معنى التقليد عند اختلاف الفتاوى 

الكتاب : التنقيح في شرح العروة الوثقى-الجزء الاول:التقليد   ||   القسم : الفقه   ||   القرّاء : 14521


    معنى التقليد عند اختلاف الفتاوى

   وقد يقال : إنه إذا تعدد المجتهدون واختلفوا في الفتوى ، توقف التقليد على الالتزام بالعمل على إحدى الفتويين أو الفتاوى ، أو أن التقليد حينئذ ينتزع عن نفس الالتزام والدليل على وجوبه حكم العقل بلزوم تحصيل الحجة على امتثال الأحكام الشرعية .

   بل عن بعضهم أن الخلاف في أن التقليد هو العمل أو الالتزام إنما هو فيما إذا اتحد المجتهد أو تعددوا واتفقوا في الفتوى ، وأما مع التعدد والتعارض بين الفتويين أو

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) كفاية الاُصول : 472 .

ــ[61]ــ

الفتاوى ، فلا ينبغي التردد في أنه يجب الالتزام بإحدى الفتويين أو الفتاوى ، لأن موضوع الحجية لا يتحقق حينئذ إلاّ بالالتزام ، وهو مقدمة لتطبيق العمل على طبقها والوجه فيه : أن الحجة يمتنع أن يكون هو الجميع لاستلزامه الجمع بين المتناقضين ، ولا واحد معيّن لأنه بلا مرجح ، كما يمتنع الحكم بالتساقط والرجوع إلى غير الفتوى لأنه خلاف السيرة والاجماع ، إذن يتعيّن أن تكون الحجة ما يختاره المكلّف ويلتزم به وحاصله : أن الحجة في مفروض الكلام هي إحدى الفتويين أو الفتاوى تخييراً والتمييز حينئذ بالاختيار والالتزام ، هذا .

   ويأتي منّا إن شاء الله في المسألة الثالثة عشرة عند تعرض الماتن (قدّس سرّه) لمسألة ما إذا كان هناك مجتهدان متساويان في الفضيلة وحكمه فيها بالتخيير : أن الحجية التخييرية ـ بأي معنى فسّرت ـ أمر لا محصل له في المقام ، وأن الوظيفة حينئذ هو الاحتياط لسقوط الفتويين أو الفتاوى عن الحجية بالتعارض ، إذن لا توقف للتقليد على الالتزام فضلاً عن أن يكون التقليد نفس الالتزام عند تعدد المجتهد واختلافهم في الفتوى .

   ثمّ إن التكلم في مفهوم التقليد لا يكاد أن يترتب عليه ثمرة فقهية ، أللّهم إلاّ في النذر ، وذلك لعدم وروده في شيء من الروايات . نعم ، ورد في رواية الاحتجاج «فأما من كان من الفقهاء صائناً لنفسه ، حافظاً لدينه ، مخالفاً على هواه ، مطيعاً لأمر مولاه فللعوام أن يقلّدوه» (1) إلاّ أنها رواية مرسلة غير قابلة للاعتماد عليها . إذن فلم يؤخذ عنوان التقليد في موضوع أي حكم لنتكلم عن مفهومه ومعناه . وأما أخذه في مسألتي البقاء على تقليد الميت ، والعدول من الحي إلى غيره فهو إنما يتراءى في كلمات الأصحاب (قدّس الله أسرارهم) حيث عنونوا المسألتين كما نقلناه ، ومن المعلوم أنهما بهذين العنوانين غير واردتين في الأخبار .

   نعم ، سبق إلى بعض الأذهان أن حكم المسألتين مبني على معنى التقليد فيختلف الحال فيهما باختلافه ، لأنا لو فسّرناه بالالتزام وفرضنا أن المكلف إلتزم بالعمل بفتوى

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) وسائل الشيعة 27 : 131 / أبواب صفات القاضي ب 10 ح 20 .

ــ[62]ــ

مجتهد ثمّ مات ذلك المجتهد ، فله أن يعمل على فتاواه لأنه من البقاء على تقليد الميت وليس تقليداً إبتدائياً له ، وهذا بخلاف ما إذا فسّرناه بالاستناد إلى فتوى المجتهد في مقام العمل ، لأنه حينئذ من تقليد الميت ابتداءً لعدم استناد المكلف إلى شيء من فتاوى المجتهد الميت حال حياته ، وإنما التزم بأن يعمل على طبقها فلا يجوز أن يرجع إلى الميت حينئذ . وكذلك الكلام في المسألة الثانية لأنه إذا التزم بالعمل بفتيا مجتهد ـ  وفسّرنا التقليد بالالتزام  ـ حرم عليه العدول عن تقليده لأنه قد قلّده تقليداً صحيحاً ولا مرخّص له للعدول ، وهذا بخلاف ما إذا قلنا إن التقليد هو الاستناد إلى فتوى المجتهد في مقام العمل لأنه حينئذ لم يتحقق منه تقليد المجتهد ليحرم عليه العدول ، بل لا يكون رجوعه لغيره عدولاً من مجتهد إلى مجتهد آخر ، هذا .

   ولكنّا سنبيّن ـ قريباً ـ أن المسألتين لا يختلف حكمهما بالاختلاف في معنى التقليد لعدم ابتنائهما عليه حيث إن لكل من المسألتين مبنى لا يفرق فيه الحال بين أن يكون التقليد بمعنى الالتزام أو بمعنى آخر كما يأتي في محلّه ، إذن صحّ ما ذكرناه من أن عنوان التقليد لم يرد في شيء من الأدلة حتى نبحث عن مفهومه .

   بقي شيء وهو أن مسألة التقليد ليست تقليدية وتوضيحه : أ نّا قد أسبقنا أن كل مكلّف يعلم علماً اجمالياً بثبوت أحكام إلزامية في الشريعة المقدسة من وجوب أو تحريم ، وبه تنجّزت الأحكام الواقعية عليه ، وهو يقتضي الخروج عن عهدتها لاستقلال العقل بوجوب الخروج عن عهدة التكاليف المتوجّهة إلى العبد من سيّده والمكلف لدى الامتثال إما أن يأتي بنفس الواجبات الواقعية ويترك المحرمات ، وإما أن يعتمد على ما يعذّره على تقدير الخطأ وهو ما قطع بحجيته ، إذ لا يجوز لدى العقل الاعتماد على غير ما علم بحجيته حيث يحتمل معه العقاب ، وعلى هذا يترتب أن العامي لا بدّ في استناده إلى فتوى المجتهد أن يكون قاطعاً بحجيتها في حقه ، أو يعتمد في ذلك على ما يقطع بحجيته ، ولا يسوغ له أن يستند في تقليده على ما لا يعلم بحجيته إذ معه يحتمل العقاب على أفعاله وتروكه وعليه لا يمكن أن تكون مسألة التقليد تقليدية ، بل لا بدّ أن تكون ثابتة بالاجتهاد . نعم ، لا مانع من التقليد في خصوصياته كما يأتي عليها الكلام ، إلاّ أن أصل جوازه لا بدّ أن يستند إلى الاجتهاد .

ــ[63]ــ

   ما يمكن أن يعتمد عليه العامي

   الّذي يمكن أن يعتمد عليه العامي في حجية فتوى المجتهد في حقّه أمران :

   أحدهما : الارتكاز الثابت ببناء العقلاء ، حيث جرى بناؤهم في كل حرفة وصنعة بل في كل أمر راجع إلى المعاش والمعاد ، على رجوع الجاهل إلى العالم لأنه أهل الخبرة والاطلاع ، ولم يرد من هذه السيرة ردع في الشريعة المقدسة . وهذه السيرة والبناء وإن جاز أن لا يلتفت إليهما العامي مفصلاً ، إلاّ أنهما مرتكزان في ذهنه بحيث يلتفت إليهما ويعلم بهما تفصيلاً بأدنى إشارة وتنبيه .

   وثانيهما : دليل الانسداد ، وتقريبه أن كل أحد يعلم بثبوت أحكام إلزامية في حقه كما يعلم أنه غير مفوّض في أفعاله بحيث له أن يفعل ما يشاء ويترك ما يريد ، وهذان العلمان ينتجان استقلال العقل بلزوم الخروج عن عهدة التكاليف الواقعية المنجّزة بعلمه ، وطريق الخروج عنها منحصر في الاجتهاد والاحتياط والتقليد .

   أما الاجتهاد ، فهو غير متيسّر على الكثير بل على الجميع ، لأن كل مجتهد كان برهة من الزمان مقلداً أو محتاطاً لا محالة ، وكونه مجتهداً منذ بلوغه وإن كان قد يتفق إلاّ أنه أمر نادر جداً ، فلا يمكن أن يكون الاجتهاد واجباً عينياً على كل أحد بل لعلّه خلاف الضرورة بين المسلمين .

   وأمّا الاحتياط ، فهو كالاجتهاد غير ميسور له لعدم تمكنه من تشخيص موارده ، على أ نّا لا نحتمل أن تكون الشريعة المقدسة مبتنية على الاحتياط . إذن يتعيّن على العامي التقليد لانحصار الطريق به . وبهذا الطريق يستكشف العقل أن الشارع قد نصب في الشريعة طريقاً آخر إلى الأحكام الواقعية بالإضافة إلى العامي فلا يسوغ له أن يأخذ بالعمل بمظنوناته ويترك مشكوكاته وموهوماته ، وذلك لأنه ليس للمقلّد ظنّ بالأحكام فإنه ليس من أهل النظر والاجتهاد . على أن ظنّه كشكّه ووهمه لا أقربية له إلى الواقع بالنسبة إلى شقيقيه ، لعدم ابتنائه على النظر في أدلة الأحكام فليس له طريق أقرب إلى الواقع من فتوى مقلّده .

   وعلى الجملة أن دليل الانسداد وإن لم يتم بالإضافة إلى المجتهد ، فإن من يرى انسداد باب العلم الّذي من مقدماته عدم التمكن من الاجتهاد ، كيف يرخّص الرجوع

ــ[64]ــ

إلى فتوى من يرى إنفتاحه ويدعي التمكن من الاجتهاد وذلك لعلمه بخطئه ومع تخطئته لا يتمكن العامّي من الرجوع إليه ، إلاّ أنه تام بالإضافة إلى العامّي كما عرفت هذا كلّه فيما يمكن أن يعتمد عليه العامي في المقام .




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net