقلال ، وأمّا إذا استند إليه وإلى شيء آخر فهو غير مؤثر في الانفعال ، ونعبّر عنه بعدم التغيّر التقديري وإن كان متغيراً ظاهراً ، كما إذا تغيّر الماء بمجموع الدم والصبغ الأحمر بوقوعهما عليه معاً ، أو وقع أحدهما فيه أوّلاً وأ ثّر بما لا يدرك بالحواس ، ثم وقع فيه الآخر واستند تغيّره إلى مجموعهما من دون أن يستند إلى كل واحد منهما في نفسه ، فصورة عدم التغيّر تقديراً وصورة التغيّر متعاكستان وإن كان الحكم في كلتا الصورتين هو الطهارة ، اللّهم إلاّ أن يستند عدم إدراك التغيّر في صورة التغيّر التقديري إلى وجود مانع عن الادراك كما قدمنا ، أو يستند عدم التغيّر

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الحكم بالنجاسة فيه وفي الفرض الثالث لو لم يكن أقوى فلا ريب أ نّه أحوط .

ــ[71]ــ

   [ 82 ] مسألة 10 : لو تغيّر الماء بما عدا الأوصاف المذكورة من أوصاف النجاسة ، مثل الحرارة والبرودة ، والرقة والغلظة ، والخفّة والثّقل ، لم ينجس ما لم يصر مضافاً (1) .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

التقديري في هذه الصورة ـ  صورة عدم التغيّر التقديري  ـ إلى قصور الشرط فإنّه لا محيص حينئذ من الالتزام بالنجاسة . وهذا كما إذا لاقى الماء ميتة في أيام الصيف وتغيّر بها ، إلاّ أن ملاقاتهما لو كانت في الشتاء لما كانت مؤثرة في تغيّره إذ لا يمكن أن يقال بعدم التغيّر التقديري في مثله بدعوى أن التغيّر غير مستند إلى الميتة وحدها ، بل إليها وإلى حرارة الهواء ، ويشترط في الانفعال إستناد التغيّر إلى ملاقاة النجس باستقلاله ، وذلك لأنّ العُرف لا يرى حرارة الهواء مقتضية للتغيّر وإنّما المقتضي له عندهم هو الميتة ، فالتغيّر مستند إليها مستقلاً . نعم ، الحرارة شرط في تسرع النتن إلى الماء ، وإنّما نلتزم بعدم التغيّر التقديري فيما إذا استند عدمه إلى قصور المقتضي كما قدمناه بأمثلته .

   ولا يخفى أن ما ذكرناه في هذه الصورة المعبّر عنها بعدم التغيّر التقديري مع تغيّر الماء ظاهراً مما لم نقف على تعرض له في كلمات الأصحاب (قدس سرهم) فافهم ذلك واغتنمه .

    التغيّر بما عدا الأوصاف الثلاثة

   (1) كما إذا وقع مقدار بول صاف في كر من الماء وأحدث فيه البرودة لبرودة البول جداً أو الحرارة إذا كان حاراً شديداً . والصحيح أ نّه لا يقتضي الانفعال لأن التغيّر الموجب للانفعال منحصر في الأوصاف الثلاثة : الرائحة والطعم واللون ، على خلاف في الأخير ولم يذكر في روايات الباب سائر الأوصاف . فالروايات تقتضي عدم انفعال الماء بسائر الأوصاف ، ولا سيما صحيحة ابن بزيع لدلالتها على حصر سبب النجاسة في أمرين: التغيّر بالرائحة ، والتغيّر بالطعم، وقد ألحقنا اللون بهما لدلالة سائر الأخبار ولا دليل على رفع اليد عن إطلاق الصحـيحة المذكورة «ماء البئر واسع لا يفسـده

ــ[72]ــ

   [ 83 ] مسألة 11 : لا يعتبر في تنجسه أن يكون التغيّر بوصف النجس بعينه فلو حدث فيه لون أو طعم أو ريح غير ما بالنجس ، كما لو اصفرّ الماء مثلاً بوقوع الدم تنجس . وكذا لو حدث فيه بوقوع البول أو العذرة رائحة اُخرى غير رائحتهما ، فالمناط تغيّر أحد الأوصاف المذكورة بسبب النجاسة وإن كان من غير سنخ وصف النجس (1) .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 شيء» في غير الأوصاف الثلاثة كالبرودة والحرارة والخفة والثقل ونحوها بل إطلاق هذه الصحيحة يقيد إطلاق قوله (عليه السلام) في بعض الأخبار «أن يتغيّر» أو ما هو بمضمونه (1) .

   ومن ذلك يظهر أن ما نسب إلى صاحب المدارك (قدس سره) (2) من استدلاله باطلاقات التغيّر في الحكم بنجاسة الماء المتغيّر بما عدا الأوصاف الثلاثة ، مع ذهابه إلى عدم دلالة الأخبار على انفعال الماء بالتغيّر في اللون مما لا يمكن المساعدة عليه ، لما عرفت من أن إطلاقات التغيّر مقيدة باطلاقات الأخبار الدالّة على عدم انفعال الماء بغير التغيّر بأحد الأوصاف الثلاثة كما مرّ ، هذا .

   ثم لو أغمضنا عن ذلك وتمسّكنا باطلاقات الأخـبار ، فاخراج التغيّر باللّون ممّا لا موجب له، فإنّ الاطلاق كما يشمل سائر الأوصاف كذلك يشمل اللون وهذا ظاهر.

    التغيّر بالنجس في غير أوصافه

   (1) لأن التغيّر قسمان : تغيّر يحصل بانتشار النجس في الماء بريحه أو طعمه أو لونه ويسمّى ذلك بالتغيّر بالانتشار وبالتركب المزجى وهو يوجب اتصاف الماء بأوصاف النجس بلا نقص أو بمرتبة نازلة من أوصافه لانتشارها وتوسّعها في الماء ، فوقوع الدم في الماء يوجب تلونه إما بالحمرة التي هي لون الدم بعينه وإمّا بالصفرة التي هي مرتبة

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 1 : 138 / أبواب الماء المطلق ب 3 ح 3، و ص 140 ب 3 ح 10 .

(2) لاحظ المدارك 1 : 28 .

ــ[73]ــ

نازلة من الحمرة لأجل كثرة الماء .

   وتغيّر يحصل بالتأثير ، بأن تحدث عند ملاقاة النجس للماء صفة لم تكن ثابتة في الماء ولا فيما لاقاه قبل ملاقاتهما ، وإنّما يحصل بتأثير أحدهما في الآخر ، كما في ملاقاة النورة للماء فإن كلاً منهما فاقد للحرارة في نفسه ولكن إذا لاقى أحدهما الآخر تحدث منهما الحرارة، ويسمّى ذلك بالتغيّر بالتأثير من دون انتشار النجس في الماء ، والكلام في أن التغيّر بالتأثير هل هو كالتغيّر بالانتشار ؟

   تبتني هذه المسألة على دعوى انصراف الأخبار إلى التغيّر بالانتشار كما ذكره صاحب الجواهر (قدس سره) وادعى عدم شمول الأخبار للتغيّر بالتأثير (1) .

   ويدفعها : أ نّه لا منشأ لهذا الانصراف لاطلاق الأخبار ولا سيما صحيحة ابن بزيع لأن قوله (عليه السلام) فيها «إلاّ أن يتغيّر» يعم التغيّر بالانتشار والتغيّر بالتأثير .

   وأمّا ما في ذيلها من قوله (عليه السلام) «حتى يذهب ...» فهو إنّما يقتضي أن يكون الاعتبار بالتغيّر بأوصاف نفس النجس كما قدمناه ، ولا دلالة له على اعتبار خصوص التغيّر بالانتشار حيث إن قوله (عليه السلام) «حتى يذهب ...» بلحاظ أن الغالب في الآبار هو التغيّر بالانتشار لوقوع الميتة فيها أو غيرها من النجاسات ويعبّر عمّا تغيّر بالميتة بما فيه النتن والرائحة ، وأمّا غير الآبار فالتغيّر فيه لا يختص بالانتشار ، وحيث لا دليل على التقييد فمقتضى إطلاقات الأخبار أن التغيّر بالتأثير كالتغير بالانتشار ، بل مقتضى رواية العلاء بن الفضيل : «لا بأس إذا غلب لون الماء لون البول» (2) أن المناط في عدم انفعال الماء غلبته على النجس ، كما أن الميزان في الانفعال عدم غلبة الماء على النجس ، سواء أ كانا متساويين أم كان النجس غالباً على الماء ، بلا فرق في ذلك بين حدوث التغيّر بالانتشار وحدوثه بالتأثير ، والرواية وإن كانت ضعيفة السند بمحمد ابن سنان وغير صالحة للاعتماد عليها إلاّ أ نّها مؤيدة للمطلقات . نعم ، التغيّر بالتأثير

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الجواهر 1 : 77 .

(2) الوسائل 1 : 139 / أبواب الماء المطلق ب 3 ح 7 .

ــ[74]ــ

   [ 84 ] مسألة 12 : لا فرق بين زوال الوصف الأصلي للماء أو العرضي ، فلو كان الماء أحمر أو أسود لعارض فوقع فيه البول حتى صار أبيض تنجس ، وكذا إذا زال طعمه العرضي أو ريحه العرضي (1) .

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

في النجاسات من حيث الطعم والرائحة لعلّه مما لم يشاهد إلى الآن ، فالغالب منه هو التغيّر باللون وهو أمر كثير التحقق والوقوع ، وعلى الجملة لا بدّ لمدعي الانصراف أن يقيم الدليل على مدعاه ولا دليل عليه بل الدليل على خلافه موجود ، كما في الإطلاقات المؤيدة برواية العلاء المتقدمة .

    كفاية زوال الوصف العارضي

   (1) هذه المسألة تبتني على دعوى انصراف الأدلّة إلى صورة حدوث التغيّر في أوصاف الماء بما هو ماء ، وهذه الدعوى فاسدة لا يعتنى بها لمكان إطلاقات الأخبار حيث إنّها تقتضي نجاسة الماء المتغيّر في شيء من أوصافه الثلاثة بملاقاة النجس بلا  فرق في ذلك بين كون الأوصاف المذكورة أصلية ، وكونها عرضية ، ففي صحيحة ابن بزيع : «ماء البئر واسع لا يفسده شيء إلاّ أن يتغيّر ريحه أو طعمه ...» وهي تقتضي نجاسة البئر بتغيّر شيء من ريحه أو طعمه ، وإطلاقها يشمل جميع الآبار مع ما هي عليه من الاختلاف باختلاف الأماكن بالبداهة ، فربّ بئر يشرب من مائها وهو حلو صاف بل يتعيش به في بعض البلاد ، وبئر لا يستفاد من مائها في الشرب لأ نّه مالح أو أميل إلى المرارة ، لمروره على أرض مالحة أو ذات زاج وكبريت ، وماء بعضها مرّ كما في بعض البلاد ، ومن البيّن أن هذه الأوصاف خارجة عن ذات المياه وعارضة عليها باعتبار أراضي الآبار ، إلاّ أن مقتضى إطلاق الصحيحة أن تغيّر شيء من الأوصاف المذكورة يوجب انفعال البئر إذ يصدق أن يقال : إنّها بئر تغيّر ريحها أو طعمها فتنجس .

   ثم لا يخفى أن هذه المسألة والمسألة المتقدمة غير مرتبطتين ولا تبتنيان على مبنى واحد كما عرفت ، وأن كلاً منهما تبتني على دعوى غير ما تبتني عليه الاُخرى كما أن

ــ[75]ــ

   [ 85 ] مسألة 13 : لو تغيّر طرف من الحوض مثلاً تنجس ، فإن كان الباقي أقل من الكرّ تنجس الجميع ، وإن كان بقدر الكرّ بقي على الطهارة وإذا زال تغيّر ذلك البعض طهر الجميع ولو لم يحصل الامتزاج على الأقوى (1) .

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الكلام في المسألة السابقة كان راجعاً إلى ما هو المنجس للماء ، وأ نّه هو الذي ينتشر في الماء أو أعم منه ومن المؤثر من غير انتشار ؟ والبحث في هذه المسألة بحث عن الماء وأ نّه إذا زال عنه وصفه العرضي هل يحكم عليه بالنجاسة كما هو الحال فيما إذا زال عنه وصفه الذاتي ؟ فالمسألتان من واديين فلا تغفل .

    تغيّر بعض الماء

   (1) فهل يحكم بطهارته لأجل اتصاله بالكر وهو عاصم ولا يشترط فيه الامتزاج أو لا يحكم بطهارته حتى يمتزج مع الكر المتصل به لعدم كفاية مجرد الاتصال في طهارة ما زال عنه تغيره ؟

   ربّما يستدل على طهارته من دون مزج بأن الماء الواحد لا يحكم عليه بحكمين متضادين بالإجماع ، فإمّا أن يقال بنجاسة الجميع أو يقال بطهارته ، لا سبيل إلى الأوّل لمكان الأدلّة الدالّة على اعتصام الكر غير المتغيّر بشيء لأن الباقي على الفرض كر لم يتغيّر في أحد أوصافه ، فيتعيّن الثاني أعني القول بطهارة الجميع وهو المطلوب .

   وفيه : أن هذه الدعوى ـ  الماء الواحد لا يحكم عليه بحكمين  ـ لم تثبت بدليل وعهدتها على مدّعيها ، ولا يقين لنا بصدورها من المعصوم (عليه السلام) فأي مانع من الالتزام بنجاسة الجانب المتغيّر من الماء وطهارة الباقي ، فالقول بطهارة الجميع كالقول بنجاسة الجميع يحتاج إلى إقامة الدليل عليه .

   ويمكن أن يستدل على طهارة الجميع بالأخبار الواردة في ماء الحمّام لدلالتها على طهارة ماء الأحواض الصغيرة بمجرد اتصاله بمادته ، وإطلاقاتها تشمل الدفع والرفع والحدوث والبقاء ولتوضيح ذلك نقول :

   الروايات الواردة في ماء الحمّام على طائفتين :

ــ[76]ــ

   إحداهما : ما دلّ على أن سبيله سبيل الجاري (1) وهذه الطائفة خارجة عن محل الكلام .

   وثانيتهما : ما دلّ على اعتصام ماء الحمّام لاتصاله بالمادّة ، وهي موثقة حنان قال : «سمعت رجلاً يقول لأبي عبدالله (عليه السلام) : إنّي أدخل الحمّام في السحر وفيه الجنب وغير ذلك فأقوم فأغتسل، فينتضح عليّ بعد ما أفرغ من مائهم ؟ قال : أليس هو جار ؟ قلت : بلى، قال : لا بأس»(2). حيث نفت البأس في صورة جريانه واتصاله بمادته فإن جريانه إنّما هو باعتبار اتصاله بالمادّة بانبوب ونحوه ، وهي لأجل ترك الاستفصال مطلقة فتعم الدفع والرفع بمعنى أ نّه إذا اتصل بالمادّة يطهر سواء أ كان الماء متنجساً قبله أم لم يكن وسواء وردت عليه النجاسة بعد اتصاله أم لم ترد ، فهو محكوم بالطهارة على كل حال ، وهي كما ترى تقتضي عدم اعتبار الامتزاج ، فإنّ المادّة بمجرّد اتصالها بماء الحياض لا تمتزج به بل يتوقّف على مرور زمان لا محالة . وبالجملة أ نّها تدل على كفاية الاتصال .

   وبتلك الطائفة الثانية نتعدى إلى أمثال المقام ونحكم بطهارة الماء بأجمعه عند زوال التغيّر عن الجانب المتغيّر :

   إمّا للقطع بعدم الفرق بين ماء الحمّام وغيره في أن مجرد الاتصال بالعاصم يكفي في طهارة الجميع ، إذ لا خصوصية لكون المادّة أعلى سطحاً من الحياض .

   وإمّا من جهة تنصيص الأخبار بعلّة الحكم بقولها : لأن لها مادّة ، والعلّة متحقِّقة في المقام أيضاً ، إذ المفروض أن للجانب المتغيّر جانباً آخر كرّاً وهو بمنزلة المادّة له .

   وإمّا من جهة دلالة الأخبار المذكورة على أن عدم انفعال ماء الحياض مستند إلى اتصالها بالمادّة المعتصمة فهي لا تنفعل بطريق أولى ، وبما أن الجانب الآخر كر معتصم في مفروض الكلام ، فالاتصال به أيضاً يوجب الطهارة لا محالة . وهذا الاستدلال هو

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) كما في صحيحة داود بن سرحان : قال «قلت لأبي عبدالله (عليه السلام) : ما تقول في ماء الحمّام ؟ قال : هو بمنزلة الماء الجاري» وورد في رواية ابن أبي يعفور «إنّ ماء الحمّام كماء النهر يطهر بعضه بعضاً» المرويّتين في الوسائل 1 : 148 / أبواب الماء المطلق ب 7 ح 1 ، 7 .

(2) الوسائل 1 : 213 / أبواب الماء المضاف ب 9 ح 8 .

ــ[77]ــ

الذي ينبغي أن يعتمد عليه دون الاجماع المدعى للعلم بمدرك المجمعين ، ولا الروايات النبويات لعدم ورودها من طرقنا بل ولم توجد من طرقهم أيضاً .

   ومن جملة ما يمكن أن يستدل به في المقام : صحيحة محمد بن إسماعيل بن بزيع «ماء البئر واسع لا يفسده شيء إلاّ أن يتغيّر ريحه أو طعمه فينزح حتى يذهب الريح ويطيب طعمه ، لأن له مادّة»(1) والمراد بأن ماء البئر واسع ... أ نّه ليس بمضيّق كالقليل حتى ينفعل بالملاقاة فيكون مرادفاً لعدم فساده في قوله (عليه السلام) لا يفسده شيء ... وكيف كان فقد دلت على طهارة ماء البئر إذا زال عنه تغيّره لأجل اتصاله بالمادّة ، وبتعليلها يتعدى عن البئر إلى غيرها من الموارد .

   وعن شيخنا البهائي (قدس سره) (2) أن الرواية مجملة ، إذ لم يظهر أن قوله (عليه السلام) «لأن له مادّة» علّة لأي شيء فإن المتقدم عليه اُمور ثلاثة : ماء البئر واسع لا يفسده شيء ، فينزح حتى يذهب ، ومجموع الجملتين .

   فإن أرجعنا العلّة إلى صدرها فمعناه : أن ماء البئر واسع لا يفسده شيء لأن له مادّة ، فتدل على أن ما له مادّة لا ينفعل بشيء ، وأمّا أ نّه إذا تنجس ترتفع نجاسته بأي شيء فلا تعرض له في الرواية ، فتختص بالدفع ولا تشمل الرفع .

   وإذا أرجعناها إلى ذيلها فيكون حاصل معناه : أن البئر ليست كالحياض بحيث إذا نزح منها شيء بقي غير المنزوح منها على ما كان عليه من الأوصاف ، بل البئر لاتصالها بالمادّة إذا نزح منها مقدار تقل رائحة مائها ويتبدل طعمه لامتزاجه بالماء النابع من المادّة ، فالعلّة تعليل لزوال الرائحة والطعم بالنزح ، وعليه فهي أجنبية عن الحكم الشرعي ، وإنّما وردت لبيان أمر عادي يعرفه كل من ابتلى بالبئر غالباً ، وهو تقليل رائحة المتغيّر وطعمه في الآبار بالنزح .

   ويحتمل أن يرجع التعليل إلى طهارة ماء البئر ومطهّريتها بعد زوال تغيّرها بالنزح ، إذ لو لا ذلك لما كان للأمر بنزح البئر وجه ، فإن زوال تغيّرها إن لم يكن

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 1 : 172 / أبواب الماء المطلق ب 14 ح 6 .

(2) حبل المتين : 117 .

ــ[78]ــ

مجدياً في رفع نجاستها فلا غرض لنا في نزح مائها ، وأي مانع من بقائها على تغيّرها وحيث أمروا (عليهم السلام) بنزحها فمنه نستكشف أن الغرض إذهاب رائحة مائها وطعمه حتى يطهر لأجل اتصاله بالمادّة ، وعلى هذا تعم الرواية لكل من الدفع والرفع وتكون مبينة لعلّة ارتفاع النجاسة عنها بعد انفعالها وهي اتصالها بالمادّة المعتصمة التي لا تنفعل بملاقاة النجس .

   ويحتمل أن تكون العلّة راجعة إلى أمر رابع ، وهو مجموع الصدر والذيل بالمعنى المتقدم ومعناه : أن ماء البئر واسع لا يفسده شيء وترتفع نجاسته بالنزح ، وكلاهما من أجل اتصاله بالمادّة . وهذه جملة الاحتمالات التي نحتملها في الرواية بدواً ، وبها تتصف بالاجمال لا محالة .

   والصحيح منها : ما ذكرناه من أن الرواية تدل على كفاية مجرد الاتصال بالمادّة في طهارة الماء بعد زوال تغيّره بيان ذلك : أن إرجاع التعليل إلى صدر الرواية خلاف الظاهر ـ  وإن كان لا بأس به على تقدير اتصاله بالصدر  ـ لما ذكرناه في تعقب الاستثناء جملاً متعدّدة ، من أن رجوعه إلى خصوص الجملة الاُولى خلاف الظاهر حيث لا خصوصية للاستثناء في ذلك وحال سائر القيود المتعقبة للجمل هو حال الاستثناء بعينه ، فإذا ورد صم وسافر يوم الخميس ، فرجوع يوم الخميس إلى الجملة المتقدِّمة خاصّة خلاف الظاهر على ما  فصّلناه في محلّه (1) . كما ان رجوع التعليل إلى ذيل الصحيحة بالمعنى المتقدم حتى يكون تعليلاً لأمر عادي يعرفه كل أحد مستبعد عن منصب الإمام (عليه السلام) جداً ، فإن ما هذا شأنه غير جدير بالتعليل ، حيث إنّ وظيفة الإمام (عليه السلام) إنّما هي بيان الأحكام ، وأمّا بيان علاج المتغيّر وإزالة خاصيتها فهو غير مناسب لمقام الإمامة ، ولا تناسبه وظيفته .

   فيدور الأمر بين احتمال رجوعها إلى الذيل بالمعنى الثاني الشامل لكل من الدّفع والرّفع ، واحتمال رجوعها إلى مجموع الصدر والذيل ، وعلى كل تدل الرواية على كفاية الاتصال بالمادّة في طهارة المتغيّر بعد زوال تغيّره ، وذلك لأن الإمام (عليه السلام)

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) محاضرات في اُصول الفقه 5 : 304 .

ــ[79]ــ

   [ 86 ] مسألة 14 : إذا وقع النجس في الماء فلم يتغيّر ، ثم تغيّر بعد مدّة فإن علم استناده إلى ذلك النجس تنجس ، وإلاّ فلا (1) .

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 بصدد بيان طهارة ماء البئر بعد زوال تغيره لأجل اتصاله بالمادّة فإن ماء البئر إذا نزح منه شيء وإن امتزح بما نبع من المادّة لا محالة إلاّ أ نّه (عليه السلام) لم يعلل طهارته بامتزاجهما بل عللها بأن له مادّة بمعنى أ نّها متصلة بها ، ونستفيد من ذلك أن مجرّد الاتصال بالعاصم يكفي في طهارة أي ماء من دون أن يعتبر فيها الامتزاج وإن كان هو يحصل بنفسه في البئر لا محالة . والنزح حتى يذهب .. مقدمة لزوال تغيّره واتصاله بالمادّة ، ومن هنا لو زال عنه تغيّره بنفسه أو بعلاج آخر غير النزح نلتزم بطهارته أيضاً لاتصاله بالمادّة ، وهو ماء لا تغيّر فيه وعليه فيتعدى من البئر إلى كل ماء متغيّر زال عنه التغيّر وهو متصل بالمادّة .

    التغيّر بعد الملاقاة بزمان

   (1) ما أفاده (قدس سره) هو الصحيح ، لأن الكر لا ينفعل بملاقاة النجس إلاّ إذا تغيّر به في أحد أوصافه بالمباشرة ، فإذا لاقى نجساً وتغيّر به فلا إشكال في نجاسته وإذا لاقاه ولم يحدث فيه تغيّر بسبب النجس أصلاً فلا كلام في طهارته كما لا إشكال في نجاسته فيما إذا وقع فيه نجس ولم يتغيّر به حين وقوعه وإنّما تغيّر لأجله ، ولو كان بعد إخراجه من الماء كما قد يتّفق ذلك في بعض الأدوية فإذا اتفق نظـيره في النجاسات فلا محالة نحكم بانفعال الماء ، لاطلاق الأخبار وعدم تفصيلها بين الملاقاة المؤثرة بالفعل والملاقاة المؤثرة بعد مدة ، هذا كلّه فيما إذا علمنا استناد التغيّر المتأخر إلى النجس .

   وأمّا إذا لم ندر أنّ التغيّر المحسوس مستند إلى وقوع النجس أو أ نّه من جهة وقوع جيفة طاهرة في الماء مثلاً ، فالحكم فيه هو الطهارة لأجل الاستصحاب الموضوعي أعني استصحاب عدم تغيّره المستند إلى النجس ، ومعه لاتصل النوبة إلى الاستصحاب الحكمي . والموضوع في الأصل الموضوعي ليس هو التغيّر ليقال إن عدم استناد التغيّر إلى ملاقاة النجس ليس له حالة سابقة إذ الماء بعد تغيّره لم يمر عليه زمان لم يستند

ــ[80]ــ

   [ 87 ] مسألة 15 : إذا وقعت الميتة خارج الماء ووقع جزء منها في الماء وتغيّر بسبب المجموع من الداخل والخارج تنجس، بخلاف ما إذا كان تمامها خارج الماء(1).

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 تغيّره فيه إلى ملاقاة النجس حتى يستصحب بقاؤه على ما كان عليه ، وذلك لأن الموضوع للأحكام إنّما هو نفس الماء لأ نّه الذي إذا تغيّر بالنجاسة ينجس فالاستصحاب يجري في الماء على نحو الاستصحاب النعتي فيقال : إن الماء قد كان ولم يكن متغيراً بالنجس والآن كما كان .

   هذا على أ نّا أثبتنا في محلّه جريان الاستصحاب في الأعدام الأزلية فلنا أن نستصحب عدم استناد التغيّر إلى ملاقاة النجس على نحو استصحاب العدم الأزلي بناء على أن الموضوع في الاستصحاب هو التغيّر دون الماء ، فإنّ التغيّر وإن كان وجدانيّاً لا محالة ، إلاّ أن استناده إلى ملاقاة النجاسة مشكوك فيه ، والأصل أ نّه لم يستند إلى ملاقاة الماء للنجس .

   ولا يعارضه استصحاب عدم استناد التغيّر إلى غير ملاقاة النجس إذ لا أثر له شرعاً ، والموضوع للأثر هو التغيّر المستند إلى ملاقاة النجس فإنّه موضوع للحكم بالنجاسة كما أن عدم التغيّر بملاقاة النجس موضوع للحكم بالطهارة ، وأمّا التغيّر بسبب آخر غير ملاقاة النجس فلا أثر يترتب عليه شرعاً .

   وعلى الجملة الماء محكوم بالطهارة بمقتضى الاستصحاب النعتي أو المحمولي ، وإنّما تنتهي النوبة إلى قاعدة الطهارة فيما إذا قلنا بعدم جريان الاستصحاب في الأعدام الأزلية وبنينا على أن عنوان التغيّر هو الموضوع في الاستصحاب ، فإنّه لا سبيل إلى الاستصحاب حينئذ ولا بدّ من التمسك بذيل قاعدة الطهارة .

    التغيّر بالداخل والخارج

   (1) قد قدّمنا في بعض الأبحاث المتقدمة(1) أن التغيّر إذا علم استناده إلى الجزء الخارج خاصة فلا ينبغي الاشكال في عدم تنجس الماء به ، لما تقدّم من أن التغيّر لا بدّ

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) في ص 61  .

ــ[81]ــ

   [ 88 ] مسألة 16 : إذا شكّ في التغـيّر وعدمـه أو في كونه للمجـاورة أو بالملاقاة أو كونه بالنجاسة أو بطاهر لم يحكم بالنجاسة (1) .

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 من أن يستند إلى ملاقاة النجاسة بالمباشرة لا بالمجاورة ، كما لا كلام في تنجس الماء به إذا علمنا استناده إلى الجزء الداخل فقط ، وأمّا إذا استند إلى مجموع الداخل والخارج فالظاهر أ نّه لا يوجب الانفعال لعدم استناد التغيّر إلى ملاقاة النجاسة بالمباشرة ، فإن للجزء الخارج المجاور أيضاً دخالة في التأثير ، وقد أشرنا إليه سابقاً وقلنا إن القول بالنجاسة في هذه الصورة يلزمه القول بالنجاسة فيما إذا استند التأثير إلى خصوص الجزء الخارج أيضاً ، إذ يصح أن يقال إن الماء لاقى الميتة وتغيّر وهو مما لا يمكن الالتزام به .

   الشكّ في التغيّر

   (1) كما إذا شككنا في أصل حدوث الحمرة أو علمنا به قطعاً ، ولم ندر أ نّه بالمجاورة أو بالملاقاة ، أو علمنا أ نّه بالملاقاة وشككنا في أ نّه مستند إلى غسل الدم الطاهر فيه أو إلى غسل الدم النجس . ففي جميع هذه الصور يحكم بطهارة الماء لعين ما قدمناه فيما إذا وقع النجس في الماء وأوجب تغيّره بعد مدة ، وشككنا في أ نّه مستند إلى ملاقاة النجاسة أو إلى شيء آخر ، وحاصله : أن الاستصحاب يقتضي البناء على عدم حصول التغيّر في الماء إذا شكّ في أصل حدوثه ، وكذلك إذا شكّ في حصول التغيّر بملاقاة النجس ، وهو أصل موضوعي لا مجال معه للاستصحاب الحكمي ، هذا بناء على أن الموضوع في الاستصحاب هو الماء .

   وأمّا بناء على أن الموضوع هو التغيّر ، وعلم بوجود أصل التغيّر ، فمقتضى الاستصحاب الجاري في العدم الأزلي عدم حصول انتساب التغيّر إلى ملاقاة النجاسة ، ومقتضاه عدم نجاسة الماء . وعلى تقدير المنع من جريان الأصل في الأعدام الأزلية تنتهي النوبة إلى قاعدة الطهارة في الماء . هذه خلاصة ما قدّمناه سابقاً وعليك بتطبيقه على محل الكلام .

ــ[82]ــ

   [ 89 ] مسألة 17 : إذا وقع في الماء دم وشيء طاهر أحمر فاحمرّ بالمجموع ، لم يحكم بنجاسته (1) .

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

    استناد التغيّر إلى الطاهر والنجس

   (1) ما أفاده في المتن هو الصحيح والوجه فيه : أن الطاهر والنجس الواقعين في الماء تارة يكون كل واحد منهما قابلاً لأن يؤثر بمجرده في الماء ، ويحدث فيه التغيّر في شيء من أوصافه الثلاثة ولو ببعض مراتبها النازلة كإحداث الصفرة فيه . واُخرى لا يكون كل واحد منهما قابلاً لاحداث التغيّر في الماء بل يستند تغيره إلى مجموعهما .

   أمّا الأوّل : فكما إذا صببنا مقداراً من الدم الطاهر ومقداراً من الدم النجس على ماء واحمرّ الماء بذلك ، وكان كل واحد من الدمين قابلاً لأن يؤثر في لون الماء بوحدته ولو ببعض مراتبه ، إلاّ انّهما اجتمعا في مورد من باب الاتفاق وأ ثّرا في احمرار الماء معاً فاستندت الحمرة إلى كليهما ، ولا إشكال في نجاسة الماء في هذه الصورة قطعاً ، لأن المفروض أن كل واحد منهما قد أ ثّر في تغيّر الماء بالدم فالحمرة مستندة إلى كل واحد منهما عرفاً ، كما أن النور قد يستند إلى كلا السراجين عرفاً إذا أسرجناهما في مكان واحد ، فالتغيّر الحسي مستند إلى كل من الطاهر والنجس فيتنجس به الماء . والظاهر أن هذه الصورة خارجة عن محط نظر الماتن (قدس سره) .

   وأمّا الثاني : فكما إذا اُلقي على الماء شيئان أحدهما طاهر والآخر نجس ، واستند تغيّر الماء إلى مجموعهما من دون أن يكون كل منهما مؤثراً فيه بالاستقلال ولو ببعض المراتب النازلة ، ففي هذه الصورة لا يحكم بنجاسة الماء لعدم استناد التغيّر إلى خصوص ملاقاة النجس بل إليها وإلى غيرها، وهو لا يكفي في الحكم بالانفعال، ولعلّ هذه الصورة هي مراد السيد (طاب ثراه) أو أن نظره إلى الصورة المتقدمة ، إلاّ أ نّه حكم فيها بعدم النجاسة من أجل التدقيق الفلسفي لاستحالة استناد البسيط إلى شيئين ، وهذا يجعل تأثير كل واحد من الطاهر والنجس تقديرياً لاستحالة تأثيرهما فعلاً والله العالم بحقائق الاُمور .

ــ[83]ــ

   [ 90 ] مسألة 18 : الماء المتغيّر إذا زال تغيّره بنفسه من غير اتصاله بالكرّ أو الجاري لم يطهر . نعم ، الجاري والنابع إذا زال تغيّره بنفسه طهر لاتصاله بالمادّة ، وكذا البعض من الحوض إذا كان الباقي بمقدار الكرّ كما مرّ (1) .

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

    زوال تغيّر الماء بنفسه

   (1) أي من غير إلقاء كر عليه أو من غير اتصاله بالجاري ونحوهما . والكلام فيه في مقامين :

   أحدهما : فيما إذا كان الماء قليلاً .

   وثانيهما : فيما إذا كان معتصماً .

   أمّا المقام الأوّل : فالكلام فيه تارة من حيث الأدلّة الاجتهادية ، واُخرى من حيث الاُصول العملية . أمّا من حيث الدليل الاجتهادي فقد ادعي الاجماع على أن الماء المتغيّر القليل إذا زال عنه تغيّره بنفسه يبقى على نجاسته . وهذا الاجماع المدعى إن تمّ فهو ، وعلى تقدير أن لا يتم الاجماع التعبدي فيتمسك في الحكم بالنجاسة بالاطلاقات على ما ستعرف ، ومع الغض عنها فتنتهي النوبة إلى الاُصول العملية ويأتي تفصيلها في البحث عن المتغيّر الكثير إن شاء الله .

   وأمّا المقام الثاني : فالكلام فيه أيضاً تارة من ناحية الأصل العملي ، واُخرى من جهة الدليل الاجتهادي . أمّا من ناحية الاُصول العملية فقد استدلّ على نجاسة الماء المذكور بعد زوال تغيّره بالاستصحاب للعلم بنجاسته حال تغيّره ، فإذا شككنا في بقائها وارتفاعها بزوال تغيّره بنفسه فمقتضى الاستصحاب بقاؤها . وجريان الاستصحاب في المقام يبتني على القول بجريانه في الأحكام الكلية الإلهية وعدم تعارضه باستصحاب عدم الجعل في أزيد من المقدار المتيقن ، وأمّا بناء على ما سلكناه من المنع عن جريان الاستصحاب في الأحكام فالاستصحاب ساقط لا محالة ونأخذ بالمقدار المتيقن من الحكم بالنجاسة ، وهو زمان بقاء التغيّر بحاله ، ونرجع فيما زاد عليه إلى قاعدة الطهارة في كل من الكر والقليل .

ــ[84]ــ

   وأمّا من جهة الأدلّة الاجتهادية فقد استدلّ على طهارة المتغيّر الكثير بعد زوال تغيّره من قبل نفسه بوجوه :

   منها : ما ورد من أن الماء إذا بلغ كراً لم يحمل خبثاً (1) . فإنّه بعمومه يشمل الدفع والرفع كليهما فكما أ نّه لا يحمل الخبث ويدفعه كذلك يرفعه إذا كان عليه خبث ، وإنّما خرجنا عن عمومه في زمان التغير خاصة للأدلّة الدالّة على نجاسة الماء المتغيّر ، فإذا زال عنه تغيّره فلا بدّ من الحكم بطهارته لأن المرجع في غير زمان التخصيص إلى عموم العام دون الاستصحاب، إذ العموم والاطلاق يمنعان عن الاستصحاب بالبداهة كما بيّنّاه في بحث الاُصول وفي بحث الخيارات من كتاب المكاسب (2) .

   والجواب عن ذلك بوجهين : فتارة بضعف سند الرواية ، واُخرى بضعف دلالتها لأن ظاهر قوله (عليه السلام) «لم يحمل» أ نّه يدفع الخبث ولا يتحمّله إذا اُلقي عليه لا  أ نّه يرفعه بعد تحميل الخبث عليه بوجه . ثم لو تنزلنا فلا أقل من إجمال الرواية لتساوى احتمالي شمولها للرفع وعدمه .

   كذا قيل ولكنه قابل للمناقشة لأن «لم يحمل» بمعنى لا يتّصف وهو أعم من الرفع والدفع كما سيظهر وجهه عند التعرض لحكم الماء القليل المتنجس المتمم كراً إن شاء الله (3) .

   ومنها : أن الحكم بالنجاسة إنّما اُنيط على عنوان المتغيّر شرعاً بحسب الحدوث

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) المستدرك 1 : 198 / أبواب الماء المطلق ب 9 ح 6 عن عوالي اللئالي عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ونسبه المحقق (قدس سره) في المعتبر [ 1 : 52 ـ 53 ] إلى السيد والشيخ وقال : إنّا لم نروه مسنداً والذي رواه مرسلاً المرتضى والشيخ أبو جعفر وآحاد ممّن جاء بعده ، والخبر المرسل لا يعمل به . وكتب الحديث عن الأئمة (عليهم السلام) خالية منه أصلاً . وفي سنن البيهقي ص 260 المجلد 1 إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث «لم يحمل خبثاً» وكذا في سنن أبي داود كما قدّمنا في محلّه فراجع ص 204 .

(2) مصباح الفقاهة 6 : 327 .

(3) في ص 204 .

ــ[85]ــ

والبقاء كما في غيرها من الأحكام وموضوعاتها ، مثلاً حرمة شرب الخمر اُنيطت على عنوان الخمر حدوثاً وبقاءً ، فكما أن الحرمة تدور مدار وجود موضوعها وترتفع بارتفاعه ، فلتكن النجاسة أيضاً مرتفعة عند ارتفاع موضوعها وهو التغيّر .

   وهذا الاستدلال مجرد دعوى لا برهان لها ، لأن الدليل إنّما دلّ على أن الماء إذا تغيّر يحكم عليه بالنجاسة ، وأمّا أن التغيّر إذا ارتفع ترتفع نجاسته فهو مما لم يقم عليه دليل ولا يستفاد من شيء من الأخبار ، فهي ساكتة عن حكم صورة ارتفاع التغيّر عن الماء ، بل يمكن أن يقال إن مقتضى إطلاقاتها نجاسة الماء المتغيّر مطلقاً زال عنه تغيّره أم لم يزل .

   ومنها : صحيحة ابن بزيع لقوله (عليه السلام) فيها : «حتى يذهب الريح ويطيب طعمه» حيث إنّه (عليه السلام) بيّن أن العلّة في طهارة ماء البئر هي زوال التغيّر عن طعمه ورائحته فيستفاد منها أن كل متغيّر يطهر بزوال تغيّره .

   وهذا الاستدلال يبتني على أمرين : أحدهما : أن تكون «حتى» تعليلية لا غائية فكأ نّه (عليه السلام) قال ينزح ماء البئر ويطهر بذلك لعلّة زوال ريحه وطعمه . وثانيهما : أن يتعدى من موردها وهو ماء البئر إلى جميع المياه وإن لم يكن لها مادّة وهذان الأمران فاسدان .

    أمّا الأمر الأوّل : فلأن المنع فيه ظاهر ، لأن ظاهر «حتى» في الرواية أ نّه غاية للنزح بمعنى أ نّه ينزح إلى مقدار تذهب به رائحته ويطيب طعمه ، كما هو ظاهر غيرها من الأخبار . نعم احتمل شيخنا البهائي (قدس سره) كونها تعليلية كما تقدّم نقله (1)وربّما يستعمل بهذا المعنى أيضاً في بعض الموارد فيقال : أسلم حتى تسلم إلاّ أن حملها على التعليلية في المقـام خلاف الظاهر من جهة سائر الأخبار ، وظهور نفس كلمة «حتى» في إرادة الغاية دون التعليل .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) في ص 77 .

ــ[86]ــ

   وأمّا الأمر الثاني : فلأ نّا لو سلّمنا أن كلمة «حتى» تعليلية فلا يمكننا التعدِّي عمّا له مادّة وهو البئر إلى غيره مما لا مادّة له ، فإن التعليل ربّما يكون بأمر عام كما ورد (1) في الخمر من أنّ الله لم يحرّم الخمر لاسمه بل لخاصيته التي هي الاسكار ، وفي مثله لا مانع من التعدِّي إلى كل مورد وجد فيه ذلك الأمر لأ نّه العلّة للحكم فيدور مداره لا محالة . واُخرى يكون التعليل بأمر خاص فلا مجال للتعدي في مثله أصلاً كما هو الحال في المقام فإنّه (عليه السلام) علل حكمه هذا بذهاب الريح وطيب طعمه ، والمراد بالريح هو ريح ماء البئر خاصة لقوله قبل ذلك : «إلاّ أن يتغيّر ريحه ....» فإن الضمير فيه كالضمير في قوله : ويطيب طعمه يرجعان إلى ماء البئر لا إلى مطلق الماء ، ومع اختصاص التعليل لا وجه للتعدي عن مورده ، بل مقتضى إطلاق قوله (عليه السلام) «لا يفسده شيء إلاّ أن يتغيّر ...» أن تغيّر ريح الماء أو طعمه يوجب التنجيس مطلقاً سواء أزال عنه بعد ذلك أم لم يزل ، نظير إطلاق ما دلّ على نجاسة ملاقي النجس ، فإنّه يقتضي نجاسة الملاقي مطلقاً سواء أشرق عليه الشمس مثلاً أم لم تشرق وسواء أ كانت الملاقاة باقية أم لم تكن ، وكذا إطلاق ما دلّ على عدم جواز التوضؤ بما تغيّر ريحه أو طعمه (2) ، فإنّه باطلاقه يشمل ما إذا زال عنه التغير أيضاً ومن هنا لا نحكم بجواز التوضؤ من مثله .

   وعلى الجملة لا يمكن التعدي من الصحيحة إلى غير موردها لاختصاص تعليلها ولا أقل من احتمال التساوي والاجمال ، فلا يبقى حينئذ في البين ما يقتضي طهارة المتغيّر بعد زوال تغيّره بنفسه ، حتى يعارض التمسك بالاطلاقين المقتضيين لنجاسته فالترجيح إذن مع الأدلّة الدالّة على نجاسته .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) في صحيحة علي بن يقطين عن أبي الحسن الماضي قال : «إن الله عزّ وجلّ لم يحرم الخمر لاسمها ولكن حرمها لعاقبـتها» وفي رواية اُخرى : «حرمها لفعلها وفسـادها» ، الوسائل 25  :  342 / أبواب الأشربة المحرمة ب 19 ح 1 ، 3 .

(2) كما في صحيحة حريز ، وروايتي أبي بصير ، وأبي خالد القماط وغيرها من الأخبار المروية في الوسائل 1 : 137 / أبواب الماء المطلق ب 3 ح 1 ، 3 ، 4 .

ــ[87]ــ

 فصل

[  في الماء الجاري  ]

 

   الماء الجاري وهو: النابع السائل(1) على وجه الأرض، فوقها أو تحتها كالقنوات

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

فصل في حكم الماء الجاري

    (1) قد اعتبر المشهور في موضوع الجاري أمرين : النبع والسيلان على وجه الأرض فوقها أم تحتها ، كما في بعض القنوات ، والنسبة بين العنوانين عموم من وجه لتصادقهما في الماء الجاري الفعلي الذي له مادّة ، وافتراقهما في العيون ، لأ نّها نابعة ولا سيلان فيها ، وفيما يجري من الجبال من ذوبان ما عليها من الثلوج فإنّه سائل لا نبع فيه . وعلى هذا التعريف لا يكفي مجرد النبع من غير السيلان في تحقق موضوع الجاري عندهم كما في العيون ، وإن كانت معتصمة لأجل مادتها ، فلا يترتب عليها الأحكام الخاصة المترتبة على عنوان الجاري ، ككفاية غسل الثوب المتنجس بالبول فيه مرة واحدة ، وكذا السائل من غير نبع لا يكون داخلاً في موضوع الجاري كما مر . هذا ما التزم به المشهور .

   وقد يقال بكفاية النبع ومجرد الاستعداد والاقتضاء للجريان لولا المانع كارتفاع أطرافه ونحوه ، وعدم اعتبار الجريان الفعلي في مفهوم الجاري وعليه فالعيون أيضاً داخلة في موضوع الجاري ، لأ نّها نابعة ، ومستعدة للجريان لولا ارتفاع أطرافها (1) .

   وعن ثالث كفاية مجرد السيلان الفعلي ، وإن لم يكن له نبع ولا مادّة أصلاً .

   والصحيح ما التزم به المعروف من اعتبار كلا الأمرين في موضوع الجاري أمّا اعتبار الجريان فعلاً : فلأ نّه الظاهر المتبادر من اطلاقه دون ما فيه استعداد الجريان وقابليته لولا المانع ، فالروايات المشتملة على عنوان الجاري منصرفة إلى ما يكون

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) المسالك 1 : 12 .

ــ[88]ــ

جارياً بالفعل ، فلا تشمل ما هو كذلك شأناً واقتضاءً ، ولعلّ من يرى دخول العيون في الجاري ينظر إلى اعتصامها بمادتها ، وهو حق إلاّ أن الكلام فيما هو موضوع الجاري لتترتّب عليه أحكامه الخاصة لا في الماء المعتصم .

   وأمّا اعتبار النبع فقد ذكروا أن الجاري لا يطلق إلاّ على ما يكون نابعاً عن الأرض ويكون له مادّة ، وأمّا مجرد السيلان فهو لا يكفي في إطلاق الجاري عليه ، نعم الجاري لغة أعم من أن يكون له مادّة ونبع أم لم يكن حتى أ نّه يشمل الجاري من المزملة والأنابيب ، وما يراق من الحب على وجه الأرض إلاّ انّه عرفاً يختص بما له مادّة ونبع ، وهو الذي يقابل سائر المياه . وقد ادعى الاجماع في جامع المقاصد وغيره على اعتبار النبع في الجاري وذكر ان الأصحاب لم يخالفوا فيه غير ابن أبي عقيل حيث اكتفى بمجرد السيلان والجريان وإن لم يكن له مادّة ونبع (1) .

   والتحقيق في المقام أن يقال : إن أراد ابن أبي عقيل بهذا الكلام كفاية مطلق الجريان في صدق الجاري وإن لم يكن لجريانه استمرار ودوام ، كجريان الماء على وجه الأرض باراقة الكوز والابريق ونحوهما ، فالانصاف أ نّه مخالف لمفهوم الماء الجاري عرفاً ، وإن أراد أن الماء إذا كان له جريان على وجه الدوام فهو يكفي في صدق عنوان الجاري عليه وإن لم يكن له مادّة ونبع ، فالظاهر أن ما أفاده هو الحق الصريح ولا مناص من الالتزام به . والوجه في ذلك : أن توصيف ماء بالجريان مع أ نّه لا ماء في العالم إلاّ وهو جار فعلاً أو كان جارياً سابقاً ، لا معنى له إلاّ أن يكون الجريان ملازماً له دائماً ليصح بذلك توصيفه بالجاري وجعله قسماً مستقلاً مع أن الجريان ربّما يتحقق في غيره أيضاً وهو كتوصيف زيد بكثرة الأكل أو السفر لأ نّه إنّما يصح فيما إذا كان زيد كذلك غالباً أو دائماً لا فيما إذا اتصف به في مورد ، وكذا الحال في توصيفه بغيرهما من العناوين . وعليه فلا يصح توصيف الماء بالجريان إلاّ فيما كان الجريان وصفاً لازماً له ولا يفرق في هذا بين أن يكون له مادّة ونبع كما في القنوات وأن لا يكون له شيء منهما كما في الأنهار المنهدرة عن الجبال المستندة إلى ذوبان ثلوجها شيئاً فشيئاً باشراق

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) جامع المقاصد 1 : 110 .

ــ[89]ــ

لا ينجس بملاقاة النجس ما لم يتغيّر ، سواء كان كرّاً أو أقل (1)

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 الشمس وحرارة الهواء ، فهو جار مستمر من دون أن يكون له مادّة ولا نبع . ومنع صدق الجاري على مثله مخالف للبداهة والوجدان كما في شطي الدجلة والفرات حيث لا مادّة لهما على ما ذكره أهله وإنّما ينشآن من ذوبان ثلوج الجبال ، ونظائرهما كثيرة غير نادرة ، نعم ، الجريان ساعة أو يوماً لا يصحح صدق عنوان الجاري على الماء فالنبع والمادّة بالمعنى المصطلح عليه غير معتبرين في مفهوم الجاري بوجه ، نعم يعتبر فيه النبع بمعنى الدوام والاستمرار ، هذا كلّه في موضوع الجاري .

   بقي الكلام في اعتبار أمر آخر في موضوعه وهو أن الجريان هل يلزم أن يكون بالدفع والفوران أو أ نّه إذا كان على نحو الرشح أيضاً يكفي في صدق موضوعه ؟ ويأتي الكلام على ذلك بعد بيان أحكام الجاري إن شاء الله .

   (1) قد ذكروا أن الجاري لا ينفعل بملاقاة النجاسة ما لم يتغيّر بأحد أوصاف النجس ، ولا فرق في ذلك بين أن يكون الجاري بمقدار كر أو أقل وذهب العلاّمة في أكثر كتبه (1) والشهيد الثاني (قدس سرهما) (2) إلى انفعاله فيما إذا كان أقل من كر .

   أمّا تنجسه فيما إذا تغيّر بأحد أوصاف النجس ، فقد تكلمنا فيه على وجه التفصيل فراجع ، وأمّا عدم انفعاله بملاقاة النجس إذا لم يتغيّر به وكان بقدر كر فالوجه فيه ظاهر ، إذ الكر لا ينفعل بالملاقاة مطلقاً ، كان جارياً أم كان واقفاً ، وإنّما الكلام في عدم انفعاله بالملاقاة عند كونه قليلاً ويقع الكلام فيه في مقامين :

   أحدهما : فيما دلّ على أن الجاري لا ينفعل بملاقاة النجس وإن كان قليلاً .

   وثانيهما : في معارضة ذلك لما دلّ على انفعال الجاري بالملاقاة فيما إذا كان قليلاً .

    أدلّة اعتصام الجاري القليل

   أمّا الكلام في المقام الأوّل : فقد استدلّ المحقق الهمداني (قدس سره) على اعتصام

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) التذكرة 1 : 17 .

(2) المسالك 1 : 12 .

ــ[90]ــ

الجاري القليل بما ورد في عدّة من الأخبار من أ نّه لا بأس ببول الرجل في الجاري لأن ظاهرها السؤال عن حكم الماء الذي يبال فيه لا عن حكم البول في الماء وقد دلت على نفي البأس عنه ، وهذا بظاهره يقتضي عدم انفعال الجاري بالبول مطلقاً وإن كان قليلاً (1) .

   ويدفعه : أن هذه الأخبار أجنبية عن الدلالة على المدعى غير رواية واحدة منها وتوضيحه أن الروايات المذكورة على طائفتين :

   إحداهما : وهي الأكثر ناظرة إلى بيان حكم البول في الجاري من حيث حرمته وكراهته ، ولا نظر لها إلى بيان حكم الجاري من حيث الانفعال وعدمه ، لأن السائل فيها إنّما سأل عن البول في الجاري ، لا عن الماء بعد البول فيه ، فمن هذه الطائفة صحيحة الفضيل عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : «لا بأس بأن يبول الرجل في الماء الجاري ...» (2) ورواية ابن مصعب قال : «سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن الرجل يبول في الماء الجاري؟ قال: لا بأس به إذا كان الماء جارياً»(3) ونظيرهما غيرهما فراجع . فانّهما ناظرتان إلى بيان حكم البول في الجاري من حيث الحرمة والكراهة ولا نظر فيهما إلى طهارة الماء ونجاسته بالبول .

   اللّهمّ إلاّ أن يقال بدلالتهما على طهارة الجاري بالالتزام ، لأن بيان انفعال الجاري بوقوع البول فيه إنّما هو وظيفة الإمام (عليه السلام) وبيانه عليه ، فلو كان الجاري ينفعل بذلك لكان على الإمام (عليه السلام) أن يبين نجاسته ، وحيث إنّه سكت عن بيانها ، فيعلم منه عدم انفعال الجاري بملاقاة النجس ، كما يدعى ذلك في الأخبار الدالّة على كفاية الغسل في الجاري مرّة (4) ويقال إن غسل النجس في الجاري لو كان سبباً

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) مصباح الفقيه (الطهارة) : 7 السطر 35 .

(2) الوسائل 1 : 143 / أبواب الماء المطلق ب 5 ح 1 .

(3) الوسائل 1 : 143 / أبواب الماء المطلق ب 5 ح 2 .

(4) منها صحيحة محمد بن مسلم قال : «سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن الثوب يصيبه البول ؟ قال : اغسله في المركن مرتين فإن غسلته في ماء جار فمرّة واحدة» ، المروية في الوسائل 3 : 397 / أبواب النجاسات ب 2 ح 1 .

ــ[91]ــ

لانفعاله لبيّنه (عليه السلام) لأ نّه من وظائف الإمام ، فمن عدم بيانه يظهر أن الجاري لا ينفعل بملاقاة النجس .

   ويدفعه : أن بيان حكم الماء من حيث نجاسته وطهارته وإن كان وظيفة الإمام (عليه السلام) إلاّ أ نّه ليس بصدد بيانهما في هذه الأخبار ، ولا في روايات كفاية الغسل مرة في الجاري ، ومع أ نّه (عليه السلام) ليس في مقام البيان كيف يسند إليه الحكم بطهارة الجاري .

   ومما يدلنا على ذلك أ نّه (عليه السلام) في تلك الأخبار قد أمر بغسل الثياب في المركن مرتين ولم يبيّن نجاسة الماء الموجود في المركن ، مع أ نّه ماء قليل ، ولا إشكال في انفعاله بالملاقاة ، فهل يصح الاستدلال على طهارة الماء الموجود في المركن بعدم بيانه (عليه السلام) نجاسة الماء .

   وثانيتهما : ما تضمّن السؤال عن حكم الماء الجاري الذي يبال فيه ، ولا بأس بدلالتها على عدم انفعال الجاري بملاقاة النجس مطلقاً ولو كان قليلاً ، وهي موثقة سماعة قال : «سألته عن الماء الجاري يبال فيه ؟ قال : لا بأس به» (1) ودلالتها على طهارة الجاري القليل ظاهرة لاطلاقها .

   ودعوى : أن الجاري القليل في غاية الندرة وقليل الوجود وهو بحكم المعدوم والأخبار ناظرة إلى الجاري كثير الدوران والوجود ، وهو الجاري الكثير فلا تشمل الجاري القليل . مدفوعة : بأ نّها إنّما تتم في بعض الأمكنة ولا تتم في جميعها وقد شاهدنا الجاري القليل في بلادنا وغيرها كثيراً ، فالروايات تشمل لكل من الجاري الكثير والقليل .

   هذا ويمكن أن يقال : لا دلالة على اعتصام الجاري في الطائفة الثانية أيضاً ، لأن السؤال في مثلها كما يمكن أن يكون عن الموضوع والمسند إليه ، كذلك يمكن أن يكون عن المحمول والمسند ، فكما يصح إرجاع «لا بأس به» إلى الماء الجاري الذي هو المسند إليه ، كذلك يمكن إرجاعه إلى البول المستفاد من جملة «يبال فيه» الذي هو

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 1 : 143 / أبواب الماء المطلق ب 5 ح 4 .

ــ[92]ــ

المسند وبذلك تصير الرواية مجملة ونظير هذا في الأخبار كثير  :

   منها : ما في صحـيحة الحلبي قال : «سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن الرجل يغتسل بغير إزار حيث لا يراه أحد ؟ قال : لا بأس» (1) . فإن قوله (عليه السلام) لا  بأس يرجع إلى الاغتسال لا إلى الرجل الذي هو المسند إليه .

   ومنها : ما ورد في صلاة النافلة : من أن الرجل يصلي النافلة قاعداً وليست به علّة في سفر أو حضر فقال : لا بأس به (2) فإنّه يرجع إلى صلاة النافلة حال الجلوس لا إلى الرجل كما هو ظاهر ، وكيف كان فيحتمل أن يكون الضمير في المقام أيضاً راجعاً إلى البول في الماء الجاري لا إلى الماء الجاري نفسه ، بل مغروسية كراهة البول في الماء في الأذهان تؤكد رجوع قوله «لا بأس به» إلى البول في الماء الجاري .

   واستدلّ على اعتصام الجاري القليل ثانياً بمرسلة الراوندي عن علي (عليه السلام) : «الماء الجاري لا ينجسه شيء» (3) ورواية الفقه الرضوي : «كل ماء جار لا ينجسه شيء» (4) وخبر دعائم الإسلام عن علي (عليه السلام) في الماء الجاري يمر بالجيف والعذرة والدم : «يتوضأ منه ويشرب منه وليس ينجسه شيء ...» (5) .

   ولا فرق بين الأوليين إلاّ في أن دلالة إحداهما بالعموم ، ودلالة الاُخرى بالاطلاق ، ولا إشكال في دلالة الروايات المذكورة على المدعى إلاّ أن مرسلة الراوندي ضعيفة بارسالها ، ورواية الدعائم أيضاً مما لا يصح الاعتماد عليه ، وهذا لا لأجل ضعف مصنفه وهو القاضي نعمان المصري فإنّه فاضل جليل القدر ، بل من جهة إرسال رواياته على ما قدمناه في بحث المكاسب مفصّلاً (6) وأمّا الفقه الرضوي فهو لم

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 2 : 43 / أبواب آداب الحمّام ب 11 ح 1 .

(2) كما في رواية سهل بن اليسع المروية في الوسائل 5 : 492 / أبواب القيام ب 4 ح 2 .

(3) نوادر الراوندي : 39 (المستدرك 1 : 191 / أبواب الماء المطلق ب 5 ح 4) .

(4) فقه الرضا : 5 (المستدرك 1 : 192 / أبواب الماء المطلق ب 5 ح 6) .

(5) دعائم الإسلام : 111 (المستدرك 1 : 191 / أبواب الماء المطلق ب 5 ح 2) .

(6) مضمون رواية الدعائم وان ورد في كتاب الجعفريات : 1 أيضاً وكنّا نعتمد على ذلك الكتاب    في سالف الزمان إلاّ أ نّا رجعنا عنه أخيراً لأن في سند الكتاب موسى بن إسماعيل ولم يتعرضوا لوثاقته في الرجال فلا يمكن الاعتماد عليه .

ــ[93]ــ

يثبت حجيته بل لم تثبت أ نّه رواية ليدعى انجبارها بعمل المشهور على ما أشرنا إليه غير مرة .

   واستدلّ على اعتصام الماء الجاري ثالثاً ـ  والمستدل هو المحقق الهمداني (1)  ـ بما ورد في تطهير الثوب المتنجس بالبول من الأمر بغسله في المركن مرتين وفي الماء الجاري مرة واحدة (2) ، وقد استدلّ بها بوجهين :

   أحدهما : أن الجاري لو كان ينفعل بملاقاة النجس لبيّنه (عليه السلام) حيث إن بيان نجاسة الأشياء وطهارتها وظيفة الإمام ، وبما أ نّه في مقام البيان ، وقد سكت عن بيانه ، فنستفيد منه عدم انفعال الجاري بالملاقاة .

   وثانيهما : أن من شرائط التطهير بالماء القليل أن يكون الماء وارداً على النجس ولا يكفي ورد النجس على الماء لأ نّه ينفعل بملاقاة النجس ومع الانفعال لا يمكن أن يطهر به المتنجس بوجه ، وهذا كما إذا وضع أحد يده المتنجسة على ماء قليل فإنّه ينجس القليل لا محالة فلا يطهر به المتنجس بوجه ، وهذا ظاهر وقد استفدنا ذلك من الأخبار الآمرة بصب الماء على المتنجس مرّة أو مرّتين (3). وهذه الرواية قد فرضت ورود النجاسة على الجاري لقوله (عليه السلام) : «إغسله في المركن مرّتين فإن غسلته في ماء جار فمرّة واحدة» . فلو لا إلحاقه (عليه السلام) الجاري مطلقاً إلى الكر الذي لا ينفعل بوقوع النجس عليه ، لم يكن وجه لحكمه (عليه السلام) بطهارة الثوب المتنجس بالبول فيما إذا غسلناه في الجاري ، بل اللاّزم أن يحكم حينئذ بانفعال الجاري القليل لوقوع النجس عليه ، فالرواية دلت بالدلالة المطابقية على عدم انفعال الجاري بملاقاة النجس تنزيلاً له منزلة الكر في الاعتصام ، سواء أوقع الجاري على النجس أم

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) مصباح الفقيه (الطهارة) : 8 السطر 11 .

(2) وهي صحيحة محمد بن مسلم المروية في الوسائل 3 : 397 / أبواب النجاسات ب 2 ح 1 .

(3) كما في رواية أبي إسحاق النحوي المروية في الوسائل 3 : 395 / أبواب النجاسات ب 1 ح 3 ، ورواية الحلبي في الوسائل 3 : 397 / أبواب النجاسات ب 3 ح 2 .

ــ[94]ــ

وقع النجس عليه .

   أمّا الجواب عن أوّل الوجهين فبما تقدّم من أن بيان طهارة الأشياء ونجاستها وإن كان وظيفة الإمام ، إلاّ أن استفادة الطهارة من عدم حكمه (عليه السلام) بالنجاسة إنّما يتم فيما إذا كان (عليه السلام) في مقام البيان من تلك الناحية ، وليس الإمام في الرواية بصدد بيان أن الجاري لا ينفعل بالملاقاة ، وإنّما هو بصدد بيان أن المتنجس بالبول لا بدّ من أن يغسل في المركن مرتين وفي الجاري مرة واحدة ، ومع عدم كونه في مقام البيان كيف يمكن أن يتمسك باطلاق كلامه .

   وأمّا الجواب عن ثاني الوجهين فهو أن ما أفاده من اعتبار ورود الماء القليل على النجس في التطهير به أوّل الكلام ، وهي مسألة خلافية لا يمكن أن يستدل بها على شيء وسيأتي منّا في محلّه(1) عدم اعتبار ذلك في غير الغسلة التي يتعقبها طهارة المحل وفي غسل الثوب المتنجس بالبول في المركن لاطلاق صحيحة محمد بن مسلم فانتظره ، هذا أوّلاً .

   وثانياً : هب أ نّا اعتبرنا ورود الماء على النجس في التطهير به ، إلاّ أ نّه لا مانع من الالتزام بتخصيص ما دلّ على اعتبار ذلك باطلاق تلك الصحيحة ، فبها نخرج عمّا يقتضيه دليل اعتبار الورود في خصوص الجاري القليل ، فإن اعتباره على تقدير القول به لم يثبت بدليل لفظي مطلق حتى تقع بينهما المعارضة ، وسيتضح ذلك في محلّه زائداً على ذلك إن شاء الله .

   ثم إنّه ليس فيما ذكرناه أيّ تناف للالتزام بنجاسة الغسالة ، ولا مانع من أن نكتفي بورود النجس على الماء في التطهير به ونلتزم بنجاسة غسالته بعد غسله فلا تغفل .

   واستدلّ على اعتصام الجاري القليل رابعاً بصحيحة داود بن سرحان قال : «قلت لأبي عبدالله (عليه السلام) ما تقول في ماء الحمّام ؟ قال: هو بمنزلة الماء الجاري»(2) وقد شبّه ماء الحمّام بالماء الجاري مطلقاً ، فيستفاد منها أن الجاري باطلاقه معتصم

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) قبل المسألة [ 308 ] .

(2) الوسائل 1 : 148 / أبواب الماء المطلق ب 7 ح 1 .

ــ[95]ــ

سواء أ كان قليلاً أم كان كثيراً .

   وقد يناقش في دلالتها بأن وجه الشبه فيها غير معلوم ، ولم يعلم أن الإمام (عليه السلام) شبّه ماء الحمّام بالجاري في أيّ شيء فالرواية مجملة .

   وهذه المناقشة لا ترجع إلى محصّل لأنّ تشبيه ماء الحمّام بالجاري موجود في غيرها من الأخبار أيضاً ، والمستفاد منها أن التشبيه إنّما هو من حيث الاعتصام ، وذلك دفعاً لما ربّما يتوهّم من أن ماء الحمّام قليل في حدِّ نفسه فينفعل بالملاقاة لا محالة ومعه كيف يتطهّر به بمجرّد اتصاله بمادته بالاُنبوب أو بغيره ، فإنّ للحمّامات المتعارفة مادّة جعلية بمقدار الكر بل بأضعافه وتتصل بما في الأحواض الصغيرة بالأنابيب أو بغيرها ، وفي مثلها قد يتوهّم الانفعال نظراً إلى أنّ المادّة الجعلية أجنبية ومنفصلة عمّا في الحياض ، ومجرّد الاتصال بالاُنبوب لا يكفي عند العرف في الاعتصام لاختلاف سطحي الماءين فتصدّى (عليه السلام) لدفع ذلك بأن ماء الحمّام كالجاري بعينه ، فكما أ نّه عاصم لاتصاله بمادته كذلك ماء الحمّام غاية الأمر أن المادّة في أحدهما أصلية وفي الآخر جعلية .

   فالصحيح في الجواب أن يقال : إن نظرهم (عليهم السلام) في تلك الروايات إلى دفع توهّم الانفعال بتنزيل ماء الحمّام منزلة الماء الجاري ، ومن الظاهر أن المياه الجارية في أراضي العرب والحجاز منحصرة بالجاري الكثير ، ولا يوجد فيها جار قليل وإن كان يوجد في أراضي العجم كثيراً ، فالتنظير والتشبيه بلحاظ أن الجاري الكثير كما أ نّه معتصم لكثرته ، ويتقوّى بعضه ببعض ـ  لا بمادته فإنّها ليست بماء كما يأتي  ـ كذلك ماء الحمّام يتقوّى بعضه ببعض ، ولو لأجل مجرّد الاتصال باُنبوب أو بغيره ، فوزان هذه الرواية وزان ما ورد من : «أنّ ماء الحمّام كماء النهر يطهّر بعضه بعضاً»(1) بمعنى أ نّه يمنع عن عروض النجاسة عليه لكثرته في نفسه لا لأجل مادته . فإذن لا نظر في الرواية إلى اعتصام الجاري بالمادّة مطلقاً قليلاً كان أم كثيراً وتشبيه

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) كما في رواية ابن أبي يعفور عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : «قلت أخبرني عن ماء الحمّام يغتسل منه الجنب ، والصبيّ ، واليهودي ، والنصراني ، والمجوسي ؟ فقال : إنّ ماء الحمّام كماء النهر يطهّر بعضه بعضاً» المروية في الوسائل 1 : 150 / أبواب الماء المطلق ب 7 ح 7 .

ــ[96]ــ

ماء الحمّام به من هذه الجهة .

   فإلى هنا لو كنّا نحن وهذه الأدلّة لحكمنا بانفعال الجاري القليل كما ذهب إليه العلاّمة واختاره الشهيد الثاني في بعض كتبه ، إلاّ أ نّا لا نسلك مسلكهما ، لا لأجل تلك الأدلّة المزيّفة ، بل لأجل ما أراحنا وأراح العالم كلّه ، وهو صحيحة محمد بن إسماعيل ابن بزيع حيث دلت على عدم انفعال ماء البئر معلّلاً بأن له مادّة ، ولو لا تلك الصحيحة لما كان مناص من الالتزام بما ذهب إليه المشهور من انفعال ماء البئر ولو كان ألف كر .

   والوجه في الاستدلال بها في المقام : أن من الظاهر الجلي أن إضافة الاعتصام إلى ماء وتعليله بأن له مادّة ، إنّما تصح فيما إذا كان قليلاً في نفسه ، فإنّه لو كان كثيراً فهو معتصم بنفسه لا محالة من غير حاجة إلى إسناد اعتصامه إلى شيء آخر وهو المادّة وبهذا دلّتنا الصحيحة على أن القليل إذا كان له مادّة فهو محكوم بالاعتصام ، فإذا فرضنا القليل متنجساً واتصل به المادّة فنحكم بطهارته وعصمته لا محالة . هذا إجمال الاستدلال بالصحيحة ، وإن شئت توضيحه فنقول إنّ الاستدلال بالصحيحة من جهتين :

   إحداهما : أن الصحيحة دلت على أن ما له مادّة ترتفع النجاسة الطارئة عليه بالتغيّر فيما إذا زال عنه تغيره ، فماء البئر يرفع النجاسة العارضة عليه ، لقوله (عليه السلام) : «فينزح حتى يذهب الريح ويطيب طعمه لأن له مادّة» بلا فرق في ذلك بين كثرته وقلته ، لاطلاقها . وإذا ثبت بالصحيحة أن ماء البئر يرفع النجاسة الطارئة عليه ، فيستفاد منها أ نّه دافع للنجاسة أيضاً بالأولوية القطعية عرفاً ، من دون فرق في ذلك بين كثرته وقلته ، لأنّ ما يصلح للرفع فهو صالح للدفع أيضاً بالأولوية القطعية وبعد هذا كلّه نتعدى من مورد الصحيحة وهو ماء البئر إلى كل ما له مادّة كالجاري والعيون لعموم تعليلها .

   وثانيتهما : أ نّا قدّمنا أن ماء البئر إذا زال عن تغيّره ، يحكم بطهارته لاتصاله بالمادّة وعليه فلا يترتّب على الحكم بنجاسة ماء البئر عند ملاقاته النجس ثمرة ، فيصبح لغواً ظاهراً، فإنّه أي أثر للحكم بنجاسة ماء البئر في آن واحد عقلي وما فائدة ذلك الحكم

ــ[97]ــ

حيث إنّه حين الحكم بنجاسته يحكم بطهارته أيضاً لاتصاله بالمادّة ، وما هذا شأنه كيف يصدر عن الحكيم . وبهذه القرينة القطعية تدلّنا الصحيحة على اعتصام ماء البئر مطلقاً كثيراً كان أم قليلاً وبعد ذلك نتعدّى منها إلى كل ما له مادّة لعموم تعليلها كما مرّ ، هذا كلّه في المقام الأول .

   وأمّا الكلام في المقام الثاني : فملخصه أن ما يحتمل أن يكون معارضاً لأدلّة اعتصام الجاري ، هو مفهوم قوله (عليه السلام) : «الماء إذا بلغ قدر كر لا ينجّسه شيء» (1) ، فإنّه دلّ بمفهومه على أن الماء إذا لم يبلغ قدر كر ينفعل بالملاقاة مطلقاً سواء أ كان جارياً أم لم يكن ، وقوله (عليه السلام) : كر (2) في جواب السؤال عن الماء الذي لا ينجسه شيء من النجاسات ، لأ نّه صريح في أنّ غير الكر من المياه ينفعل بملاقاة البول وأمثاله من النجاسات ولو كان جارياً ، ولكن لا تعارض بينهما في الحقيقة وذلك لأن الوجهين المتقدمين في تقريب الاستدلال بالصحيحة يجعلان الصحيحة كالنص فتصير قرينة وبياناً بالإضافة إلى الروايتين المذكورتين ، حيث إنّهما حصرا علّة الاعتصام في الكر ، والصحيحة دلّت على عدم انحصارها فيه وبيّنت أن هناك علّة اُخرى للاعتصام ، وهي الاستمداد من المادّة . وبهذا تتقدم الصحيحة على الروايتين ، ولا يبقى بينهما معارضة بالعموم من وجه حتى يحكم بتساقطهما والرجوع إلى عموم الفوق كالنبويّات التي بيّنّا ضعف سندها ، أو إلى قاعدة الطهارة أو يحكم بعدم تساقطهما والرجوع إلى المرجحات السندية على تفصيل في ذلك موكول إلى محلّه .

   ثم لو تنزلنا وبنينا على أ نّهما متعارضان ، بأن قطعنا النظر عن ذيل الصحيحة واقتصرنا على صدرها وهو قوله (عليه السلام) : «ماء البئر واسع لا يفسده شيء» يمكننا الاستدلال أيضاً بصدرها على طهارة ماء البئر على وجه الإطلاق ، فإنّ النسبة بينه وبين ما دلّ على انفعال القليل عموم من وجه ، لأن أدلّة انفعال القليل تقتضي نجاسة القليل بالملاقاة جارياً كان أم غير جار ، وصدر الصحيحة يقتضي عدم نجاسة

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 1 : 158 / أبواب الماء المطلق ب 9 ح 1 ، 2 ، 5 ، وغيرها .

(2) وهي صحيحة إسماعيل بن جابر المروية في الوسائل 1 : 159 / أبواب الماء المطلق ب 9 ح 7.

ــ[98]ــ

ماء البئر ونحوه مما له مادّة قليلاً كان أم كثيراً فيتعارضان في مادّة الاجتماع وهي ماء البئر القليل ، والترجيح أيضاً مع الصحيحة لما بيّنا في محلّه من أن تقديم أحد العامين من وجه على الآخر إذا استلزم إلغاء ما اعتبر من العنوان في الآخر كان ذلك مرجحاً للآخر ويجعله كالنص فيتقدم على معارضه (1) .

   والمقام من هذا القبيل لأ نّا إذا قدمنا الصحيحة على أدلّة انفعال الماء القليل فلا يلزم منه إلاّ تضييق دائرة أدلّة الانفعال ، وتقييدها بغير البئر ونحوه مما له مادّة وهو مما لا محذور فيه ، لأن التخصيص والتقييد أمران دارجان . وأمّا إذا عكسنا الأمر وقدّمنا أدلّة انفعال القليل على الصحيحة فهو يستلزم الحكم بنجاسة القليل حتى لو كان ماء بئر فينحصر طهارة البئر بما إذا كان كراً ، وهو معنى إلغاء عنوان ماء البئر عن الموضوعية ، فإن الكر هو الموجب للاعتصام كان في البئر أم في غيره فاعتصام البئر مستند إلى كونه كراً ، لا إلى أ نّه ماء بئر ، فيصبح أخذ عنوان ماء البئر في الصحيحة لغواً ومما لا أثر له . وحيث إن حمل كلام الحكيم على اللغو غير ممكن ، فيكون هذا موجباً لصيرورة الصحيحة كالنص ، وبه تتقدّم على معارضاتها .

   ونظير هذا في الأخبار كثير منها : ما ورد من أن كل شيء يطير فلا بأس بخرئه وبوله(2)، وهو عام يشمل الطير المأكول لحمه وما لا يؤكل لحمه كاللقلق والخفافيش، بناء على أن لها نفساً سائلة ، وورد أيضاً أن البول والخرء من كل ما لا يؤكل لحمه محكومان بالنجاسة (3) ، وهو أيضاً عام يشمل الطير غير المأكول لحمه

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) مصباح الاُصول 3 : 389 .

(2) كما في صحيحة أبي بصير عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : «كل شيء يطير فلا بأس ببوله وخرئه» المروية في الوسائل 3 : 412 / أبواب النجاسات ب 10 ح 1 .

(3) أمّا نجاسة بول ما لا يؤكل لحمه فلصحيحة عبدالله بن سنان عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : «إغسل ثوبك من بول كل ما لا يؤكل لحمه» وغيرها من الأخبار المروية في الوسائل 3  : 405 / أبواب النجاسات ب 8 ح 2 ، 3 وأمّا خرؤه فلأجل عدم الفرق بينه وبين بوله بحسب الارتكاز المتشرعي ، على أ نّه يمكن استفادة ذلك من عدّة روايات اُخر تأتي في محلّها إن شاء الله تعالى كما يأتي ما يدل على نجاسة الخرء في بعض الموارد الخاصة كالكلب والانسان فانتظره . راجع ص 373 .

ــ[99]ــ

وسواء كان بالفوران أو بنحو الرشح . ومثله كل نابع وإن كان واقفاً (1) .

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وغير الطير كالهرة ، والنسبة بينهما عموم من وجه فيتعارضان في مادّة اجتماعهما ، وهو الطير غير المأكول لحمه ، فإن قدّمنا الأول على الثاني فلا يلزم منه إلاّ تضيق الدليل الثاني وتخصيصه بغير الطير ولا محذور في التخصيص ، وأمّا إذا عكسنا الأمر ، وقدّمنا الثاني على الأول فيلزم منه تقييد الطير الذي لا بأس بخرئه وبوله بما يؤكل لحمه ، وأمّا ما لا يؤكل لحمه من الطير فهو محكوم بنجاسة كلا مدفوعيه ، وعليه يصبح عنوان الطير المأخوذ في لسان الدليل لغواً ، فإن الحكم وهو الطهارة مترتبة على عنوان ما  يؤكل لحمه طيراً كان أو غير طير فأية خصوصية للطير ، وكلام الحكيم يأبى عن اللّغو ، وهذا يصير قرينة على كون الأوّل كالنص وبه يتقدّم على الثاني ويخصِّصه بغير الطائر .

   ثم إنّك عرفت أن التعدي من البئر إلى كل ما له مادّة إنّما هو بتعليل الصحيحة ، إلاّ أنّ مقتضاه اختصاص الحكم بالاعتصام في الجاري بما إذا كان له مادّة على نحو الفوران أو على نحو الرشح ، وأمّا الجاري الذي ينشأ من الموارد الثلجية كما هو الأكثر في الأنهار على ما قيل فهو غير داخل في تعليل الرواية إذ لا مادّة له ، ولكنا لما قدّمناه من صدق عنوان الجاري على مثله فلا نرى مانعاً من ترتيب آثار الجاري عليه ككفاية الغسل فيه مرة .

    عدم اعتبار الدفع والفوران

   (1) هل يعتبر في الجريان أن يكون بالدفع والفوران أو أ نّه إذا كان بنحو الرشح أيضاً يكفي في تحقق موضوع الجاري ؟

   مقتضى إطلاق صحيحة ابن بزيع عدم الفرق بين الفوران والرشح بعد اشتمال كل واحد منهما على المادّة المعتبرة ، بل الغالب هو الرشح في أكثر البلاد ، إذ الغالب أن الماء يجتمع في الأمكنة المنخفضة ويترشح من عروق الأرض شيئاً فشيئاً ، ويتراءى ذلك في الأراضي المنخفضة في أطراف الشطوط والأنهار على وجه الوضوح .

ــ[100]ــ

   [ 91 ] مسألة 1 : الجاري على الأرض من غير مادّة نابعة أو راشحة إذا لم يكن كراً ينجس بالملاقاة . نعم ، إذا كان جارياً من الأعلى إلى الأسفل لا ينجس أعلاه ((1)) بملاقاة الأسفل للنجاسة ، وإن كان قليلاً (1) .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

   نعم، نقل صاحب الحدائق عن والده (قدس سرهما) الاستشكال في الآبار الموجودة في بلاده أعني البحرين لأجل أ نّها رشحية ، فإنّه كان يطهّر تلك الآبار بالقاء الكر عليها لا بالنزح . ثم أورد على والده بأ نّه يرى كفاية الالقاء ولو على وجه الافتراق كما إذا أخذ كل واحد من جماعة مقدار ماء يبلغ مجموعه الكر وألقوه في البئر مع أن المطهّر وهو إلقاء الكر يعتبر أن يقع على البئر مرة واحدة على وجه الاجتماع (2) . وما ذهب إليه والده (قدس سره) مما لا يسعنا الالتزام به لاطلاق الصحيحة المتقدمة .

    الجاري من غير مادّة

   (1) قد أسلفنا أن الميزان في الانفعال وعدمه هو الاتصال بالمادّة وعدم الاتصال بها ، كما هو مقتضى الصحيحة المتقدمة بلا خصوصية للجاري من غيره ، فإن كل ما له مادّة من العيون والأنهار والآبار محكوم بعدم الانفعال لاستمداده من المادّة دائماً ، فغير المستمد محكوم بالانفعال .

   ويستثنى من ذلك ما إذا كان القليل ـ  غير المستمد من المادّة  ـ جارياً من الأعلى إلى الأسفل ، فإن أعلاه لا يتنجس بملاقاة الأسفل للنجاسة ، هذا هو المعروف بينهم وقد قدّمنا (3) نحن أن الميزان في ذلك ليس هو العلو أو السفل وإنّما المدار على خروج الماء بالقوّة والدفع بلا فرق بين العالي وغيره ، فإنّه يمنع عن سراية النجاسة إلى العالي من سافله أو العكس ، وذكرنا أن الوجه فيه هو أن العرف بحسب ارتكازاتهم يرون الماء متعدداً حينئذ فلا تسري النجاسة من أحدهما إلى الآخر ، فلو صبّ ماء من

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) تقدم أن المناط في عدم التنجس هو الدفع بلا فرق بين العالي وغيره .

(2) الحدائق 1 : 172 .

(3) في ص 37 .

ــ[101]ــ

   [ 92 ] مسألة 2 : إذا شكّ في أن له مادّة أم لا وكان قليلاً ، ينجس بالملاقاة (1) .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 الإبريق على يد كافر مثلاً لا يحكم بتنجس ما في الابريق بملاقاة الماء لليد القذرة، وكذا في الفوارات إذا تنجس أعلاه بشيء لا نحكم بنجاسة أسفله ، هذا كلّه فيما إذا علمنا باتصال الجاري بالمادّة أو عدم اتصاله .

    الشكّ في المادّة

   (1) يمكن أن يقال بطهارة الماء حينئذ مع قطع النظر عن استصحاب العدم الأزلي الآتي تفصيله ، وذلك لأن الشكّ في أن للماء مادّة أو أ نّه لا مادّة له يساوق الشكّ في نجاسته وطهارته على تقدير ملاقاة النجس ، ومقتضى قاعدة الطهارة طهارته لقوله (عليه السلام) «كلّ شيء نظيف» (1) أو «الماء كلّه طاهر حتى يعلم أ نّه قذر» (2) هذا وقد استدلّ على نجاسة الماء المذكور بوجوه :

   الأوّل : التمسك بالعام في الشبهة المصداقية بناءً على جوازه ، كما ربّما يظهر من الماتن في بعض الفروع (3) ، وإن صرح في بعضها (4) الآخر بعدم ابتنائه على التمسك بالعام في الشبهات المصداقية ، بأن يقال في المقام : إنّ مقتضى عموم ما دلّ على انفعال القليل بملاقاة النجس ، نجاسة كل ماء قليل لاقته النجاسة ، وقد خرج عنه القليل الذي له مادّة ، ولا ندري أن القليل في المقام من أفراد المخصص وأن له مادّة حتى لا ينفعل ، أو أ نّه باق تحت العموم ولا مادّة له فينفعل بالملاقاة ، فنتمسك بعموم الدليل

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) كما في موثقة عمار المروية في الوسائل 3 : 467 / أبواب النجاسات ب 37 ح 4 .

(2) كما في صحيحة حماد بن عثمان المرويّة في الوسائل 1 : 134 / أبواب الماء المطلق ب 1 ح 5 .

(3) منشأ الظهور ملاحظة الفروع التي تبتني بظاهرها على التمسك بالعموم في الشبهات المصداقية أو يحتمل فيها ذلك ، كما يجدها المتتبع في تضاعيف الكتاب [ منها : م / 299 ] ومنها مسألتنا هذه كما  هو ظاهر .

(4) كما في مسألة 50 من مسائل النكاح [ 3682 ] فيما إذا شكّ في امرأة في أ نّها من المحارم أو من غيرها ، حيث قال : فمع الشكّ يعمل بمقتضى العموم لا من باب التمسك بالعموم في الشبهات المصداقية ، بل لاستفادة شرطية الجواز أو المحرمية أو نحو ذلك ...  .

ــ[102]ــ

وبه نحكم بانفعاله .

   هذا ولكنا قد قررنا في الاُصول بطلان التمسك بالعام في الشبهات المصداقية وذكرنا أ نّه مما لا أساس له بلا فرق في ذلك بين العموم والاطلاق لتساويهما من هذه الجهة ، فالتمسك باطلاق قوله (عليه السلام) «الماء إذا بلغ ...» المقتضي لانفعال القليل بالملاقاة غير سائغ في الشبهات المصداقية .

   الثاني : قاعدة المقتضي والمانع ، كما ذهب إليها بعض المتقدمين ـ  على ما نسب إليه  ـ وبعض المتأخرين ممن قارب عصرنا ، حيث ذهب إلى أ نّها المستند لاعتبار الاستصحاب ، وتقريبها في المقام أن يقال : إن ملاقاة النجاسة للماء القليل مقتضية للانفعال ، واتصاله بالمادّة مانع عن الانفعال وكلما علمنا بوجود المقتضي وشككنا في ما يمنع عن تأثيره نبني على عدم المانع وعلى وجود المعلول .

   وقد ذكرنا في بحثي العموم والاستصحاب (1) أن هذه القاعدة أيضاً لا ترجع إلى أساس متين ، والعقلاء لا يبنون على وجود المعلول عند إحراز المقتضي والشكّ في وجود مانعه ، بل المتّبع هو الاستصحاب والأخذ بالمتيقن السابق عند الشكّ في بقائه .

   الثالث : ما أسسه شيخنا الاُستاذ (قدس سره) ورتّب عليه فروعاً كثيرة في الأبواب الفقهية منها المقام وحاصله : أن الاستثناء من الحكم الالزامي أو ما يلازمه ـ كالنجاسة الملازمة لحرمة الشرب والوضوء والغسل وغيرها من أحكام النجاسات ـ إذا تعلق بعنوان وجودي فهو عند العرف بمثابة اشتراط إحراز ذلك العنوان الوجودي في ارتفاع الحكم الالزامي أو ما يلازمه ولا يكفي في ارتفاعها مجرد وجوده الواقعي(2)، وكان (قدس سره) يمثّل له بما إذا نهى المولى عبده من أن يأذن لأحد في الدخول عليه إلاّ لأصدقائه فشكّ العبد في صداقة زيد وعداوته لمولاه ، فإنّه ليس له أن يتمسّك بالبراءة عن حرمة الترخيص لزيد في الدخول ، بلحاظ أن الشبهة تحريمية موضوعية وهي مورد للبراءة باتفاق من الأخباريين والاُصوليين وذلك لأن العرف في مثله يرى

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) مصباح الاُصول 3 : 241 .

(2) أجود التقريرات 1 : 464 .

ــ[103]ــ

لزوم إحراز عنوان الصداقة في جواز الاذن والترخيص ، فالمشكوك محرّم الاذن وإن كان في الواقع صديقاً له . وقد طبقها (قدس سره) على المقام بأن الاستثناء عن ملزوم الحكم الالزامي وهو النجاسة قد تعلق بأمر وجودي أعني اتصاله بالمادّة ، فهو بمنزلة اشتراط إحراز الاتصال في الحكم بعدم النجاسة والانفعال ، وحيث إن الاتصال غير محرز في المقام فهو محكوم بالنجاسة لا محالة وإن كان متصلاً بها واقعاً ، وإنّما نحكم بالطهارة في خصوص القليل الذي أحرزنا اتصاله بالمادّة .

   هذا ولا يخفى أ نّا ذكرنا في محلّه أن هذه القاعدة كالقاعدتين السابقتين لا أساس لها . نعم ، الأمر في خصوص ما مثّل به للمقام كما أفاده فإنّه لا يمكن فيه إجراء البراءة وهذا لا لما أسّسه (قدس سره) بل لأجل استصحاب عدم حدوث الصداقة بين زيد ومولاه ، لأن الصداقة حادثة قطعاً وليست من الاُمور الأزلية غير المسبوقة بالعدم ومعه لا يبقى للبراءة مجال لاشتراط جريانها بعدم أصل حاكم عليها في البين . وتفصيل الكلام في الجواب عمّا بنى عليه موكول إلى محلّه .

   الرابع : استصحاب عدم اتصاف القليل بالاتصال بالمادّة باستصحاب العدم الأزلي ، وتوضيح ذلك : أن الصور المتصورة للمسألة أربع  :

   الاُولى : أن نعلم أن القليل الذي نشك في اتصاله وعدمه مسبوق بالاتصال بالمادّة ونشك في بقاء اتصاله حين ملاقاته النجس كما يتفق ذلك غالباً في المياه الجارية والأنابيب المعمولة في زماننا هذا ، وفي هذه الصورة لا إشكال في جريان استصحاب اتصاله بالمادّة وعدم انقطاعها عنه .

   الثانية : أن نعلم أ نّه مسبوق بالانقطاع ، كما إذا اُلقي مقدار من الماء لم يبلغ الكر على حفيرة وقد وقعت فيها نجاسة أيضاً ، فشككنا في أن الحفيرة بئر ولها مادّة لئلاّ ينفعل الماء الملقى عليها بوقوع النجاسة عليه أو أ نّها صورة بئر لا مادّة لها فالماء غير متصل بها ومحكوم بالانفعال ، وفي هذه الصورة أيضاً لا إشكال في جريان استصحاب عدم الاتصال بالمادّة .

   الثالثة : ما إذا لم تحرز حالته السابقة من الاتصال والانقطاع ، وهذه الصورة هي

ــ[104]ــ

مورد الوجوه الثلاثة المتقدمة دون الصورتين الأوليين كما أن هذه الصورة هي التي ندعي جريان استصحاب العدم الأزلي فيها ، على ما ذهب إليه صاحب الكفاية (قدس سره) ومثّل له بما إذا شكّ في قرشية المرأة وذكر أن المرأة حينما وجدت لا ندري أ نّها هل اتصفت بالقرشية أم لم تتصف بها ولم تكن متصفة بها قبل وجودها قطعاً والأصل عدم اتصافها بتلك الصفة حين وجودها أيضاً (1) .

   وعلى هذا التقريب يقال في المقام : إن هذا القليل لم يكن متصفاً بالاتصال قبل خلقته ، ونشك في اتصافه به حين خلقته ووجوده فالأصل أ نّه لم يتصف بالاتصال حين خلقته أيضاً ، فهو ماء قليل بالوجدان وغير متصل بالمادّة بالأصل ، فبضم الوجدان إلى الأصل يتم كلا جزئي الموضوع للحكم بالانفعال .

   هذا، وقد أورد عليه شيخنا الاُستاذ (قدس سره)(2) بالمنع من جريان الاستصحاب في الأعدام الأزلية وبنى منعه هذا على مقدّمات :

   الاُولى : أن تخصيص العام بالمتصل أو بالمنفصل يوجب تعنون العام بعنوان غير عنوان الخاص لا محالة ، فإذا كان العنوان المأخوذ في الخاص وجودياً كان العام مقيداً بعنوان عدمي ، وإذا كان عدمياً كان العام مقيداً بعنوان وجودي ، وذلك لأنّ الحاكم الملتفت إلى أن موضوع حكمه كالعالم مثلاً له قسمان : العادل والفاسق ، والاهمال في الواقع أمر غير معقول فهو إما أن يرى عدم دخل شيء من الخصوصيتين في موضوع حكمه وإما لا ، وعلى الثاني إما أن يكون ما له دخل من الخصوصية في موضوع الحكم أمراً وجودياً أو عدمياً ، وهذه أقسام ثلاثة لا رابع لها لدورانها بين النفي والاثبات فالحصر فيها عقلي . أمّا القسم الأول وهو ما إذا كان موضوع الحكم مطلقاً وغير مقيد بشيء من الخصوصية : الوجودية والعدمية ، فهو أمر لا يجتمع مع التخصيص ، لأ نّه يرجع إلى الجمع بين النقيضين ، فإن الموجبة الكلية تناقضها السالبة الجزئية لا محالة، فإذا ثبت التخصيص في وجوب إكرام العالم وأن العالم الفاسق لا يجب

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) كفاية الاُصول : 223 .

(2) أجود التقريرات 1 : 462 .

ــ[105]ــ

إكرامه ، امتنع معه أن يجب إكرام مطلق العالم سواء أ كان عادلاً أم كان فاسقاً ، كما أ نّه يمتنع أن يختص وجوب الاكرام بالفاسق ، فلا مناص من تقييد موضوع وجوب الإكرام بعدم كونه فاسقاً . وهذا معنى ما ذكرناه من أن تخصيص العام بعنوان وجودي يستلزم تقييده بأمر عدمي .

   الثانية : أن الموضوع إذا كان مركباً ، فإمّا أن يتركّب من غير العرض ومحلّه ، وإمّا أن يكون مركّباً من العرض ومحلّه .

   أمّا على الأوّل : كما إذا كان الموضوع مركباً من جوهرين أو من جوهر وعرض في موضوعه ، أو من عرضين في موضوع واحد ، أو في موضوعين فلا موجب لأخذ أحد الجزءين نعتاً للجزء الآخر بل اللاّزم هو اجتماع الجزءين في الخارج بلا دخل خصوصية اُخرى .

   وأمّا على الثاني كأخذ الكرية والماء في موضوع الاعتصام وعدم الانفعال بمجرد ملاقاة النجاسة ، فلا مناص من أن يؤخذ العرض في الموضوع على نحو وجوده النعتي ، فإنّه لا سبيل إلى أخذه على نحو الوجود المحمولي، فإنّ انقسام الشيء باعتبار أوصافه ونعوته في مرتبة سابقة على انقسامه باعتبار مقارناته ، فإذا كان التخصيص موجباً لتقييد موضوع العام ورافعاً لإطلاقه فإمّا أن يرجع التقييد إلى التقييد بلحاظ الانقسام الأولى ، فيكون الموضوع مقيداً بالوجود النعتي ، أو العدم النعتي المعبّر عنهما بمفاد كان وليس الناقصتين وإما أن يرجع إلى التقييد بلحاظ الانقسام الثانوي ، ليكون المأخوذ في الموضوع الوجود أو العدم المحمولي المعبّر عنهما بمفاد كان وليس التامتين .

   لا سبيل إلى الثاني ، فإنّه مع تقييده بهذا الاعتبار إما أن يبقى الموضوع على إطلاقه بالاعتبار الأول ، أو يكون مقيداً به أيضاً . أمّا الأول فهو مستحيل ، إذ كيف يمكن أن يقيد الماء في موضوع المثال بأن يكون معه كريّة ومع ذلك يبقى على إطلاقه من جهة الاتصاف بالكرية وعدمه وهل هذا إلاّ تهافت وتناقض ، وأمّا الثاني فهو أيضاً لا يمكن من الحكيم لاستلزامه اللغو ، فإن التقييد بالاعتبار الأول يغني عن التقييد بالاعتبار الثاني .

ــ[106]ــ

   ويترتّب على ما ذكرناه أن موضوع الحكم إذا كان مركباً من وجود العرض ومحلّه كما في المثال ، أو مركباً من عدم العرض ومحلّه كما فيما كان الاستثناء من العام عنواناً وجودياً ، ففي جميع ذلك لا مناص من أن يكون الدخيل في الموضوع الوجود أو العدم النعتيين ، دون الوجود أو العدم المحموليين .

   الثالثة : أن العدم الأزلي وإن كان ثابتاً وحقاً فإن كل ممكن مسبوق بالعدم لا محالة فزيد لم يكن في وقت وعلمه وعدالته لم تكونا وهكذا ... إلاّ أن هذا العدم عدم محمولي لا نعتي ، فيصح أن يقال : علم زيد لم يكن ، ولا يصح أن نقول : زيد كان غير عالم ومتصفاً بعدم العلم فإنّه لم يكن موجوداً ليتصف بالوصف الوجودي أو العدمي، فالعدم الأزلي محمولي دائماً ، ولا يصح فيه النعتي بوجه وذلك من جهة أن العدم النعتي كالوجود النعتي يحتاج إلى وجود الموضوع لا محالة .

   ويترتّب على هذه المقدّمات : أن التخصيص بعنوان وجودي يقتضي تعنون العام بعنوان عدمي لا محالة بمقتضى المقدمة الاُولى ، وأن العدم المأخوذ في الموضوع عدم نعتي بمقتضى المقدمة الثانية ، وأن العدم النعتي كالوجود النعتي يحتاج إلى وجود الموضوع لا محالة ، والتقابل بينهما تقابل العدم والملكة ، وعلى ذلك فلا يمكن استصحاب العدم النعتي إذ المفروض عدم العلم به سابقاً بل هو مشكوك فيه من أوّل الأمر ، وأمّا العدم المحمولي فهو وإن كان متيقناً إلاّ أ نّه لا يثبت العدم النعتي . فاشكال جريان الاستصحاب في الأعدام الأزلية هو الاثبات خاصة لا أن العدم قبل وجود موضوعه مغاير للعدم بعد وجود موضوعه ، فإنّ العدم عدم ، وبقاؤه غير مغاير لحدوثه بل بقاء له .

   ولا يخفى أنّ المقدّمة الاُولى والثالثة من هذه المقدّمات ممّا لا ينبغي الشكّ في صحته ، وكذلك المقدمة الثانية فيما إذا كان المأخوذ في موضوع الحكم وجود العرض وذلك لا لما ذكره (قدس سره) فإنّه يندفع بأن التقييد بكل من الاعتبارين يغني عن التقييد بالاعتبار الآخر ، كما هو الحال في كل أمرين متلازمين ، فإن التقييد بأحدهما لا يبقي مجالاً للاطلاق بالاضافة إلى الثاني منهما . بل لأجل أن وجود العرض في نفسه

ــ[107]ــ

عين وجوده لموضوعه ، إذ ليس للعرض وجودان أحدهما لنفسه وثانيهما لموضوعه بل له وجود واحد وهو عين وجوده لموضوعه وكونه وصفاً ونعتاً لمعروضه ، فإذا كان المأخوذ وجود العرض في موضوع خاص ، كالكرية المأخوذة للماء في موضوع الاعتصام وعدم الانفعال بملاقاة النجس ، فلا محالة يكون الدخيل في الموضوع هو اتصاف الماء بالكرية على نحو مفاد كان الناقصة ، فإن وجود الكرية في الماء هو بعينه اتصاف الماء بالكرية ، لما عرفت من أن وجود العرض في نفسه عين وجوده لموضوعه ، وأمّا إذا كان الدخيل في الموضوع هو عدم العرض كما هو الحال فيما إذا كان الخارج من العمـوم عنواناً وجودياً فإن العام يتعـنون حينئذ بوصف عدمي لا محالة فلا موجب للالتزام بكون الدخيل في الموضوع هو العدم النعتي .

   وبيان ذلك : أن ما أفاده من أن تركب الموضوع من العرض ومحلّه يستلزم أخذ الاتصاف بالعرض في موضوع الحكم ، وإن كان متيناً لما قدّمناه من أن وجود العرض في نفسه عين وجوده لموضوعه ، إلاّ أ نّه يختص بوجود العرض أعني العرض الوجودي ، وأمّا العدمي فلا يأتي فيه ما ذكرناه لأن العدم لا وجود له حتى يقال : إن وجود العرض في نفسه عين وجوده لموضوعه ، فإذا تركب الموضوع من عدم العرض ومحلّه فلا يستفاد منه في نفسه أن الاتصاف بالعدم مأخوذ في موضوع الحكم فإنّه أعم ويحتاج اعتبار الاتصاف به إلى مؤونة زائدة ، فإن قامت قرينة على اعتباره فهو وإلاّ لما اعتبرنا في موضوع الحكم غير المحل وعدم العرض ولو على نحو العدم المحمولي فإذا ورد لا تكرم فساق العلماء وضممناه إلى العام ، فيستفاد منهما أن موضوع وجوب الاكرام هو العالم الذي لا يكون فاسقاً ، لا العالم المتصف بعدم الفسق لأ نّه يحتاج إلى دليل وهو مفقود ، وعليه فلا مانع من استصحاب عدم الاتصاف بالفسق الثابت قبل وجود زيد ، إذ لم يكن الاتصاف قبل وجوده والآن كما كان . نعم ، لا يثبت بذلك الاتصاف بعدم الفسق ، إلاّ أنا في غنى عنه فإنّه ليس بموضوع للأثر ، وإنّما الأثر مترتب على العالم الذي لا يكون متصفاً بالفسق على نحو العدم المحمولي ، والمفروض أن له حالة سابقة كما مرّ ، وكم فرّق بين الموجبة معدولة المحمول وبين السالبة المحصلة لأن الاتصاف معتبر في الاُولى دون الثانية .

ــ[108]ــ

   وإلى ما ذكرنا أشار صاحب الكفاية (1) فيما ذكره من أن العام لا يتعنون بعد التخصيص بعنوان خاص ، بل هو بكل عنوان غير عنوان المخصص يشمله الحكم بمعنى أن العالم في مفروض المثال لا بدّ وأن لا يكون فاسقاً ، ولم يؤخذ فيه أي عنوان غير هذا العنوان ، وإن كان ذلك العنوان هو الاتصاف بالعدم على نحو مفاد ليس الناقصة ، فالخارج هو الذي اعتبر فيه الاتصاف بالفسق على وجه النعت دون الباقي تحت العموم .

   والأمر في المقام كذلك حيث إن أدلّة انفعال الماء القليل قد خصصت بالقليل الذي له مادّة ، وهو يوجب تعنون الباقي بالماء القليل الذي لا يكون له مادّة لا القليل المتصف بعدم المادّة ، وعليه فلنا أن نستصحب عدم المادّة في ظرف الشكّ إذ لم تكن له مادّة قبل وجوده والآن كما كان ، وهو استصحاب العدم المحمولي ، لأ نّه الذي يترتب عليه الأثر عند تركب الموضوع من المحل وعدم العرض ، ما دام لم تقم قرينة خارجية على اعتبار الاتصاف بالعدم ، هذا تمام كلامنا في هذه الصورة .

   الرابعة : ما إذا كان القليل مسبوقاً بحالتين متضادتين أعني الاتصال بالمادّة في زمان وعدم الاتصال بها في زمان آخر ، واشتبه المتقدم منهما بالمتأخر ، ولم يجر فيه شيء من استصحابي الاتصال وعدمه للتعارض أو لعدم المقتضي ، فهل هناك أصل آخر يحكم به على الماء بالطهارة ؟ .

   قد يقال : إن مقتضى الاستصحاب في الماء طهارته ، لأ نّه قبل أن يغسل به المتنجس كان طاهراً قطعاً ، فهو الآن كما كان وإن كنّا نشك في اتصاله بالمادّة وعدمه ، كما أن مقتضى الاستصحاب في المتنجس المغسول به نجاسة المغسول وعدم ارتفاع نجاسته بالغسل به ، ولا معارضة بين الاستصحابين كما ذكرناه غير مرّة لأ نّا وإن علمنا بالملازمة الواقعية بين طهارة الماء وطهارة المتنجس المغسول به ، إلاّ أن التفكيك بينهما في مقام الظاهر بالأصل مما لا مانع عنه بوجه (2) وهذا نظير ما ذكره السيد (قدس

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) كفاية الاُصول : 223 .

(2) لا يخفى أن المراد بغسل المتنجس به إنما هو إلقاؤه على الماء لا إيراد الماء على المتنجس ، وإلاّ فلا  إشكال في كفايته في طهارة الثوب بعد ما حكمنا بطهارة الماء .

ــ[109]ــ

سره) في ماء يشك في كريته مع عدم العلم بحالته السابقة .

   ثمّ إنّ التفكيك بين طهارة الماء وطهارة المغسول به في محل الكلام إنما يتم إذا كان الحكم بنجاسة القليل المحتمل اتصاله بالمادّة في الصورة السابقة مستنداً إلى جريان الاستصحاب في العدم الأزلي ، وأمّا بناء على استناده إلى صحّة التمسّك بالعام في الشبهات المصداقية أو تمامية قاعدة المقتضي والمانع أو صحّة ما أسّسه شيخنا الاُستاذ (قدس سره) من أخذ الاحراز فيما علّق عليه الترخيص فلا بدّ من الحكم في المقام بنجاسة الماء أيضاً لأ نّه قليل ، ولا ندري أن له مادّة ومقتضى عموم انفعال القليل أو قاعدة المقتضي والمانع أو عدم احراز اتصاله بالمادّة هو الحكم بنجاسته .

   ولا يبقى بعد ذلك للحكم بطهارته بالاستصحاب أو بغيره مجال ، ولا يلزم حينئذ التفكيك بين الماء والمغسول به بل كلاهما محكومان بالنجاسة ، وهذا بخلاف ما إذا اعتمدنا في الحكم بنجاسة الماء عند الشكّ في أنّ له مادّة على استصحاب عدم اتصاله بالمادّة على نحو العدم الأزلي ، فإنّ التفكيك بناء عليه تام لا إشكال فيه . والوجه فيه : أنّ الاستصحاب المذكور لا يجرى في المقام لسبقه بحالتين متضادتين ، ومعه لا يجرى شيء من استصحابي الاتصال وعدمه ، إما للتعارض وإما لعدم المقتضي على خلاف في ذلك بيننا وبين صاحب الكفاية (قدس سره) (1) وعليه فلا مانع من استصحاب الطـهارة في الماء كما لا مانع من اسـتصحاب بقاء النجاسـة في المغسول به ، فيلزم التفكيك بين طهارة الماء وطهارة المغسول به .

   ثم إن الحكم بنجاسة المغسول به بالاستصحاب في المقام يبتني على اعتبار ورود الماء على المتنجس في التطهير بالقليل ، وأمّا إذا قلنا بعدم اعتباره ، وكفاية ورود المتنجس على الماء فلا ينبغي التأمل في طهارة المغسول به ، إذ المفروض كفاية الغسل به حتى لو لم تكن له مادّة في الواقع فلا يبقى مجال للتفكيك .

   ثم إنّا إذا اعتبرنا ورود الماء على النجس في التطهير بالقليل فلا بدّ من أن نلاحظ دليل اعتبار ذلك ، فإن كان دليله ما اعتمد عليه بعضهم من أن القليل ينفعل بمجرّد

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) كفاية الاُصول : 421 .

ــ[110]ــ

   [ 93 ] مسألة 3 : يعتبر في عدم تنجس الجاري اتصاله بالمادّة (1) فلو كانت المادّة من فوق تترشح وتتقاطر ، فإن كان دون الكر ينجس . نعم إذا لاقى محل الرشح للنجاسة لا ينجس .

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

اتصاله بالنجس ، فلا يمكن تطهير المتنجس به فيما إذا ورد على الماء ، فلا بدّ من اعتبار ورود الماء عليه لئلاّ ينفعل بمجرد الاتصال فنحكم في المقام أيضاً بطهارة المغسول به وإن ورد على الماء ، لأن الماء لا ينفعل في المقام بمجرد اتصاله بالنجس وملاقاته معه كما لا ينفعل بعده ، وذلك بحكم الاستصحاب القاضي بطهارة الماء عند الشكّ في انفعاله ، فهو طاهر حين الاتصال وبعده فلا مانع من تطهير المغسول به مطلقاً .

   نعم ، إذا اعتمدنا في الحكم باعتبار ورود الماء على النجس على الروايات الناطقة بذلك لقوله (عليه السلام) : «صبّ عليه الماء مرّتين» (1) ونحوه فلا محيص من الالتزام بعدم طهارة المتنجس إذا ورد على الماء للشكّ في حصول شرط طهارة المغسول به لأن الماء إن كان له مادّة حين الغسل فهو طاهر يطهّر المتنجس المغسول به لا محالة وإن لم تكن له مادّة فالمغسول به محكوم بالنجاسـة لعدم حصول شرط التطهير به وهو ورود القليل على النجس ، وبما أ نّا نشك في بقاء نجاسته وارتفاعها فمقتضى استصحابها نجاسة المغسول به ، كما أن مقتضى استصحاب الطهارة في الماء طهارته فالتفكيك حينئذ صحيح .

 

   اعتبار الاتصال في الاعتصام

   (1) بأن ينفصل الخارج عن المادّة ، كما مثّل به بقوله : فلو كانت المادّة . فإنّه إذا انفصل عنها فالمياه المجتمعة المنفصلة عن مادتها غير البالغة حدّ الكر ماء قليل ينفعل بملاقاة النجاسة لا محالة . نعم ، القطرة المتصلة بالمادّة محكومة بالاعتصام ما لم تنفصل عنها ، كما أشار إليه بقوله : نعم ، إذا لاقى ..

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 3 : 395 / أبواب النجاسات ب 1 ح 3 ، 4 ، 7 .

ــ[111]ــ

   [ 94 ] مسألة 4 : يعتبر في المادّة الدوام فلو اجتمع الماء من المطر أو غيره تحت الأرض ، ويترشح إذا حفرت لا يلحقه حكم الجاري (1) .

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

    والوجه فيما ذكرناه أن ظاهر قوله (عليه السلام) في صحيحة ابن بزيع «لأن له مادّة» أن يكون للماء مادّة بالفعل بأن يتصل بها فعلاً ، وأمّا ما كان متصلاً بها في وقت مع انفصاله عنها بالفعل فهو خارج عن مدلول الرواية كما عرفت . هذا في الانفصال بالطبع وكذلك الحال في الانفصال بالعرض كانسداد المنبع من اجتماع الوحل والطين لأ نّه لانفصاله عن المادّة محكوم بعدم الاعتصام ، وقد أشار إليه الماتن في المسألة الخامسة كما يأتي .

   (1) الظاهر أن مراده بالدوام على ما يساعد عليه تفريعه بقوله فلو اجتمع ... كون المادّة طبيعية موجبة لجريان الماء على وجه الأرض بطبعها ، وأمّا المادّة الجعلية الموجبة لجريان الماء ورشحه بالجعل دون الطبع فهي غير كافية في الاعتصام ، كما إذا جعلنا مقداراً من الماء في أرض منخفضة الأطراف ، أو اجتمع فيها ماء المطر ، فإنّه يوجب الرشح في جوانبها وجريان الماء لا محالة إلاّ أ نّها غير عاصمة ، وذلك لأن ظاهر قوله في صحيحة ابن بزيع : «لأن له مادّة» أن يكون للماء مادّة متصلة فعلاً يجري الماء عنها بطبعها . فالجعلية أو غير المتصلة منها لا تصدق عليها المادّة الفعلية كما هو ظاهر .

    اعتبار دوام النبع عند الشهيد (قدس سره)

   ذكر الشهيد (قدس سره) في الدروس أن الجاري لا يشترط فيه الكرية على الأصح . نعم ، يشترط فيه دوام النبع (1) وقد وقع هذا مورداً للاشكال والكلام عند الأصحاب فنقول في شرح مراده (قدس سره) إن الدوام في كلامه هذا يحتمل اُموراً :

   الأوّل : ما عن الشهيد الثاني (قدس سره) في روض الجنان من حمل الدوام على

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الدروس : 15 .

ــ[112]ــ

الاستمرار في النبع ، وأن ما ينبع في بعض فصول السنة دون بعضها الآخر لا يحكم عليه بالاعتصام (1) .

   ويضعّف هذا الاحتمال أمران :

   أحدهما : ما أورده عليه صاحب الحدائق (قدس سره) من أن اشتراط دوام النبع في المادّة على خلاف إطلاق صحيحة ابن بزيع ، لأن المادّة فيها غير مقيدة بدوام النبع فهو مضافاً إلى أ نّه مما لا شاهد له من الأخبار ولا يساعد عليه الاعتبار قد دلّ الدليل على خلافه (2) .

   وثانيهما : أن استمرار النبع إن اُريد به الاستمرار إلى الأبد فهو مما لا يوجد في أنهار العالم إلاّ نادراً ، على أن إحراز ذلك أمر غير ميسور ، فبأي شيء يحرز دوام نبعه إلى الأبد ، وإن اُريد به الاستمرار المقيد بوقت خاص فيقع الكلام في تعيين ذلك الوقت ، وأن الزمان الذي لا بدّ من أن يستمر الجاري إلى ذلك الزمان أيّ زمان ، فهذا الاحتمال في غاية السقوط . ومن هنا طعن عليه المحقق الثاني (قدس سره) بقوله : إن أكثر المتأخرين عن الشهيد (طاب ثراه) ممن لا تحصيل لهم فهموا هذا المعنى من كلامه ...

   الثاني : أن يراد بالدوام استمرار النبع حين ملاقاة النجس ، لا على وجه الاطلاق . ولعلّ هذا هو الظاهر من اعتبار الدوام ، ولا بأس به في نفسه إلاّ أ نّه ليس أمراً زائداً على ما اعتبرناه في الجاري من الاتصال بالمادّة ، حيث قلنا إن الماء إذا انقطع عنها يحكم بانفعاله على تقدير قلته وعليه فيصبح اعتبار الدوام في كلامه قيداً توضيحياً وإن كان أمراً صحيحاً في نفسه .

   الثالث : ما نسب احتماله إلى بعضهم من إرادة الاحتراز عمّا ينبع آناً وينقطع آناً لفتور مادته وضعفها ، وأن مثله ينفعل إذا لاقى نجساً لعدم إحراز اتصاله بالمادّة حال ملاقاة النجس ، ولعلّها لاقته حين انقطاع نبعها .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الروض : 135 السطر 8 ـ 10 .

(2) الحدائق 1 : 195 .

ــ[113]ــ

   هذا ولا يخفى أن ذلك أيضاً ليس بشرط جديد وراء شرط الاتصال وأمّا الحكم عليه بالانفعال على تقدير ملاقاته النجس فيدفعه ما أشرنا إليه سابقاً من أن الجاري إذا كان مسبوقاً بحالتين متضادتين أعني الاتصال وعدمه ، فهو وإن كان لا يجري فيه استصحاب الاتصال وعدمه إلاّ أن استصحاب الطهارة في الماء مما لا مانع عنه بوجه فبه يحكم بطهارته بل ولا أقل من قاعدة الطهارة ، فالماء لا يحكم عليه بالانفعال .

   الرابع : ما حـكاه صاحب الحـدائق (قدس سره) (1) عن بعض الأفاضـل من المحدثين من أن يراد به نبع المادّة دائماً ، أو بعد أخذ مقدار من مائها وقد ذكر في توضيح ذلك أن المواد على أنحاء ثلاثة :

   إحداها : ما تكون نابعة على وجه الاستمرار بالفعل بأن تنبع ويجرى ماؤها على وجه الأرض كما في العيون الجارية .

   وثانيتها : ما تكون نابعة على نحو الاستمرار أيضاً ولكنه لا بالفعل بل بالاقتضاء بمعنى أن تكون نابعة إلى أن يبلغ الماء حداً معيناً ، وهو تساوي الماء الخارج المجتمع منها في البئر للماء الموجود في مادتها وفي عروق الأرض ، وحينئذ تقف ولا تنبع إلاّ أن يؤخذ مقدار من مائها لينزل به سطح الماء ، فتنبع ثانياً بدل المتحلل مما اُخذ منه من الماء إلى أن يتصاعد الماء إلى السطح السابق وهكذا ... فللمادّة اقتضاء النبع دائماً ، وهذا هو الغالب في المواد فإن نبعها لو كان دائمياً وغير منقطع في زمان لأوجب غرق العالم بالماء .

   وثالثتها : ما تكون نابعة إلاّ أ نّه إذا أخذنا منها ماءها ينقطع نبعها وتقف ولا تنبع ثانياً إلاّ بعد حفر جديد ثم تنبع بمقدار ، وإذا أخذنا منها ذلك المقدار تقف ولا تنبع إلاّ بعد حفر آخر وهكذا ... . كما يتفق ذلك في بعض الأراضي والبلدان ، فالنبع في القسمين الأولين دائمي فعلاً أو بحسب الاقتضاء ، وأمّا في الثالث فلا دوام للنبع فيه بوجه بل ولا تصدق على مثله المادّة أصلاً ، لأنّ المادّة من المدد والإمداد والمفروض أ نّها لا تمد الماء بعد أخذه فلا يستمد منها في شيء ، والماء الحاصل منها غير مستند إلى

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الحدائق 1 : 196 .

ــ[114]ــ

المادّة فينفعل بالملاقاة لا محالة ، ومن هنا ذكر أن شمول الأخبار المستفاد منها حكم الجاري لهذه الصورة غير واضح . وعلى هذا الاحتمال كان اعتبار دوام النبع عبارة اُخرى عن اعتبار اتصال الماء بالمادّة لأن المادّة إذا لم تمدّ الماء فلا محالة تكون منقطعة وغير متصلة بالماء .

   الخامس : أن يراد بالدوام نبع المادّة وجريانها فعلاً ، وأمّا إذا لم تنبع بالفعل ولو لأجل مانع لا لأجل ضعفها وفتورها ، بل لحصر أطرافها على ما هو الغالب في الآبار إذ المادّة إنما تنبع إلى أن يساوي المقدار الخارج منها المجتمع في البئر للماء الموجود في المادّة وفي عروق الأرض ، وينقطع النّبع بعد ذلك فيحكم عليه بالانفعال ، وعلى الجملة لا يكفي اقتضاء النبع في الحكم بالاعتصام بل يعتبر فيه فعلية النّبع .

   وفساد هذا الاحتمال من الظهور بمكان لأن احتمال اعتبار الجريان الفعلي إنما يصح فيما إذا كان الحكم مترتباً في لسان الدليل على عنوان الجاري ويقال وقتئذ إن حكمه لا  يأتي في مثل الآبار المسدودة الاطراف لعدم الجريان الفعلي فيها ، ولكن الحكم في الدليل إنما رتب على عنوان ماله المادّة ، ومن الظاهر أن الآبار المذكورة مما له مادّة قطعاً ، وهذا العنوان صادق عليها بلا ريب وليس اعتصام الآبار متفرعاً على اعتصام الجاري حتى يحتمل فيها اعتبار الجريان الفعلي أيضاً بل الأمر بالعكس ، وإنما استفدنا حكم الجاري من قوله (عليه السلام) لأن له مادّة في صحيحة ابن بزيع الواردة في البئر حيث تعدينا من موردها إلى كل ماله مادّة .

   وأمّا اعتبار فعلية النبع وعدم كفاية الاقتضاء بالمعنى المتقدم وهو كون المادّة بحيث يخرج منها بدل المتحلل من الماء ويستمد منه ، فلم يقم عليه دليل بل الغالب في الآبار أن مادّتها تقتضي النبع بمقدار المتحلل من مائها ولا تنبع فيها دائماً فإنه يؤدي إلى غرق العالم كلّه .

   السادس : أن يراد بالدوام ما ذكره الماتن (قدس سره) في الكتاب وهو أن تكون المادّة طبيعية موجبة للجريان بطبعها في مقابل المواد الجعلية كما إذا جعلنا مقداراً من الماء على مكان منخفضة الأطراف أو فاض البحر أو النهر واجتمع الماء من فيضانهما في الغدران وأوجب النبع في الأمكنة المنخفضة عنها ، فإنها أيضاً مواد فعلية تنقطع بعد

ــ[115]ــ

   [ 95 ] مسألة 5 : لو انقطع الاتصال بالمادّة (1) كما لو اجتمع الطين فمنع من النبع كان حكمه حكم الراكد ، فإن اُزيل الطين لحقه حكم الجاري ، وإن لم يخرج من المادّة شيء ، فاللاّزم مجرد الاتصال .

   [ 96 ] مسألة 6 : الراكد المتصل بالجاري كالجاري ((1)) (2) فالحوض المتصل بالنهر بساقية يلحقه حكمه ، وكذا أطراف النهر ، وإن كان ماؤها واقفاً .

   [ 97 ] مسألة 7 : العيون التي تنبع في الشتاء مثلاً وتنقطع في الصيف يلحقها الحكم في زمان نبعها (3) .

   [ 98 ] مسألة 8 : إذا تغيّر بعض الجاري دون بعضه الآخر فالطرف المتصل

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مدّة كيوم أو اُسبوع ونحوهما وهذا بخلاف المواد الطبيعية في الآبار والأنهار وهي التي تنصرف إليها لفظة المادّة في صحيحة ابن بزيع كما قدمناه .

   وهذه احتمالات ستة في كلام الشهيد (طاب ثراه) وقد ظهر ما هو الصحيح منها من سـقيمها وأمّا أنّ أيّاً منها قد أراده الشهيد (قدس سره) فهو أعلم بمراده والله سبحانه هو العالم بحقيقة الحال .

   (1) هذا هو انقطاع النبع بالعرض ، وقد قدّمنا حكمه في المسألة الثالثة من هذا الفصل ، فراجع .

   (2) وحكمه حكم الجاري في الاعتصام بلا خلاف لاتصاله به قليلاً كان أم كثيراً وأمّا الأحكام الخاصّة المترتّبة على عنوان الجاري ككفاية الغسل به مرّة في المتنجس بالبول فهي لا تترتّب عليه ، وذلك لعدم صدق الجاري على الراكد وهو ظاهر ، اللّهمّ إلاّ أن نقول بكفاية المرّة في الكر أيضاً وهو أمر آخر .

   (3) قد عرفت أن احتمال عدم اعتصام تلك العيون في زمان نبعها مدفوع بوجهين عمدتهما اطلاق صحيحة ابن بزيع فما أفاده في المتن هو الصحيح .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) في الاعتصام وعدم انفعاله بالملاقاة .

ــ[116]ــ

بالمادّة لا ينجس بالملاقاة وإن كان قليلاً ، والطرف الآخر حكمه حكم الرّاكد إن تغيّر تمام قطر ذلك البعض المتغيّر ، وإلاّ فالمتنجس هو المقدار المتغيّر فقط ، لاتصال ما عداه بالمادّة (1) .

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

    تغيّر بعض الجاري

   (1) قد أسلفنا أن الجاري وغيره إذا تغيّر في شيء من أحد أوصافه بتمامه يحكم عليه بالنجاسة ، وطريق تطهيره كما أشرنا إليه هو أن يتصل بالمادّة بعد زوال تغيّره وأمّا إذا تغيّر بعضه فلا يخلو إما أن يتغيّر بعض الجاري في تمام قطر الماء أعني به عرضه وعمقه ، وإما أن يتغيّر في بعض قطره .

   أمّا على الأوّل : فلا ينبغي الاشكال في أن الماء المتصل بالمادّة المتقدم على المقدار المتغيّر معتصم بتمامه قليلاً كان أم كثيراً لاتصاله بالمادّة وهو ظاهر ، وأمّا الماء المتأخر عن المتغيّر بعرضه وعمقه فإن كان كراً فلا كلام أيضاً في اعتصامه وطهارته ، وعليه فالمتقدم والأخير طاهران والمتنجس هو الوسط ، وأمّا إذا كان قليلاً فهو محكوم بالانفعال لاتصاله بالنجس وهو البعض المتغيّر بعرضه وعمقه ، وعليه فالوسط والأخير محكومان بالنجاسة والمتقدم هو الطاهر . وقد تأمل صاحب الجواهر (قدس سره) في الحكم بنجاسة الماء المتأخر في هذه الصورة ـ  بعدما ضعّف الحكم بالطهارة فيه  ـ فإنه يصدق عليه عنوان الجاري واقعاً ، فلا وجه للحكم بانفعاله لأ نّه جار غير متغيّر . على أ نّا لو احتملنا عدم دخوله في عنوان الجاري فهو معارض باحتمال دخوله فيه ، فالاحتمالان يتعارضان فيتساقطان ، ويرجع معه إلى قاعدة الطهارة فيه هذا ما ذكره (قدس سره) في المقام (1) .

   والذي ينبغي أن يقال : إن الموضوع للحكم بالاعتصام ليس هو عنوان الجاري كما عرفته سابقاً وإنما حكم عليه بعدم الانفعال لأن له مادّة على ما استفدناه من صحيحة ابن بزيع ، وقد أسلفنا أن المادّة بمعنى ما يمد الماء وما منه يستمد بخروج المقدار المتحلل

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الجواهر 1 : 89 .

ــ[117]ــ

من الماء ، والمادّة بهذا المعنى غير متحقّقة في الماء المتأخر فإنّه لا يستمد من المادّة بوجه لانفصاله عنها فلا يصدق أ نّه ماء له مادّة فحكمه حكم الراكد فينفعل إذا كان قليلاً وهذا بخلاف الماء المتصل بالمادّة المتقدم على البعض المتغيّر ، لأ نّه يستمد من المادّة دائماً ويصدق حقيقة أن له مادّة ، فالحكم بطهارة الماء المتأخر بلا وجه .

   ثم لو فرضنا إجمال الدليل ولم نستفد من مجموع صدر الصحيحة وذيلها دوران الاعتصام مدار الاتصال بالمادّة بالمعنى المتقدم ، واحتملنا كفاية صدق الجاري على الماء في الحكم بالاعتصام ، فالمقام من أحد موارد إجمال المخصص الذي يتردد الأمر فيه في غير المقدار المتيقن بين استصحاب حكم المخصص وبين الرجوع إلى حكم العام وهو نزاع معروف ، وذلك لأن الدليل قد دلّ بعمومه على انفعال كل ماء قليل بملاقاة النجس وقد خرج عنه القليل الذي له مادّة ، وحيث إنّا فرضنا إجمال المخصص المذكور وكان المتيقن منه هو القليل الذي يستمد من مادته فلا محيص من الاقتصار عليه في الحكم بالاعتصام ، وأمّا ما لا استمداد فيه من المادّة فيدور الأمر فيه بين استصحاب حكم المخصص والحكم بعدم الانفعال ، لأ نّه قبل أن يتغيّر المتوسط منه بالنجس كان متصلاً بمادته ، وكان مشمولاً للمخصص قطعاً ، وبين الرجوع إلى عمومات انفعال القليل ، فإن رجّحنا أحدهما على الآخر فهو ، وأمّا إذا توقفنا عن ترجيح أحد الاحتمالين على الآخر فيرجع إلى قاعدة الطهارة لا محالة .

   ولعلّ صاحب الجواهر (قدس سره) يرجّح استصحاب حكم المخصص في أمثال المقام الذي لا يكون الزمان مأخوذاً فيه على وجه التقييد كما ذهب إليه جملة من الأعلام كشيخنا الأنصاري وصاحب الكفاية وغيرهما (قدس سرهم) بدعوى أن الشكّ إنما هو في حكمه بعد التخصيص لا في مقدار ما وقع عليه التخصيص أو أ نّه يتوقّف عن الترجيح ويرجع إلى قاعدة الطهارة . وحيث إنّا اخترنا في محلّه الرجوع إلى العام مطلقاً سواء اُخذ الزمان فيه ظرفاً أم على وجه التقييد ، فالمتعيّن هو الحكم بانفعال الماء المتأخر أيضاً بمقتضى عمومات انفعال القليل . والذي يسهّل الخطب عدم إجمال المخصص بوجه، لأنّ الصحيحة بصدرها وذيلها دلّت على أن المناط في الاعتصام هو اتصال الماء بالمادّة ، وهذا غير صادق على الماء المتأخر عن المتغيّر كما

ــ[118]ــ

 فصل

[  في الماء الراكد : الكرّ والقليل  ]

 

   الراكد بلا مادّة إن كان دون الكر ينجس بالملاقاة من غير فرق بين النجاسات(1).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

عرفت ، هذا كلّه على الأوّل .

   وأمّا على الثاني : وهو تغيّر بعض الجاري في بعض قطره ، فالمتقدم والمتأخر كلاهما طاهران ، كان المتأخر بمقدار كر أم لم يكن ، وذلك لأجل اتصاله بالمادّة بالمعنى المتقدم فإن المفروض عدم تغيّر المتوسط بتمامه ، وإنما تغيّر ببعضه دون بعضه كما إذا غسلنا شاة مذبوحة في الشط وتغيّر بذلك بعض جوانب الماء ، لأن المتنجس حينئذ هو خصوص البعض المتغيّر دون سابقه ولاحقه . هذا تمام الكلام في الجاري .

 

فصل في الراكد بلا مادّة

    (1) الكلام في هذه المسألة يقع من جهات :

    الراكد بمقدار الكر

   الجهة الاُولى : أن الراكد إذا كان بمقدار كر فلا خلاف في اعتصامه وعدم انفعاله بملاقاة النجس ، ويأتي الكلام فيه مفصلاً بعد بيان حكم القليل إن شاء الله تعالى .

    ما هو الغرض في المقام

   الجهة الثانية : أن الغرض من البحث عن انفعال القليل في المقام إنما هو إثبات انفعاله على نحو الموجبة الجزئية في قبال ابن أبي عقيل القائل بعدم انفعاله رأساً ، وأمّا أ نّه هل ينفعل بالنجس والمتنجس كليهما أو لاينفعل بالمتنجس ؟ وأ نّه هل ينفعل بالدم الذي لايدركه الطرف ؟ وغير ذلك من التفاصيل فهي مباحث اُخر يأتي الكلام عليها في طي مسائل مستقلة إن شاء الله .

ــ[119]ــ

   انفعال الماء القليل

   الجهة الثالثة : فيما دلّ على انفعال القليل بالملاقاة ، ويقع الكلام فيها في مقامين :

   أحدهما : في بيان ما يدل على انفعاله .

   وثانيهما : في معارضته لما دلّ على عدم الانفعال .

   أمّا المقام الأول : فالمعروف بين الأصحاب المتقدمين منهم والمتأخرين أن القليل ينفعل بملاقاة النجس ، وخالفهم في ذلك ابن أبي عقيل فذهب إلى عدم انفعاله بشيء (1) ، ووافقه على ذلك المحدث الكاشاني (قدس سره) (2) .

   والذي يقتضي الحكم بانفعال القليل عدّة روايات ربّما يدعى بلوغها ثلاثمائة رواية كما حكاه شيخنا الأنصاري (قدس سره) في طهارته عن بعضهم (3) . وهي وإن لم تبلغ تلك المرتبة من الكثرة إلاّ أن دعوى تواترها إجمالاً قريبة جدّاً ، لأنّ المنصف يرى من نفسه أ نّه لا يحتمل الكذب في جميع هذه الروايات ، على أن فيها صحاحاً وموثقات ومعهما لا يهمنا إثبات تواترها الاجمالي فإنهما كافيتان في إثبات الحكم شرعاً .

    الأخبار الدالّة على انفعال القليل

   ومن تلك الأخبار صحيحة محمد بن مسلم وغيرها الواردة بمضمون «أن الماء إذا بلغ قدر كر لا ينجسه شيء» . وهذا المضمون قد ورد ابتداءً في بعضها (4) وبعد السؤال عن الماء الذي تبول فيه الدواب وتلغ فيه الكلاب ويغتسل فيه الجنب في بعضها الآخر (5) وفي ثالث بعد السؤال عن الوضوء من الماء الذي تدخله الدجاجة والحمامة وأشباههما وقد وطأت عذرة (6) .

 ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) المختلف 1 : 13 .

(2) مفاتيح الشرائع 1 : 81 .

(3) كتاب الطهارة : 9 السطر 22 .

(4) كما في صحيحة معاوية بن عمّار المروية في الوسائل 1 : 158 / أبواب الماء المطلق  ب9 ح2 ، 6 .

(5) الوسائل 1 : 158 / أبواب الماء المطلق ب 9 ح 1 ، 5 .

(6) الوسائل 1 : 159 / أبواب الماء المطلق ب 9 ح 4 .

ــ[120]ــ

   وصحيحة إسماعيل بن جابر قال : «سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن الماء الذي لا ينجسه شيء فقال : كر ...» (1) .

   وصحيحته الاُخرى «عن الماء الذي لا ينجسه شيء؟ قال: ذراعان عمقه في ذراع وشبر سعته»(2) وقد أسندها في الحدائق إلى عبدالله بن سنان (3) ولعلّه من سهو القلم .

   وصحيحة محمد بن مسلم قال : «سألته عن الكلب يشرب من الاناء قال : إغسل الاناء» (4) ومن الظاهر أن الكلب إنما يشرب من وسط الاناء ولا يمسه فلا وجه للحكم بغسله إلاّ نجاسة الماء الموجود فيه ، فإنّ الكلب نجّس الماء بإصابته وهو قد لاقى الاناء وأوجب نجاسته ، وبهذا تدلنا هذه الرواية وغيرها من الأخبار الآمرة بغسل الآنية التي شرب منها الحيوان النجس على انفعال القليل بملاقاة النجس إلى غير ذلك من الأخبار ، وستأتي جملة اُخرى منها في مطاوي هذا البحث وفي البحث عن تنجس الماء القليل بالمتنجس ، هذا كلّه في المقام الأول .

   وأمّا المقام الثاني : فقد عرفت أن ابن أبي عقيل ذهب إلى عدم انفعال القليل كالماء الكثير ، ووافقه على ذلك المحدث الكاشاني (طاب ثراه) واستدلّ عليه بوجوه من الأخبار وغيرها .




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net