أدلّة عدم وجوب تقليد الأعلم 

الكتاب : التنقيح في شرح العروة الوثقى-الجزء الاول:التقليد   ||   القسم : الفقه   ||   القرّاء : 9566


    أدلّة عدم وجوب تقليد الأعلم

   واستدل عليه بوجوه : عمدتها التمسك باطلاق الأدلة الواردة في جواز الرجوع إلى الفقيه وحجية رأية وفتواه ، فإن قوله عزّ من قائل : (فلولا نفر من كلّ فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدّين )(3) والأخبار الآمرة بالرجوع إلى يونس بن عبدالرّحمان أو زكريا بن آدم وأمثالهما ، وكذا سائر الأدلة الدالة على جواز تقليد الفقيه ، لم يتقيد بما إذا كان العالم أو الفقيه أعلم من غيره . بل مقتضى إطلاقها جواز الرجوع إلى كل من الأعلم وغيره إذا صدق عليه عنوان العالم أو الفقيه أو غيرهما من العناوين الواردة في الروايات علمت مخالفتهما أو موافقتهما في الفتوى أم لم تعلم ، هذا .

   بل ربّما يقال : إن الغالب بين أصحابهم (عليهم السّلام) الّذين أرجعوا الناس إلى السؤال عنهم في الأخبار المتقدمة ، هو المخالفة في الفتوى لندرة التوافق بين جمع كثير ومع غلبة الخلاف لم يقيّدوا (عليهم السّلام) الرجوع إليهم بما إذا لم تكن فتوى من أرجع إليه مخالفة لفتوى غيره من الفقهاء ، مع العلم العادي باختلافهم أيضاً في

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) رسالة في الاجتهاد والتقليد : 71 .

(2) الفصول الغروية : 423 .

(3) التوبة 9 : 122 .

ــ[109]ــ

الفضيلة ، لعدم احتمال تساوي الجميع في العلمية والفقاهة ، وهذه قرينة قطعية على أن الأدلة المتقدمة مطلقة ، وأن فتوى غير الأعلم كفتوى الأعلم في الحجية والاعتبار وإن كانت بينهما مخالفة .

   وفيه : أن الغلبة المذكورة لا يمكن أن تكون قرينة على المدعى ، والوجه فيه أن المخالفة في الفتوى وإن كانت كثيرة ، بل هي الغالب كما ذكر وكذلك اختلافهم في الفضيلة والعلم ، إلاّ أن العلم بالمخالفة أمر قد يكون وقد لا يكون ولم يفرض في شيء من الأخبار الآمرة بالرجوع إلى الرواة المعيّنين علم السائل بالخلاف ، وكلامنا في الصورة الثانية إنما هو في فرض العلم بالمخالفة بين الأعلم وغيره ، فالأخبار المذكورة لو دلت فانما تدل على المدعى بالاطلاق لا أنها واردة في مورد العلم بالمخالفة لتكون كالنص في الدلالة على حجية فتوى غير الأعلم في محل الكلام ، فليس في البين إلاّ الاطلاق .

   ويرد على التمسك بالاطلاق : انا ذكرنا غير مرّة في البحث عن حجية الخبر والتعادل والترجيح(1) وغيرهما، أن إطلاق أدلّة الحجية لا يشمل المتعارضين ولا مجال فيهما للتمسك بالاطلاق ، بلا فرق في ذلك بين الشبهات الحكمية والموضوعية كما إذا ورد خبران دلّ أحدهما على وجوب شيء والآخر على حرمته أو قامت بينة على طهارة شيء والاُخرى على نجاسته ، فإنه لا يشمل أدلة اعتبار الخبر أو البينة أو غيرهما من الحجج والأمارات شيئاً منهما ، وسرّه أن شمولها لكلا المتعارضين يستلزم الجمع بين الضدين أو النقيضين ، وشمولها لأحدهما المعيّن دون الآخر بلا مرجح ولأحدهما المخيّر أعني أحدهما لا بعينه لا دليل عليه ، لأن مفاد أدلة الاعتبار إنما هو الحجية التعيينية لا حجية هذا أو ذاك . إذن مقتضى القاعدة هو التساقط في كل دليلين متعارضين ، أللّهمّ إلاّ أن يقوم دليل على ترجيح أحدهما أو على التخيير كالأخبار العلاجية وهو مختص بالخبرين المتعارضين ، ولا دليل عليه في سائر الدليلين المتعارضين ، والمقام من هذا القبيل فاطلاقات أدلة التقليد غير شاملة لفتوى الأعلم وغيره مع المعارضة ، بل لا بدّ من الحكم بتساقطهما كما في غير المقام، هذا .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) مصباح الاُصول 3 : 366 .

ــ[110]ــ

   وقد يقال ـ كما تعرّضنا له في محلّه (1) ـ أن القاعدة تقتضي التخيير بين المتعارضين وذلك لأن الأمر يدور بين رفع اليد عن أصل الدليلين وبين رفع اليد عن إطلاقيهما مع التحفظ على أصلهما ومتى دار الأمر بينهما يتعين الثاني لا محالة ، لأنه لا موجب لرفع اليد عن الدليلين بالكلية . فإذا ورد خبران دلّ أحدهما على وجوب القصر في مورد مثلاً ودلّ الآخر على وجوب التمام فيه ، لم يمكننا العمل بهما معاً للعلم الخارجي بعدم وجوب صلاة واحدة في يوم واحد مرتين ، فيدور الأمر لا محالة بين رفع اليد عن أصل الدليلين والحكم بتساقطهما وبين التحفظ على أصليهما ورفع اليد عن إطلاقيهما المقتضي للتعيين وقد مرّ أن الثاني هو المتعين حينئذ فإن الأوّل بلا موجب ، ونتيجة الأخذ بالوجوب في كليهما ورفع اليد عن إطلاقه هو الحكم بوجوب كل منهما مخيراً . بل الأمر كذلك حتى في الدليل الواحد بالإضافة إلى أفراد موضوعه ، كما إذا ورد أكرم العلماء وعلمنا خارجاً أن زيداً وصديقه مثلاً لا يشملهما حكم واحد أبداً ، فدار الأمر بين الحكم بعدم وجوب إكرامهما للتساقط وبين التحفظ على الوجوب في كليهما ورفع اليد عن إطلاقهما في التعيين ، فإنه يتعيّن حينئذ الأخير وهو يقتضي الحكم بوجوب كل منهما تخييراً . ومعه لا مقتضي في المقام لرفع اليد عن حجية فتوى الأعلم وغيره أعني الحكم بتساقطهما ، بل لا بدّ من الأخذ بالحجية في كلتا الفتويين ورفع اليد عن إطلاقهما المقتضي للتعيين ، وهذا ينتج حجية كل منهما على وجه التخيير .

   ويرده : أن موارد التعارض بين الدليلين الّتي منها المقام لا يمكن قياسها بما إذا كان لكل من الدليلين نصاً وظاهراً وأمكن الجمع بينهما بحمل الظاهر من كل منهما على نص الآخر فإن القياس مع الفارق ، إذ في تلك الموارد لا مقتضي لرفع اليد عن كلا الوجوبين، بل يؤخذ بنص كل من الدليلين في الوجوب ويطرح ظاهرهما في التعيين وتكون النتيجة هو الوجوب التخييري كما مرّ . وأما في أمثال المقام الّتي ليس للدليلين فيها نص وظاهر بل دلالتهما بالظهور والاطلاق ، فلا مناص من الحكم بتساقطهما فإن الحجية في المتعارضين إذا كانت بالاطلاق أعني إطلاق أدلة الحجية لشمولها لهذا وذاك وهذه الفتيا وتلك ، فحيث إن لكل منهما إطلاقاً من جهة اُخرى أيضاً وهي حجية كل

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) نفس المصدر .

ــ[111]ــ

منهما اُخذ بالآخر أم لم يؤخذ به ، ولا يمكن الأخذ باطلاقهما من كلتا الجهتين لاستلزامه الجمع بين الضدين أو النقيضين ، كان رفع المعارضة بينهما منحصراً برفع اليد عن إطلاق أحدهما أو كليهما وهذا يتصوّر بوجوه :

   أحدها : أن يرفع اليد عن إطلاق الأدلة الدالة على الحجية في أحدهما دون الآخر ، بأن نلتزم بحجية أحد المتعارضين دون الآخر رأساً .

   وثانيها : أن يتحفظ باطلاق الأدلة الدالة على الحجية في كلا المتعارضين فيلتزم بحجية فتوى غير الأعلم مطلقاً سواء اُخذ بفتوى الأعلم أم لم يؤخذ بها، وبحجية فتوى الأعلم مقيدة بما إذا لم يؤخذ بفتوى غير الأعلم بأن تكون حجية إحداهما مطلقة وحجية الاُخرى مقيدة .

   ثالثها : عكس الصورة الثانية بأن تكون حجية فتوى الأعلم مطلقة اُخذ بفتوى غير الأعلم أم لم يؤخذ بها ، وحجية فتوى غير الأعلم مقيدة بما إذا لم يؤخذ بفتوى الأعلم .

   رابعها : أن يتحفظ على إطلاق الأدلة في كليهما فيلتزم بحجية كل منهما مقيدة بما إذا لم يؤخذ بالآخر .

   وحيث إن شيئاً من ذلك لا مرجح له ، فلا يمكننا التمسك بالاطلاق في شيء من المتعارضين لا في أصل الحجية ولا في إطلاقها وتقييدها ، وهو معنى التساقط كما قدّمناه .

   الوجه الثاني : أن وجوب تقليد الأعلم عسر على المكلفين وذلك للحرج في تشخيص مفهوم الأعلم وفي تمييز مصاديقه وفي وجوب تعلم آرائه وفتاواه ، وهذا لأنه لو وجب تقليد الأعلم وجب على كل مكلف أن يتعلم فتاواه ويحصّل آراءه من مظانها ، وهذا فيه حرج على أهل البلاد فضلاً عن سكنة القرى والبوادي، فالاقتصار على تقليد الأعلم فيه حرج عظيم وهو مرفوع في الشريعة المقدّسة .

   والجواب عنه : أن شيئاً من تلك المراحل لا يستلزم الحرج ، أما تشخيص مفهوم الأعلم فلما يأتي من أن المراد به هو من كان أقوى استنباطاً للأحكام وأمتن استنتاجاً لها من أدلتها ، وهذا يتوقف على معرفته بالقواعد والكبريات وعلى حسن سليقته في

ــ[112]ــ

تطبيقها على صغرياتها ، ولا يكفي أحدهما ما لم ينضم إليه الآخر ، فالأعلم في الأحكام الشرعية كالأعلم في بقية الصنايع والعلوم كالهندسة والطب وغيرهما ، فكما أنه لا حرج في تشخيص مفهوم الأعلم في تلك الموارد فإن الأعلم فيها هو من علم بقواعدها وكبرياتها وكان له حسن سليقة في تطبيقها على مواردها وصغرياتها ، ولا يكفي فيه مجرد القوة على الكبريات أو الاحاطة بالفروع بل يتوقف على أن يكون الطبيب مثلاً مع ما له من الاحاطة بجميع أقسام المرض وأدويتها وطرق معالجتها متمكناً من تطبيق تلك القواعد على مواردها ، فكذلك الحال في علم الفقه كما بيّناه .

   إذن لا حرج في تشخيص مفهوم الأعلم بوجه . وأما تمييز مصاديقه وأفراده فهو أيضاً ممّا لا حرج فيه ، وذلك فإن الأعلمية نظير غيرها من الاُمور تثبت بالعلم الوجداني وبالشياع المفيد له وبالبينة، وهذا لا يمسّه أي حرج .

   وأما تعلم فتاواه فلأنه يتيسّر بأخذ رسالته ، ونشرها من السهولة بمكان وبالأخص في زماننا هذا وما يقاربه ، وهذا لا نرى فيه حرجاً بوجه . على أنا لا نلتزم بوجوب الرجوع إلى الأعلم مطلقاً بل في صورة العلم بالمخالفة بينه وبين غير الأعلم في الفتوى الّتي هي محل الكلام ، والعلم بالمخالفة إنما يتحقق فيما إذا علم فتوى كليهما ، وهذا كما ترى ليست فيه شائبة أي حرج .

   الوجه الثالث : سيرة المتشرعة ، حيث جرت على رجوعهم فيما يبتلون به من المسائل إلى أي شخص عالم بحكمها من غير أن يفحصوا عن الأعلم بتلك المسألة فلو كان تقليد الأعلم واجباً عندهم لزم عليهم الفحص عن وجوده .

   وفيه : أنه إن اُريد بذلك صورة عدم العلم بالمخالفة بين فتوى الأعلم وفتوى غير الأعلم ، فلا يبعد دعوى قيام السيرة فيها على عدم الفحص عن الأعلم . وأما لو اُريد بذلك صورة العلم بالمخالفة بينهما كما هي محل الكلام ، فلا مجال فيها لدعوى السيرة بوجه . بل هي دعوى ظاهرة الفساد فإن الأمر بالعكس والسيرة جارية على الرجوع إلى الأعلم عند العلم بالمخالفة كما هو المشاهد في غير الأحكام ، مثلاً إذا عين الطبيب دواءً وخالفه في ذاك من هو أعلم منه ، لم يعتمدوا على معالجته هذه بوجه وإنما يتبعون رأي الأعلم فلاحظ .

ــ[113]ــ

   الوجه الرابع : أن الأئمة (عليهم السّلام) قد أرجعوا جماعة من العوام إلى أشخاص معينين من أصحابهم كيونس بن عبدالرحمان ، ومحمد بن مسلم وغيرهما مع أنهم (عليهم السّلام) موجودون بين الناس ، فإذا كانت فتاوى هؤلاء حجة معتبرة مع وجود نفس الامام (عليه السّلام) كانت فتاواهم حجة عند وجود الأعلم بطريق أولى ، فإن الأعلم لا يزيد عن نفس الإمام (عليه السّلام) .

   والجواب عنه : أن الاستدلال بذلك إنما يتم فيما إذا قلنا بوجوب تقليد الأعلم مطلقاً ، وأما لو خصصنا وجوبه بصورة العلم بالمخالفة بين الأعلم وغيره كما هو الصحيح على ما يأتي بيانه فلا وقع لهذا الاستدلال بوجه ، إذ الإمام (عليه السّلام) إنما أرجع إليهم السائل لعدم العلم بمخالفتهم معه (عليه السّلام) فيما يفتون به ، ولا يحتمل أن يرجعه إليهم مع العلم بمخالفتهم مع الإمام (عليه السّلام) فالاستدلال بالأولوية ساقط .

   هذا تمام الكلام في الوجوه المستدل بها على حجية فتوى غير الأعلم وقد عرفت ضعفها ، ولا بدّ بعد ذلك من التكلم فيما استدل به على وجوب تقليد الأعلم ، فإن تمّ فهو وإلاّ فلا مناص من المراجعة إلى ما يقتضيه الأصل العملي في المسألة .




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net