النظر إلى وجه وكفّي الأجنبية - نظر المرأة إلى الأجنبي 

الكتاب : المستند في شرح العروة الوثقى-الجزء الثاني : الصلاة   ||   القسم : الفقه   ||   القرّاء : 8080


   الجهة الخامسة : في النظر إلى الوجه والكفين بدون قصد الريبة . أمّا معه فلا إشكال في الحرمة كما مرّ في الجهة الثالثة . والمشهور ذهبوا إلى الحرمة ، وأصرّ عليه في الجواهر(2) ، وذهب شيخنا الأنصاري (قدس سره)(3) وجماعة إلى الجواز ، وفصّل بعضهم بين النظرة الاُولى فتجوز دون الثانية جمعاً بين الأدلّة ، وأمّا الماتن فقد احتاط فيه وجوبيّاً في المقام وفي كتاب النكاح(4) .

   وكيف كان ، فينبغي التعرض أوّلاً لما استدلّ به للمشهور ، فان تم وإلا فيحكم بالجواز أو يحتاط . وقد استدلّ لهم بوجوه من الأدلّة الأربعة :

   الأول : قوله تعالى : (قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَـرِهِمْ . .)الخ(5) فانّ وجوب الغض مطلق يشمل الوجه والكفين ، فلا يجوز النظر إلى أي جزء من بدن الأجنبية كما لا يجوز لها النظر إلى الأجنبي .

   وفيه أولاً : أنّ الآية غير ظاهرة في تحريم النظر ، لعدم ظهور الغض في الغمض ، بل لا يبعد أن يكون المراد التجاوز عن المرأة وعدم القرب منها والإعراض عنها المعبّر عنه بالفارسية بـ (چشم پوشي) وهذا استعمال دارج في

ــــــــــــــــ
(2) الجواهر 29 : 77 .

(3) كتاب النكاح : 46 ـ 49 .

(4) العروة الوثقى 2 : 582 المسألة 31 [3663] .

(5) النور 24 : 30 .

ــ[69]ــ

العربية وغيرها ، فيكون كناية عن الكف عن الزنا ، المساوق لقوله تعالى : (وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ)(1) .

   وبعبارة اُخرى : بعد امتناع حمل الغض على معناه المطابقي وهو إطباق الجفنين وغمض العينين ، لعدم وجوب ذلك بالضرورة ، يدور ذلك الأمر بين كونه كناية عن أحد معنيين : إما المنع عن إيقاع النظر على المرأة ، بأن يصرف نظره عنها فينظر إلى الفوق أو التحت من السماء أو الأرض أو أحد الجانبين ، تحفظاً عن وقوع النظر عليها . وإما إرادة الإعراض عنها وعدم الدنو منها ، بأن لا يعقّبها ولا يتصدّى لمقدمات الوقوع في الحرام وهو الزنا ، فيكفّ بصره عنها بتاتاً كما عرفت ، وليس المعنى الأول ـ الذي هو مبنى الاستدلال ـ أولى من الثاني لو لم يكن الأمر بالعكس .

   وثانياً : مع الغض عما ذكر وتسليم ظهور الآية المباركة في المنع عن النظر فلا ريب في عدم إمكان الأخذ باطلاقه ، لجواز النظر إلى كثير من الموجودات من السماء والأرض والشجر والحجر والمدر وسائر الأجسام . وتخصيصها بها بحيث لا يبقى تحت الإطلاق إلا الأجنبية يوجب تخصيص الأكثر القبيح الذي هو من مستهجن الكلام جداً ، سيما في المقام الذي لا يبقى تحت العام إلا فرد واحد ، فانّ مثل هذا الكلام لا يكاد يصدر عن الفرد العادي فما ظنك بالقرآن المعجز ، فلابد وأن يكون المراد بالآية المباركة غض البصر عما حرّمه الله ، فيتوقّف ذلك على إثبات الحرمة من الخارج ، والقدر الثابت ماعدا الوجه والكفين من الأجنبية فلا يمكن الاستدلال بالآية لتحريم النظر إليها منها .

   وبالجملة : الأمر بالغض في الآية إرشاد إلى ترك النظر إلى ما ثبتت حرمته بدليله ، فهي مجملة بالإضافة إلى الوجه والكفين ، فلا يمكن الاستدلال بها للمقام كما هو ظاهر .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) النور 24 : 30 .

ــ[70]ــ

   الثاني : قوله تعالى : (وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ . .)الخ(1) دلّت على حرمة الإبداء الملازم لعدم جواز النظر كما مرّ(2) وإطلاقه يشمل الوجه والكفين .

   وفيه : أنّه قد استثني في نفس الآية الزينة الظاهرة ، قال تعالى : (إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا) ولا ينبغي الإشكال في عدم كون المراد من الزينة نفسها من الثياب ونحوها ، لعدم المانع من إظهارها في حد نفسها بالضرورة ، مضافاً إلى بعد هذا المعنى عن سياق الآية في حدّ نفسه ، بل المراد مواضعها أعني البدن نفسه كما فسرت بذلك في جملة من النصوص ، ومن الواضح أنّ الوجه والكفين من أظهر المصاديق لمواضع الزينة الظاهرة المستثناة في الآية .

   مضافاً إلى التصريح به في جملة من النصوص المتضمنة أنّ الزينة الظاهرة ما دون الخمار وما دون السوارين(3) ، وهي صحيحة الفضيل ، ونحوها موثّقة أبي بصير عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : «سألته عن قول الله (عزوجل) : (وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا) قال : الخاتم والمسكة وهي القُلْب»(4) أي السوار فانّ النظر إلى الخاتم لا ينفك عن النظر إلى الكف .

   وسند الرواية صحيح ماعدا سعد بن مسلم(5) فانّه لم يذكر عنه شيء في الرجال إلا أنّه قائد أبي بصير ، لكنّه مذكور في سند كامل الزيارات ، بل إنّ هذا السند بعينه مذكور هناك ـ أي محمد بن يعقوب عن الحسين بن محمد عن أحمد ابن إسحاق عن سعد بن مسلم عن أبي بصير ـ والمراد بالحسين بن محمد الحسين بن محمد بن عامر أو عمران الأشعري القمي ، وهو ثقة . وبالجملة

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) النور 24 : 31 .

(2) في الجهة الرابعة ، الأمر الأول .

(3) الوسائل 20 : 200 / أبواب مقدمات النكاح وآدابه ب 109 ح 1 .

(4) الوسائل 20 : 201 / أبواب مقدمات النكاح وآدابه ب 109 ح 4 .

(5) [في المصدر ـ الكافي 5 : 521 / 4 ـ سعدان بن مسلم ، وراجع معجم رجال الحديث : 9 :  104/ 5099] .

ــ[71]ــ

فالرواية موثقة .

   ونحوها موثقة مسعدة بن زياد ، قال : «سمعت جعفراً وسئل عما تظهر المرأة من زينتها ، قال : الوجه والكفين»(1) .

   وبالجملة : فالاستثناء عن ذلك يقتضي جواز النظر إلى الوجه والكفين لدخولهما في المستثنى دون المستثنى منه ، فالآية على خلاف المطلوب أدلّ كما لا يخفى .

   الثالث : قوله تعالى : (والقَواعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللاّتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحاً)الخ(2) دلت على المنع عن وضع الثياب بالنسبة إلى غير القواعد فيجب التستر عليهن وذلك يدل بالملازمة على حرمة النظر كما مرّ(3) وإطلاقه يشمل الوجه والكفين .

   وفيه : أن المراد بالثياب الخمار والجلباب كما فسرت بذلك في غير واحد من الأخبار(4) فيجوز النظر إلى شعورهن ورؤوسهن ، وأما غير القواعد فلا يجوز النظر الى مثل ذلك منهنّ . وأما الوجه والكفان فلا تعرّض لهما في الآية نفياً وإثباتاً .

   وبالجملة : غاية ما يستفاد من الآية عدم جواز النظر إلى شعر غير القاعدة ورأسها الذي هو موضع للخمار والجلباب ، وأمّا الوجه والكفان فالآية ساكتة عن حكم النظر إليهما .

   فتحصّل : أنّ الآيات التي استدلّ بها للقول بالحرمة كلّها قاصرة الدلالة .

   الرابع : الإجماع الذي ادّعاه الفاضل المقداد ، حيث ذكر إطباق الفقهاء على أنّ المرأة بتمامها عورة فلا يجوز النظر اليها(5) .

   وفيه : مضافاً إلى أنّه إجماع منقول ، أنّ دعواه موهونة في المقام إذا أراد به ما

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 20 : 202 / أبواب مقدمات النكاح وآدابه ب 109 ح 5 .

(2) النور 24 : 60.

(3) في الجهة الرابعة ، الأمر الأول .

(4) الوسائل 20 : 202 / أبواب مقدمات النكاح وآدابه ب 110 .

(5) لاحظ التنقيح الرائع 3 : 22 .

ــ[72]ــ

يعم الوجه والكفّين ، لذهاب جماعة من المحققين كالشيخ الطوسي(1) ـ على ما نسب إليه ـ والشيخ الأنصاري(2) وغيرهما إلى الجواز ، ومعه كيف يمكن دعوى الإطباق والاتفاق . وإن أراد به دونهما فهو مسلّم ، لكنه لا ينفع للمقام وأجنبي عن محل الكلام . فهذه الدعوى على تقدير غير صحيحة وعلى التقدير الآخر غير مفيدة .

   الخامس : قيام السيرة العملية من المتشرعة المتصلة بزمن المعصومين (عليهم السلام) على التستر عن الأجنبي الكاشف عن وجوبه الملازم لحرمة النظر كما مرّ .

   وفيه أوّلاً : أنّ السيرة ممنوعة من أصلها ، سيما في مثل القرى والقصبات والبلدان أيضاً ، بل لعلّ السيرة في هذه الموارد قائمة على العكس كما لا يخفى نعم لا نضايق من تحققها بالإضافة إلى النساء المجلّلات في البلدان الكبار ، وأمّا على سبيل العموم فكلا ، فهي مختصة بطائفة من النساء في بعض البلاد .

   على أنّه يمكن منع السيرة هنا أيضاً ، فانّ المجللات إنّما يتسترن عن الأجانب المحض ، دون الأقارب وإن لم يكونوا محارم كزوج الاُخت أو أخي الزوج أو ابن العم ونحوهم ممن يسكنون في دار واحدة معها ، فانهنّ لا يتسترن غالباً عن مثل هؤلاء الأقارب مع أنّهم أجانب شرعيين وإن لم يكونوا كذلك عرفاً . ومن المعلوم عدم الفرق في وجوب الستر عن الأجنبي بين العرفي والشرعي كما يفصح عنه الصحيح المتقدم(3) الوارد في شعر اُخت المرأة المتضمّن أنّها والغريبة سواء . فيظهر أنّ السيرة في موردها إنّما هي لجهة اُخرى لا للمنع الشرعي ، وإلا كان مقتضاها عدم الفرق بين الموارد كما عرفت .

   وثانياً : لو سلّم فلم يحرز الاتصال ، لاحتمال أن يكون المستند في ذلك فتوى المشهور بحيث لم تكن السيرة قبل صدور الفتوى منهم ، فلم تتصل إلى زمن

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) المبسوط 4 : 160 .

(2) كتاب النكاح : 46 ـ 49 .

(3) في ص 63 .

ــ[73]ــ

المعصومين (عليهم السلام) كي يحتج بها لأجل عدم ردعهم (عليهم السلام) عنها .

   وثالثاً : على فرض الاتصال فسيرة المتدينين أعم من وجوب التستر ، فانّ السيرة القائمة على فعل غايته الدلالة على عدم حرمته ، كما أنّ القائمة على الترك غايته الدلالة على عدم وجوبه ، لا الدلالة على الوجوب في الأول والتحريم في الثاني كما لا يخفى . ففي المقام غاية ما تدلّ عليه السيرة القائمة على التستر جوازه دون وجوبه كما ادعيّ .

   السادس : حكم العقل بذلك ، وتقريره : أنّ من الظاهر أنّ محاسن المرأة عمدتها في وجهها ، وبما أنّ النظر اليها يؤدي إلى الزنا غالباً ويوصل إلى مبغوض الشارع كثيراً ، لكونه معرضاً للافتتان فالعقل يحكم بعدم جواز النظر إلى الوجه على الإطلاق حسماً لمادة الفساد .

   وفيه : أنّ هذا الوجه إنّما يحسن تقريره حكمة للتشريع ، التي لا يجب فيها الاطّراد بعد الفراغ عن ثبوت الحكم ـ أعني حرمة النظر إلى الوجه على الإطلاق ـ من الخارج ، فيحكم بعدم جواز النظر حتى بدون الريبة ، لعدم لزوم الاطّراد في الحكمة ، نظير حكم الشارع بالاعتداد لحكمة عدم اختلاط المياه غير المطّردة في جميع الموارد .

   وأمّا استكشاف الحكم الشرعي من نفس هذا الوجه على الإطلاق فكلاّ ، لما مرّ غير مرة من عدم الطريق إلى كشف ملاكات الأحكام من غير ناحية الأمر أو النهي ، فلا سبيل للعقل لإدراك الملاك التام المستتبع لحرمة النظر ، وما ذكر وجه اعتباري لا يصلح أن يكون علة للحكم ، وإلا كان لازمه المنع عن النظر إلى بعض المحارم ، فانّ النظر إلى بعضهم وإن كان مأموناً عن الافتتان ـ كالاُم والبنت والاُخت بحيث لا يكاد يتفق النظر إليهنّ عن شهوة ـ لكن البعض الآخر ليس كذلك ، كالاُخت من الرضاعة واُم الزوجة ونحوهما ممن يتطرّق احتمال اللالتذاذ في النظر إليهن وكذا بالنسبة إلى الأمرد ، فاللازم المنع عن النظر في جميع ذلك حسماً لمادة الفساد ، لكون النظر في هذه الموارد أيضاً

ــ[74]ــ

معرضاً للافتتان غالباً كما ذكر ، وهو كما ترى .

   وبالجملة : فلا يمكن الاستناد إلى هذا الوجه العقلي في الحكم بعدم جواز النظر إلى الأجنبية حتى مع الأمن عن الفتنة وعدم كونه بقصد الشهوة والريبة الذي هو محلّ الكلام كما لا يخفى .

   السابع : الروايات المتضمنة لجواز النظر إلى المرأة لمن يريد تزويجها ، وأحسنها سنداً ودلالة للمقام صحيحة هشام وحمّاد وحفص كلّهم عن أبي عبدالله (عليه السلام) «قال : لا بأس بأن ينظر إلى وجهها ومعاصمها إذا أراد أن يتزوجها»(1) ، حيث دلّت بالمفهوم على عدم جواز النظر إلى الوجه والمعاصم ـ وهي الكفّان أو السواران المستلزم للنظر إلى الكفين ـ إذا لم يكن من قصده التزويج .

   وفيه أولاً : أنها أجنبية عما نحن فيه ، لأنّ النظر المحكوم فيها بالجواز هو النظر عن شهوة والتذاذ على ما يقضتيه طبع النظر بقصد الزواج ، فانّ الناظر حينئذ يفكّر في أمور ، لأنّه يشتريها بأغلى الثمن كما عبّر بذلك في بعض النصوص(2) ، فيتأمل في محاسنها وجمالها نظر شهوة وتهييج كي تحصل له الرغبة في التزويج ، فمفهومها المنع عن مثل هذا النظر لو لم يكن لهذه الغاية . وأين ذلك من النظر الساذج العاري عن الشهوة والريبة الذي هو محلّ الكلام .

   ويؤكّد ما ذكرناه ويؤيّده : رواية الحسن بن السريّ ، قال «قلت لأبي عبدالله (عليه السلام) : الرجل يريد أن يتزوج المرأة يتأملها وينظر إلى خلفها وإلى وجهها ، قال : نعم ، لا بأس أن ينظر الرجل إلى المرأة إذا أراد أن يتزوجها ينظر إلى خلفها وإلى وجهها»(3) فانّ التعبير بالتأمّل غير المنفك عن التلذذ كالصريح فيما ذكرناه .

   نعم ، لا يخلو سند الرواية عن الضعف ـ ولذا ذكرناها بعنوان التأييد ـ لمكان الحسن بن السري ، فانّه لم تثبت وثاقته ، نعم وثقه العلامة في

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) ، (2) ، (3) الوسائل 20 : 88 / أبواب مقدمات النكاح وآدابه ب 36 ح 2 ، 1 ، 3 .

ــ[75]ــ

الخلاصة(1) وابن داود(2) لكن من المعلوم أنّ المستند في توثيقهما هو النجاشي ، إلا أنّ توثيق النجاشي إيّاه غير معلوم ، فانّه وإن ذكر الفاضل التفريشي عن بعض معاصريه أنّه وجد توثيقه في بعض نسخ النجاشي ، لكن التفريشي اعترف بنفسه بخلو نسخ أربع من النجاشي التي هي عنده عن هذا التوثيق(3) . والمجلسي أيضاً بنى على أنّ الصواب خلوّ نسخة النجاشي عن التوثيق(4) .

   وبالجملة : فالأمر يدور بين زيادة التوثيق في نسخة النجاشي أو نقيصته ، ولا أصل ينقّح ذلك ، فلا اطمئنان بتوثيق النجاشي إيّاه ، فالرواية حسنة لولا الحسن .

   وكيف كان ، فالصحيحة بنفسها ظاهرة في المطلوب كما عرفت .

   وثانياً : لو سلّم دلالتها على المنع عن النظر ولو من غير شهوة فلا بدّ من حملها على الكراهة ، جمعاً بينها وبين آية الإبداء(5) الصريحة في جواز النظر إلى الزينة الظاهرة بضميمة الأخبار المفسرة لها بالوجه والكفين كما تقدّم(6) .

   وما يقال : من أنّ غاية ما يستفاد من الآية عدم وجوب التستر بالنسبة إلى الوجه والكفّين ، وهو لا يستلزم جواز النظر إليهما كي يحمل لأجله النهي المستفاد من مفهوم الصحيحة على الكراهة ، فانّ عدم وجوب الستر أعم من جواز النظر ، كما في الرجل ، فانّه لا يجب عليه التستر مع أنّه يحرم على المرأة النظر إلى بدنه ، وكما في الأمرد فانّه يحرم النظر إليه بشهوة مع عدم وجوب التستر عليه .

   مدفوع : بأنّ هذا إنما يتمّ لو تضمنت الآية عدم وجوب الستر ، وليس

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الخلاصة : 105 / 244 .

(2) رجال ابن داود : 73 / 418 .

(3) لاحظ نقد الرجال 3 : 263 / 3581 .

(4) رجال المجلسي : 187 / 478 [ولعلّه من جهة عدم نقله التوثيق عن النجاشي] .

(5) النور 24 : 31 .

(6) في ص 70 ـ 71 .

ــ[76]ــ

كذلك ، بل إنها دلت على جواز الإبداء الذي هو بمعنى الإظهار والإراءة ، فانّ الظاهر أنّ مثل هذا التعبير يدل على جواز النظر كما لا يخفى ، وليس هو على حدّ التعبير بعدم وجوب الستر ، ولعل الفرق واضح .

   الثامن : الأخبار الدالة على أنّ النظر سهم من سهام إبليس مسموم ، وأنّ زنا العينين النظر(1) فانّها باطلاقها تعمّ الوجه والكفين .

   وفيه : أنّ هذه الروايات وإن كان بعضها صحيح السند لكنّها قاصرة الدلالة على ما نحن فيه ، فانّ التعبير بالسهم لا يناسب إلا النظر مع خوف الافتتان الذي هو من الشيطان ، كما أنّ تنزيله منزلة الزنا يقتضي وجود جامع بينهما وهو اللذة والشهوة كي يصدق أنّ النظر زنا العين ، فكأن الشارع وسّع في مفهوم الزنا ، فالحقيقي منه ما كان بتوسط الآلة المخصوصة ، والتنزيلي ما كان بواسطة اللمس أو الفم أو العين على اختلاف مراتبها التي يجمعها الالتذاذ والارتياب ، وهو خارج عن محلّ الكلام ، هذا .

   مع أنّه لم يتعرض لذكر متعلّق النظر في هذه الأخبار . والأخذ بالإطلاق أينما سرى كما ترى ، للزومه تخصيص الأكثر المستهجن كما مرّ(2) وحمله على خصوص الأجنبية بتمام بدنها لا شاهد عليه ، ولعل المراد خصوص العورتين من الرجل أو المرأة . وبالجملة : فالمتعلّق مجمل ولا قرينة على التعيين ، فلا يصح الاستدلال بها فتأمل .

   التاسع : مكاتبة الصفار إلى أبي محمد (عليه السلام) في الشهادة على المرأة هل يجوز أن يشهد عليها من وراء الستر وهو يسمع كلامها إذا شهد عدلان بأنّها فلانة بنت فلان ، أو لا تجوز له الشهادة حتى تبرز من بيتها بعينها ، فوقّع (عليه السلام) : تتنقّب وتظهر للشهود(3) فانّ ظاهر الأمر بالتنقب هو الوجوب .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 20 : 190 / أبواب مقدمات النكاح وآدابه ب 104 ح 1 ، 2 ، 5 .

(2) في ص 69 .

(3) الوسائل 27 : 401 / أبواب الشهادات ب 43 ح 2 [وقد سقطت هذه الرواية عن    الوسائل ط طهران] .

ــ[77]ــ

   وفيه : أنّ النقاب لا يستر تمام الوجه بل بعضه ـ أعني من الذقن إلى ما فوق الأنف ـ فالعينان والحاجبان والجبهة مكشوفة ، ولا يحتمل الفرق في وجوب الستر وعدمه بين بعض الوجه وتمامه فيظهر من ذلك أنّ الأمر بالتنقب ليس لمكان الوجوب الشرعي ، بل هو حكم تأدبي أخلاقي دفعاً للحزازة العرفية حيث إنّ ظهور المرأة وحضورها مكشوفة الوجه في مجلس الرجال لا يخلو عن الاستهجان ، لمنافاته مع العفاف المرغوب فيه ، ولا سيما في المرأة الجليلة الشخيصة ، فانّ ذلك مهانة لها ويمسّ بكرامتها .

   والمتحصّل من جميع ما ذكرناه لحدّ الآن : أنّ الوجوه التي استدلّ بها للمشهور لا يتم شيء منها ، فهي ساقطة بأسرها ، للمناقشات التي قدمناها ـ وأكثرها مقتبسة من كلام شيخنا الأنصاري في كتاب النكاح(1) ـ على الاستدلال بكل من الأدلّة الأربعة أو فقل الوجوه التسعة كما عرفت بما لا مزيد عليه .

   ثم إنّ شيخنا الأنصاري (قدس سره)(2) بعد أن ناقش في أدلّة المشهور بمثل مامرّ تصدى (قدس سره) للاستدلال على الجواز بوجوه :

   منها : الأخبار الواردة في تفسير الزينة الظاهرة بالوجه والكفّين ، وفيها الصحاح وقد تقدمت(3) .

   ومنها : ما ورد من نظر جابر إلى وجه الزهراء (سلام الله عليها) وهو أصفر من شدة الجوع ، فدعا رسول الله (صلى الله عليه وآله) فصار أحمر(4) .

   وفيه : أنّ هذه الروايات بأجمعها ضعيفة السند كما لا يخفى ، بل لا يمكن الاستدلال بها حتى لو صحت أسانيدها ، إذ لا يمكننا التصديق بخروج الزهراء

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) كتاب النكاح : 46 فما بعد .

(2) في كتاب النكاح : 46 .

(3) في ص 70 ـ 71 .

(4) الوسائل 20 : 215 / أبواب مقدمات النكاح وآدابه ب 120 ح 3 .

ــ[78]ــ

(عليها السلام) سافرة الوجه عند جابر ونحوه من الأجانب ، فانّ مثل هذا لا يكاد يصدر عن امرأة عادية عفيفة فضلاً عن سيدة النساء بضعة سيد الأنبياء مصدر كلّ عفّة وحياء ، وقد ورد أنّ ابنتها زينب وهي الصديقة الصغرى (عليها السلام) لم تكن تخرج إلى قبر رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلا ليلاً عندما لم يكن أحد يرى شخصها بل ولا شبحها ، فاذا كانت هذه حالة ابنتها وهي الصديقة الصغرى فما ظنك بها نفسها وهي الصدّيقة الكبرى .

   وبالجملة : لا يسعنا التصديق بخروجها مكشّفة الوجه عند جابر بتاتاً ، ولا نحتمل صدق الحديث بوجه مهما صح السند وقوي المستند ، كيف وقد عرفت ضعف الروايات بأجمعها . فهذا الاستدلال كغيره مما ذكره (قدس سره) من الروايات الضعاف ساقط ولا يعبأ بشيء منها .

   والعمدة فيما استدل به صحيح علي بن سويد ـ المتقدّم سابقاً ـ قال «قلت لأبي الحسن (عليه السلام) : إني مبتلى بالنظر إلى المرأة الجميلة فيعجبني النظر إليها ، فقال : ياعلي لابأس إذا عرف الله من نيّتك الصدق ، وإيّاك والزنا . . .»الخ(1) فانّه كالصريح في جواز النظر إذا كان صادقاً في نيّته ، أي لم يقصد به الشهوة والريبة بحيث يؤدي إلى الزنا . فعلى تقدير تمامية الأدلة السابقة على الحرمة يجمع بينها وبين هذا الصحيح بالحمل على الكراهة ، هذا .

   وقد تعرّض في الجواهر(2) لهذه الصحيحة وحمل الابتلاء فيها على الصدفة والاتفاق من دون تعمد وقصد ، وأنّ نية الصدق المذكورة في الجواب إشارة إلى نفي البأس إذا كان صادقاً فيما يدّعيه من الابتلاء بهذا المعنى .

   وأنت خبير ببعد هذا الاحتمال عن سياق الرواية جداً ، لمنافاته لقوله : «فيعجبني النظر إليها» الظاهر في تحقق الإعجاب حال النظر غير المنفك حينئذ عن القصد فلا يلائم النظر الاتفاقي عن غير عمد . وحملها على إرادة الإعجاب

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 20 : 308 / أبواب النكاح المحرم وما يناسبه ب 1 ح 3 .

(2) الجواهر 29 : 79 .

ــ[79]ــ

بعد صرف النظر والحادث بعد التأمّل في النظر السابق كما ترى ، فانّه خلاف المتراءى من إسناد الإعجاب إلى النظر الظاهر في تحققه في هذه الحال كما عرفت .

   ونحوه في الضعف حمل الابتلاء على الاضطرار الرافع للتكليف ، وأنّ الوجه في السؤال ما يدخله من الإعجاب بعد النظر . فانّ إطلاق الابتلاء على الاضطرار لم يعهد في المحاورات ، فهو استعمال غير مأنوس ، لكونه على خلاف المتفاهم العرفي من هذه الكلمة كما لا يخفى .

   فيدور الأمر بين أحد معنيين آخرين :

   أحدهما : حمل الابتلاء على الابتلاء النفساني من جهة غلبة النفس الأمّارة وقاهريّة القوة الشهوية فيجد نفسه مبتلى بالبخوع للميولات النفسانية .

   وهذا أيضاً يتلو ما تقدّمه في الضعف ، فانّ الابتلاء بهذا المعنى من عمل الفساق والمنهمكين في الشهوات الذين يتتبعون آثار النساء ويقعدون لهن كلّ مرصد ، نجلّ ساحة ابن سويد وهو من ثقات أصحاب الرضا (عليه السلام) عن مثل ذلك . على أنّ الإمام (عليه السلام)كيف يقرّه على الفسق ، وأيّ معنى ـ والحال هذه ـ لعرفان الله من نيّته الصدق .

   فيبقى الاحتمال الثاني الذي ذكره الشيخ (قدس سره) وهو أنّ ابتلاءه بالنظر إلى النساء من جهة اقتضاء شغله ذلك ، ككونه بزّازاً أو صائغاً ونحوهما ممن يتّجر في حاجيات النسوان فيبتلى بمواجهتهنّ في مقام البيع والشراء ، فسأل عما قد يتطرقه عند النظر من الإعجاب بهن والتمتع بجمالهن ، على ما هو مقتضى الطبع البشري من التذاذه من النظر إلى كل شيء جميل ، سواء كان إنساناً أو حيواناً أو جماداً كمجسمة جميلة أو تصوير حسن ونحو ذلك ، فأجاب (عليه السلام) بعدم البأس إذا عرف الله من نيّته الصدق ، أي كان نظره نظراً ساذجاً والإعجاب الذي يدخله ناشئاً عن الفطرة البشرية المقتضية للالتذاذ بكلّ شيء بديع دون الإعجاب والالتذاذ المنبعثين عن القوة الشهوية والمنبعثين عن الغريزة الجنسية التي هي من سنخ نظر الزوج إلى زوجته ، إذ من الواضح عدم

ــ[80]ــ

الملازمة بين هذين النوعين من النظر ، فقد يلتذ الإنسان من النظر إلى وجه ولده الجميل من دون أن يخطر بباله انبعاث هذه اللذة عن الشهوة والغريزة الجنسية ، وكذا غير ولده من الأمثلة المتقدمة ، فهذا التفكيك متحقق حتى في النظر إلى المرأة الجميلة الأجنبية كما هو ظاهر . ففصّل الإمام (عليه السلام) في الجواب بين هذين النوعين ، وخصّ الجواز بالنوع الأوّل الذي عبّر (عليه السلام) عنه بقوله : «إذا عرف الله من نيتك الصدق» .

   ويؤيّده قوله (عليه السلام) بعد ذلك : «وإيّاك والزنا» فانّ التحذير عن الوقوع في الزنا قرينة قطعية على أنّ المراد من النظر المنفي عنه البأس ما كان من النوع الأوّل المأمون عن الزنا ، دون الثاني الذي هو معرض للافتتان ويؤدي إلى الزنا غالباً .

   وقد تحصّل من جميع ما تلوناه عليك لحدّ الآن أن مقتضى الصناعة بالنظر إلى أدلّة الباب نفسها بعد ضمّ بعضها إلى بعض والتدبّر فيما يقتضيه الجمع بين الأدلّة هو اختيار القول بالجواز ، كما ذهب اليه شيخنا الأنصاري (قدس سره) مصرّاً عليه .

   لكن مع ذلك كلّه في النفس منه شيء ، والجزم به مشكل جداً ، ولا مناص من الاحتياط الوجوبي في المقام ـ كما فعله الماتن (قدس سره) ونعم ما صنع ـ وذلك لما ثبت من تتبع الآثار واستقصاء الموارد المتفرقة من الأخبار اهتمام الشارع الأقدس بشأن الأعراض اهتماماً بليغاً ، بحيث يعلم من مذاقه التضييق فيما دون النظر فضلاً عنه ، والتشديد في ناموس المسلمين بالنهي عما يخالفه تحريماً أو تنزيهاً ، كما يفصح عنه نهيه عن خروجهنّ للجمعة والجماعات(1) على ما هي عليه من الفضل والمثوبات ، وكذا النهي عن حضورهن لتشييع الجنائز(2) والمنع عن اختلاطهن مع الرجال في الأسواق ، الوارد في نهي علي (عليه

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) منها ما في الوسائل 7 : 340 / أبواب صلاة الجمعة وآدابها ب 22 ح 1 ، 8 : 334 /    أبواب صلاة الجماعة ب 20 ح 4 .

(2) الوسائل 3 : 239 / أبواب الدفن ب 69 ح 3 ، 4 ، 5 .

 
 

ــ[81]ــ

السلام) أهل الكوفة عن ذلك(1) ، والنهي عن المحادثة معهن وسماع صوتهن(2) فيطمع الذي في قلبه مرض ، وعن تقبيل البنات بعد بلوغهنّ ست سنين(3) وعن التسليم على المرأة الشابة حيث ورد أنّ علياً (عليه السلام) كان لا يسلم عليهنّ(4) وعن الجلوس في مكان قامت عنه المرأة والحرارة بعد باقية لكونه مهيجاً للشهوة(5) إلى غير ذلك من الموارد المتفرقة التي لا تخفى على المتتبع
ومعه كيف يمكن الحكم بالجواز سيما وأنّ الوجه مجمع الحسن ومركز الجمال ومثار الفتنة و النظر اليه من مزال الأقدام ومواقع الهلكة غالباً .

   على أنّه لو كان الجواز ثابتاً في مثل هذه المسألة الكثيرة الدوران لكان من الواضحات المشهورات مع أنّه لم ينقل(6) القول به صريحاً من المتقدمين إلا الشيخ الطوسي (قدس سره)(7) وبعض من تبعه من المتأخرين حتى قيل إنّ المنع مما اختص به المسلمون قبال غيرهم . فلا يسعنا في المقام إلا الاحتياط الوجوبي كما عرفت ، والله سبحانه أعلم .

   ومن جميع ما مرّ يعلم الحال في عكس المسألة ـ أعني نظر المرأة إلى الرجل الأجنبي ـ وإن كانت الأدلّة في الفرض السابق أكثر ، إذ ليس في المقام دليل لفظي عدا آية الغض ، وقد عرفت الإشكال في الاستدلال بها(8) وعدة من الروايات الضعاف لكن مقتضى الاحتياط الوجوبي عدم النظر منهن إليه

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 20 : 235 / أبواب مقدمات النكاح وآدابه ب 132 .

(2) الوسائل 20 : 197 / أبواب مقدمات النكاح وآدابه ب 106.

(3) الوسائل 20 : 229 / أبواب مقدمات النكاح وآدابه ب 127 .

(4) الوسائل 20 : 234 / ابواب مقدمات النكاح وآدابه ب 131 ح 3 .

(5) الوسائل 20 : 248 / أبواب مقدمات النكاح وآدابه ب 145 .

(6) لا يلائم هذا مع ما في رياض المسائل [2 : 74 السطر 13، 7] والحدائق [23: 53] من إسناد الجواز إلى المشهور فلاحظ وتدبّر .

(7) تقدم في ص 71 نسبة الجواز إليه .

(8) في ص 81 الجهة الخامسة .




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net