جهات البحث \ الاُولى - الثانية 

الكتاب : المستند في شرح العروة الوثقى-الجزء الثاني : الصلاة   ||   القسم : الفقه   ||   القرّاء : 4207


   وينبغي قبل الشروع في صميم البحث التكلّم في جهات :

   الاُولى : أنّ الجواز المبحوث عنه في المقام يحتمل أن يراد به الوضعي منه الذي هو بمعنى المضي والنفوذ والصحة المستلزم لترتب الأثر عليه وجواز الاكتفاء به في مقام الامتثال ، كما يحتمل أن يراد به الجواز التكليفي بمعنى الإباحة لا ما يقابل الحرمة الذاتية ، لعدم احتمال أن تكون الصلاة في اللباس المشكوك من المحرمات الإلهية ، بل ما يقابل الحرمة التشريعية ـ أي الإتيان بالعمل في مقام الامتثال مضيفاً له إلى المولى ومسنداً له إلى الشارع ـ فانّ جواز العمل تكليفاً بهذا المعنى يلازم الصحة والاجتزاء به في مقام الامتثال ، وإلا كان تشريعاً محرماً ، والشارع لا يرخّص في التشريع المحرّم ، لعدم الفرق في حرمته بين عدم ثبوت الحكم واقعاً أو عدم إحرازه كما لا يخفى . فما لم تحرز صحة الصلاة في المشكوك بأصل أو أمارة فهي محكومة بالحرمة تشريعاً ، فاذا أباحه الشارع ورخّصه في مقام الامتثال كشف ذلك لا محالة عن صحته ونفوذه . فالجواز التكليفي بهذا المعنى يلازم الجواز الوضعي ، بل مرجعهما شيء واحد .

   الجهة الثانية : هل المراد بالجواز المبحوث عنه في المقام هو الجواز الواقعي أوالظاهري البحت ، أو الظاهري المنقلب إلى الواقعي في بعض الفروض ؟ وجوه ، بل أقوال . وستعرف أنّ الأقوى هو الأخير .

   ظاهر المحقق القمي (قدس سره) في أجوبة مسائله هو الأوّل ، حيث ذكر (قدس سره) أنّ المتبادر أو المنصرف ممّا دلّ على المنع من الصلاة في أجزاء ما لا يؤكل صورة العلم بكون الشيء جزءاً من حيوان غير مأكول اللحم ، ففرض الشك خارج عن مصبّ الحكم رأساً ، ثم قال (قدس سره) : وعلى تقدير التنزّل

ــ[206]ــ

والتسليم فلا أقل من عدم ظهور الدليل في التعميم(1) .

   فعلى ما أفاده (قدس سره) من أخذ العلم جزءاً للموضوع تكون الصحة في ظرف الشك واقعية(2) ، لانتفاء المانع حقيقة وارتفاعه وجداناً ، من دون حاجة إلى قيام أمارة أو أصل . لكن المبنى غير قابل للتصديق .

   أمّا أوّلاً : فلأنّ الألفاظ أسام للمعاني الواقعية دون المعلومة ، فالنهي عما لا يؤكل متوجه إلى واقع هذا العنوان علم به أم جهل ، كغيره من موضوعات الأحكام من الخمر ونحوه ، ولا قرينة على الاختصاص بصورة العلم . وما ادّعاه من التبادر أو الانصراف عهدته على مدّعيه .

   وثانياً : مع الغضّ فانّما يسلّم الانصراف في مثل الأخبار المتضمنة للخطاب والنهي التكليفي ، فيدعى ظهورها لمكان الاشتمال على البعث أو الزجر في صورة العلم ، لكن الأخبار الدالّة على المنع عن الصلاة في أجزاء ما لا يؤكل لا تنحصر بذلك ، بل قد عرفت أنّ العمدة منها هي الموثّقة ، وهي عارية عن النهي والخطاب ، بل هي دالة على الحكم الوضعي أعني الفساد ابتداءً ، قال (عليه السلام) فيه : «فالصلاة في وبره وشعره وجلده وبوله وروثه وألبانه وكلّ شيء منه فاسدة لا تقبل تلك الصلاة . . .الخ» ولا مقتضي لدعوى الانصراف في مثل ذلك أصلاً ، فهو باطلاقه شامل لصورتي العلم والجهل . فما أفاده (قدس سره) لا يمكن المساعدة عليه بوجه .

   وذهب المحقّق النائيني (قدس سره) إلى أنّ الصحّة ظاهرية لا واقعية(3) . وتظهر الثمرة فيما لو صلّى في المشكوك ثم انكشف الخلاف وبان أنّه من أجزاء ما لا يؤكل ، فعلى ما أفاده (قدس سره) تجب الإعادة ، بخلاف ما لو كانت الصحّة واقعية .

   وهذا منه (قدس سره) مبني على ما اختاره من اختصاص حديث لا تعاد

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) جامع الشتات 2 : 776 السطر 26 .

(2) [وفي الأصل : والقيد ، والصحيح ما أثبتناه] .

(3) رسالة الصلاة في المشكوك : 159 .

ــ[207]ــ

بصورة النسيان وعدم شموله لفرض الجهل(1) ، فانّه بعد ما كان المنع عما لا يؤكل واقعياً غير مختص بصورة العلم ـ كما مرّ آنفاً ـ فبعد انكشاف الخلاف وتنجّز الواقع لابدّ من الإعادة ، التي هي مقتضى القاعدة الأوّلية في كل ما لو تبيّن خلل في العبادة من نقص جزء أو شرط أو الاقتران بمانع ، ما لم يدل دليل على الإجزاء المقتضي لانقلاب القاعدة الأوّلية إلى الثانوية ، من قاعدة لا تعاد ونحوها من القواعد المقرّرة في أمثال المقام ، هذا .

   وقد أفاد (قدس سره) في وجه الاختصاص أنّ ذلك مقتضى مادة الإعادة فانّ الأمر بها أو نفيها إنّما يتّجه مع عدم بقاء الأمر الأول ، وإلا فمع ثبوته يكلّف باتيان العمل بنفس ذلك الأمر من دون حاجة إلى الأمر بالإعادة . فالمعتبر في مقسم هذا الحكم نفيا ًوإثباتاً سقوط الأمر الأول ، المختصّ ذلك بالناسي ، حيث إنّ الجزء المنسي عنه مرفوع عنه حتى واقعاً ، وأمّا الجاهل فحيث إنّ الحكم الواقعي ثابت في حقه وغير ساقط عنه فهو لا يزال مخاطباً بنفس الأمر الأول فيقال له أدِّ العمل وائتِ به ، ولا يقال له أعد أو لا تعد كما لا يخفى .

   لكنّك خبير بصحة إطلاق الإعادة في كلتا الصورتين وإن اختص الجاهل بامكان خطابه بنحو آخر أيضاً ـ كما ذكر ـ فمهما يشتركان في صحة الإطلاق نفياً وإثباتاً بمجرد الشروع في العمل ، نعم قبل الشروع لا معنى للحكم بالإعادة أو بعدمها ، لانتفاء الموضوع ، فانّها عبارة عن الوجود الثاني للطبيعة وبعد لم يوجد أيّ فرد منها ، من دون فرق في ذلك بين الجاهل والناسي . وأمّا بعد الشروع والتلبس بالعمل فيصح الإطلاق ، سواء فرغ من العمل أم كان بعد في الأثناء ، وإن كان في الأول أظهر . ويكشف عن الثاني ما ورد في غير واحد من الأخبار من الإعادة في من أخلّ بصلاته في الأثناء من قهقهة أو تكلم أو حدث ونحو ذلك(2) .

 ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) كتاب الصلاة 3 : 5 .

(2) الوسائل 7 : 250 / أبواب قواطع الصلاة ب 7 ، 25 ، 1 وغيرها .

ــ[208]ــ

   وبالجملة : فلا فرق في حسن الإطلاق في كلّ ذلك بين الناسي والجاهل فيما إذا كان الجهل عذراً وعن قصور ، فلو صلّى في اللباس المشكوك جهلاً يعذر فيه وبعد الفراغ بان الخلاف فهو مشمول لحديث لا تعاد .

   نعم ، الجاهل المتردد الذي لا يعذر فيه ـ كمن صلّى قبل الفحص ونحو ذلك ـ غير مشمول للحديث ، لانصرافه إلى ما إذا كان المقتضي للإعادة ما يلحق العمل من انكشاف الخلاف المتأخر عنه بحيث لولاه كان محكوماً بالصحة . وأمّا في الفرض فالعمل محكوم بالبطلان بحكم العقل من أول الأمر ، لمكان قاعدة الاشتغال فلا يعمّه الحديث .

   وأوضح حالاً منه العالم المتعمّد ، فانّ البطلان حينئذ ثابت من أوّل الأمر ، لا أنّه يتجدّد لاحقاً لأجل انكشاف الخلاف ، على أنّ شموله لمثله مناف لأدلّة الأجزاء والشرائط والموانع كما هو ظاهر . فما عن بعض من شموله للعامد بمراحل عن الواقع .

   وأمّا الجاهل المقصّر غير المتردد فالحديث في حدّ نفسه غير قاصر الشمول له ، لكن يمنع عن ذلك ما ورد في غير واحد من الأخبار من الأمر بالإعادة في من أخلّ بجزء أو شرط أو مانع ، فانّ لازم شمول الحديث للجاهل المقصّر حمل هذه الأخبار على العالم العامد أو الجاهل المتردد اللذين قلّما يتفق لهما مصداق في الخارج ، ضرورة أنّ الغالب من موارد هذه الأخبار إنّما هو الجاهل المقصّر ، فيلزم من الشمول المزبور حمل هذه الأخبار ـ على كثرتها ـ على الفرد النادر وهو قبيح مستهجن . ففراراً عن هذا المحذور يمنع عن شمول الحديث للجاهل المقصّر .

   فتحصّل : أنّ مورد حديث لا تعاد إنّما هو الناسي والجاهل المعذور ، دون المقصّر ودون المتردد والعامد .

   وعليه فمن صلّى في اللباس المشكوك جاهلاً وهو معذور فيه ثم بان الخلاف بعد الفراغ حكم بصحة صلاته صحة واقعية ، لحديث لا تعاد .

   وكذا لو انكشف الخلاف في الأثناء لكن بعد أن نزع اللباس قبل الانكشاف

ــ[209]ــ

كما لو صلّى فيه ركعة ثمّ اتفق نزعها في الركعة الثانية ثم حدث الانكشاف في الركعة الثالثة مثلاً ، فانّ القاعدة جارية حينئذ ، إذ حين اللبس كان جاهلاً معذوراً على الفرض فتشمله القاعدة بلحاظ ذلك الجزء ، وعند الانكشاف لم يكن لابساً له . فجواز الصلاة مع المشكوك كان ظاهرياً ، وبعده تبدل إلى الواقعي ببركة الحديث .

   نعم ، إذا كان لابساً له حال الانكشاف لم تنفع القاعدة حينئذ ، فانّها وإن جرت بالإضافة إلى الأجزاء السابقة لكنها لا تنفع بالنسبة إلى اللاحقة التي منها آن الانكشاف ، المعتبر فيه الخلو عما لا يؤكل كبقية الآنات الصلاتية ، لعدم تكفّل الحديث إلا لتصحيح العمل السابق وترميم الخلل الواقع فيه ، دون ما لم يأت به بعدُ من الأجزاء اللاحقة كما هو ظاهر جداً ، ففي مثله يكون الجواز ظاهرياً بحتاً فيحكم بالبطلان عند انكشاف الخلاف .

   والمتحصّل من جميع ما ذكرناه : أنّ كون الجواز ظاهرياً أم واقعياً يدور مدار جريان حديث لا تعاد وعدمه ، وقد عرفت جريانه في بعض الصور ، فيتبدّل فيه الجواز الظاهري إلى الواقعي ، وهو ما إذا كان الانكشاف بعد الفراغ عن الصلاة أو في الأثناء لكن بعد النزع ، فيحكم بالصحة . وأمّا إذا كان الانكشاف قبله فلا تبدّل ولا انقلاب ، بل الجواز ظاهري بحت يرتفع بقاءً لدى الانكشاف فيحكم بالبطلان ووجوب الإعادة .




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net