الترجيح بالأورعية 

الكتاب : التنقيح في شرح العروة الوثقى-الجزء الاول:التقليد   ||   القسم : الفقه   ||   القرّاء : 8923


    الأورعية ليست مرجحة

   (1) قد أسلفنا أن المجتهدين إذا كان أحدهما أعلم من الآخر ولم يعلم المخالفة بينهما في الفتوى جاز الرجوع إلى كل منهما ، لأنه لا مانع من شمول أدلة الحجية لهما حينئذ وكذا إذا علمنا بموافقتهما في الفتوى إلاّ أن تعيين المجتهد المقلّد عند العلم بتوافقهما لا يترتب عليه أي أثر، لعدم دلالة الدليل على لزوم الاستناد إلى أحدهما المعيّن وقتئذ.

   ولا شبهة في أن الأورعية ليست مرجحة في هاتين الصورتين سواء اُريد منها الأورعية في مقام العمل بأن يكون أحدهما مجتنباً عن المشتبهات دون الآخر ، أم اُريد بها الأورعية في الاستنباط إما بمعنى أن فحص أحدهما عن الدليل في استنباطاته أكثر من المقدار المعتبر في الفحص عنه ، وإما بمعنى عدم إفتاء أحدهما في المسائل الخلافية واحتياطه فيها دون الآخر . وذلك لأنه بعد حجية كلتا الفتويين وشمول الأدلة لفتوى الأورع وغير الأورع لاشتمالهما على شرائط الحجية ، لا يفرق بينهما بوجه وذلك لأن الدليل على حجية الفتوى إذا كان قيام السيرة على رجوع الجاهل إلى العالم ، فمن المعلوم أن العقلاء لا يقدّمون أحداً من أهل الخبرة على الآخر بمجرد كونه أورع لاشتمال كل منهما على ما هو الملاك المعتبر في رجوع الجاهل إلى العالم عندهم ، وهذه السيرة لم يردع عنها في الشريعة المقدسة . وإن كان الدليل هو الأدلة اللفظية من الآيات والروايات ، فلا كلام في أنها مطلقة ولا موجب لتقييدها بالأورعية أبداً . إذن لا أثر للأورعية في الصورتين .

   وأما ما ربما يتوهّم من أن مقبولة عمر بن حنظلة دلّت على لزوم الترجيح بالأورعية لقوله (عليه السّلام) : «الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما ...» فمندفع :


ــ[141]ــ

   أما أولاً : فلأنها ضعيفة السند وغير قابلة للاستدلال بها كما مرّ .

   وأما ثانياً : فلأن مفروض الرواية هو العلم بالمخالفة بين الحاكمين وصورة التعارض بينهما ، وأين هذا ممّا نحن فيه ، أعني ما إذا لم يعلم المخالفة بين المجتهدين .

   وأما ثالثاً : فلأنها واردة في باب القضاء ولم يقم دليل على أن ما كان مرجحاً هناك فهو مرجح هنا أعني باب التقليد والفتوى ، والسّر فيه ظاهر ، حيث إن الخصومة لا بدّ من فصلها ، ولا سبيل إلى التوقف والاحتياط في القضاء والمرافعات ، وأما التقليد فهو أمر قابل للاحتياط فيه . إذن لا تكون الأورعية مرجحة كيف والأعلمية ليست مرجحة في تلك الصورة على ما قدّمناه في التكلم على وجوب تقليد الأعلم ، مع أن العلم هو الملاك في حجية فتوى العالم فما ظنك بالأورعية .

   ثمّ إن مما ذكرناه في الجواب عن الاستدلال بالمقبولة يظهر الجواب عن الاستدلال بغيرها من الأخبار الواردة في القضاء المشتملة على الترجيح بالأورعية (1) ولا نعيد .

   وأما إذا كانا متساويين في الفضيلة فهل تكون الأورعية مرجحة ؟ فيه خلاف وتفصيل الكلام في ذلك أن للمسألة صوراً ثلاثاً :

   الاُولى : ما إذا علمنا بموافقتهما في الفتوى . وفي هذه الصورة لا أثر لتعيين المجتهد المقلّد ، إذ لا دليل على لزوم الاستناد إلى أحدهما المعيّن عند الموافقة ومعه لا تكون الأورعية مرجحة بوجه .

   الثانية : ما إذا لم يعلم المخالفة بينهما وهل تكون الأورعية مرجحة حينئذ ؟ ذكر الماتن (قدّس سرّه) أن المجتهدين المتساويين إذا كان أحدهما أورع وجب اختيار الأورع منهما ، إلاّ أن الصحيح أن الأورعية ليست مرجحة في هذه الصورة أيضاً وقد ظهر وجهه مما قدمناه فيما إذا لم يعلم المخالفة بين الأعلم وغير الأعلم .

   الثالثة : ما إذا علمنا بالمخالفة بينهما . مقتضى إطلاق كلام الماتن أن الأورعية أيضاً مرجحة حينئذ ، والّذي يمكن أن يستدل به على أن الأورعية مرجحة في هذه الصورة أمران :

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) وسائل الشيعة 27 : 106 / أبواب صفات القاضي ب 5 ح 1 ، 20 .

ــ[142]ــ

   أحدهما : مقبولة عمر بن حنظلة وغيرها من الأخبار المشتملة على الترجيح بالأورعية في باب القضاء ، بدعوى دلالتها على أن اللاّزم عند المعارضة هو الأخذ بما يقوله أورعهما .

   ثانيهما : الاجماع على أن العامّي ليس له العمل بالاحتياط بل دائماً لا بدّ أن يستند في أعماله إلى فتوى من يجوز تقليده من المجتهدين ، كما لعلّه ظاهر كلام بعضهم . وهذا يقتضي الترجيح بالأورعية على ما يأتي تقريبه .

   وكلا الوجهين غير قابل للمساعدة عليه :

   أما الاستدلال بالمقبولة ونحوها : فلأنها واردة في القضاء وقد ذكرت الأورعية مرجحة فيها للحكمين ، وأين هذا مما نحن فيه أعني ما إذا تعارضت فتوى الأورع لفتوى غير الأورع مع تساويهما في الفضيلة . وقد قدّمنا أن المرجح في باب الحكومة لا يلزم أن يكون مرجحاً في باب التقليد أيضاً لأنه قياس ولا نلتزم بالقياس .

   ويقرّب ما ذكرناه أن المقبولة ونحوها قد اشتملت على الترجيح بالأعدلية والأفقهية والأصدقية والأورعية ، وظاهرها أن كلاً من تلك الصفات مرجح بالاستقلال ، لا أن المرجح مجموعها وإن كانت قد جمعت في البيان ، وعليه لو قلنا بشمولها للفتويين المتعارضتين فلا مناص من الحكم بتساقطهما فيما إذا كان أحد المجتهدين أفقه مثلاً والآخر أورع ، لاشتمال كل منهما على مرجح فيتساقطان . وهذا لا يلتزم به الخصم فإن الأعلم هو المتعين عند التعارض وإن كان غير الأعلم أورع . وهذ قرينة كاشفة عن أن المقبولة ونحوها غير شاملة للفتويين المتعارضتين ، هذا مضافاً إلى ما تقدم من أن المقبولة ضعيفة السند .

   وأما الاجماع المدعى : فإن قلنا إنه تام في نفسه فلا مناص من أن تكون الأورعية مرجحة في المقام ، لأن العامّي مكلف حينئذ بالرجوع إلى أحد المجتهدين المتساويين في الفضيلة ، فإذا كان أحدهما أورع كما هو الفرض دار الأمر بين أن تكون فتوى كل منهما حجة تخييرية ، وأن تكون فتوى الأورع حجة تعيينية ، وقد قدّمنا سابقاً أن الأمر في الحجية إذا دار بين التعيين والتخيير وجب الأخذ بما يحتمل تعينه للقطع بحجيته والشك في حجية الآخر ، وقد مرّ غير مرة أن الشك في الحجية يساوق القطع

ــ[143]ــ

بعدمها فالأورعية مرجحة لا محالة .

   وأما لو قلنا إن الاجماع المدعى غير تام ـ كما أن الأمر كذلك ـ لأن غاية ما هناك أن يقوم الاجماع على أن الشارع بالاضافة إلى جميع المكلفين لا يرضى بالعمل بالاحتياط ، لأنه يستلزم العسر والحرج أو اختلال النظام أو غير ذلك من الوجوه وأما العمل بالاحتياط في مورد واحد  ، أعني الأخذ بما هو الموافق للاحتياط من الفتويين المتعارضتين ، أو بالإضافة إلى شخص واحد فلا نحتمل قيام إجماع تعبدي على حرمته . وعليه لو أفتى أحدهما في مسألة بالوجوب ، وأفتى فيها الآخر بالجواز وجب تطبيق العمل على الفتوى بالوجوب ، كما أن المجتهد الثاني إذا أفتى في مسألة اُخرى بالوجوب وأفتى فيها المجتهد الأول بالجواز وجب تطبيق العمل على الفتوى بالوجوب ، وهذا في الحقيقة تقليد من كلا المجتهدين إذا كانت فتواه مطابقة للاحتياط . إذن فهذان الوجهان ساقطان .

   والّذي ينبغي أن يقال في المقام : إن الأورعية ليست مرجحة في الفتويين المتعارضتين ، وذلك أما مع التمكن من الاحتياط فلأن الأدلة كما تقدم لا تشمل شيئاً من المتعارضين ، فالفتويان ساقطتان عن الحجية ووظيفة العامّي حينئذ هو الاحتياط إذ مع عدم حجية المتعارضين لا معنى للترجيح بالأورعية لأنه لا حجة حتى ترجح إحداهما على الاُخرى ، وإنما وجب الاحتياط لأنه مما يستقل به العقل في أطراف العلم الاجمالي المنجز للواقع .

   وأما مع عدم التمكن من الاحتياط فقد يقال : إن المتعين هو العمل بفتوى الأورع من المجتهدين المتساويين في الفضيلة ، وذلك لدوران الأمر في الحجية بين التعيين والتخيير فإن فتوى كل منهما إمّا حجة تخييرية أو أن فتوى الأورع حجة تعيينية ومقتضى القاعدة هو الأخذ بما يحتمل تعينه وهو فتوى الأورع في محل الكلام ، لأن العمل بها معذّر يقيناً ، وأما العمل بفتوى غير الأورع فلم يعلم كونه معذّراً على تقدير الخلاف لأجل الشك في حجيتها وهو يساوق القطع بعدم الحجية كما مرّ .

ــ[144]ــ

   وناقش في ذلك بعض مشايخنا المحققين (قدّس سرّهم) بما حاصله : أن القاعدة إنما تقتضي الأخذ بما يحتمل تعينه فيما إذا استند احتمال التعيين إلى أقوائية الملاك في أحدهما عن الملاك في الآخر كما في الأعلمية، إذ الملاك في حجية الفتوى والنظر هو العلم والفقاهة وهما في الأعلم أقوى منهما في غير الأعلم ، والأصل يقتضي التعيين في مثله وأما إذا كان احتمال التعيّن مستنداً إلى أمر خارج عن الملاك ولم يستند إلى أقوائيته في أحدهما ، فلا يقتضي الأصل فيه التعيين لتساويهما فيما هو ملاك الحجية على الفرض والأمر في المقام كذلك إذ الملاك في حجية الفتوى هو العلم وهو أمر مشترك فيه بين الأورع وغيره ، وكون أحدهما آتياً بصلاة الليل مثلاً أو متورعاً في الشبهات لا ربط له بما هو الملاك في الحكم بحجية نظره وفتواه ، فمثله لا يمكن أن يكون مرجحاً في مقام الحجية أبداً (1) .

   وفيه : أن الأورعية قد يفرض القطع بعدم كونها ذات دخالة في حكم الشارع بحجية الفتوى بوجه ، وهي خارجة حينئذ عن محل الكلام فإن حالها على هذا حال الهاشمية والأسنّية وصباحة الوجه وغيرها ، فكما أن تلك الصفات ليست مرجحة لإحدى الفتويين من غير ريب ، كذلك الحال في الأورعية على الفرض .

   وقد يحتمل أن تكون مرجحة لإحداهما ، وهذا لا لأنها ذات دخالة فيما هو الملاك للحجية ، بل من جهة أن الشارع جعلها مرجحة لإحداهما كما جزم بها شيخنا الأنصاري (قدّس سرّه)(2) فإن جزمه بها وإن لم يكن حجة على غيره ، إلاّ أنه يكفي في إثارة الاحتمال بالوجدان. إذن يحتمل أن تكون الأورعية مرجحة لإحداهما ومعه لا مناص من اختيار الأورع ، وذلك لأن الملاك فيما استقلّ به العقل من الأخذ بما يحتمل تعينه إنما هو حصول اليقين بفراغ الذمة عن التكليف المنجّز على تقدير العمل به ، والأمر في المقام كذلك لأن العمل على فتوى الأورع معذّر يقيناً ومعذّرية فتوى غير الأورع غير معلومة للشك في حجيتها ، وهو يساوق القطع بعدم الحجية كما مرّ ، ولا يفرق في ذلك بين أن يكون المرجح أمراً خارجياً كما في المقام وبين أن يكون أمراً

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) رسالة في الاجتهاد والتقليد (الاصفهاني) : 64 .

(2) رسالة في الاجتهاد والتقليد : 83 .

ــ[145]ــ

   [ 14 ] مسألة 14 : إذا لم يكن للأعلم فتوى في مسألة من المسائل يجوز في تلك المسألة الأخذ من غير الأعلم وإن أمكن الاحتياط (1) .

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net