الأوّل والثاني : الأكل والشرب 

الكتاب : المستند في شرح العروة الوثقى-الجزء 11:الصوم   ||   القسم : الفقه   ||   القرّاء : 5178


ــ[92]ــ

  
فصل

فيما يجب الإمساك عنه في الصوم من المفطرات

    وهي اُمور :

   الأوّل والثاني : الأكل والشرب (1) ،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

   (1) إجماعاً من جميع المسلمين ، بل وضرورة ، وقد نطق به الكتاب العزيز والسنّة القطعـيّة ، بل يظهر من بعض النصوص أ نّهما الأساس في الصوم وباقي المفطرات ملحقٌ بهما . وهذا في الجملة ممّا لا إشكال فيه .

   إنّما الكلام في جهات :

   الاُولى : لا ينبغي الإشكال بل لا إشكال في عدم الفرق في مفطريّة الأكل والشرب بين ما كان من الطريق العادي المتعارف ، وما كان من غير الطريق المتعارف ، كما لو شرب الماء من أنفه ـ مثلا ـ فإنّ العبرة في صدق ذلك بدخول المأكول أو المشروب في الجوف من طريق الحلق ، سواء أكان ذلك بواسطة الفم أم الأنف ، ولا خصوصيّة للأوّل ، ومجرّد كونه متعارفاً لا يقتضي التخصيص بعد إطلاق الدليل وتحقّق الصدق ، والظاهر أ نّه لم يستشكل أحد في ذلك .

 ولكن ذكر بعض من قارب عصرنا (1) في رسالته العمليّة أ نّه لا بأس بغير

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) وهو الفاضل الإيروانى (قدس سره) .

ــ[93]ــ

من غير فرق في المأكول والمشروب(1) بين المعتاد  كالخبز والماء ونحوهما وغيره، كالتراب والحصى وعصارة الأشجار ونحوها ،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المتعارف ، فلا مانع من الشرب بطريق الأنف .

   وهو ـ كما ترى ـ لا يمكن المساعدة عليه بوجه ، ولم يُنسَب الخلاف إلى أحد غيره كما سمعت ، وذلك لإطلاقات الأدلّة .

   ودعوى الانصراف إلى ما اعتمد على الفم لا يصغى إليها أبداً ، لعدم دخل الفم في صدق الأكل أو الشرب بعد أن كان الدخول في الجوف من طريق الحلق ، ومن هنا لا يحتمل جواز شرب المحرّمات ـ  كالخمر أو المائع المتنجّس  ـ من طريق الأنف بدعوى انصراف النهي إلى المتعارف وهو الفم ، بل قد يظهر من بعض روايات الاكتحال عدم الفرق ، لتعليل المنع بمظنّة الدخول في الحلق ، وفي بعضها أ نّه لا بأس به ما لم يظهر طعمه في الحلق ، فإذا كان الدخول فيه من طريق العين مانعاً ، فمن طريق الأنف الذي هو أقرب بطريق أولى .

   وعلى الجملة : لا ينبغي التشكيك في عدم الفرق في صدق الأكل ومفطريّته وكذا الشرب بين ما كان من الطريق المتعارف وغيره ، فلا فرق في ذلك بين الفم والأنف قطعاً .

   (1) الجهة الثانية: المعروف والمشهور ـ بل المتسالم عليه، بل المرتكز في أذهان عامّة المسلمين ـ أنّه لافرق في المأكول والمشروب بين المعتاد منهما ـ كالخبز والماء ـ وغير المعتاد ـ كالحصى والتراب والطين ومياه الأنوار وعصارة الأشجار ونحو ذلك ممّالم يكن معداً للأكل الشرب ـ ولم ينسب الخلاف حتّى إلى المخالفين ما عدا اثنين منهم، وهما الحسن بن صالح وأبو طلحة الأنصاري(1) .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الناصريات : 294 .

ــ[94]ــ

   وقد ادّعى السـيّد (قدس سره) في محكّي الناصريات الاتفـاق عليه بين المسلمين(1) ، وأنّ الخلاف المزبور مسـبوقٌ بالإجماع وملحوق به ، ومع ذلك نُسِب الخلاف إلى السيّد نفسه في بعض كتبه والى ابن الجنيد، وأ نّهما خصّا المفطر بالمأكول والمشروب العاديّين(2) .

   وسواء صحّت النسبة أم لم تصحّ فهذا التخصيص لا يمكن المساعدة عليه بوجه ، وذلك لإطلاقات الأدلة من الكتاب والسنّة ، فإنّ الوارد فيهما المنع عن الأكل والشرب من غير ذكر للمتعلّق ، ومن المعلوم أنّ حذف المتعلّق يدلّ على العموم .

   ودعـوى الانصراف إلى العادي منهما عريّة عن كلّ شاهد ، بعد وضوح صدق الأكل والشرب بمفهومهما اللغوي والعرفي على غير العادي كالعادي بمناط واحد ومن غير أية عناية ، فكما يقال : زيد أكل الخبز ، يقال : إنّه أكل الطين أو أكل التراب ، بلا فرق بينهما في صحّة الاستعمال بوجه ، وقد ورد في بعض النصوص النهي عن أكل التراب إلاّ التربة الحسينية ـ على مشرّفها آلاف الثناء والتحيّة ـ بمقدار الحمّصة(3) .

   وعلى الجملة : فحقيقة الأكل والشرب ليس إلاّ إدخال شيء في الجوف من طريق الحلق ، سواء أكان ذلك الشيء من القسم العادي المتعارف المعهود أكله وشربه أم لا ، ولا يختصّ الصدق بالأوّل بالضرورة .

   ودعوى الانصراف ساقطة كما عرفت ، ويؤيده ما سيجيء إن شاء الله من

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) جواهر الكلام 16 : 218 .

(2) المختلف 3 : 257 ، 258 .

(3) الوسائل 14 : 52 /  أبواب المزار وما يناسبه ب 72 .

ــ[95]ــ

مفطريّة الغبار الداخل في الحلق(1) ، وأ نّه مثل الأكل والشرب كما في النصّ ، ومن المعلوم أنّ الغبار أجزاء دقيقة من التراب أو ما يشبه ذلك ، وعلى أيّ حال فقد اُلحق بالمأكول مع عدم كونه متعارفاً .

   ويؤكّده أيضاً ما أشرنا إليه من تعليل المنع في روايات الاكتحال بكونه مظنّة الدخـول في الحلق ، إذ من المعلوم أنّ الكحل ليس من سنخ المأكول والمشروب غالباً ، فيعلم من ذلك أنّ الاعتبار في المنع بالدخـول في الجوف من طريق الحلق ، سواء أكان الداخل ممّا يؤكل ويشرب أم لا .

   نعم ، ربّما يُستدلّ لما نُسِب إلى السيّد من الاختصاص بالمأكول والمشروب العاديين تارةً : بما رواه المشايخ الثلاثة في الصحيح عن محمّد بن مسلم قال : سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول : «لا يضرّ الصائم ما صنع إذا اجتنب ثلاث خصال : الطعام والشراب ، والنساء ، والارتماس»(2) ، وفي رواية اُخرى «أربع خصال» بدل «ثلاث» ، والمعنى واحد، وإنّما الفرق من حيث عدّ الطعام والشراب خصلة واحدة أو خصلتين .

   وكيفما كان ، فمقتضى الحصر في الثلاث أو الأربع عدم الضير في استعمال ما عدا ذلك ، ومن المعلوم عدم صدق الطعام والشراب على مثل التراب والطين وعصارة الشجر ونحو ذلك ممّا لم يتعارف أكله وشربه ، فلا مانع من تناوله بمقتضى هذه الصحيحة ، وبذلك تقيَّد إطلاقات الأكل والشرب الواردة في الكتاب والسنّة ، وتحمل على ارادة المتعارف من المأكول والمشرب .

   ويندفع :  بأنّ الظاهر من الصحيحة أنّ الحصر لم يرد بلحاظ ما للطعام

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) في ص 150 .

(2) الوسائل 10 : 31 /  أبواب ما يمسك عنه الصائم ب 1 ح 1 .

ــ[96]ــ

والشراب من الخصوصية ليدّل على الاختصاص بالمتعارف ، وإنّما لوحظ بالقياس إلى سائر الأفعال الخارجيّة والاُمور الصادرة من الصائم من النوم والمشي ونحو ذلك ، وأنّ تلك الأفعال لا تضرّه ما دام مجتنباً عن هذه الخصال ، وأمّا أنّ المراد من الطعام والشراب هل هو مطلق المأكول والمشروب أم خصوص المعتاد منهما ؟ فليست الصحيحة بصدد البيان من هذه الجهة بوجه كي تدلّ على حصر المفطر في الطعام والشراب العاديّين ، بل إنّما ذُكِرا في قـبال سائر الأفعال كما عرفت .

   على أ نّه لم يظهر من الصحيحة أنّ المراد من الطعام والشراب : الأعيان ، أي الشيء الذي يطعم والشيء الذي يشرب ، إذ من الجائز استعمالهما في المعنى المصدري ـ أي نفس الأكل والشرب ـ لا الذات الخارجيّة ـ أي المطعوم والمشروب ـ لتدّل على الاختصاص .

   وعليه ، فتكون حال هذه الصحيحة حال سائر الأدلة المتضمّنة للمنع عن الأكل والشرب الشامل لمطلق المأكول والمشروب حسبما عرفت ، فاذا كانت الصحيحة محتملة لكلٍّ من المعنيين فتصبح مجملة ، ومثلها لا يصلح لتقييد المطلقات .

   ويُستدَلّ له اُخرى بما ورد في دخول الذباب في الحلق من نفي البأس معلّلا بأنّه ليس بطعام(1) ، وكذا ما ورد في بعض روايات الاكتحال من نفي البأس للتعليل المزبور(2) .

   فيظهر من هاتين الروايتين أنّ المفطر هو الطعام ، ولأجله لا يضرّ الكحل

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 10 : 109 /  أبواب ما يمسك عنه الصائم ب 39 ح 2 .

(2) الوسائل 10 : 74 /  أبواب ما يمسك عنه الصائم ب 25 ح 1 ، 6 .

ــ[97]ــ

والذباب بالصـوم لعدم كونهما منه وإن صدق المأكول ، إذ لا اعتـبار به ما لم يصدق الطعام .

   وفيه ما لا يخفى ، أمّا مسألة الكحل : فالجواب عنها ظاهر ، لأنّ قوله عليه السلام : «إنّه ليس بطعام» يريد به أ نّه ليس بأكل فلا يكون الاكتحال مفطراً ، لأ نّه ليس مصداقاً للأكل ، لا أنّ الكحل ليس طعام ، ولأجله لا يكون مضرّاً ، والا فلو فرضنا أنّ الكحل طعام ـ كما لو اكتحل بطحين الحنطة أو بالعسل الذي هو نافع للعين حسبما جرّبناه ـ أفهل يحتمل أ نّه يبطل صومه لأنّه طعام ؟ كلا ، فإنّ الطعام يبطل الصوم أكله ، لا كلّ فعل متعلّق به وإن لم يكن أكلا ، وهذا واضح .

   وأمّا مسألة الذباب : فلا يراد أيضاً من قوله (عليه السلام) : «إنّه ليس بطعام» أنّ الذباب ليس بطعام ولذلك لايضّر دخوله الحلق ، كيف ؟! ولو فرضنا أنّ شخصاً أكل من الذباب كمّيّة وافرة وبمقدار الشبع ـ كنصف كيلو مثلا ـ أفهل يحتمل أنّ صومه لا يبطل بذلك باعتبار أنّ الذباب لا يكون طعاماً ؟! لا يكون ذلك بالضرورة ، فإنّ الذباب كسائر الحشرات لو فرضا أنّ شخصاً تغذّى به بطل بلا إشكال .

   بل مراده (عليه السلام) بذلك : أنّ دخول الذباب في الحلق اتّفاقاً وبغير اختبار لا يكون من الأكل في شيء ، ولأجله لا يكون مفطراً ، لا أ نّه لو أكل الذباب باختياره لا يبطل صومه لأ نّه ليس طعاماً ، أي مأكولا متعارفاً ، فإنّ هذا لا يفهم من الصحيحة بوجه ، كما هو ظاهر جداً .

   إذن فاحتمال اختصاص المأكول والمشروب بالمتعارف منهما ساقط أيضاً .

 ــ[98]ــ

ولا بين الكثير والقليل(1) كعُشر حبّة الحنطة أو عُشر قطرة من الماء أو غيرها من المائعات ، حتّى أ نّه لو بلّ الخيّاط الخيط بريقه أو غيره ثمّ ردّه إلى الفم وابتلع ما عليه من الرطوبة بطل صومه ، إلاّ إذا استهلك ما كان عليه من الرطوبة بريقه على وجه لا تصدق عليه الرطوبة الخارجية ، وكذا لو أستاك وأخرج المسواك من فمه وكان عليه رطوبة ثمّ ردّه إلى الفم ، فإنّه لو أبتلع ما عليه بطل صومه ، إلاّ مع الاستهلاك على الوجه المذكور ،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

   (1) الجهة الثالثة : لا فرق في مفطريّة المأكول والمشروب بين القليل والكثير بلا خلاف ولا إشكال ، وتدّل عليه إطلاقات الأدلة من الكتاب والسنّة  ، مضافاً إلى استفادته من الأخبار الخاصّة الواردة في الموارد المتفرّقة ، مثل ما ورد في المضمضة : من أنّ ما دخل منها الجوف ولو اتّفاقاً يفطر فيما عدا الوضوء(1) ، فإنّ من المعلوم أنّ الداخل منها قليل جداً .

   وما ورد من النهي عن مصّ الخاتم(2) ، والنهي عن مصّ النواة(3) ، وكذا ذوق الطعام لمعرفة طعمه(4) ، ونحو ذلك من الموارد الكثيرة من الأسئلة والأجوبة الواردة في النصوص ، التي يظهر منها بوضوح عدم الفرق بين القليل والكثير فيما إذا صدق عليه الأكل، مضافاً إلى ارتكاز المتشرّعة وكونه من المسلّمات عندهم .

   فاتّضح من جميع ما ذكرناه لحدّ الآن : عدم الفرق في الأكل والشرب بين

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 10 : 71 /  أبواب ما يمسك عنه الصائم ب 23 ح 4 .

(2) لاحظ الوسائل : 10 : 109 ـ 110/ أبواب ما يمسك عنه الصائم ب40 ، ح1 ، 2، 3 .

(3) الوسائل 10 : 110 /  أبواب ما يمسك عنه الصائم ب 40 ح 2 ، 3 .

(4) الوسائل 10 : 106 /  أبواب ما يمسك عنه الصائم ب 37 ح 2 .

ــ[99]ــ

كونه من الطريق العادي وغيره ، وعدم الفرق في المأكول والمشروب بين المتعارف وغيره ، وعدم الفرق أيضاً بين القليل الكثير ، كلّ ذلك لإطلاق الأدلّة السليم عمّا يصلح للتقييد حسبما عرفت بما لا مزيد عليه .

   ثمّ إنّ الماتن (قدس سره) رتّب على ما ذكره من عدم الفرق بين القليل والكثير : أنّ الخيّاط لو بلّ الخيط بريقه أو غيره ثمّ ردّه إلى الفم فليس له أن يبتلع البلّة الموجودة على الخيط ، إذ بالخروج عن الفم صارت البلّة من الرطوبة الخارجيّة ، فلا يجوز ابتلاعها وإنّ قلّت ، إلاّ إذا استهلكت بريقه على وجه لا يصدق عليها الرطوبة الخارجيّة ، على ما سيجيء من عدم البأس بابتلاع الريق والبصاق المتجمّع في الفم(1) ، فبعد فرض الاستهلاك الموجب لانعدام الموضوع لا بأس ببلع الريق ، فإنّه من قبيل السالبة بانتفاء الموضوع .

   وقد يُستشكل في ذلك بمنع تحقّق الاستهلاك بعد فرض الاتّحاد في الجنس ، فإنّه إنّما يُتصوَّر في غير المتجانسين على ما ذكروه في الشركة ، كامتزاج التراب في الماء ، أو وقوع قطرة من البول في كرّ من الماء ـ مثلاً ـ الموجب لزوال الموضوع وانعدامه ، وأمّا المزج الحاصل في المتجانسين ـ كما في المقام ـ فهو موجب لزيادة الكمّية والإضافة على مقدارها ، فكأنّ الريق أو الماء عشرة مثاقيل ـ مثلا  ـ فصار أحد عشر مثقالا ، وإلاّ فالمزيج باق على ما كان لا أ نّه زال وانعدم ، فلا يُتصوَّر في مثله الاستهلاك .

   ويندفع : بأنّ هذا إنّما يتمّ بالنظر إلى ذات المزيج ، فلا يعقل الاسـتهلاك بملاحظة نفس الممتزجين المتّحدين في الجنس وذاتهما ، طبيعة واحدة قد زيدت كمّيّتها كما اُفيد .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) في ص 105 .

ــ[100]ــ

   وأمّا بالنظر إلى الوصف العنواني ـ الذي بملاحظته جُعِل موضوعاً لحكم من الأحكام بأن كان الأثر مترتّباً على صنف خاصّ من الطبيعة ـ فلا مناص من الالتزام بالاستهلاك من هذه الجهة .

   فلو فرضنا أنّ ماء البئر لا يجوز التوضؤ به ، فمزجنا مقداراً منه بماء النهر ، فالاستهلاك بالنظر إلى ذات الماء غير متصوَّر ، إذ لا معنى لاستهلاك الماء في الماء كما ذُكِـر ، وأمّا بالنـظر إلى الخصـوصيّة ـ أعني : الإضـافة إلى البئر ـ فالاستهلاك ضروري ، بمعنى : أنّ هذه الإضافة غير باقية بعد الامتزاج فيما إذا كان المزيج قليلا ، ولا موضوع لتلك الحصّة الخاصّة ، فلا يطلق على الممتزج أنّ هذا ماء البئر ، أو أنّ فيه ماء البئر ، فالماء بما هو ماء وإن لم يكن مستهلكاً ولكن بما هو ماء البئر مستهلكٌ بطبيعة الحال .

   ومن هذا القبيل : ما لو أخذنا مقداراً من الماء المغصوب وألقيناه في الماء المباح بحيث كان الأوّل يسيراً جدّاً في قبال الثاني ، كما لو ألقينا مقدار كرّ من الماء المغصوب في البحر ، أو مقدار قطرة منه في الكرّ ، أفهل يمكن التفوّه بعدم جواز الاستعمال من البحر أو من الكرّ ، بدعوى حصول الامتزاج وامتناع الإستهلاك في المتجانسين ؟

   فإنّ هذه الدعوى صحيحة بالنظر إلى ذات الماء ، وأمّا بالنظر إلى صفة الغصبيّة والإضافة إلى ملك الغير فغير قابلة للتصديق ، إذ لا موضوع بعدئذ لمال الغير كي يحرم استعماله ، فالاستهلاك بهذا المعنى ضروري التحقّق ، لعدم بقاء القطرة ـ مثلا ـ على حالها .

   وملخّص الكلام: أ نّه قد يلاحظ الاستهلاك بالنسبة إلى ذات الشيء، واُخرى بالنظر إلى صنف خاصّ وصفة مخصوصة، والأوّل ليس متصوّراً في المتجانسين ،

 
 

ــ[101]ــ

وأمّا الثاني ـ أعني : الإضافة الخاصّة التي هي الموضوع للأثر  ـ فهي مستهلكة لا محالة ، إذ لا موضوع لها بقاءً .

   ومقامنا من هذا القبيل ، فإنّ الريق ما دام كونه في الفم يجوز ابتلاعه ، وإذا خرج لا يجوز ، فهناك صنفان محكومان بحكمين ، فإذا امتزج الصنفان على نحو تحقّق معه الاستهلاك ـ لا بما هو ريق ، بل بما هو ريق خارجي ـ جاز ابتلاعه ، فالبلّة الموجودة على الخيط المستهلكة في ريق الفم على وجه لا يصدق عليها الرطوبة الخارجيّة يجوز ابتلاعها كما ذكره في المتن ، لانقطاع الإضافة وانعدام الموضوع حسبما عرفت .

   ويدلّ عليه ـ مضافاً إلى كونه مطابقاً للقاعدة كما عرفت ـ الروايات الواردة في جواز السواك بالمسواك الرطب ، وفي بعضها جواز بلّه بالماء والسواك به بعد النفض(1) ، إذ من المعلوم أ نّه لا ييبس مهما نفض ، بل يبقى عليه شيء ما من الرطوبة ، ومع ذلك حكم (عليه السلام) بجواز السواك به ، وليس ذلك إلاّ من أجل استهلاك تلك الرطوبة في ريق الفم .

   ويؤيّده ـ بل يؤكّده ـ ما ورد من جواز المضمضة، بل الاستياك بنفس الماء وأ نّه يفرغ الماء من فمه ولاشيء عليه(2)، فإنّه تبقى لا محالة أجزاء من الرطوبة المائيّة في الفم ، إلاّ أ نّه من جهة الاستهلاك في الريق لا مانع من ابتلاعها .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 10 : 83 /  أبواب ما يمسك عنه الصائم ب 28 ح 3 و ص 85 ب 28 ح 11.

(2) الوسائل10 : 86 /  أبواب ما يمسك عنه الصائم ب 28 ح 15 ، 16 و ص 91 ب 31 ح 1 .

ــ[102]ــ

وكذا يبطل بابتلاع ما يخرج من بقايا الطعام من بين أسنانه (1) .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

   (1) لعدم الفرق بينه وبين الطعام الخارجي ، غايته أ نّه بقى بين الأسنان برهةً من الزمان ، فيصدق الأكل على ابتلاعـه ، بعدما عرفت من عدم الفرق بين القليل والكثير بمقتضى إطلاق الأدلّة ، فإذا ابتلعه متعمّداً بطل صومه .

   هذا ، وقد يُتوهّم عدم البطلان ، استناداً إلى ما ورد في صحيح ابن سنان : عن الرجل الصائم يقلس فيخرج منه الشيء من الطعام ، أيفطر ذلك ؟ «قال : لا» قلت : فإن ازدرده بعد أن صار على لسانه ؟ «قال : لا يفطر ذلك»(1) . حيث دلّت صريحاً على جواز ازدراد ما يخرج من الداخل إلى فضاء الفم ، فإذا جاز ذلك جاز ابتلاع ما يخرج من بين الأسنان إلى الفم بمناط واحد .

   وأنت خبير بأنّ هذا قـياسٌ محض مع وجود الفارق ، فإنّا لو عملنا بالصحيحة في موردها فغايته جواز ابتلاع ما يخرج من الداخل ، فيكون حكمه حكم ما يخرج من الصدر أو ينزل من الرأس ممّا هو أمر داخلي موجود في الباطن، فيقال: إنّه لابأس برجوعه بعد الخروج ، وأين هذا من الطعام الخارجي الذي لم يدخل بعدُ في الجوف وكان باقياً بين الأسنان ؟! فالتعدّي عن مورد الصحيحة إلى بلع ما دخل فمه من الخارج قياسٌ واضح ، على أنّ الصحيحة لا عامل بها في موردها على ماقيل ، ولا بدّ من ردّ علمها إلى أهلها .

   مع أنّ للمناقشة في دلالتها مجال ، لجواز أن يكون السؤال ناظراً إلى الازدراد ـ أي الابتلاع قهراً ومن غير اختيار ـ كما لعلّه الظاهر ، وإلاّ فالابتلاع العمدي الاختياري بعيدٌ جدّاً فإنّ الطبع البشري لا يرغب في ابتلاع ما يخرج

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 10 : 88 /  أبواب ما يمسك عنه الصائم ب 29 ح 9 .




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net