الاعتبار في حدّ الترخّص بخفاء الأذان - اعتبار حدّ الترخّص في الإياب 

الكتاب : المستند في شرح العروة الوثقى-الجزء العاشر:الصلاة   ||   القسم : الفقه   ||   القرّاء : 3966


   والحاصل :  أ نّه لا ينبغي التأمّل في أنّ شعاع الصوت أقصر من شعاع البصر فينقطع السماع أوّلاً ثمّ بعد مدّة تخفى الجدران ويتوارى عن البيوت .

   فعليه لا يمكن الالتزام بأنّ الحدّ أحد الأمرين، إذ مرجعه إلى أنّ العبرة بالأوّل أعني عدم السماع . كما لا يمكن الالتزام بأ نّه مجموع الأمرين ، إذ مرجعه إلى أنّ العبرة بالأخير ، وهو التواري والخفاء ، بل لا بدّ وأن يكون الحدّ إمّا هذا أو ذاك فطبعاً تقع المعارضة بين الدليلين ، لتعذّر الجمع بينهما بارتكاب التقييد في المفهوم أو المنطوق لا بنحو العطف بالواو ، ولا بنحو العطف بـ (أو) فلا بدّ من العلاج .

   وملخّص الكلام :  أنّ الروايات ظاهرة في أ نّها مسوقة لبيان المعرّف ، وأنّ العبرة بنفس البعد كما فهمه الفقهاء ، ولا عبرة بالتواري الأصلي منه والتبعي من جبل أو غيم أو ظلمة أو عمى ونحو ذلك ، كما لا عبرة بعدم السماع . وبما أ نّه يحصل قبل الخفاء دائماً فيقع التنافي بين الحدّين والمعارضة بين الدليلين ، فلا بدّ من التصدّي لعلاجها .

   فنقول :  يمكن أن يقال في مقام الجمع بين الأخبار : إنّ الحدّ الواقعي هو بلوغ البعد بمقدار لا يسمع الأذان كما تضمّنته النصوص الكثيرة ، إلاّ أنّ معرفة ذلك وتشخيصه لكلّ أحد ممّا لا يتيسّر غالباً ، فانّ السفر في وقت الأذان نادر جدّاً ولا سيما في الأزمنة السابقة التي كان السير فيها بواسطة الدواب والجمال ، مع أ نّه ليس كلّ بلد يؤذّن فيه بحيث يسمع أذانه من دون مانع من ريح عاصف أو مطر هاطل ونحوهما .

ــ[199]ــ

   وحيث إنّ فهم الحدّ المزبور وأنّ هذا موضع يسمع فيه الأذان أو لا يسمع صعب على المسافر جدّاً ، كان التعليق على عدم السماع قليل الجدوى ، لكونه من التعليق على أمر لا يقع خارجاً غالباً .

   فمن ثمّ ذكر في صحيح ابن مسلم ضابط آخر يسهل تناوله لكلّ أحد، ويكون كاشفاً قطعيّاً عن حصول ذلك الحدّ، لكونه القدر المتيقّن من البُعد اللاّزم رعايته وهو التواري عن البيوت الذي هو أخصّ من عدم سماع الأذان ، لكون البعد في مورده أزيد كما مرّ .

   فاذا بلغ المسافر موضعاً خفيت عليه الجدران وتوارى عن البيوت إذا نظر إليها ـ وهذا شيء يعرفه كلّ أحد ـ فقد أحرز بلوغه بل وتجاوزه عن الموضع الذي لا يسمع فيه الأذان، الذي هو الحدّ الواقعي للترخّص. وبذلك تندفع المعارضة بين هذه الصحيحة وبين تلك الأخبار التي جعل فيها  المدار على عدم سماع الأذان .

   فان أمكن الجمع بهذا النحو فهو ، وإلاّ فتصل النوبة إلى المعارضة . ولا ينبغي الشكّ حينئذ في تقديم تلك الأخبار لكثرتها وشهرتها ، بل ومعروفية التحديد بخفاء الأذان ومغروسيته في الأذهان عند أصحاب الأئمة، بحيث كان أمراً مسلّماً مفروغاً عنه كما يظهر من رواية إسحاق بن عمار المتقدّمة ، المشتملة على قول السائل: «أليس قد بلغوا الموضع الذي لايسمعون فيه أذان مصرهم» وإن كانت الرواية ضعيفة السند كما مرّ ، فلا تصلح إلاّ للتأييد ، هذا .

   مع أنّ تلك الأخبار موافقة للنصوص الكثيرة المتضمّنة لوجوب التقصير على كلّ مسافر ، للزوم الاقتصار في مقام التخصيص على المقدار المتيقّن ، وهو بلوغ الموضع الذي لا يسـمع فيه الأذان ، إذ لا ريب أنّ تلك الأخبار بمثابة التخصيص في أدلّة عموم القصر لكلّ مسافر. ومن ثمّ لو لم يرد دليل على اعتبار حدّ الترخّص لقلنا بوجوب التقصير من أوّل خروج المسـافر من البلد أخذاً

ــ[200]ــ

وفي العود عن السفر أيضاً ينقطع حكم القصر إذا وصل إلى حدّ الترخّص (1)

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

بتلك العمومات ، لصدق المسافر عليه من لدن خروجه .

   فاذا عارض المخصّص دليل آخر أعم ، وهو ما دلّ على اعتبار المواراة التي تتحقّق دائماً بعد خفاء الأذان ـ كما عرفت ـ يقتصر في التخصيص على المقدار المتيقّن ، للشكّ في وجوب التمام في المقدار المتخلّل ما بين خفاء الأذان وخفاء الجدران زائداً على المقدار المعلوم ثبوته وحصول التخصيص به وهو ما قبل خفاء الأذان ، فيكون الترجيح بحسب النتيجة مع أخبار الأذان ، لمطابقتها مع السنّة القطعية ، أعني عمومات التقصير .

   فلا ينبغي التأمل في أنّ الاعتبار بالابتعاد حدّاً لا يسمع معه الأذان ، فيقصّر المسافر متى بلغ هذا الحدّ ، وإن لم يكن بعدُ متوارياً عن البيوت .

   (1) قد عرفت اعتبار حدّ الترخّص في الذهاب ، فهل يعتبر ذلك في الإياب أيضاً ، وعلى تقدير الاعتبار فهل هو نفس الحدّ المعتبر في الذهاب أو أ نّه يفترق عنه ؟

   المعروف والمشهور اعتباره في الإياب كالذهاب ، وخالف فيه جماعة منهم صاحب الحدائق(1) حيث خصّ الاعتبار بالذهاب ، أمّا في الإياب فوافق ابن بابويه(2) في انكار اعتبار الحد .

 وذهب جماعة منهم صاحبا المدارك(3) والذخيرة(4) إلى التخيير بين القصر

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الحدائق 11 : 412 .

(2) حكاه عنه في المختلف 2 : 535 المسألة 393 .

(3) المدارك 4 : 459 [ قال : ولو قيل بالتخيير بعد الوصول إلى موضع يسمع فيه الأذان بين القصر والتمام إلى أن يدخل البلد كان وجهاً حسنا ] .

(4) الذخيرة : 411 السطر 24 .

 
 

ــ[201]ــ

والتمام لدى وصوله في رجوعه إلى حدّ الترخّص إلى أن يدخل منزله .

   والمحقّق في الشرائع جعل حدّ الترخص في الذهاب أحد الأمرين من خفاء الأذان أو الجدران ، وفي الإياب خصّه بالأوّل (1) .

   فالكلام يقع تارة في اعتباره ، واُخرى في تشخيصه وميزانه .

   أمّا الأوّل :  فالظاهر أ نّه لا ينبغي التأمّل في اعتـباره في الإياب كالذهاب للتصريح به في ذيل صحيحة عبدالله بن سنان بقوله (عليه السلام) : «وإذا قدمت من سفرك فمثل ذلك»(2) ، ولكونه مقتضى الإطلاق في صحيحة حمّاد بن عثمان عن أبي عبدالله (عليه السلام) «قال : إذا سمع الأذان أتمّ المسافر»(3) ، فانّه يشمل الرجوع كالشروع فمقتضى هاتين الصحيحتين المؤيّدتين بغيرهما من الروايات عدم الفرق بين الذهاب والإياب ، وأنّ المسافر متى بلغ هذا الحد كأ نّه خرج عن عنوان المسافر .

 ولكن صاحب الحدائق (قدس سره) أصرّ على عدم الاعتبار في الإياب استناداً إلى جملة من النصوص ـ وفيها الصحيح والموثّق ـ الناطقة بأنّ المسافر يقصّر حتّى يدخل بيته أو منزله أو أهله على اختلاف ألسنتها ، التي منها صحيح العيص بن القاسم عن أبي عبدالله (عليه السلام) «قال : لا يزال المسافر مقصّراً حتّى يدخل بيته» (4) ، وصحيح معاوية بن عمار: «إنّ أهل مكّة إذا زاروا البيت ودخلوا منازلهم أتمّوا ، وإذا لم يدخلوا منازلهم قصّروا» (5) ، ونحوهما غيرهما ممّا

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الشرائع 1 : 160 .

(2) الوسائل 8 : 472 /  أبواب صلاة المسافر ب 6 ح 3 .

(3) الوسائل 8 : 473 /  أبواب صلاة المسافر ب 6 ح 7 .

(4) الوسائل 8 : 475 /  أبواب صلاة المسافر ب 7 ح 4 .

(5) الوسائل 8 : 474 /  أبواب صلاة المسافر ب 7 ح 1 .

ــ[202]ــ

هو مذكور في محلّه .

   وذكر (قدس سره) أنّ الشهيد في الرّوض(1) تبعاً للعلاّمة في المختلف(2) وكذلك الشيخ (3) حمل هذه الروايات على دخول حدّ الترخص ، باعتبار أنّ من وصل إلى هذا الموضع يخرج من حكم المسافر فيكون بمنزلة من يصل إلى منزله .

   واستبعده (قدس سره) بمخالفته لما هو المصرّح به في بعض هذه النصوص من وجوب التقصير حتّى بعد دخول البلد، وأ نّه لا يتم حتّى يدخل أهله ومنزله كما في صحيحة إسحاق بن عمار(4) وغيرها .

   وما أفاده (قدس سره) من الاستبعاد متين جدّاً ، وكيف يمكن المصير إلى الحمل المزبور مع فرض السائل في الصحيحة المذكورة أنّ المسافر دخل الكوفة ولم يدخل أهله ، وحكمه (عليه السلام) بالتقصير حتّى يدخل أهله . ونحوها موثّقة ابن بكير(5) وغيرها ، فلا بدّ إذن من النظر في هذه الأخبار فنقول :

   إنّ هذه الروايات معارضة لصحيحة ابن سنان المتقدّمة (6) المصرّحة باعتبار حدّ الترخّص في الإياب كالذهاب ، ولا بدّ من ترجيحها على تلك الروايات بالرغم من كثرتها وصحّة أسانيد جملة منها .

   أمّا أوّلاً :  فلأنّ هذه الأخبار مقطوعة البطلان في أنفسها حتّى مع قطع النظر

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الروض : 393 السطر 2 .

(2) المختلف 2 : 535 المسألة 393 .

(3) الاستبصار 1 : 242  ذيل ح 864 .

(4) الوسائل 8 : 474 / أبواب صلاة المسافر ب7 ح3 [ الظاهر كونها موثقة، لأن إسحاق فطحي بتصريح الشيخ كما حكاه في معجم رجال الحديث 3: 223 / 1165 ].

(5) الوسائل 8 : 474 /  أبواب صلاة المسافر ب 7 ح 2 .

(6) في ص 194 .

ــ[203]ــ

عن المعارضة ، ضرورة أنّ التقصير خاصّ بالمسافر، ولا يعم غيره ممّن لم يتلبّس بهذا العنوان، ولا شكّ أنّ المسافر لدى رجوعه عن السفر يخرج من هذا العنوان بمجرّد دخوله البلد ، سواء أدخل منزله أم لا ، إذ الاعتبار في السفر بالسير من البلد إلى البلد لا من البيت إلى البيت ، فكيف يمكن الالتزام بما تضمّنته هذه الأخبار من التقصير حتّى بعد دخول البلد ، المستلزم للخروج عن عنوان السفر ولا سيما بعد المكـث فيه يوماً أو يومين إلى أن يدخل أهله كما تضمّنه بعضها (1) وهل هذا إلاّ الحكم بالتقصير لغير المسافر المقطوع بطلانه .

   فلا مناص من طرح هذه الروايات ، أو حملها على التقية ، لموافقتها للعامّة كما احتمله صاحب الوسائل(2) . فهي ساقطة عن درجة الاعتبار في أنفسها .

   وثانياً :  مع الغض عما ذكر فالترجيح مع صحيحة ابن سنان ، لموافقتها مع السنّة القطعية، وهي العمومات الدالّة على وجوب التمام على كلّ مكلّف ، المقتصر في الخروج عنها على المقدار المتيقّن وهو المسافر ، ومخالفة هذه لها . فلا ينبغي التأمّل في تقدّم الصحيحة عليها .

   نعم ، قد يعارض الصحيحة ما رواه الشيخ عن البرقي في المحاسن باسناده عن حماد عن أبي عبدالله (عليه السلام) «قال : المسافر يقصّر حتّى يدخل المصر»(3) حيث إنّ ظاهرها أنّ الاعتبار بدخول المصر لا بلوغ حدّ الترخّص فيمكن أن يقال حيـنئذ : إنّها مقـدّمة على تلك الصـحيحة ـ  أي صحيحة ابن سـنان  ـ لموافقتها مع ما دلّ على وجوب القصر على كلّ مسافر، إذ لم يفرض فيها دخول البيت بل دخول المصر .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 8  : 475 /  أبواب صلاة المسافر ب 7 ح 6 .

(2) الوسائل 8  : 475 /  أبواب صلاة المسافر ذيل ب 7 .

(3) الوسائل 8  : 473 /  أبواب صلاة المسافر ب 6 ح 8  ، المحاسن 2 : 120 /  1329  [  لم نعثر على نقل الشيخ لهذه الرواية ] .

ــ[204]ــ

   ولكنّه يندفع أوّلاً : بأنّ الرواية مرسلة ، فانّ حماداً يرويها عن رجل عن أبي عبدالله (عليه السلام) كما أثبتها كذلك في الحدائق (1) وفي نفس المصدر أعني محاسن البرقي . فما هو الموجود في نسخة الوسائل الطبعة الجديدة وطبعة عين الدولة من حذف كلمة (عن رجل) الظاهر في صحّة الرواية سقط إمّا من قلم صاحب الوسائل أو من النسّاخ . وكيف ما كان ، فالرواية ضعيفة السند من جهة الإرسال ، فلا يعتمد عليها .

   وثانياً : على تقدير صحّتها فيمكن الالتزام هنا بالجمع المتقدّم عن الشيخ وغيره بالإضافة إلى صحيح ابن سـنان والنصوص المتقدّمة الذي منعناه ثمّة فانّه لا مانع من الالتزام به في خصوص هذه الرواية ، لأجل التعبير فيها بدخول المصر ، لا دخول المنزل أو البيت كما كان مذكوراً في تلك الأخبار ، بأن يقال : إنّ صحيحة ابن سنان صريحة في اعتبار حدّ الترخّص ، وهذه الرواية ظاهرة في العدم ظهوراً قابلاً للتصرّف ، بأن يراد من المـصر المعنى الجامع الشامل لحدِّ الترخّص ، أي المصر ونواحيه وتوابعه ، فانّ من بلغ في رجوعه إلى حدّ يسمع فيه أذان المصر يصح أن يقال ولو بضرب من العناية التي لا يأباها العرف إنّه دخل المصر . فلا تنافي بينها وبين الصحيحة المتقدّمة الصريحة في اعتبار الحدّ المزبور . ولا شكّ أنّ هذا الجمع ممّا يساعده الفهم العرفي .

   فتحصّل :  أنّ ما ذكره المشهور بل معظم الفقهاء من اعتبار حدّ الترخّص في الإياب كالذهاب هو الصحيح . هذا كلّه في أصل اعتبار الحد .
ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الحدائق 11 : 411 .




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net