أدلّة القول بالمواسعة 

الكتاب : المستند في شرح العروة الوثقى-الجزء السادس : الصلاة   ||   القسم : الفقه   ||   القرّاء : 4373


 أدلّة القول بالمواسعة:

   وإذ قد عرفت ضعف أدلّة القول بالمضايقة يقع الكلام في أدلّة القول بالمواسعة، ويستدل لذلك باُمور:

   أحدها: أصالة البراءة، فانّ التضيّق وإيجاب المبادرة إلى الواجب زائداً على أصل الوجوب كلفة زائدة، وهي مجهولة فتدفع بأصالة البراءة.

   ولكن التمسّك بالأصل يتفرّع على عدم تمامية شيء من أدلّة القولين، وإلاّ فمع قيام الدليل الاجتهادي لاتصل النوبة إلى الأصل العملي كما هو ظاهر.

   ثانيها: دليل نفي الحرج، إذ الالتزام بالمضايقة ووجوب المبادرة سيما على النحو الذي يدّعيه بعض القائلين بها من الاقتصار على الضروريات يتضمّن الحرج الشديد والمشقّة العظيمة ممّا تنفيه أدلّة نفي الحرج.

   وفيه أوّلا: أنّ المنفي إنّما هو الحرج الشخصي دون النوعي، إذ الحرج موضوع للسقوط، لا أنّه حكمة في الحكم به كي لا يلزم فيه الاطّراد ويكتفى بما في نوعه الحرج، وعليه فالحكم تابع لتحقّق الحرج الشخصي خارجاً، وهذا ممّا يختلف باختلاف الأشخاص والحالات وكمّية القضاء، فلا يطّرد في جميع الموارد على سبيل الكبرى الكلّية، فقد لا يستلزم المبادرة أيّ حرج لقلّة مقدار

ــ[170]ــ

الفائتة، أو كان المكلّف الخاص قادراً على المبادرة إلى قضاء الجميع بدون أيّ حرج عليه. فليس له ضابط كلّي.

   وثانياً: مع فرض كثرة الفوائت واستلزام المبادرة للحرج فلا ريب في سقوط وجوبها عن خصوص المرتبة البالغة حدّ الحرج، ولا مقتضي لسقوطه من الأوّل.

   وكأنّ المستدلّ تخيّل أنّ هناك أمراً وحدانياً تعلّق بالمبادرة إلى قضاء جميع الفوائت على سبيل العام المجموعي، وحيث إنّ امتثال هذا الأمر حرجي فيسقط الأمر بدليل نفي الحرج.

   وليس الأمر كذلك بالضرورة، بل هناك أوامر متعدّدة انحلالية بعدد الفوائت كما هو الحال في الأمر بالأداء، والعسر والحرج إنّما يلاحظان في كلّ تكليف بحياله لا منضماً إلى الآخر، فاذا كانت الفوائت ألفاً مثلا فطبعاً تكون أوامر بالمبادرة بعددها، فاذا فرضنا أنّ المبادرة إلى قضاء الألف حرجي دون البدار إلى قضاء عشرة منها فلا محالة يسقط وجوب المبادرة إلى ما هو مورد الحرج
دون العشرة التي لا حرج فيها كما هو ظاهر.

   وثالثاً: أنّ دليل نفي الحرج غير جار في المقام أصلا، فانّه كدليل نفي الضرر إنّما يجري ويكون حاكماً على أدلّة التكاليف الواقعية فيما إذا كان التكليف بالإضافة إليهما لا بشرط، فيكون الدليلان موجبين لتخصيصها بغير موارد الحرج والضرر كما لو اتّفق لزوم الحرج أو الضرر من الوضوء مثلا، حيث يسقط وجوب الوضوء الحرجي أو الضرري، ويختصّ ذلك بغير الموردين.

   وأمّا إذا كان التكليف ممّا قد شرّع في مورد الحرج كالجهاد أو الضرر كالخمس(1) والزكاة فكان ملحوظاً بالإضافة إليهما بشرط شيء فلا يكاد يجري في مثله دليل نفي الحرج أو الضرر.

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) تشريع الخمس لم يكن من الأحكام الضرريّة عند سيّدنا الاُستاذ (دام ظله)، ولتوضيح الحال راجع مصباح الاُصول 2: 539.

ــ[171]ــ

   والمقام من هذا القبيل، فانّ أدلّة القول بالمضايقة على تقدير تماميتها إنّما كان مفادها وجوب المبادرة إلى القضاء الذي هو في نفسه حكم حرجي، فكيف يمكن رفعه بدليل نفي الحرج.

   ثالثها: قيام السيرة من المتشرّعة على عدم المبادرة إلى القضاء، فانّه قلّ من لا تكون ذمّته مشغولة بها ولا سيما في أوائل البلوغ، ومع هذا نراهم يشتغلون بالكسب ويتعاطون اُمورهم العادية من دون مبادرة منهم إلى القضاء. فجريان السيرة على ذلك خلفاً عن سلف المتّصلة بزمان المعصوم (عليه السلام) خير دليل على العدم.

   وفيه ما لا يخفى، فانّ السيرة الجارية عند الأكثر مستندها هي المسامحة وعدم المبالاة بأمر الدين، ولأجل ذلك تراهم لا يبادرون إلاّ القليل إلى تفريغ الذمّة عن حقوق الناس التي لا إشكال في فوريتها.

   وعلى الجملة: إن كان مورد السيرة المدّعاة هم المتشرّعة فهي ممنوعة، وإن كان الأعمّ منهم وممّن لا يبالي بالدين فهي مرفوضة.

   رابعها: - وهو العمدة - الأخبار الواردة، ولنذكر المهمّ منها معرضين عن الباقي الذي منه ما ورد في نوم النبي (صلّى الله عليه وآله) عن صلاة الفجر وأمره (صلّى الله عليه وآله وسلم) بالارتحال بعد الانتباه عن ذلك المكان والقضاء في مكان آخر، وقد مرّت الإشارة إلى بعض ذلك(1) وقلنا:(2) إنّ هذه الروايات وإن تمّت دلالة وسنداً ممّا يشكل الاعتماد عليها والتصديق بمضمونها
فلابدّ من ردّ علمها إلى أهله، أو حملها على بعض المحامل كالتقيّة ونحوها.

   وكيف ما كان، فالمهمّ من بين الأخبار التامة سنداً ودلالة صحيحتان:

   إحداهما: صحيحة أبي بصير عن أبي عبدالله (عليه السلام) «قال: إن نام رجل ولم يصلّ صلاة المغرب والعشاء أو نسي فان استيقظ قبل الفجر قدر ما

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) في ص 163.

(2) في ص 167.

ــ[172]ــ

يصلّيهما كلتيهما فليصلّهما، وإن خشي أن تفوته إحداهما فليبدأ بالعشاء الآخرة، وإن استيقظ بعد الفجر فليبدأ فليصلّ الفجر ثمّ المغرب ثمّ العشاء الآخرة قبل طلوع الشمس، فان خاف أن تطلع الشمس فتفوته إحدى الصلاتين فليصلّ المغرب ويدع العشاء الآخرة حتّى تطلع الشمس ويذهب شعاعها ثم ليصلّها»(1) .

   وقد ذكرنا في بحث المواقيت(2) أنّ صدر الصحيحة يدلّ على امتداد وقت العشاءين إلى طلوع الفجر، ولذلك أمره (عليه السلام) بالإتيان بهما معاً إذا استيقظ قبل الطلوع مع سعة الوقت، وإلاّ فيأتي بالعشاء خاصة لاختصاص الوقت من آخره بها.

   وكيف كان، فمحلّ الاستشهاد قوله (عليه السلام) في ذيل الصحيحة: «فان خاف أن تطلع الشمس...»، فقد أمر (عليه السلام) بتأخير العشاء حتّى تطلع الشمس ويذهب شعاعها. ومن الظاهر أنّ السبب في التأخير إنّما هو تجنّب الحزازة الثابتة في هذا الوقت، حيث تكره الصلاة عند طلوع الشمس وظهور شعاعها كما ورد النهي عن ذلك في غير واحد من النصوص(3) المحمول على الكراهة قطعاً، إذ لا قائل منّا بالتحريم.

   ومنه تعرف أنّ الأمر بالتأخير استحبابي حذراً عن حزازة الوقت، لا أنّه لزومي، وإلاّ فالقضاء مشروع في كلّ ساعة من ساعات الليل والنهار كما دلّ عليه صحيحة زرارة المتقدّمة(4) .

   وعلى الجملة: فلو كانت المبادرة واجبة - كما يدّعيه القائل بالمضايقة - لما حكم (عليه السلام) بالتأخير حذراً عن حزازة الوقت، فهل يمكن أن يكون

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 4: 288 / أبواب المواقيت ب 62 ح 3.

(2) شرح العروة 11: 129.

(3) الوسائل 4: 236 / أبواب المواقيت ب 38 ح 6، 9 وغيرهما.

(4) في ص 165.

ــ[173]ــ

تجنّب المكروه مسوّغاً لترك الواجب؟ فالرواية لا تلائم القول بالمضايقة بوجه وإنّما تكشف عن المواسعة في القضاء.

   الثانية: صحيحة زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) «قال: إذا نسيت صلاة أو صلّيتها بغير وضوء وكان عليك قضاء صلوات فابدأ بأوّلهن فأذّن لها وأقم ثم صلّها، ثمّ صلّ ما بعدها باقامة إقامة لكلّ صلاة...»(1) .

   وهذه الرواية واردة لبيان كيفية قضاء الفرائض من حيث الأذان والإقامة والخطاب فيها متوجّه إلى زرارة، ومعلوم أنّ ذلك ممّا لا يحسن إلاّ بفرض فوائت اشتغلت بها ذمّة المخاطب - وهو زرارة في الفرض - ولم يبادر إلى قضائها، وحينئذ قام الإمام (عليه السلام) بتعليمه كيفية القضاء من حيث الحاجة إلى الأذان والإقامة.

   فلو كانت المبادرة واجبة والقضاء فورياً لما حسن فرض الإخلال به من مثل زرارة وهو على ما هو عليه من العظمة والجلالة، ولما صحّ للإمام (عليه السلام) أن يدع ذلك دون أن يستنكره منه ويعترض عليه بل يقتصر على بيان الكيفية من دون أن يستقبح منه ترك الواجب، أو يلومه عليه على أقلّ التقديرين. فينكشف من ذلك عدم وجوب المبادرة إلى القضاء، وابتناء الحال فيه على المواسعة، بحيث كان التأخير فيه وعدم المبادرة إليه أمراً متعارفاً عادياً لا يضرّ صدوره حتّى من مثل زرارة.

   ويؤكّد ذلك بل يدل عليه ذيل الصحيحة الذي هو في قوّة التصريح بالمواسعة، حيث قال: «وإن خشيت أن تفوتك الغداة إن بدأت بالمغرب فصلّ الغداة، ثمّ صلّ المغرب والعشاء، ابدأ بأولهما لأنّهما جميعاً قضاء، أيّهما ذكرت فلا تصلّهما إلاّ بعد شعاع الشمس، قال قلت: ولم ذاك؟ قال: لأنّك لست تخاف فوتها».

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 4: 290 / أبواب المواقيت ب 63 ح 1.




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net