الاُصول الحكمية التي قيل بجريانها في محل البحث \ الأول - الثاني 

الكتاب : المستند في شرح العروة الوثقى-الجزء الثاني : الصلاة   ||   القسم : الفقه   ||   القرّاء : 4412


 المبحث الثاني في الاُصول الحكمية : قد عرفت إمكان إثبات الصحة وجواز الصلاة في اللباس المشكوك بالأصل الموضوعي من التمسك باستصحاب العدم الأزلي وغيره ، ومعه لا تنتهي النوبة إلى الرجوع إلى الأصل الحكمي . فالرجوع إليه إنّما هو بعد تسليم عدم تمامية شيء من الاُصول الموضوعية .

   كما لاريب أنّ مقتضى القاعدة ما لم تثبت الصحة وجواز الاقتصار في مقام

ــ[278]ــ

الامتثال بالصلاة في المشكوك فيه هو الرجوع إلى قاعدة الاشتغال ، ولزوم إيقاع الصلاة فيما يقطع بعدم كونه من غير المأكول ، إذ الاشتغال اليقيني يستدعي البراءة اليقينية بالضرورة ، فيجب إحراز الامتثال وتفريغ الذمة بالإتيان بالمأمور به جامعاً للشرائط وفاقداً للموانع ، فكما يجب إحراز الشرط يجب عقلاً إحراز عدم المانع ولو ببركة الأصل ، إذ لا فرق في لزوم إحراز المأمور به بقيوده بين القيود الوجودية والعدمية كما مرّ التنبيه عليه في بعض المباحث السابقة(1) هذا .

   وقد استدلّ في المقام على الجواز استناداً إلى الأصل الحكمي من وجهين :

   أحدهما : التمسك بأصالة الحلّ في نفس الصلاة كماعن صاحب الحدائق (قدس سره)(2) بدعوى أنّ للصلاة باعتبار الوقوع في المأكول وفي غيره فردين : حلال وحرام ، ويشكّ في هذه الصلاة الشخصية الواقعة في اللباس المشكوك فيه أنّها من الفرد المحلّل أو المحرم ، فيشمله عموم قوله (عليه السلام) : «كلّ شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام منه بعينه»(3) وغيرها من سائر الأخبار الدالّة على أصالتي الحلّ والإباحة .

   وفيه : أنّه إن اُريد بالحرمة المحتملة الحرمة الذاتية فهي مقطوعة العدم ، إذ لا ريب أن مجرّد الصلاة فيما يقطع بكونه من غير المأكول ـ فضلاً عمّا يشك ـ ليس بنفسه من المحرمات الإلهية كما لو كان بقصد التعليم ونحوه .

   وإن اُريد بها الحرمة التشريعية فلا ريب في عدم التشريع لو صلّى في المشكوك بقصد الرجاء لاحتمال الجواز ، أو لاحتمال عدم كونه من غير المأكول فيصلّي بانياً على تحقيق الحال بعد الفراغ والإعادة لو انكشف الخلاف ، فلا يحتمل الحرمة في مثل ذلك . نعم ، لا يجوز الاقتصار عليه في مقام الامتثال للزوم الخروج عن عهدة الاشتغال اليقيني بالبراءة اليقينية كما هو ظاهر .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) في ص 209 ، الجهة الثالثة .

(2) الحدائق 7 : 86 .

(3) الوسائل 17 : 87 / أبواب ما يكتسب به ب 4 ح 1 .

ــ[279]ــ

   وأمّا لو صلّى فيه مضيفاً له إلى المولى وبنية جزمية ـ لا رجاءً ـ فهو حرام قطعاً ، لكونه من إدخال ما لم يعلم أنّه من الدين في الدين ، الذي هو تشريع محرم بالأدلّة الأربعة ، فلا يحتمل جوازه كي يكون مشكوك الحلّية فيرجع إلى أصالة الحل .

   وبالجملة : ذات الصلاة من دون إضافة إلى المولى محلّل قطعاً ، وكذا مع إضافة رجائية ، وأمّا مع الإضافة الجزمية فهي محرّمة قطعاً . فعلى كل تقدير لا شكّ حتى يتمسك بأصل الحل .

   نعم ، لو كان المراد بالحلّية في أخبار أصالة الحلّ ما يشمل الحلّية الوضعية المساوقة للصحة وجواز الاقتصار في مقام الامتثال لصحّ الاستدلال حينئذ كما لا يخفى . لكنّه بمراحل عن الواقع ، بل الحلّية تكليفيّة محضة . إذ المراد بها في روايات الباب الترخيص العملي ونفي البأس عن الفعل مع الشكّ في الحرمة ، لا الحكم بالنفوذ والمضيّ في مقام الامتثال ، وإلا لصحّ الاستدلال بها في جميع أبواب العبادات والمعاملات حتى بالمعنى الأعم عند الشك في تحقق شرط أو وجود مانع ما لم يقم دليل على خلافه من عموم ونحوه ، وهو كما ترى ، بل لازمه تأسيس فقه جديد كما لا يخفى .

   الوجه الثاني : وهو العمدة في المقام ـ التمسك بأصالة البراءة ، وتقريره يتوقف على تقديم اُمور :

   الأوّل : لا ريب أنّ الشكّ إذا كان راجعاً إلى مقام الجعل وفي أصل ثبوت التكليف فهو مورد لأصالة البراءة الشرعية والعقلية ، وأمّا إذا رجع إلى مرحلة الامتثال والخروج عن عهدة التكليف الثابت بعد العلم بفعليّته ووجوده فهو مورد لقاعدة الاشتغال ، لاستقلال العقل بلزوم إحراز الفراغ عن التكليف المعلوم ، وأنّ الاشتغال اليقيني يستدعي البراءة اليقينية .

   الثاني : أنّ من الواضح أنّه لا يكفي في تنجيز التكليف مجرّد العلم بجعل الكبرى الكلّية في الشريعة المقدسة ما لم ينضم معه إحراز الصغرى ، فانّ العلم

ــ[280]ــ

بالكبرى بمجرده غير صالح للبعث والتحريك بالضرورة ، فالعقاب على مخالفته قبل وصول الصغرى عقاب بلا بيان .

   وعليه ففي موارد التكاليف الانحلالية كحرمة شرب الخمر ونحوه لا يكون التكليف منجّزاً ذا بعث أو زجر إلا بعد وصول الكبرى والصغرى معاً ، فلو وصلت إحداهما دون الاُخرى ـ كأن علم بحرمة شرب الخمر ولم يعلم أنّ المائع الخارجي خمر ، أو علم بخمريته ولم يعلم بحرمته ـ لم يتحقق التنجيز حينئذ ، لتقوّمه بكلا الأمرين كما عرفت ، ومعه يكون المورد مجرى لأصالة البراءة الشرعية والعقلية .

   وبعبارة اُخرى : التكليف المجعول في الكبرى الكلّية ينحلّ حسب تعدد وجود موضوعه في الخارج إلى تكاليف عديدة ، فعند الشك في الانطباق يشكّ في تعلّق التكليف بهذا الفرد المشكوك فيدفع بأصل البراءة عقلاً وشرعاً . والتفكيك بينهما باجراء البراءة الشرعية دون العقلية بزعم تمامية البيان من قبل المولى ـ كما عن بعض ـ قد ظهر فساده مما مرّ ، بل إمّا أن يجريا معاً أو لا يجرى شيء منهما . وتمام الكلام في محلّه(1) .

   الثالث : أنّ في جريان البراءة وعدمه في دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر الارتباطيين وإن كان بحث عريض وكلام طويل الذيل إلا أنّ الأقوى هو الجريان ، لا لأجل انحلال العلم الإجمالي إلى متيقّن ومشكوك كما في الأقل والأكثر الاستقلاليين ، لاستحالة الانحلال الحقيقي في المقام ، بل لأجل الانحلال الحكمي .

   وتوضيحه على سبيل الإجمال : أنّ انحلال العلم الإجمالي إنّما يتحقق فيما إذا رجع المعلوم بالإجمال لدى التأمل إلى معلوم تفصيلي ومشكوك بدوي ، كما هو الحال في موارد الدوران بين الأقل والأكثر الاستقلاليين ، حيث إنّ الأقل معلوم تفصيلاً والزائد عليه يشكّ في وجوبه من أول الأمر ، فيرجع فيه إلى البراءة

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) مصباح الاُصول 2 : 323 التنبيه الرابع .

 
 

ــ[281]ــ

السليمة عن المعارض .

   وهذا غير متصوّر في الارتباطيين ، إذ التكليف حينئذ دائر بين تعلّقه بالأقل بشرط الانضمام إلى الجزء أو الشرط المشكوك فيه ـ كما هو مقتضى الارتباطية ـ وبين تعلّقه به لا بشرط الانضمام ، فالأقل مأخوذ إمّا بشرط شيء أو لا بشرط ، فنعلم إجمالاً بالجامع بين هذين الأمرين ، وفي مثله لا يكاد يكون الأقل معلوماً بالتفصيل كي يتحقق معه الانحلال الحقيقي .

   لأنه إن اُريد بالأقل المعلوم كذلك الأقل بشرط الانضمام فهو واضح الفساد .

   وإن اُريد به الأقل لا بشرط الانضمام فهو بنفسه طرف للعلم الإجمالي لدوران المعلوم بالإجمال بين أخذ الأقل لا بشرط أو بشرط شيء كما عرفت فكيف يكون متعلّقاً للعلم التفصيلي .

   وإن اُريد به ذات الأقل لا بشرط عن كلتا الخصوصيتين والجامع بينهما ـ المعبّر عنه باللابشرط المقسمي ـ فهو نفس المعلوم بالإجمال ، إذ لا نعني به سوى تعلّق العلم بالجامع بين الخصوصيتين والشكّ في أنفسهما ، فليس ذلك شيئاً وراء نفس العلم الإجمالي . فمرجع الانحلال حينئذ إلى انحلال العلم الإجمالي بنفسه ، وهو غير معقول . فالانحلال الحقيقي غير متصوّر في المقام .

   نعم ، نتيجة الانحلال وهي الرجوع إلى البراءة عن الأكثر من دون معارض ـ المعبّر عنه بالانحلال الحكمي ـ ثابتة في المقام ، ومعه يسقط العلم الإجمالي عن التنجيز .

   وذلك لأن المانع عن جريان الاُصول في الأطراف ليس هو نفس العلم بدعوى أنّ إجراء الأصل مغيّى في الأدلة بعدم حصول العلم بالخلاف ، والمراد به الأعم من الإجمالي والتفصيلي . إذ فيه : أنّ الغاية ظاهرة في العلم التفصيلي خاصة ، كما يفصح عنه قوله (عليه السلام) : «حتى تعلم الحرام منه بعينه فتدعه»(1) .

 ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 17 : 87 / أبواب ما يكتسب به ب 4 ح 1 .

ــ[282]ــ

   بل المانع إنّما هي المعارضة ، ولا تعارض في المقام ، لعدم جريان الأصل في ناحية الأقل ، إذ الذي يكون طرفاً للعلم الإجمالي هو الأقل لا بشرط ـ كما عرفت ـ وهو يتضمّن التوسعة والإطلاق من حيث الانضمام مع الأكثر وعدمه ورفع مثله مخالف للامتنان ، فلا يكون مشمولاً لحديث الرفع المبني على الامتنان . كما لا يكون مشمولاً لقاعدة قبح العقاب بلا بيان ، لتماميّة البيان بالنسبة إليه كما هو واضح .

   وأمّا وجوب الأكثر فحيث إنّه يتضمن الضيق وفيه كلفة زائدة ، ولم يتم البيان بالنسبة إليه فهو مجرى لأصل البراءة الشرعية والعقلية من دون معارض .




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net