حكم المجسِّمة - حكم المجبِّرة والمفوِّضة - حكم القائلين بوحدة الوجود 

الكتاب : التنقيح في شرح العروة الوثقى-الجزء الثالث:الطهارة   ||   القسم : الفقه   ||   القرّاء : 18726


ــ[71]ــ

وأمّا المجسِّمة (1)

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

دولة بني اُميّة إنما كانت من جهة عدم علمهم بنجاسة الناصب في ذلك الزمان (1) وتوضيحه :

   أنّ النواصب إنما كثروا من عهد معاوية إلى عصر العباسيين لأنّ الناس مجبولون على دين ملوكهم والمرؤوس يتقرّب إلى رئيسه بما يحبّه الرئيس ، وكان معاوية يسب أمير المؤمنين (عليه السلام) علناً ويعلن عداوته له جهراً ولأجله كثر النواصب في زمانه إلى عصر العباسيين . ولا يبعد أنهم (عليهم السلام) لم يبيّنوا نجاسة الناصب في ذلك العصر مراعاة لعدم تضيق الأمر على شيعتهم ، فانّ نجاسة الناصب كانت توقعهم في حرج شديد لكثرة مساورتهم ومخالطتهم معه أو من جهة مراعاة الخوف والتقية فانهم كانوا جماعة كثيرين ، ومن هنا أخّروا بيانها إلى عصر العباسيين حيث إنهم كانوا يوالون الأئمة (عليهم السلام) ظاهراً ولا سيما المأمون ولم ينصب العداوة لأهل البيت إلاّ قليل . وما ذكرناه هو السر في عدم اجتناب أصحابهم عن الناصب ، وأمّا الأئمة بأنفسهم فلم يظهر عدم تجنبهم عنهم بوجه ، ومعه لا مسوغ لرد ما ورد من الرواية في نجاستهم بمجرّد استبعاد كفره وأنّ الناصب لو كان نجساً لبيّنها الأئمة (عليهم السلام) لأصحابهم وخواصهم .

   (1) وهم على طائفتين : فانّ منهم من يدعي أن الله سبحانه جسم حقيقة كغيره من الأجسام وله يد ورجل إلاّ أنه خالق لغيره وموجد لسائر الأجسام ، فالقائل بهذا القول إن التزم بلازمه من الحدوث والحاجة إلى الحيّز والمكان ونفي القدمة ، فلا إشكال في الحكم بكفره ونجاسته لأنه إنكار لوجوده سبحانه حقيقة . وأما إذا لم يلتزم بذلك بل اعتقد بقدمه تعالى وأنكر الحاجة فلا دليل على كفره ونجاسته وإن كان اعتقاده هذا باطلاً ومما لا أساس له .

   ومنهم من يدّعي أنه تعالى جسم ولكن لا كسائر الأجسام كما ورد أنه شيء

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) كتاب الطهارة : 351 ، باب النجاسات (حكم المخالف) السطر 22 .

ــ[72]ــ

والمجـبِّرة (1)

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

لا  كالأشياء (1) فهو قديم غير محتاج ، ومثل هذا الاعتقاد لا يستتبع الكفر والنجاسة وأمّا استلزامه الكفر من أجل أنه إنكار للضروري حيث إنّ عدم تجسّمه من الضروري فهو يبتني على الخلاف المتقدم من أن إنكار الضروري هل يستلزم الكفر مطلقاً أو أنه إنما يوجب الكفر فيما إذا كان المنكر عالماً بالحال ، بحيث كان إنكاره مستلزماً  لتكذيب النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) .

   هذا ، والعجب من صدر المتألهين حيث ذهب إلى هذا القول في شرحه على الكافي وقال ما ملخّصه : إنّه لا مانع من التزام أنه سبحانه جسم إلهي ، فانّ للجسم أقساماً فمنها : جسم مادي وهو كالأجسام الخارجية المشـتملة على المادّة لا محالة . ومنها : جسم مثالي وهو الصورة الحاصلة للانسان من الأجسام الخارجيـة وهي جسم لا مادّة لها . ومنها : جسم عقلي وهو الكلِّي المتحقِّق في الذهن وهو أيضاً مما لا مادّة له بل وعدم اشتماله عليها أظهر من سابقه . ومنها : جسم إلهي وهو فوق الأجسام بأقسامها وعدم حاجته إلى المادّة أظهر من عدم الحاجة إليها في الجسم العقلي ، ومنها : غير ذلك من الأقسام ، ولقد صرّح بأن المقسم لهذه الأقسام الأربعة هو الجسم الذي له أبعاد ثلاثة من العمق والطول والعرض(2) . وليت شعري أن ما فيه هذه الأبعاد وكان عمقه غير طوله وهما غير عرضه كيف لا يشتمل على مادة ولا يكون متركباً حتى يكون هو الواجب سبحانه . نعم ، عرفت أن الالتزام بهذه العقيدة الباطلة غير مستتبع لشيء من الكفر والنجاسة ، كيف وأكثر المسلمين لقصور باعهم يعتقدون أنّ الله سبحانه جسم جالس على عرشه ومن ثمة يتوجهون نحوه توجه جسم إلى جسم مثله لا على نحو التوجه القلبي .

   (1) القائلون بالجبر إن التزموا بتوالي عقيدتهم من إبطال التكاليف والثواب

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) ورد مضمونه في الكافي 1 : 81 ذيل الحديث 5 .

(2) شرح اُصول الكافي : 273 .

ــ[73]ــ

والعقاب بل وإسناد الظلم إلى الله تعالى ، لأنه لازم إسناد الأفعال الصادرة عن المكلفين إليه سبحانه ونفي قدرتهم عنها نظير حركة يد المرتعش فلا تأمل في كفرهم ونجاستهم لأنه ابطال للنبوات والتكاليف . وأما إذا لم يلتزموا بها ـ  كما لا يلتزمون  ـ حيث اعترفوا بالتكاليف والعقاب والثواب بدعوى أنهما لكسب العبد وإن كان فعله خارجاً عن تحت قدرته واختياره واستشهدوا عليه بجملة من الآيات كقوله عزّ من قـائل : (ولا تكسب كلّ نفس إلاّ عليها )(1) وقوله : (لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت )(2)  وقوله : (لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ) (3) وقوله : (كل امرئ بما كسب رهين )(4) إلى غير ذلك من الآيات ، فلا يحكم بكفرهم فانّ مجرّد اعتقاد الجبر غير موجب له ولا سيّما بملاحظة ما ورد من أنّ الاسلام هو الاعتراف بالشهادتين (5) اللّتين عليهما أكثر الناس ، لأنّ لازمه الحكم بطهارة المجبِّرة وإسلامهم لاعترافهم بالشهادتين ، مضافاً إلى استبعاد نجاستهم وكفرهم على كثرتهم ، حيث إنّ القائل بذلك القول هو الأشاعرة وهم أكثر من غيرهم من العامّة . نعم ، عقيدة الجبر من العقائد الباطلة في نفسها .

   وأمّا المفوِّضة فحالهم حال المجبِّرة فانهم إذا التزموا بما يلزم مذهبهم من اعطاء السلطان للعبد في قبال سلطانه تعالى فلا مناص من الحكم بكفرهم ونجاستهم لأنه شرك لا محالة ، وأما إذا لم يلتزموا بلوازم اعتقادهم كما هو الواقع حيث إنهم أرادوا بذلك الفرار عما يلزم المجبّرة من اسناد الظلم إلى الله سبحانه ، لوضوح أنّ العقاب على ما لا يتمكّن منه العبد ظلم قبيح وإن وقعوا في محذور آخر أشدّ من حيث لا يشعرون وهو إيجاد الشريك لله تعالى في سلطانه ، فلا يستلزم اعتقادهم هذا شيئاً من النجاسة والكفر .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الأنعام 6 : 164 .

(2) البقرة 2 : 286 .

(3) البقرة 2 : 134 .

(4) الطور 52 : 21 .

(5) الوسائل 1 : 19 / أبواب مقدمة العبادات ب 1 ح 13 ، 15 ، 33 .

ــ[74]ــ

والقائلون بوحدة الوجود من الصّوفيّة إذا التزموا بأحكام الاسلام فالأقوى عدم نجاستهم إلاّ مع العلم بالتزامهم بلوازم مذاهبهم من المفاسد (1) .

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

   وأمّا ما ورد في بعض الروايات من أن القائل بالتفويض مشرك (1) فقد ظهر جوابه مما ذكرناه سابقاً من أن للشرك مراتب عديدة وهو غير مستتبع للكفر على اطلاقه كيف ولا اشكال في اسلام المرائي في عبادته مع أن الرياء شرك بالله سبحانه ، فالشرك المستلزم للكفر إنما هو الاشراك في ذاته تعالى أو في عبادته لأنه المقدار المتيقن من قوله تعالى : (إنّما المشركون نجس )(2) على تقدير دلالته على نجاسة المشرك ، لأن هؤلاء المشركين لم يكونوا إلاّ عبدة الأصنام والأوثان ، فالذي يعبد غير الله تعالى أو يشرك في ذاته هو المحكوم بكفره دون مطلق المشرك .

   ثم إنّ القول بالجبر والقول بالتفويض لما كانا في طرفي النقيض وكان يلزم على كل منهما محذور فقد نفاهما الأئمة الهداة (عليهم صلوات الله الملك المتعال) وأثبتوا الأمر بين الأمرين قائلاً : «بأنه لا جبر ولا تفويض بل منزلة بينهما» (3) فان في الفعل إسنادين : إسناد إلى الله سبحانه وهو إسناد الافاضة والاقدار دون إسناد الفعل إلى فاعله وإسناد إلى فاعله إسناد العمل إلى عامله . وقد ذكرنا شيخنا الاُستاذ (قدس سره) أن في هذه الأخبار الشريفة المثبتة للمنزلة بين المنزلتين لدلالة واضحة على ولايتهم (صلوات الله عليهم أجمعين) حيث إن الالتفات إلى هذه الدقيقة التي يتحفظ فيها على كلتا الجهتين عدالة الله وسلطانه لا يكون إلاّ عن منشأ إلهي (4) ولنعم ما أفاده .

   (1) القائل بوحدة الوجود إن أراد أن الوجود حقيقة واحدة ولا تعدد في حقيقته وأنه كما يطلق على الواجب كذلك يطلق على الممكن ، فهما موجودان وحقيقة الوجود فيهما واحدة والاختلاف إنما هو بحسب المرتبة ، لأن الوجود الواجبي في أعلى مراتب

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 28 : 340 / أبواب حدّ المرتد ب 10 ح 4 .

(2) التوبة 9 : 28 .

(3) الكافي 1 : 159 ح 10 ، 13 .

(4) أجود التقريرات 1 : 93 .

ــ[75]ــ

القوّة والتمام والوجود الممكني في أنزل مراتب الضعف والنقصان وإن كان كلاهما موجوداً حقيقة وأحدهما خالق للآخر وموجد له ، فهذا في الحقيقة قول بكثرة الوجود والموجود معاً نعم حقيقة الوجـود واحدة ، فهو مما لا يستلزم الكفر والنجاسـة بوجه بل هو مذهب أكثر الفلاسفة بل مما اعتقده المسلمون وأهل الكتاب ومطابق لظواهر الآيات والأدعية ، فترى أ نّه (عليه السلام) يقول : «أنت الخالق وأنا المخلوق وأنت الرب وأنا المربوب»(1) وغير ذلك من التعابير الدالة على أن هناك موجودين متعدِّدين أحدهما موجد وخالق للآخر ، ويعبّر عن ذلك في الاصطلاح بالتوحيد العامِّي .

   وإن أراد من وحدة الوجود ما يقابل الأول وهو أن يقول بوحدة الوجود والموجود حقيقة وأنه ليس هناك في الحقيقة إلاّ موجود واحد ولكن له تطورات متكثرة واعتبارات مختلفة ، لأنه في الخالق خالق وفي المخلوق مخلوق كما أنه في السماء سماء وفي الأرض أرض وهكذا ، وهذا هو الذي يقال له توحيد خاص الخاص وهذا القول نسبه صدر المتألهين إلى بعض الجهلة من المتصوفين ، وحكى عن بعضهم أنه قال : ليس في جبتي سوى الله ، وأنكر نسبته إلى أكابر الصوفية ورؤسائهم (2) ، وإنكاره هذا هو الذي يساعده الاعتبار فان العاقل كيف يصدر منه هذا الكلام وكيف يلتزم بوحدة الخالق ومخلوقه ويدعي اختلافهما بحسب الاعتبار .

   وكيف كان فلا إشكال في أن الالتزام بذلك كفر صريح وزندقة ظاهرة ، لأنه إنكار للواجب والنبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حيث لا امتياز للخالق عن المخلوق حينئذ إلاّ بالاعتبار ، وكذا النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأبو جهل مثلاً متّحدان في الحقيقة على هذا الأساس وإنما يختلفان بحسب الاعتبار .

   وأمّا إذا أراد القائل بوحدة الوجود أن الوجود واحد حقيقة ولا كثرة فيه من جهة وإنما الموجود متعدِّد ، ولكنه فرق بيّن بين موجودية الوجود وبين موجودية غيره من الماهيّات الممكنة، لأنّ إطلاق الموجود على الوجود من جهة أ نّه نفس مبدأ الاشتقاق

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) كما في دعاء يستشير مفاتيح الجنان : 78 .

(2) لاحظ الأسفار 1 : 71  .

ــ[76]ــ

وأمّا إطلاقه على الماهيات الممكنة فانما هو من جهة كونها منتسبة إلى الموجود الحقيقي الذي هو الوجود لا من أجل أنها نفس مبدأ الاشـتقاق ولا من جهة قيام الوجود بها حيث إن للمشتق إطلاقات فقد يحمل على الذات من جهة قيام المبدأ به كما في زيد عالم أو ضارب لأ نّه بمعنى مَن قام به العلم أو الضرب ، واُخرى يحمل عليه لأ نّه نفس مبدأ الاشتقاق كما عرفته في الوجود والموجود ، وثالثة من جهة إضافته إلى المبدأ نحو إضافة وهذا كما في اللاّبن والتامر لضرورة عدم قيام اللبن والتمر ببائعهما إلاّ أنّ البائع لما كان مسنداً ومضافاً إليهما نحو إضافة وهو كونه بائعاً لهما ، صح إطلاق اللاّبن والتامر على بائع التمر واللّبن ، وإطلاق الموجود على الماهيات الممكنة من هذا القبيل ، لأنه بمعنى أنها منتسبة ومضافة إلى الله سبحانه باضافة يعبّر عنها بالاضافة الاشراقية فالموجود بالوجود الانتسابي متعدِّد والموجود الاستقلالي الذي هو الوجود واحد .

   وهذا القول منسوب إلى أذواق المتأ لِّهين ، فكأن القائل به بلغ أعلى مراتب التأ لّه حيث حصر الوجود بالواجب سبحانه ، ويسمّى هذا توحيداً خاصياً . ولقد اختار ذلك بعض الأكابر ممن عاصرناهم وأصرّ عليه غاية الاصرار مستشهداً بجملة وافرة من الآيات والأخبار حيث إنّه تعالى قد اُطلق عليه الموجود في بعض الأدعية(1) وهذا المدعى وإن كان أمراً باطلاً في نفسه لابتنائه على أصالة الماهيّة ـ على ما تحقّق في محلّه  ـ وهي فاسـدة لأنّ الأصيل هو الوجود إلاّ انه غير مستتبع لشيء من الكفر والنجاسة والفسق .

   بقي هناك احتمال آخر وهو ما إذا أراد القائل بوحـدة الوجود وحدة الوجـود والموجود في عين كثرتهما فيلتزم بوحدة الوجود والموجود وأنه الواجب سبحانه إلاّ أن الكثرات ظهورات نوره وشؤونات ذاته ، وكل منها نعت من نعوته ولمعة من لمعات صـفاته ويسمّى ذلك عند الاصطلاح بتوحيـد أخصّ الخواص ، وهذا هو الذي حقّقه صدر المتأ لِّهين ونسبه إلى الأولياء والعرفاء من عظماء أهل الكشف واليقين قائلاً : بأن

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) وقفنا عليه في دعائي المجير والحزين المنقولين في مفاتيح المحدث القمي ص 81 وهامش 148 .




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net