الإشكالات الواردة على النيابة ودفعها 

الكتاب : المستند في شرح العروة الوثقى-الجزء السادس : الصلاة   ||   القسم : الفقه   ||   القرّاء : 4207


ــ[207]ــ

   [1814] مسألة 2: يعتبر في صحّة عمل الأجير والمتبرّع قصد القربة، وتحقّقه في المتبرّع لا إشكال فيه، وأمّا بالنسبة إلى الأجير الذي من نيّته أخذ العوض فربما يستشكل فيه، بل ربما يقال من هذه الجهة: إنّه لا يعتبر فيه قصد القربة بل يكفي الإتيان بصورة العمل عنه.

   لكنّ التحقيق: أنّ أخذ الاُجرة داع((1)) لداعي القربة، كما في صلاة الحاجة وصلاة الاستسقاء، حيث إنّ الحاجة ونزول المطر داعيان إلى الصلاة مع القربة. ويمكن أن يقال: إنّما يقصد القربة من جهة الوجوب عليه من باب الإجارة. ودعوى أنّ الأمر الإجاري ليس عبادياً بل هو توصّلي، مدفوعة بأنّه تابع للعمل المستأجر عليه، فهو مشترك بين التوصّلية والتعبّدية (1).

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

عمّا تقتضيه القاعدة.

   والدليل على ذلك في باب الدين إنّما هي السيرة العقلائية، فقد جرت السيرة على الحكم بالوفاء وتفريغ ذمّة المدين بدفع المتبرّع المال بدلا عنه. مضافاً إلى النصوص الخاصّة الدالّة عليه المذكورة في محلّها(2).

   وأمّا في باب الأعمال من العبادات وغيرها فيدلّ على ذلك الروايات الخاصّة المتقدّم ذكرها(3) الدالّة على صحّة النيابة عن الأموات مطلقاً، وعن الأحياء في موارد خاصّة على التفصيل المتقدّم، ولأجل ذلك ينبغي الحكم بتفريغ ذمّة المنوب عنه بفعل النائب، سواء أكان قد أتى به تبرعاً لأجل حبّه للمنوب عنه أم أتى به وفاءً لعقد الإجارة أو الجعالة أم لغير ذلك من الدواعي.

   (1) لا إشكال في صحّة النيابة في باب التوصّليات، وأمّا العبادات ولا سيما في فرض الإجارة أو الجعالة فربما يستشكل ذلك من وجهين:

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) بل التحقيق أنّ حال العبادة المستأجر عليها كحال العبادة المنذورة، وأنّ الداعي الناشئ من قبل الإيجار وهو تفريغ الذمّة مؤكّد للعبادية، لا أنّه ينافيها.

(2) الوسائل 20 : 46 / أبواب مقدمات النكاح وآدابه ب 12 ح 6 وغيره.

(3) في ص 198 وما بعدها.

ــ[208]ــ

   أحدهما: الإشكال في تمشّي قصد القربة من النائب، فانّ العمل العبادي موقوف عليه لا محالة، وهو موقوف على ثبوت الأمر بالعبادة، والمفروض أنّه لا أمر بها بالنسبة إلى النائب، إذ قد لا تكون ذمّته مشغولة بفائتة أصلا، أو يكون ما اشتغلت به ذمّته مخالفاً لما ثبت في ذمّة المنوب عنه كما إذا استنيب في الصلاة قصراً مع فرض اشتغال ذمّة النائب بالفائتة تماماً.

   وأمّا الأمر المتوجّه إلى المنوب عنه فهو لا يكاد يدعو إلاّ من خوطب به وتوجّه إليه وهو المنوب عنه نفسه، فكيف يقصده النائب الأجنبي عنه ليتقرّب به، فلا يكاد يتمشّى من النائب قصد القربة المعتبر في باب العبادة، ولا سيما في موارد الإجارة أو الجعالة حيث كان الداعي والباعث الحقيقي للنائب على العمل إنّما هو أخذ العوض غالباً، وإن أمكن فرض غيره من الدواعي الفرعيّة كالإحسان إلى الميت أو حبّه له ونحو ذلك أحياناً، إلاّ أنّها اتفاقيّة لا دائمية، وإنّما الغالب هو أن يكون الداعي أخذ الجعل أو الاُجرة المنافي ذلك لقصد التقرّب بالعمل.

   ثانيهما: أنّه كيف يتقرّب المنوب عنه - كالميّت - بهذا العمل ويثاب على شيء لم يفعله ولا سيما إذا لم يتسبّب هو إليه بوصيّة ونحوها، مع أنّ التقرّب والثواب من آثار الطاعة المفروض انقطاعها بالموت ؟ وأنّه كيف تفرغ ذمّة الميت عمّا اشتغلت به بعمل صادر من غيره، وأن ليس للإنسان إلاّ ما سعى ؟

   والجواب عن الوجه الأوّل قد ظهر ممّا مرّ، وملخصه: أنّ النيابة في حدّ نفسها إنّما وقعت متعلّقاً للأمر الاستحبابي النفسي كما هو مقتضى النصوص المتقدّم ذكرها(1). ولا ينبغي الشك في كون الأمر المذكور عباديّاً فيما إذا كان مورد النيابة من العبادات كالصلاة والصيام ونحوهما، كما أنّه لابدّ من قصد التقرّب بالأمر المذكور في سقوطه، وإلاّ لم تتحقّق العبادة وبالتالي لم تتحقّق النيابة المأمور بها حسب الفرض.

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) في ص 198 وما بعدها.

ــ[209]ــ

   فعباديّة العمل النيابي تستدعي تعبّدية الأمر المتعلّق به بعنوان النيابة لا محالة، فلا مناص للنائب من قصد التقرّب بهذا الأمر لكي يتّصف متعلّقه بصفة العبادة التي هي مورد النيابة، فانّه بدونه لم تصدر منه العبادة التي تصدّى للنيابة فيها كما هو أوضح من أن يخفى.

   فما في بعض الكلمات من أنّ الأمر النيابي توصّلي لا تعبدي فلا يلزم على النائب قصد التقرّب به كلام لا أساس له، وكيف لا يكون عبادياً بعد فرض تعلّقه بما هو عبادة، ضرورة أنّ مورد النيابة ليس هو ذات الصلاة كيف ما اتفقت، وإنّما هي على النحو الذي اشتغلت به ذمّة المنوب عنه.

   ولا شكّ في اتّصاف ذمّة المنوب عنه بالصلاة المتّصفة بكونها عبادة المتقوّمة بقصد القربة، فلو لم يقصدها النائب كذلك لم يكن آتياً بما اشتغلت الذمّة به، ولا كان ممتثلا للأمر النيابي، فالصادر عن النائب بما هو نائب إنّما هي الصلاة المقترنة بقصد القربة قطعاً.

   ثمّ إنّ الداعي إلى هذا المجموع المركّب من الصلاة وقصد القربة تارة يكون هو استحبابها الذاتي، نظراً إلى كونه إحساناً إلى الميت وصلة له، أو لأجل حبّه له وشفقته عليه كالأب بالنسبة إلى الولد أو العكس، فيتبرّع بالنيابة عنه.

   واُخرى يكون الداعي إليه هو الوفاء بعقد الإجارة كما في الأجير، حتّى لا يكون أخذ الاُجرة أكلا للمال بالباطل، فانّه وإن كان قد ملكها - أي الاُجرة - بنفس العقد إلاّ أنّ استحقاقه للمطالبة بها على الوجه الشرعي يتوقّف على تسليم العمل المستأجر عليه، فينتهي ذلك بالأخرة إلى الخوف من الله تعالى.

   ولذا لو لم يكن مبالياً بأمر الدين لأمكنه المطالبة بالاُجرة ولو باخباره كذباً باتيانه بالعمل، حيث لا سبيل للمؤجر إلى الامتناع، لعدم إمكان الاطّلاع على الحال من غير طريق إخباره حتّى ولو كان قد شاهده يصلّي، لجواز أن لا يكون قاصداً للقربة أصلا أو كان قد قصدها عن نفسه لا عن الميت، فانّ قوام العبادة بالقصد النفسي الذي لا كاشف عنه خارجاً.

   فليس الداعي للأجير هو التسلّط على العوض كي ينافي ذلك قصد التقرّب

ــ[210]ــ

وإنّما الداعي له التسلّط عليه بوجه شرعي، إذ ما لم يسلّم المعوّض لا يكون له حقّ المطالبة بالعوض، وكان تصرّفه فيه حراماً. فالداعي بالتالي منته إلى الخوف من الله تعالى، فيكون الأمر الإجاري مؤكّداً للعبادية لا منافياً لها ومعاضداً لا معارضاً، كما هو الحال في النذر والشرط ضمن العقد ونحوهما.

   ومنه تعرف الحال في الجعالة، فانّ العامل وإن كان لا يستحقّ الجعل، كما أنّه لم يملكه أيضاً إلاّ بعد تسليم العمل، إلاّ أنّ الذي يدعوه إلى الإتيان بالعبادة على وجهها مقدّمة لاستلام العوض على الوجه الشرعي إنّما هو الخوف من الله تعالى، حتّى لا يكون تصرّفه فيه من أكل المال بالباطل.

   بل قد ذكرنا في بحث المكاسب(1) عند التكلّم في المسألة أنّ هذا مطّرد في كافّة العبادات، إذ قلّ من يعبده تعالى لكونه أهلا لها من دون ملاحظة أيّة غاية اُخرى، إلاّ الأوحدي من البشر كمولانا أمير المؤمنين (عليه السلام).

   أمّا عامّة الناس فيعبدونه تعالى لدواع اُخرويّة كالخوف من النار أو الطمع في الجنة، أو دنيويّة كطلب التوسعة في الرزق المترتّبة على صلاة الليل مثلا، أو قضاء الحاجة أو الاستسقاء كما في صلاتي الحاجة والاستسقاء، فانّ الطمع في الاُمور المذكورة يدعو إلى الإتيان بالصلاة بداع قربي، للعلم بعدم ترتّب الاُمور المذكورة عليها بدون ذلك.

   فكما لا يكون مثل ذلك منافياً لعباديّة العمل كذلك الطمع في أخذ العوض في الإجارة أو الجعالة في مفروض الكلام، لانتهاء ذلك بالأخرة إلى الداعي الإلهي، وهو الخوف منه تعالى كما عرفت.

   وأمّا الإشكال من الجهة الثانية فهو في محلّه، ولا مدفع عنه بناءً على كون الثواب من باب الاستحقاق، إذ كيف يعقل أن يعمل شخص ويستحقّ غيره الأجر عليه ويحصل له التقرّب أيضاً بذلك، لا سيما إذا لم يكن هناك أيّ ارتباط

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) مصباح الفقاهة 1: 463.

ــ[211]ــ

بين المثاب وبين العامل حتّى ولو كان ذلك مثل التسبيب بالوصية أو الاستنابة ونحوهما.

   لكنّ المبنى باطل جزماً، فانّ الثواب المترتّب على الأعمال في باب الطاعات والعبادات ليس هو من قبيل العوض والأجر الثابتين في باب المعاملات من العقود والايقاعات كي يكون المطيع مستحقاً على الله ثواب عمله كما يستحقه العامل، وإنّما هو تفضّل محض ولطف بحت، فانّه له الملك وله الأمر (لاَ يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ)(1) فان شاء تفضّل على عبده المسكين وجعله مشمولا لعنايته، وإلاّ فلا.

   وعليه فلا مانع من تفضّله تعالى على المنوب عنه كالنائب وحصول التقرّب لكليهما. أمّا النائب فلصدور الفعل العبادي منه قاصداً للتقرّب، وأمّا المنوب عنه فلإضافة النائب العمل إليه وإتيانه من قبله بقصد تفريغ ذمّته، فانّ هذا المقدار من الإضافة يكفي لكونه - أي المنوب عنه - مشمولا للتفضّل وحصول التقرّب من الله تعالى كما لا يخفى.

   بل ورد في بعض الأخبار: أنّ الكفّار أيضاً ينتفعون بعمل الحي لهم، وذلك بتخفيف العذاب عنهم(2). ولا محذور في ذلك على مبنى الالتزام بمسلك التفضّل في باب الثواب.

   وأمّا الحكم بتفريغ ذمّة الميّت عمّا اشتغلت به ذمّته فهو ممّا يكشف لا محالة عن أنّ اشتغال ذمّته كان من الأوّل مشروطاً بعدم إتيان النائب بالعمل بعد موت المنوب عنه، فهو في حال الحياة مكلّف بالعمل وتكون ذمّته مشغولة به ولا تبرأ ما لم يأت هو بالعمل، إلاّ أن يأتي به النائب بعد موته.

   فتحصّل: أنّ الإشكال في الحكم بالتفريغ مدفوع بالاشتراط، وأنّ إشكال الثواب مدفوع بالبناء على التفضّل، وإشكال تنافي القربة مع أخذ العوض

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الأنبياء 21: 23.

(2) الوسائل 8: 278 / أبواب قضاء الصلوات ب 12 ح 8، 11: 197 / أبواب النيابة في الحج ب 25 ح 5.




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net