الكلام في معرفة الأرش - تعارض المقوّمين 

الكتاب : التنقيح في شرح المكاسب - الجزء الرابع : الخيارات-2   ||   القسم : الفقه   ||   القرّاء : 3986


الكلام في معرفة الأرش

البائع والمشتري ربما يعلمان بقيمة المبيع على تقدير الصحة والعيب ، وحينئذ يأخذ المشتري من البائع بنسبة ذلك التفاوت من الثمن وهذا ظاهر .

وأمّا إذا جهلا بقيمة الصحيح والمعيب فلابدّ من الرجوع إلى المقوّم العارف بقيمة المال ، والرجوع إلى إخبار العارف بقيمة المال يتصوّر على ثلاثة أقسام كما قسّمه شيخنا الأنصاري (قدّس سرّه)(1).

الأول : أن يكون المبيع موجوداً في الأسواق وله قيمة معيّنة عند أهل السوق

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) المكاسب 5 : 403 .

ــ[363]ــ

ويعلمها جميعهم لأنه أمر محسوس بحيث لا يحتاج إلى إعمال نظر ودقّة ، وهذا نظير الفرش والكتاب ونحوهما ممّا يوجد في الأسواق بكثرة ، وإخبار العارف حينئذ يدخل في باب الشهادة لأنه راجع إلى الاخبار عن أمر محسوس خارجي .

الثاني : أن لا يكون المبيع موجوداً في السوق ولا له قيمة معيّنة عند أهلها وقد ظهر معيباً ، وهذا نظير كتاب التذكرة مثلا إذا كان مخطوطاً بخط نفس العلاّمة إلاّ أنه كان معيباً لأنه أكلته الأرضة فرضاً ، وحينئذ لابدّ من المراجعة في استعلام قيمته إلى أهل الخبرة والاطلاع ، ويكون إخباره بقيمته إخباراً عن نظره وحدسه من جهة كثرة ممارسته بأشباهه ونظائره ، لا إخباراً عن أمر محسوس يعرفه جميع أهل السوق .

الثالث : أن يكون كل من المتعاملين عالماً بالقيمة إلاّ أنّهما يجهلان الانطباق كما إذا علما بأنّ الثوب من صوف قيمته كذا مقداراً والثوب المخلوط منه ومن القطن يسوى بنصفه إلاّ أنّهما لا يدريان أنّ المبيع صوف أو مخلوط ، أو إذا علما بأنّ قيمة الذهب الخالص كذا ولم يدريا أنّ المبيع خالص أو مشوب ، وحينئذ لابدّ من المراجعة إلى أهل الخبرة في تشخيص الخالص عن المخلوط ، وهو إنما يخبر عن خلوصه وعدمه لا عن قيمته لعلمهما بها فهذه أقسام ثلاثة .

أمّا القسم الأول : فقد عرفت أنه من قبيل الشهادة ، لأنّ المخبر به أمر محسوس معلوم في الخارج بلا حاجة إلى إعمال دقّة ونظر ، فيعتبر فيه التعدّد لما ثبت من أنّ الشهادة تقوم باثنين فلا يكفي فيها الواحد .

وأمّا القسم الثاني والثالث فهما خارجان عن باب الشهادة ، لأنّ المخبر به ليس أمراً محسوساً غير محتاج إلى نظر ودقّة بل هو يحتاج إلى إعمال الدقّة والمهارة فهما من باب الرجوع إلى أهل الخبرة والإطّلاع ، فهل يعتبر فيهما التعدّد أيضاً أو لا  ؟ الظاهر عدمه ، والوجه في ذلك أحد أمرين على سبيل منع الخلو .

ــ[364]ــ

أحدهما : أنّهما خارجان عن الشهادة المعتبر فيها التعدّد وداخلان في الرجوع إلى أهل الخبرة والإطّلاع الذي ثبت اعتبار قوله بالسيرة العقلائية ولم يردع عنها الشارع كما هو واضح ، فلا يعتبر فيهما التعدّد .

وثانيهما : أنّ الأصل في الخبر الواحد أن يكون حجّة في الموضوعات والأحكام كما بنينا عليه في محلّه من جهة الآيات والأخبار والسيرة العقلائية المتحقّقة التي بها بنينا على حجّية فتوى المفتي مع قطع النظر عمّا دلّ عليه من الروايات ، ويحتاج إثبات عدم حجّيته إلى دليل مخرج ، وهو إنما دلّ على عدم حجّيته بانفراده في باب المرافعات والمحاكمات دون غيرها ، فلا محالة يكون نظره في المقام وإخباره معتبراً ، هذا .

ثم إنه إذا لم يوجد في الخارج مقوّم وأهل اطّلاع أو وجد ولم يدر قيمته فهل يجب على البائع ردّ الأكثر إلى المشتري أو له أن يقتصر بالأقل ؟ ذكر شيخنا الأنصاري (قدّس سرّه)(1) أنه يحتمل ضعيفاً وجوب دفع الأكثر ، ووجهه أنّ ذمّة البائع قد اشتغلت بمطالبة المشتري بالغرامة قطعاً ويشك في أنّ ذمّته هل تفرغ بدفع الأقل أو لا ، فمقتضى قاعدة الاشتغال واستصحابه وجوب ردّ الأكثر حتى يقطع بفراغ ذمّته ، هذا .

ولكنّك خبير بتكرّر هذا الجواب والسؤال في تضاعيف الكتاب ، وأنّ المورد من قبيل الشك في اشتغال الذمّة بالأكثر وعدمه لا الشك في الفراغ والمورد مجرى البراءة ، ولا يجب على البائع إلاّ دفع الأقل ، هذا تمام الكلام في الرجوع إلى المقوّم ويبقى الكلام في اختلاف المقوّمين .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) المكاسب 5 : 404 .

ــ[365]ــ

الكلام في تعارض المقوّمين

الاختلاف في مقدار الأرش بين المتبائعين تارةً بحيث يكون أحدهما مدّعياً والآخر منكراً كما إذا ادّعى المشتري أنّ الأرش بالنصف ونفاه البائع وقال إنّ الأرش بالخمس مثلا ، فإنهما في المقدار الزائد عن الخمس مدّع ومنكر ، ولا يجري في هذه الصورة شيء ممّا ذكروه في تعارض المقوّمين والاختلاف في مقدار الأرش كما سيأتي ، بل المقام حينئذ من موارد الدعوى والانكار فيشمله حكمه ، ويحكم بتقديم قول البائع لأنه منكر للزيادة وعلى المدّعي إثباتها ، فإذا أقام بيّنة على مدّعاه فيقدّم قوله على قول المنكر لا محالة ، كما تقدّم بيّنته أي المدّعي على بيّنة المنكر إذا أقامها على إنكاره بناءً على عدم الاعتبار ببيّنة المنكر ، لأنّ البيّنة للمدّعي  .

وأمّا إذا قلنا باعتبار كل واحدة من البيّنتين كما التزم به بعضهم وحمل قوله (صلّى الله عليه وآله) « إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان »(1) وقوله (عليه السلام) «  البيّنة على المدّعي »(2) على الغالب ، وأقام كل منهما على مرامه بيّنة ، فيدخل المقام حينئذ في مسألة أنّ بيّنة الداخل مقدّمة أو بيّنة الخارج (وهو المنكر) وكيف كان فلا مزية للمقام حينئذ على سائر موارد الدعوى والانكار .

والظاهر ـ وإن لم أرَ من تعرّض له فيما أعلم ـ أنّ كلماتهم في المقام أعني تعارض المقوّمين غير شامل لهذه الصورة أي صورة كون أحدهما مدّعياً والآخر منكراً ، وإنّما كلامهم فيما إذا لم يكن هناك دعوى من أحدهما على الآخر كما إذا كانا جاهلين بالقيمة وأرجعاها إلى المقوّمين من دون أن يدّعي أحدهما شيئاً على الآخر ، أو أرجعاها إلى البيّنة واختلفت البيّنات أو المقوّمون ، فهل تقدّم بيّنة الأقل

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 27 : 232 / أبواب كيفية الحكم ب2 ح1 .

(2) الوسائل 27 : 233 / أبواب كيفية الحكم ب3 ح2 .

ــ[366]ــ

حينئذ لاعتضادها بالأصل لأنه يقتضي عدم اشتغال ذمّة البائع بأكثر من الأقل ، أو تقدّم بيّنة الأكثر لأنها تدّعي العلم بثبوت الزيادة والأقل لا ينفيه بل يدّعي جهله بها (بمعنى أنّها ساكتة بخلاف الأكثر) أو يرجع إلى القرعة لأنها لكل أمر مشتبه ، أو يرجع إلى الصلح ، أو يتخيّر الحاكم بينهما ، أو لابدّ من الجمع بينهما بالعمل بكل منهما في النصف إذا كان اثنان أو في الثلث إذا كانوا ثلاثة وهكذا ، لأنّ الجمع مهما أمكن أولى من الطرح ؟ وجوه .

المشهور بينهم هو الوجه الأخير وهو الذي اختاره شيخنا الأنصاري (قدّس سرّه)(1) والكلام في مدرك ذلك وأنّ الجمع بينهما بالعمل بكل منهما في النصف لماذا يكون أولى وأنّ الوجه فيه ماذا .

فإن كان مدرك ذلك ما نقله شيخنا الأنصاري (قدّس سرّه)(2) عن الشيخ الطوسي (قدّس سرّه)(3) على ما هو ببالي في بحث التعادل والترجيح من أنّ الجمع مهما أمكن أولى من الطرح ، كما هو ظاهر صدر كلامه حيث قال من وجوب الجمع بينهما بقدر الامكان ، ففيه أنّ ذلك إنما هو فيما إذا كان بين الدليلين جمع عرفي بأن يكون أحدهما عند العرف قرينة على الآخر وهو إنما يتحقّق في الكلامين الصادرين من متكلّم واحد أو من هو بمنزلة الواحد كالأئمّة (عليهم السلام) ومن هنا ورد في بعض الأخبار(4) صحة إسناد ما يسمع من أحدهم (عليهم السلام) إلى الآخر بأن يقول قال أمير المؤمنين (عليه السلام) مع أنه سمعه من الصادق (عليه السلام) وهذا غير ثابت في

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) المكاسب 5 : 405 .

(2) فرائد الاُصول 2 : 753 .

(3) الظاهر أنّ المنسوب إليه هو الشيخ أبي جمهور الأحسائي فراجع .

(4) الوسائل 27 : 104 / أبواب صفات القاضي ب8 ح85 ، 86 وغيرهما .

ــ[367]ــ

المقام ، لأنهما صادران من شخصين ولا يكون أحدهما قرينة على الآخر ، كيف لا وأحدهما يكذّب الآخر فيما يدّعيه ، فالجمع أولى من الطرح في موارد الجمع العرفي والأولوية حينئذ أولوية تعينية كما في آية اُولوا الأرحام(1) دون غير تلك الموارد فإنه لا أولوية للجمع على الطرح ، فإنّ في الجمع أيضاً طرحاً لكل واحد منهما في النصف ، لأنهما متعارضان في النصف أيضاً فمن يقول إنه يسوى بعشرة فيدّعي أنّ نصفه يسوى بخمسة ، وفي الجمع يطرح قول كل منهما في النصف ، فلا أولوية له بوجه كما ذكرناه في بحث التعادل والترجيح(2).

وإن كان مدرك ذلك أولوية الجمع في خصوص المقام أعني الماليات كما هو المستفاد من آخر كلامه ، لقوله لأنّ فيه جمعاً بين الحقّين ، لا مطلق المتعارضين بدعوى استفادة ذلك من سيرة العقلاء الجارية على الجمع بين الدليلين في الماليات ولم يرد عنها منع من الشارع كما هو ليس ببعيد وهو الذي يعبّر عنه بقاعدة العدل والإنصاف ، فإذا كان هناك مال مردّد بين شخصين فيعطي كل واحد منهما نصفه من باب المقدّمة العلمية حتى نعلم بوصول المال إلى مالكه ولو في النصف ، فكما ربما يكون صرف مقدار من المال مقدّمة وجودية لوصوله إلى مالكه كما إذا توقف وصوله إليه إلى صرف مقدار منه في البريد أو في إجارة الحمولة ونحوها ، كذلك ربما يكون صرف مقدار منه مقدمة علمية لوصول المال إلى مالكه ، فإنّ إعطاء النصف في المقام إلى كل منهما وإن لم يكن مقدّمة وجودية لوصول المال إلى مالكه لعدم توقفه عليه إلاّ أنه مقدّمة علمية وموجب لحصول العلم بوصوله إلى مالكه ، وهذا ممّا

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الأنفال 8 : 75 .

(2) مصباح الاُصول 3 (موسوعة الإمام الخوئي 48) : 483 .

ــ[368]ــ

اُشير إليه في بعض الأخبار أيضاً كما ورد(1) في التنصيف في الدرهم الموضوع عند الودعي مع العلم بأنّ التالف إمّا هو درهم زيد وإمّا هو درهم عمرو والموجود أيضاً إمّا درهم زيد وإمّا درهم عمرو ، إلاّ أنّ الإمام (عليه السلام) حكم بتنصيف الدرهم بينهما من جهة قاعدة العدل والإنصاف ، فهذه القاعدة لو سلّمناها كما هو ليس ببعيد فإنما تختص بما إذا كان هناك مال مردّد بين شخصين كما إذا أقرّ شخص عند موته بأنّ داري ملك زيد وأنها كانت عارية عندي وتردّد زيد بين شخصين مسمّيين بزيد فدار أمر الدار بينهما من دون أن يكون دعوى من أحدهما على الآخر في البين ، فإنّ مقتضى القاعدة المذكورة أن ينصف الدار بينهما من باب المقدّمة العلمية كما مرّ ، ولا تجري في المقام إذ ليس في المقام مال مردّد بين شخصين وإنما تشتغل ذمّة البائع بالأرش عند مطالبة المشتري به ولا ندري أنّ ذمّته عند مطالبة المشتري اشتغلت بالأقل أو بالأكثر ، والأقل معلوم ونشك في أصل الاشتغال بالأكثر ، فالمقام ليس من موارد قاعدة العدل والإنصاف ، ومن هنا يظهر أنّ الرواية الواردة في الودعي ممّا لا يمكن إجراؤها في المقام ، إذ لا مال مشترك بين شخصين .

كما أنه لا شهادة في بعض الأخبار الواردة في موارد التداعي للمقام حيث ورد أنّ المال إذا كان بيد شخصين وادّعى كل منهما أنه ملكه وأقام على مدّعاه بيّنة ينصف المال بينهما ، والوجه في عدم صحة الاستشهاد به في المقام هو أنّ حكمه (عليه السلام) بالتنصيف ليس من جهة الجمع بين البيّنتين بالعمل بكل منهما في النصف ، بل من جهة أنّ مفروض الرواية أنّ المال بيد الشخصين وإذا تعارضت البيّنتان وحكمنا بسقوطهما تبقى اليد بحالها ، ومقتضى اليد الاشتراكية هو الملكية الاشتراكية ، كما أنّ مقتضى اليد الاختصاصية هو الملكية الاختصاصية ، فالتنصيف من جهة مقتضى

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 18 : 452 / كتاب الصلح ب12 ح1 ، إلاّ أنّ فيه بدل الدرهم « الدينار » .

ــ[369]ــ

اليد  .

ويمكن أن يقال : إنّ الوجه في حكمه (عليه السلام) بالتنصيف هو أنّ كلا من المدّعيين مدّع في نصف المال ومنكر في النصف الآخر ، وحينئذ فيؤخذ بكل من البيّنتين في مورد الادّعاء وهو النصف ويطرحان في مورد الانكار ، والنتيجة أنّ المال بينهما بالسوية .

والمتحصّل : أنّ هذه الرواية ممّا لا شهادة له للمقام لأنّ مورد الرواية هو اليد فيقتصر على موردها ، وعليه فلا وجه للجمع بين القيمتين أو البيّنتين بالعمل بكل منهما في النصف ، بل يمكن دعوى القطع ببطلان ذلك بملاحظة أشباه المسألة ونظائرها  ، فإذا اختلفا أي المقوّمين أو البيّنتين في أصل ثبوت الأرش فأثبتته إحداهما ونفته الاُخرى ، بأن قالت إحداهما إنّ معيب المال وصحيحه بحسب القيمة سواء ، وقالت الاُخرى بل صحيحه كذا ومعيبه كذا ، أو اخبرت إحدى البيّنتين عن عدم العيب في المبيع وأخبرت الاُخرى بوجوده فيه فهل يحتمل في مثله أن يقال بوجوب الجمع بينهما والعمل بكل واحد منهما في النصف ، أو يقال إنّهما متعارضتان فتسقطان ، وبهذا وأمثاله يمكننا دعوى القطع بعدم صحة الجمع بين البيّنتين أو القيمتين والعمل بكل منهما في النصف وبالجملة : فلم نعرف الوجه في ذلك وإن ذهب إليه معظم الأصحاب لما عرفت من أنّ البيّنة كما هي معارضة في تمام القيمة كذلك هي معارضة في نصف القيمة ، لأنّ من أخبر بأنّ قيمة المال عشرة فقد أخبر بأنّ كل نصف منه بخمسة ومع المعارضة بينهما كيف نأخذ بكل واحد منهما في النصف ، فهذا الوجه ساقط .

وأمّا القرعة فالعمل عليها يحتاج إلى عدم قيام شيء من الأمارات والاُصول في موردها وإلاّ فهي مقدّمة على القرعة ، إذ لو كان مورد القرعة هو مطلق الشك والتحيّر في الحكم الواقعي فلا يبقى لشيء من الأمارات والاُصول مورد ، لأنّ

ــ[370]ــ

موردها هو الشك والجهل فلا محيص من تقييد موردها أي القرعة بعدم تعيين الحكم الواقعي وعدم ثبوت وظيفة ظاهرية وهو المعبّر عنه بالمشكل أعني ما لم يتّضح حكمه بحسب الواقع ولا بحسب الظاهر ، وعليه فلا تجري القرعة في المقام (لجريان الأصل فيه كما سيأتي) ولم يقم عليها دليل بالخصوص .

وأمّا الروايات(1) الواردة في الارجاع إلى القرعة في موارد التداعي مع إيجاب الحلف على من يخرج القرعة باسمه كما ورد في عدّة روايات ، فهي وإن تكفي في جواز العمل على القرعة إلاّ أنها تختص بموردها ، وموردها هو صورة التداعي ويستفاد هذا من إيجابه الحلف على من لم يخرج القرعة باسمه فراجع ونلتزم فيها بوجوب القرعة .

وأمّا في غير مورد التداعي كموارد الدعوى والانكار أو كموردنا الذي ليس فيه دعوى أصلا ، لأنّ المفروض أنّ كلا المتبائعين يدّعيان الجهل بالقيمة ولا يدّعيان شيئاً من القيمة ويرجعانها إلى المقوّمين ، فلا تجري القرعة لعدم دلالة الدليل على جريانها فيهما ، فاحتمال القرعة أيضاً ساقط .

وأمّا دعوى تخيّر الحاكم بين البيّنتين فهي أيضاً كسابقيها غير ثابتة ، لما ذكرناه في بحث التعادل والترجيح(2) من أنه لا دليل على التخيّر بين المتعارضين إلاّ في خصوص تعارض الروايتين ، وأمّا في غيرها من تعارض الاُصول أو البيّنة أو اليد أو غيرها من الأدلّة فلا دليل فيه على التخيّر بوجه وإنما حكمها السقوط .

وأمّا الرجوع إلى الصلح فهو أيضاً لا دليل عليه بحيث يجبران على المصالحة إذ لا يدّعي كل منهما إلاّ ما يستحقّه بحسب الحكم الشرعي ، ولم يقم دليل فيه على

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 27 : 251 / أبواب كيفية الحكم ب12 ح5 وغيره .

(2) مصباح الاُصول 3 (موسوعة الإمام الخوئي 48) : 440 ـ 442 .

ــ[371]ــ

إلزامهما بالصلح ، نعم لو تصالحا باختيارهما فلا محالة يقع صحيحاً ، وأمّا الالزام عليه فلا وهذا ظاهر .

وأمّا ترجيح بيّنة الأكثر بدعوى أنّها مثبتة للزيادة ولا معارض لها ، لأنّ بيّنة الأقل لا تنفي الزيادة وإنّما يدّعي عدم علمها بالأكثر فهو صحيح فيما إذا كان الأمر كما ذكر بأن تكون الأكثر مثبتة والأقل ساكتة وغير نافية لما يثبته الأكثر ، ولكن المقام ليس كذلك لأنّ الكلام فيما إذا كان كل من البيّنتين أو المقوّمين مدّعياً للعلم بالقيمة وأنّ الأقل يدّعي علمه بأنّ قيمة المال هو الأقل والأكثر يدّعي علمه بأنّ قيمته هو الأزيد لا أنّ الأقل ساكت ، وعليه فهما متعارضان ومع التعارض لا وجه لأخذ أحدهما .

وأمّا ترجيح بيّنة الأقل من جهة اعتضادها بالأصل ، فيدفعه ما ذكرناه(1)وذكره شيخنا الأنصاري(2) في بحث التعارض من أنّ الاُصول العملية لا تكون مرجّحة لأحد المتعارضين ، لأنّ مرتبتها متأخّرة عن مرتبة الأدلّة والأمارات وهي صورة الشك في الحكم الواقعي ، ومع وجود الدليل والبيّنة لا يبقى مورد للاُصول حتى تجري وتوجب الترجيح ، فجميع الاحتمالات والوجوه ساقطة .

والصحيح أن يقال : إنّ المورد داخل تحت كبرى تعارض الأدلة والأمارات وحكمها هو السقوط ، لأنّ أدلة الاعتبار لا يمكن أن تشمل المتعارضين معاً لاستلزامه الجمع بين الضدّين ، وشمولها لأحدهما المعيّن ترجيح بلا مرجّح ، وشمول الأدلة لأحدهما على البدل مندفع بأنّ الواحد على البدل ليس فرداً مستقلا فلابدّ من الرجوع إلى الأصل الموجود فيه والأصل في المقام براءة ذمّة البائع عن الزائد فلا

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) ] لم نعثر عليه في مظانه [ .

(2) فرائد الاُصول 2 : 820 ـ 821 .

ــ[372]ــ

يجب عليه إلاّ دفع الأقل .

ثم إنه بناءً على ما ذهب إليه المشهور من الجمع بين البيّنتين والعمل بكل واحد منهما في النصف لابدّ من التكلّم في كيفية الجمع بينهما وبيان طريقته فنقول : قد نسب إلى المشهور في كيفية الأخذ بنصف ما يثبته البيّنتان والجمع بينهما ما حاصله : أنّ القيم الصحيحة تجمع على حدة وكذا تجمع القيم المعيبة باستقلالها ثم ينصّف كل من الحاصلين ويستخرج التفاوت بينهما وتلاحظ النسبة بينه وبين نصف القيم الصحيحة  ، ويؤخذ من الثمن بتلك النسبة ، أو يلاحظ نفس الحاصلين أي الحاصلين من الجمعين ويؤخذ من الثمن بتلك النسبة ، إذ لا فرق في النسبة بين ملاحظة تمام الحاصلين وبين ملاحظة نصفيهما ، مثلا إذا قوّم أحد المقوّمين صحيح المال باثني عشر درهماً ومعيبه بأربعة ، وقوّم الآخر صحيحه بستة دراهم ومعيبه باثنين فيجمع القيمتان الصحيحتان وهما اثنا عشر وستة وحاصله ثمانية عشر ويجمع القيمتان المعيبتان أيضاً وهما الأربعة والاثنان وحاصله ستة ، ثم ينصّف الحاصلان ونصف الأول تسعة ونصف الثاني ثلاثة والتفاوت ستة وهي ثلثا التسعة ، فيرجع على البائع ويؤخذ من الثمن بثلثيه ، أو تلاحظ ثمانية عشر وستة والتفاوت اثنا عشر وهو أيضاً ثلثا الثمانية عشر فيرجع من الثمن بتلك النسبة ، هذا ما نسب إلى المشهور .

ثم إنّ لشيخنا الشهيد (قدّس سرّه)(1) كلاماً في المقام وحاصله : أنه لا اعتبار بالقيمتين الانتزاعيتين الحاصلتين من الجمع بين القيم الصحيحة والقيم المعيبة ، ولا دليل على ملاحظتها ولا موجب له ، وإنما اللازم والصحيح هو ملاحظة نفس النسبتين بين الصحيح والمعيب اللتين أخبر بهما المقوّمان بلا ملاحظة نفس القيم ، ثم يؤخذ من الثمن بنصف النسبتين ، مثلا إذا أخبر أحدهما بأنّ النسبة بين صحيح هذا

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الدروس 3 : 287 ، الروضة البهية 3 : 478 .

ــ[373]ــ

المال ومعيبه بالربع وأخبر الآخر بأنّ النسبة بينهما بالنصف فيؤخذ من كل منهما نصفه فينصّف الربع والنصف ونصفهما هو الثمن والربع فيؤخذ من الثمن ربعه وثمنه بلا ملاحظة قيم الصحيح والمعيب .

وهذا الطريق قد يطابق طريقة المشهور بلا تفاوت بينهما ويكون هذا مجرد مطلب علمي ، واُخرى يغايره ويحصل بينهما التفاوت .

أمّا صورة تطابقهما فمثالها ما ذكرناه أوّلا وهو ما إذا قوّم أحدهما صحيح المال باثني عشر درهماً ومعيبه بأربعة ، وقوّم الآخر صحيحة بستة ومعيبه بدرهمين وفرضنا أنّ الثمن أيضاً هو اثني عشر درهماً وفي هذه الصورة لا يحصل التفاوت بين الطريقين ، لأنّ الأرش على طريقة المشهور هو الثلثان وهو من اثني عشر ثمانية لأنّ نسبة التفاوت بين مجموع قيمتي الصحيح وهو ثمانية عشر وبين مجموع قيمتي المعيب وهو ستة إلى مجموع قيمتي الصحيح أو نسبة نصفه إلى نصف الثاني هو الثلثان وهذا ظاهر ، وأمّا على طريقة الشهيد فلأنّ النسبتين متساويتان ، إذ المفروض أنّ المقوّم الأول جعل التفاوت بين صحيحه ومعيبه بالثلثين ، إذ نسبة ثمانية التفاوت إلى اثني عشر الثلثان ، وكذا المقوّم الثاني أخبر أنّ التفاوت بين صحيحه ومعيبه بالثلثين لأنّ نسبة أربعة التفاوت إلى الستّة الثلثان وفي الاخبار بالنسبة لا اختلاف بين المقوّمين ، لأنّ النسبة على نظر كل منهما بثلثين ، فيؤخذ من الثمن بثلثيه وهو ثمانية بلا فرق في ذلك بين طريقي المعروف والشهيد .

وأمّا صورة تخالف الطريقين فهي تارةً بزيادة طريقة الشهيد على طريقة المشهور واُخرى بنقصانها عنها ، وقد مثّل لهما شيخنا الأنصاري (قدّس سرّه)(1)بمثالين .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) المكاسب 5 : 409 .

ــ[374]ــ

أمّا صورة الزيادة فهي كما إذا قوّم أحدهما صحيح المال باثني عشر درهماً ومعيبه عشرة ، وقوّم الآخر صحيحه بثمانية ومعيبه بخمسة وفرضنا أنّ الثمن أيضاً هو اثنا عشر ، فعلى طريق المشهور يجمع بين القيمتين الصحيحتين وحاصله عشرون  ، وأيضاً يجمع بين المعيبتين وحاصله خمسة عشر ونسبة التفاوت بالربع ، أو ينصّف كل من مجموع الصحيحتين ومجموع المعيبين ونصف الأول عشرة ونصف الثاني سبعة ونصف ، ويلاحظ النسبة بين التفاوت وهو اثنان ونصف بين نصف مجموع الصحيحتين وهو عشرة وهي الربع ، فيؤخذ من الثمن ربعه وربع اثنى عشر هو الثلاثة ، هذا على طريق المشهور .

وأمّا على طريقة الشهيد (قدّس سرّه) فلابدّ من ملاحظة النسبتين ، وأحد المقوّمين قد أخبر بأنّ النسبة بين صحيحه ومعيبه بالسدس ، لأنّ النسبة بين اثنين التفاوت والاثنى عشر السدس ، والمقوّم الثاني أخبر بأنّ النسبة بثلاثة أثمان لأنّها نسبة ثلاثة التفاوت إلى الثمانية ، ويجمع بين النسبتين وحاصله السدس وثلاثة أثمان  ، وسدس اثنى عشر اثنان وثلاثة أثمانه أربعة ونصف ، لأنّ ثلاثة أثمان من الثمانية ثلثه ومن الأربعة واحد ونصف ويضاف إليه اثنان ويكون المجموع ستة ونصف وينصّف هذا المجموع ويكون ثلاث وربع ، وقد عرفت أنّ المأخوذ بناءً على طريقة المشهور هو ثلثه وطريقة الشهيد (قدّس سرّه) زادت عليها بالربع .

وأمّا صورة النقصان فهي كما إذا اتّفقا على أنّ معيب المال ستة واختلفا في صحيحة فقال أحدهما إنه عشرة وقال الآخر إنه ثمانية والمفروض أنّ الثمن اثنى عشر ، فعلى طريق المشهور نجمع بين الصحيحتين وهما عشرة وثمانية وحاصله ثمانية عشر ونجمع بين المعيبتين وحاصله اثنى عشر ونسبة أحدهما إلى الآخر بالثلث ، أو يُنصّف القيمتين ونصف الصحيحتين تسعة ونصف المعيبتين ستة ، ونسبة أحدهما إلى الآخر بالثلث ، فيؤخذ من اثنى عشر ثلثه وهو أربعة دراهم ، وأمّا على طريقة

ــ[375]ــ

الشهيد فلابدّ من ملاحظة النسبتين وقد أخبر أحدهما بأنّ نسبة صحيحه إلى معيبه خُمسين ، لأنّ التفاوت بين العشرة والستة أربعة وهي خمسا العشرة وأخبر الآخر بأنّ نسبتهما بالربع ، إذ الفرق بين الثمانية والستة باثنين وهو ربع الثمانية فيجمع بينهما  ، وحاصله خمسان وربع ، ويؤخذ نصفهما أعني الثمن والخمس ، وثمن اثنى عشر واحد ونصف وخمسه اثنان وخمسان والمجموع ثلاثة وأربعة أخماس ونصف خمس  ، لأنّ كل عدد خمسة أخماس ونصفه خمسان ونصف فالنصف في واحد ونصف خمسان ونصف خمس ، فإذا اُضيف إليه أي إلى الواحد وخمسان ونصف خمس خمسان يصير أربعة أخماس ونصف خمس بحيث لو اُضيف إليه نصف خمس يصير عدداً كاملا (وهو الواحد) وثلاثة وأربعة أخماس ونصف خمس ينقص عن الأربعة بنصف بخمس .

والمتحصّل : أنّ المأخوذ على طريقه المعروف أربعة من اثنى عشر وأمّا على طريقة الشهيد فهو الثلاثة وأربعة أخماس ونصف خمس وهو ينقص عن الأربعة بنصف خمس ، فإذا بنينا على المعروف من الجمع بين البيّنات المتعارضات أعني العمل بكل واحد منهما في النصف فالصحيح هو ما ذهب إليه الشهيد (قدّس سرّه)  .

وذلك لأنّ المستند في الجمع المذكور إن كان هو الجمع بين الأمارتين وعدم طرحهما فلابدّ من العمل بقول كل واحد منهما في نصف مدلوله وهو ينطبق على طريقة الشهيد ، وأمّا انتزاع قيمة ليست مدلولة لشيء من البيّنتين فلا مقتضي له وإن كان المستند هو الجمع بين الحقّين فيتعيّن طريقة الشهيد (قدّس سرّه) أيضاً لأنّ حقّ المشتري هو النسبة بين قيمتي الصحيح والمعيب لا نفس القيمتين ، فلابدّ من أخذ نصف النسبتين .

والمتحصّل : إنه لا وجه لما ذهب إليه المعروف في طريقة الجمع ولعلّ غرض المشهور أيضاً هو ما ذهب إليه الشهيد وإن عبّروا عنه بما لا يؤدّي إليه في بعض

ــ[376]ــ

الموارد نظير ما وقع من بعضهم في كتاب الزكاة حيث إنّ زكاة أرض تسقى بالمطر ونحوه من عشرة وزكاة الأرض التي تسقى بالدلاء ونحوه من عشرين ، وأمّا الأرض التي تسقى بالدلاء والمطر من دون أن يغلب أحدهما على الآخر فقالوا إنّ زكاتها في نصفها من عشرين وفي نصفها الآخر من عشرة ، وعبّر عن هذا بعضهم بأنّ زكاة الأرض المذكورة من خمسة عشر بتخيّل إنّ حكمها أن يؤخذ في نصفها من عشرين وفي نصفها الآخر من عشرة فكأنّ زكاتها من نصف عشرين وعشرة وهما يبلغان ثلاثين ونصفه خمسة عشر ، مع أنّ الأخذ من خمسة عشر لا يطابق لأخذها في نصف الأرض من عشرين وفي نصفها الآخر من عشرة فراجع ، مع أنّ غرضه معلوم ، ولعلّ المقام من هذا القبيل .




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net