الخامس - السادس 

الكتاب : المستند في شرح العروة الوثقى-الجزء الثاني : الصلاة   ||   القسم : الفقه   ||   القرّاء : 3842


   وأمّا القسم الخامس : وهو الذي يكون الموضوع فيه ملحوظاً على سبيل السريان والاستغراق ، بأن يكون لكلّ فرد من أفراد الطبيعة حكم مستقل وجوبي أو تحريمي مغاير للفرد الآخر ، كما في قولنا : أكرم كلّ عالم ، أو لا تشرب الخمر ، حيث لوحظ كلّ فرد من العالم أو من الخمر موضوعاً مستقلاً لحكم

ــ[289]ــ

منعزل عن الآخر وإن اُنشئ الكلّ بلسان واحد ، فحينئذ لو شككنا في فرديّة فرد للطبيعة وانطباقها عليه فلا شبهة أنّ المرجع أصالة البراءة ، وذلك لما تكرّر غير مرة من إناطة فعليّة التكليف وتنجّزه بوصوله كبرى وصغرى ، فلا يكفي مجرد وصول الكبرى ما لم يحرز انطباقها على الصغرى . فالشك في الانطباق مساوق للشك في تعلّق التكليف .

   وبعبارة اُخرى : لابدّ من انطباق عنوان متعلّق التكليف وتحققه في مرتبة سابقة على الحكم به . إذن فالشك في عالميّة زيد ـ مثلاً ـ شك في مصداقية إكرامه(1) لطبيعي إكرام العالم ، ومعه يشك ـ طبعاً ـ في تعلّق الوجوب فيرجع إلى أصالة البراءة ، هذا .

   ولكنّ المحقق النائيني (قدس سره)(2) علّل جريان البراءة بوجه آخر ، وهو ما أشار إليه في غير مورد من اشتراط فعليّة التكليف بوجود موضوعه خارجاً على ما هو الشأن في كافة القضايا الحقيقية ، فانّ مرجع قولنا ـ مثلاً ـ لا تشرب الخمر ، إلى قضية شرطية مقدّمها وجود الموضوع وتاليها ثبوت الحرمة له ، فكأنّه قيل : إذا وجد شيء في الخارج وصدق عليه الخمر فلا تشربه .

   وعليه فالشك في وجود الموضوع شك في وجود شرط فعليّة التكليف ، وبما أنّ الشك في الشرط شك في المشروط فهو مساوق للشك في أصل التكليف فيرجع إلى البراءة .

   وما أفاده (قدس سره) وإن كان وجيهاً في الجملة ، ولكنّه لا يستقيم على إطلاقه ، وتوضيحه : أنّ متعلّق المتعلّق ـ الذي نعبّر عنه بالموضوع ـ تارة يكون خارجاً عن اختيار المكلف كالزوال بالنسبة إلى صلاة النهار ، والهلال بالإضافة إلى صيام رمضان ، وهكذا ، وفي مثله لا مناص من أخذ الموضوع مفروض الوجود ، لامتناع تعلق التكليف بايجاده أو إعدامه بعد خروجه عن حيّز

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) [الموجود في الأصل : مصداقيته . ولعل الصحيح ما أثبتناه] .

(2) رسالة الصلاة في المشكوك : 197 ـ 198 .

ــ[290]ــ

الاختيار ، وإنّما المعقول توجيه الطلب نحو العمل على تقدير وجوده ، فلا جرم يكون شرطاً في تعلّق الحكم ، فاذا شك في وجوده فقد شك في أصل التكليف المشروط به ، فتجري البراءة عنه ، وهذا واضح .

   واُخرى يكون تحت اختياره كالعقد المأخوذ موضوعاً لوجوب الوفاء به والخمر المجعول موضوعاً لحرمة شربه ، وهذا على قسمين :

   إذ تارة يكون ذلك الفعل الاختياري دخيلاً في اتصاف الفعل بكونه ذا مصلحة أو ذا مفسدة بحيث لولاه لم يكن مقتض للصلاح ولا للفساد ، ونظيره في التكوينيات العطش بالنسبة إلى شرب الماء ، أوالمرض بالنسبة إلى شرب الدواء أو استعمال الحامض ، فانّه لولا العطش لم يكن أي مقتض لشرب الماء كما أنّه لولا المرض لم تكن مصلحة في شرب الدواء ولا مفسدة في تناول الحامض . وفي التشريعيات العقود ـ على الإطلاق ـ بالنسبة إلى وجوب الوفاء والتزويج بالنسبة إلى وجوب الإنفاق ، والسفر بالنسبة إلى القصر ، والاستطاعة بالنسبة إلى وجوب الحج ، وهكذا .

   وتارة اُخرى يكون دخيلاً في تحقق المصلحة والمفسدة لا في الاتصاف بهما نظير اشتراط شرب الدواء بوقوعه بعد الأكل ، حيث يكون ذلك شرطاً في تأثير المصلحة وتحققها بعد ثبوت أصل الاتصاف .

   أمّا القسم الأوّل : فهو ملحق بالقسم السابق في لزوم كونه مفروض الوجود لدى تعلّق الحكم ، من غير أن يتوجّه طلب إليه بوجه ، فلا يلزم إيقاع العقد ولا التزويج ولا السفر ولا تحصيل الاستطاعة ، وإنّما المصلحة في ترتيب الآثار على تقدير تحقق هذه الاُمور ، من غير أيّ مقتض للبعث نحوها . إذن فمع الشك في تحققها يرجع إلى أصالة البراءة عن ترتيب آثارها ، كما كان كذلك في القسم السابق .

   وأمّا القسم الثاني : فلم يؤخذ الموضوع هنا مفروض الوجود ، إذ لا متقضي له بعد عدم الدخل في الاتصاف بالصلاح أو الفساد ، وبذلك يفترق هذا القسم

ــ[291]ــ

عن القسمين المتقدمين .

   وحينئذ فان كان التكليف وجوبياً ـ كالصلاة المقيّدة بالساتر ـ فكما أنّ المولى يأمر بايجاد الفعل ينبغي له أن يأمر بايجاد موضوعه أيضاً بمناط واحد ، وهو الدخل في تحصيل المصلحة ، فكما أنّ وجودها في الصلاة يدعوه للأمر بها فكذلك تأثير الساتر في تحقيقها يدعوه للأمر به أيضاً بتوجيه الأمر إلى القيد والمقيّد ، فيجب على المكلّف تحصيله ولو بالنسج بعد كونه قادراً على إيجاد الواجب بذاته وقيده كما هو المفروض .

   وإن كان تحريمياً ـ والمفروض دخل الموضوع في فعليّة المفسدة وتحققها لا في اتصاف الفعل بها ـ فلا محالة يكون النهي فعلياً حتى قبل وجود الموضوع ويكون امتثاله إمّا بعدم إيجاده في الخارج أو بعدم استعماله على تقدير الإيجاد فانّ مفسدة شرب الخمر مثلاً لا تتوقف على وجوده خارجاً ، بل هو متّصف بها قبل الوجود أيضاً ، ومنهيّ عنه باعتبار القدرة على شربه بالقدرة على مقدمته وهي صنعه .

   ومن ثمّ لو علم المكلّف من حاله أنّه لو صنعه ـ لغاية من الغايات ـ لشربه حرم عليه صنعه ، لا لأجل الدليل الخاص ، بل لنفس دليل حرمة الشرب ، لما عرفت من فعليّة النهي . فلا تكون فعلية الحكم في هذا القسم منوطاً بفعلية الموضوع .

   وبالجملة : اشتمال شرب الخمر على المفسدة الفعلية المستتبعة للنهي الفعلي يستوجب الانزجار عنه من غير إناطة بوجود الموضوع ، وهو يحصل بأحد النحوين ، إمّا بعدم صنعه أو بعدم شربه بعد صنعه كماعرفت ، فلا مانع من فعليّة الحكم قبل وجود الموضوع في هذا القسم ، وبذلك يفصل بينه وبين القسمين السابقين . إذن فلا يستقيم ما أفاده المحقق النائيني (قدس سره) على إطلاقه .

   فتحصّل : أنّ الكبرى التي أفادها (قدس سره) من أنّ الشك في وجود الموضوع يرجع إلى الشك في تحقق شرط التكليف ، ومن ثمّ يرجع إلى البراءة لا

ــ[292]ــ

أساس لها بنطاقها العام ، بل ينبغي التفصيل على النهج الذي سبق من اختصاصها بموضوع دخيل في اتصاف الفعل بالمصلحة أو المفسدة ، ولا تعمّ ما يكون من مبادئ تحقق ما هو متصف بأحدهما حسبما عرفت ، وأنّ الوجه الصحيح للرجوع إلى البراءة هو ما ذكرناه فلاحظ .

   وأمّا القسم السادس : وهو ما إذا كان العموم المفروض في جانب الموضوع مجموعياً ، فقد ظهر مما سبق أنّه لدى الشك في الانطباق يندرج المقام في كبرى الدوران بين الأقل والأكثر الارتباطيين ، للشك في جزئية الفرد المشكوك للمأمور به أو للمنهي عنه ، وحينئذ فان كان التكليف إيجابياً يقتصر على الأفراد المتيقّن دخلها في المجموع ، ويرجع في الفرد المشكوك إلى أصالة البراءة .

   وإن كان تحريمياً فلا جزم بالحرمة إلا لدى اجتماع تمام ما يحتمل دخله في الهيئة الاجتماعية ، فيرجع فيما عدا الفرد المشكوك ـ فضلاً عنه بنفسه منعزلاً عن غيره ـ إلى أصالة البراءة ، للشك في ثبوت النهي في كلّ من الصورتين ، إلا إذا رجع النهي المزبور إلى الأمر بالتروك ، بحيث كان التكليف منبعثاً عن مصلحة في اجتماع التروك ، لا عن مفسدة في انضمام الأفعال ، فانّه يجري حينئذ ما عرفته في التكليف الإيجابي من الاقتصار على المقدار المتيقّن من التروك ويرجع فيما عداه إلى أصالة البراءة .

   ثم إنّ الأقسام الستة المزبورة للشبهات الموضوعية كما أنّها تجري في الأحكام النفسية تجري في الأحكام الضمنية أيضاً بمناط واحد ، فاذا شك في جزء أو شرط مأخوذ على سبيل صرف الوجود لابدّ من إحرازه بقاعدة الاشتغال ، وإذا كان ملحوظاً على سبيل العموم الاستغراقي أو المجموعي في الحكم الوجوبي أو التحريمي كان من الأقل والأكثر الاستقلالي أو الارتباطي ومعه لابدّ من إحراز انطباق المتعلّق في الحكم بفعلية(1) التكليف ، ومع الشك فيه يرجع إلى أصالة البراءة حسب التفصيل الذي عرفت ، فلاحظ ولا نعيد .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) [لعل المناسب : بتنجز] .




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net