حكم عرق الجُنب في وطء الحائض والجماع مع الصّوم 

الكتاب : التنقيح في شرح العروة الوثقى-الجزء الثالث:الطهارة   ||   القسم : الفقه   ||   القرّاء : 20731


   الثامن الكافر بأقسامه (2)

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 (2) المعروف بين أصحابنا من المتقدمين والمتأخرين نجاسة الكافر بجميع أصنافه بل ادعي عليها الاجماع ، وثبوتها في الجملة مما لا ينبغي الاشكال فيه ، وذهب بعض المتقدِّمين إلى طهارة بعض أصنافه وتبعه على ذلك جماعة من متأخِّري المتأخِّرين . وتوضيح الكلام في هذا المقام أنه لا إشكال ولا شك في نجاسة المشركين بل نجاستهم من الضروريات عند الشيعة ولا نعهد فيها مخالفاً من الأصحاب . نعم ، ذهب العامّة إلى طهارتهم(1) ولم يلتزم منهم بنجاسة المشرك إلاّ القليل(2) وكذا لا خلاف في نجاسة

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) اتّفق فقهاؤهم على طهارة أبدان المشركين كما في التفسير الكبير 16 : 24 ، وفي المغني ج 1 ص  49  أنّ الآدمي طاهر وسؤره طاهر سواء كان مسلماً أو كافراً عند عامة أهل العلم . وفي البدائع ج 1 ص 63 سؤر الطاهر المتفق على طهارته سؤر الآدمي بكل حال مسلماً كان أو مشركاً .. وبه صرح ابن نجيم الحنفي في البحر الرائق ج 1 ص 126 . وقال الشربيني الشافعي في اقناعه ج 1 ص 26  الحيوان كلّه طاهر العين حال حياته إلاّ الكلب والخنزير وما تولد منهما أو من أحدهما . ويقرب منه عبارة الغزالي في الوجيز ج 1 ص 6  وبه قال ابن حجر في فتح الباري شرح البخاري ج 1 ص 269 والعيني في عمدة القاري ج 2 ص 60 وكذا في الفقه على المذاهب الأربعة ج 1 ص 11 ، فليراجع .

(2) ذهب إلى نجاسة المشرك الفخر في تفسيره ج 16 ص 24  حيث قال : اعلم أن ظاهر القرآن (إنّما المشركون نجس ) يدلّ على كونهم أنجاساً فلا يرجع إلاّ بدليل منفصل . ثم نقل وجوهاً في تأويل الآية المباركة وعقّبها بقوله : إعلم أن كل هذه الوجوه عدول عن الظاهر بغير دليل .    ونقل عن صاحب الكشاف عن ابن عباس أن أعيانهم نجسة كالكلاب والخنازير . وعن الحسن : من صافح مشركاً توضأ وقال هذا قول الهادي من أئمة الزيدية . ونسب القول بالنجاسة في فتح الباري ج 1 ص 269 إلى أهل الظاهر . وممن صرح بالنجاسة ابن حزم في المحلى ج 1 ص 129 ـ 130 وتعجب عن القول بطهارة المشركين قائلاً : ولا عجب في الدنيا أعجب ممن يقول فيمن نصّ الله تعالى أنهم نجس : إنهم طاهرون ثم يقول في المني الذي لم يأت قط بنجاسته نص : إنه نجس ويكفي من هذا القول سماعه ونحمد الله على السلامة .

ــ[38]ــ

الناصب بل هو أنجس من المشرك على بعض الوجوه ، ففي موثقة ابن أبي يعفور «فانّ الله تبارك وتعالى لم يخلق خلقاً أنجس من الكلب ، والناصب لنا أهل البيت لأنجس منه» (1) .

   كما أنه ينبغي الجزم بنجاسة غير المشرك من الكفار فيما إذا التزم بما هو أسوأ وأشد من الشرك في العبادة كانكار وجود الصانع رأساً ، لأن المشركين غير منكرين لوجوده سبحانه وإنما يعبدون الأصنام والآلهة ليقربوهم إلى الله زلفى ، ويعتقدون أن الموت والحياة والرزق والمرض وغيرها من الاُمور الراجعة إلى العباد بيد هؤلاء الشفعاء ومن البديهي أن إنكار وجوده تعالى أسوأ من ذلك وأشد فهو أولى بالحكم بالنجاسة من المشرك بالضرورة .

   وأمّا غير هذه الفرق الثلاث من أصناف الكفار كأهل الكتاب فقد وقع الخلاف في طهارتهم وهي التي نتكلّم عنها في المقام ، فقد يستدل على نجاسة الكافر بجميع أصنافه بقوله عزّ من قائل : (إنّما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا ) (2) بتقريب أن الله سبحانه حكم بنجاسة المشركين وفرّع عليها حرمة قربهم من المسجد الحرام ، وذلك لأن النجس ـ بفتح الجيم وكسره ـ بمعنى النجاسة المصطلح عليها عند المتشرعة ، فانّه المرتكز في أذهانهم وبهذا نستكشف أن النجس في زمان نزول الآية المباركة أيضاً كان بهذا المعنى المصطلح عليه ، لأن هذا المعنى هو الذي وصل إلى كل لاحق من سابقه حتى وصل إلى زماننا هذا ، وبما أن أهل الكتاب قسم

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 1 : 220 / أبواب الماء المضاف ب 11 ح 5 .

(2) التوبة 9 : 28 .

ــ[39]ــ

من المشركين لقوله تعالى حكاية عن اليهود والنصارى : (وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ... سبحانه عمّا يشركون ) (1) فتدل الآية المباركة على نجاسة أهل الكتاب كالمشركين .

   وقد اُجيب عن ذلك باُمور ونوقش فيها بوجوه لا يهمنا التعرض لها ولا لما أورد عليها من المناقشات ، بل الصحيح في الجواب عن ذلك أن يقال : إن النجس عند المتشرعة وإن كان بالمعنى المصطلح عليه إلاّ أنه لم يثبت كونه بهذا المعنى في الآية المباركة ، لجواز أن لا تثبت النجاسة بهذا المعنى الاصطلاحي على شيء من الأعيان النجسة في زمان نزول الآية أصلاً ، وذلك للتدرّج في بيان الأحكام ، بل الظاهر أنه في الآية المباركة بالمعنى اللغوي وهو القذارة وأي قذارة أعظم وأشد من قذارة الشرك . وهذا المعنى هو المناسب للمنع عن قربهم من المسجد الحرام ، حيث إن النجس بالمعنى المصطلح عليه لا مانع من دخوله المسجد الحرام فيما إذا لم يستلزم هتكه فلا حرمة في دخول الكفار والمشركين المسجد من جهة نجاستهم بهذا المعنى ، وهذا بخلاف النجس بمعنى القذر لأن القذارة الكفرية مبغوضة عند الله سبحانه والكافر عدو الله وهو يعبد غيره فكيف يرضى صاحب البيت بدخـول عـدوّه بيتـه ، بل وكيف يناسب دخول الكافر بيتاً يعبد فيه صاحبه وهو يعبد غيره ، هذا كلّه أوّلاً .

   وثانياً : أن الشرك له مراتب متعددة لا يخلو منها غير المعصومين وقليل من المؤمنين ومعه كيف يمكن الحكم بنجاسة المشرك بما له من المراتب المتعددة ؟ فان لازمه الحكم بنجاسة المسلم المرائي في عمله ، حيث إنّ الرياء في العمل من الشرك وهذا كما ترى لا يمكن الالتزام به فلا مناص من أن يراد بالمشرك مرتبة خاصة منه وهي ما يقابل أهل الكتاب .

   وثالثاً : أنّ ظاهر الآيات الواردة في بيان أحكام الكفر والشرك ـ  ومنها هذه الآية ـ أنّ لكل من المشرك وأهل الكتاب أحكاماً تخصّه ، مثلاً لا يجوز للمشرك السكنى في بلاد المسلمين ويجب عليه الخروج منها ، وأما أهل الكتاب فلا بأس أن يسكنوا في

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) التوبة 9 : 30 ـ 31 .

ــ[40]ــ

بلادهم مع الالتزام بأحكام الجزية والتبعية للمسلمين فحكمهم حكم المسلمين وغير ذلك مما يفترق فيه المشرك عن أهل الكتاب ، ومنه تبريّه سبحانه من المشركين دون أهل الكتاب ، ومعه كيف يمكن أن يقال إن المراد من المشركين في الآية أعم من أهل الكتاب ، فان ظاهرها أن المشرك في مقابل أهل الكتاب .

   فالانصاف أن الآية لا دلالة لها على نجاسة المشركين فضلاً عن دلالتها على نجاسة أهل الكتاب ، إلاّ أنك عرفت أن نجاسة المشركين مورد التسالم القطعي بين أصحابنا قلنا بدلالة الآية أم لم نقل ، كما أن نجاسة الناصب ومنكري الصانع مما لا خلاف فيه وعليه فلا بد من التكلم في نجاسة غير هذه الأصناف الثلاثة من الكفار .

   ويقع الكلام أولاً في نجاسة أهل الكتاب ثم نعقبه بالتكلم في نجاسة بقية الأصناف فنقول : المشهور بين المتقدِّمين والمتأخِّرين نجاسة أهل الكتاب بل لعلّها تعدّ عندهم من الاُمور الواضحـة ، حتى أنّ بعضهم ـ  على ما في مصباح الفقيه  ـ ألحق المسألة بالبديهيات التي رأى التكلّم فيها تضييعاً للعمر العزيز (1) وخالفهم في ذلك بعض المتقدِّمين وجملة من محقِّقي المتأخِّرين حيث ذهبوا إلى طهارة أهل الكتاب . والمتبع دلالة الأخبار فلننقل أوّلاً الأخبار المستدل بها على نجاسة أهل الكتاب ثم نعقبها بذكر الأخبار الواردة في طهارتهم ليرى أيهما أرجح في مقام المعارضة .

   فمنها : حسنة سعيد الأعرج «سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن سؤر اليهودي والنصراني ، فقال : لا»(2) ولا إشكال في سندها كما أن دلالتها تامّة ، لأنّ ظاهر السؤال من سؤرهم نظير السؤال عن سؤر بقية الحيوانات إنما هو السؤال عن حكم التصرف فيه بأنحاء التصرّفات ، وقد صرّح بالسؤال عن أكله وشربه في رواية الصدوق (3) فراجع .

   ومنها : صحيحة محمّد بن مسلم قال : «سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن آنية

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) مصباح الفقيه (الطهارة) : 558 السطر 26 .

(2) الوسائل 1 : 229 / أبواب الأسآر ب 3 ح 1 ، وكذا في 3 : 421 / أبواب النجاسات ب 14 ح  8 .

(3) الوسائل 24 : 210 / أبواب الأطعمة المحرمة ب 54 ح 1 .

 
 

ــ[41]ــ

أهل الذمّة والمجوس ، فقال : لا تأكلوا في آنيتهم ولا من طعامهم الذي يطبخون ، ولا في آنيتهم التي يشربون فيها الخمر» (1) وهذه الرواية صحيحة سنداً إلاّ أنها قاصرة الدلالة على المدعى فان دلالتها على طهارة أهل الكتاب أظهر من دلالتها على نجاستهم ، وذلك لأنّ الحكم بنجاستهم يستلزم الحكم بالتجنب عن جميع الأواني المضافة إليهم حتى الآنية التي يشربون فيها الماء ، ولا وجه معه لتقييد الآنية بما يشربون فيه الخمر ولا لتقييد طعامهم بما يطبخونه ، فمن تقييد الآنية والطعام بما عرفت يظهر عدم نجاسة أهل الكتاب . والنهي عن الأكل في آنيتهم التي يشربون فيها الخمر مستند إلى نجاسة الآنية بملاقاتها الخمر ، وأما النهي عن أكل طعامهم المطبوخ فيحتمل فيه وجهان :

   أحدهما : أن أهل الكتاب يأكلون لحم الخنزير وشحمه والمطبوخ من الطعام لا  يخلو عن اللحم والشحم عادة ، فطعامهم المطبوخ لا يعرى عن لحم الخنزير وشحمه .

   وثانيهما : أن آنيتهم من قدر وغيره يتنجس بمثل طبخ لحم الخنزير أو وضع شيء آخر من النجاسات فيها لعدم اجتنابهم عن النجاسات ، ومن الظاهر أنها بعد ما تنجست لا يرد عليها غسل مطهر على الوجه الشرعي لأنهم في تنظيفها يكتفون بمجرد إزالة قذارتها وهي لا تكفي في طهارتها شرعاً ، وعليه يتنجس ما طبخ فيها بملاقاتها ومن هنا نهى (عليه السلام) عن أكل طعامهم الذي يطبخونه . ويمكن أن يكون هناك وجه آخر لنهيه (عليه السلام) ونحن لا ندركه .

   ومنها : حسنة الكاهلي قال : «سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن قوم مسلمين يأكلون وحضرهم رجل مجوسي أيدعونه إلى طعامهم ؟ فقال : أما أنا فلا أؤا كل المجوسي ، وأكره أن أحرّم عليكم شيئاً تصنعون في بلادكم»(2) ولا يخفى عدم دلالتها على نجاسة المجوس ، وهو (عليه السلام) إنما ترك المؤاكلة معه لعلوّ مقامه ، وعدم

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 3 : 518 / أبواب النجاسات ب 72 ح 2 ، وص 419 ب 14 ح 1 ، وكذا في 24 : 210 / أبواب الأطعمة المحرّمة ب 54 ح 3 .

(2) الوسائل 3 : 419 / أبواب النجاسات ب 14 ح 2 .

ــ[42]ــ

مناسبة الاشتراك مع المعاند لشريعة الاسلام لإمام المسلمين فتركه المؤاكلة من جهة الكراهة والتنزه .

   ومنها : صحيحة محمّد بن مسلم ، عن أبي جعفر (عليه السلام) «في رجل صافح رجلاً مجوسياً ، فقال : يغسل يده ولا يتوضأ» (1) بدعوى أن الأمر بغسل اليد ظاهر في نجاسة المجوسي ، إلاّ أنّ الصحيح عدم دلالتها على المدعى ، فانّ الرواية لا بد فيها من أحد أمرين :

   أحدهما : تقييد المصافحة بما إذا كانت يد المجوسي رطبة ، لوضوح أنّ ملاقاة اليابس غير مؤثرة في نجاسة ملاقيه لقوله (عليه السلام) : «كل شيء يابس زكي»(2) .

   وثانيهما : حمل الأمر بغسل اليد على الاستحباب من دون تقييد إطلاق المصافحة بحالة الرطوبة ، كما التزم بذلك بعضهم وذهب إلى استحباب غسل اليد بعد مصافحة أهل الكتاب ، ولا أولوية للأمر الأول على الثاني بل الأمر بالعكس بقرينة ما ورد في رواية القلانسي قال «قلت لأبي عبدالله (عليه السلام) : ألقى الذمي فيصافحني ، قال : امسحها بالتراب وبالحائط ، قلت : فالناصب ؟ قال : اغسلها» (3) ولعلّ ذلك إشارة إلى انحطاط أهل الكتاب أو من جهة التنزه عن النجاسة المعنوية أو النجاسة الظاهرية المتوهمة . هذا على أن الغالب في المصافحات يبوسة اليد فحمل الرواية على صورة رطوبتها حمل لها على مورد نادر ، فلا مناص من حملها على الاسـتحباب بهـاتين القرينتين .

   ومنها : ما رواه أبو بصير عن أحدهما (عليهما السلام) «في مصافحة المسلم اليهودي والنصراني ، قال : من وراء الثوب ، فان صـافحك بيـده فاغسل يدك»(4) ودلالتها على استحباب غسل اليد بعد مصافحة أهل الكتاب أظهر من سابقتها ، لأن الأمر بغسل يده لو كان مستنداً إلى نجاستهم لم يكن وجه للأمر بمصافحتهم من وراء

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 3 : 419 / أبواب النجاسات ب 14 ح 3 .

(2) الوسائل 1 : 351 / أبواب أحكام الخلوة ب 31 ح 5 .

(3) ، (4) الوسائل 3 : 420 / أبواب النجاسات ب 14 ح 4 ، 5 .

ــ[43]ــ

الثياب ، وذلك لاستلزامها نجاسة الثياب فيلزمه (عليه السلام) الأمر بغسل الثياب إذا كانت المصافحة من ورائها وبغسل اليد إذا كانت لا من ورائها .

   ومنها : ما عن علي بن جعفر عن أخيه أبي الحسن موسى (عليه السلام) قال : «سألته عن مؤاكلة المجوسي في قصعة واحدة ، وأرقد معه على فراش واحد ، وأصافحه ، قال : لا»(1) ونظيرها رواية هارون بن خارجة قال «قلت لأبي عبدالله (عليه السلام) : إني اُخالط المجوس فآكل من طعامهم ؟ فقال : لا» (2) ولا دلالة فيهما على نجاسة المجوس إذ لم تفرض الرطوبة في شيء من الروايتين ، ولا بد من حمل النهي عن المؤاكلة والمراقدة معهم على التنزه لئلاّ يخالطهم المسلمون ، لوضوح أن الرقود معهم على فراش واحد لا يقتضي نجاسة لباس المسلم أو بدنه حيث لا رطوبة في البين ، وكذا الأكل معهم في قصعة واحدة لعدم انحصار الطعام بالرطب .

   ومنها : صحيحة اُخرى لعلي بن جعفر عن أخيه (عليه السلام) «عن النصراني يغتسل مع المسلم في الحمام ؟ قال : إذا علم أنه نصراني اغتسل بغير ماء الحمام ، إلاّ أن يغتسل وحـده على الحـوض فيغسله ثم يغتسل» الحـديث (3) وهي صحيـحة سـنداً ودلالتها أيضاً لا بأس بها ، لأنّ الأمر باغتساله بغير ماء الحمام لو كان مستنداً إلى تنجس بدن النصراني بشيء من المني أو غيره ـ كما قد يتفق ـ لم يكن هذا مخصوصاً به لأن بدن المسلم أيضاً قد يتنجس بملاقاة شيء من الأعيان النجسة فما وجه تخصيصه النصراني بالذكر ، فمن هنا يظهر أن أمره (عليه السلام) هذا مستند إلى نجاسة النصراني ذاتاً .

 ومنها : ما ورد في ذيل الصحيحة المتقدمة من قوله : «سألته عن اليهودي والنصراني يدخل يده في الماء أيتوضأ منه للصلاة ؟ قال : لا إلاّ أن يضطر إليه» وعن الشيخ أنه حمل الاضطرار على التقيّة (4) وأنه لا مانع من التوضؤ بالماء المذكور تقية .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) ، (2) ، (3) الوسائل 3 : 420 / أبواب النجاسات ب 14 ح 6 ، 7 ، 9 .

(4) نقل عنه الشيخ الأنصاري في كتاب الطهارة : 349 ، باب النجاسات باب نجاسة الكافر السطر 2 .

ــ[44]ــ

ولا يخفى بعده لأنه خلاف ظاهر الرواية ، بل الصحيح أنه بمعنى عدم التمكن من ماء آخر غير ما باشره اليهودي أو النصراني ، ومعنى الرواية حينئذ أنه إذا وجد ماء غيره فلا يتوضأ مما باشره أهل الكتاب وأما إذا انحصر الماء به ولم يتمكن من غيره فلا مانع من أن يتوضأ مما باشره أهل الكتاب ، وعلى هذا فلا دلالة لها على نجاستهم وإلاّ لم يفرق الحال في تنجس الماء وعدم جواز التوضؤ به بين صورتي الاضطرار وعدمه فلا  يستفاد منها غير استحباب التجنب عما باشره أهل الكتاب .

   ومنها : صحيحة ثالثة له عن أخيه (عليه السلام) قال : «سألته عن فراش اليهودي والنصراني ينام عليه ؟ قال : لا بأس ، ولا يصلِّى في ثيابهما ، وقال : لا يأكل المسلم مع المجوسي في قصعة واحدة ، ولا يقعده على فراشه ولا مسجده ولا يصافحه ، قال : وسألته عن رجل اشترى ثوباً من السوق للبس لا يدري لمن كان هل تصلح الصلاة فيه ؟ قال : إن اشتراه من مسلم فليصل فيه ، وإن اشتراه من نصراني فلا يصلِّي فيه حتى يغسله» (1) ولا دلالة لها أيضاً على نجاسة أهل الكتاب حيث لم تفرض الرطوبة فيما لاقاه المجوسي أو النصراني ، على أن الصلاة في الثوب المستعار أو المأخوذ من أهل الكتاب صحيحة على ما يأتي عن قريب ، ومعه تنزل الرواية على كراهة الاُمور المذكورة فيها .

   هذا تمام الكلام في الأخبار المستدل بها على نجاسة أهل الكتاب وقد عرفت المناقشة في أكثرها ، ولكن في دلالة بعضها على المدعى غنى وكفاية بحيث لو كنّا وهذه الأخبار لقلنا بنجاسة أهل الكتاب لا محالة .

   إلاّ أن في قـبالها عدة روايات معتـبرة فيها صحاح وغير صحاح دلت بصراحتها على طهارتهم وإليك نصها :

 فمنها :  صـحيحة العيص بن القاسم قال : «سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن مؤاكلة اليهود والنصراني والمجوسي ، فقال : إذا كان من طعامك وتوضأ فلا بأس»(2)

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 3 : 421 / أبواب النجاسات ب 14 ح 10 .

(2) الوسائل 3 : 497 أبواب النجاسات ب 54 ح 1 ، وكذا في 24 : 208 / أبواب الأطعمة المحرمة ب 53 ح 1 .

ــ[45]ــ

ومفهومها عدم جواز مؤاكلتهم إذا كان من طعامهم أو لم يتوضؤوا ، ومن ذلك يظهر أنّ المنع حينئذ مستند إلى نجاسة طعامهم أو نجاسة أبدانهم العرضية الحاصلة من ملاقاة شيء من الأعيان النجسة كلحم الخنزير وغيره ، إذ الطعام في كلامه (عليه السلام) لا يمكن أن يراد به الجامد منه كالتمر والخبز ونحوهما لأن كل يابس زكي ، وإنما اُريد منه الرطب وهو الطعام المطبوخ غالباً ، وقد تقدّم النهي عن أكل طعامهم المطبوخ في بعض الأخبار ووجّهناه بأحد وجهين فراجع . وكيف كان ، فالصحيحة بصراحتها دلت على طهارة أهل الكتاب بالذات وجواز المؤاكلة معهم في طعام المسلمين إذا توضؤوا إذ لولا طهارتهم لم يكن وجه لجواز مؤاكلتهم سواء توضؤوا أم لم يتوضؤوا ، وعليه فيكون المنع عن المؤاكلة من طعامهم مستنداً إلى نجاستهم العرضية لا محالة .

   ومنها : ما رواه زكريا بن إبراهيم قال : «دخلت على أبي عبدالله (عليه السلام) فقلت : إني رجل من أهل الكتاب وإني أسلمت وبقي أهلي كلهم على النصرانية وأنا معهم في بيت واحد لم أفارقهم بعد فآكل من طعامهم ؟ فقال لي : يأكلون الخنزير ؟ فقلت : لا ، ولكنهم يشربون الخمر ، فقال لي : كل معهم واشرب» (1) وهي صريحة الدلالة على طهارتهم بالذات وأن المانع عن مؤاكلتهم ليس إلاّ ابتلاءهم بالنجاسة العرضية الناشئة من أكل لحم الخنزير وغيره ، فاذا لم يأكلوه فلا مانع عن مؤاكلتهم وأما ابتلاؤهم بشرب الخمر فعدم منعه عن المؤاكلة فلعله من جهة أن السائل لم يكن يبتلي بالآنية التي يشربون فيها الخمر ، وأن شارب الخمر لا ينجس في الغالب غير شفتيه وهما تغسلان كل يوم ولا أقل من مرة واحدة فترتفع نجاستهما فلا يكون ابتلاؤهم بشرب الخمر مانعاً من مؤاكلتهم ، أو أن هذه الرواية كغيرها من الأخبار الدالة على طهارة الخمر فلا بد من طرحها أو تأويلها من هذه الجهة بما دلّ على نجاسة الخمر .

   ومنها : صحيحة إسماعيل بن جابر قال «قلت لأبي عبدالله (عليه السلام) : ما  تقول في طعام أهل الكتاب ؟ فقال : لا تأكله ثم سكت هنيئة ثم قال : لا تأكله ثم سكت

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 24 : 211 / أبواب الأطعمة المحرمة ب 54 ح 5 .

ــ[46]ــ

هنيئة ثم قال : لا تأكله ، ولا تتركه تقول إنّه حرام ولكن تتركه تتنزه عنه ، إن في آنيتهم الخمر ، ولحم الخنزير» (1) ودلالتها على طهارة أهل الكتاب وكراهة مؤاكلتهم ظاهرة .

   ومنها : ما رواه عمّار الساباطي عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : «سألته عن الرجل هل يتوضأ من كوز أو إناء غيره إذا شرب منه على أنه يهودي ؟ فقال : نعم فقلت: من ذلك الماء الذي يشرب منه ؟ قال : نعم»(2) ودلالتها على المدعى واضحة ، إذ لولا طهارتهم لتنجس ماء الكوز والاناء بشربهم ولم يجز منه الوضوء .

   ومنها : صحيحة إبراهيم بن أبي محمود قال «قلت للرضا (عليه السلام) : الخياط أو القصّار يكون يهودياً أو نصرانياً وأنت تعلم أنه يبول ولا يتوضأ ما تقول في عمله ؟ قال : لا بأس»(3) وهذه الرواية وإن أمكن حملها ـ بالاضافة إلى الخياط ـ على صورة عدم العلم بملاقاة يده الثوب رطباً إلاّ أ نّها بالاضافة إلى القصّار مما لا يجري فيه هذا الاحتمال لأنه يغسل الثوب بيده ، وحيث إنه (عليه السلام) نفى البأس عن عمله فتستفاد منه طهارة أهل الكتاب وعدم تنجس الثوب بملاقاتهم رطباً .

   ومنها : صحيحته الثانية «قلت للرضا (عليه السلام) : الجارية النصرانية تخدمك وأنت تعلم أنها نصرانية لا تتوضأ ولا تغتسل من جنابة ، قال : لا بأس ، تغسل يديها» (4) وهي كالصريح في المدعى ، وذلك لأن السؤال في تلك الرواية يحتمل أن يكون قضية خارجية بأن كانت عنده (عليه السلام) جارية نصرانية تخدمه وقد سأله الراوي عن حكم اسـتخدامها ، وعليه فيكون قوله (عليه السلام) : «لا بأس تغسل يديها» جملة خبرية ، ومعناها عدم البأس بخدمتها لطهارة يديها وارتفاع نجاستها العرضية بالغسل . ولكن يبعّد هذا الاحتمال أن السائل من كبراء الرواة ولا يكاد يحتمل في حقه أن يسأله (عليه السلام) عن فعله ، فان اعتبار فعل الإمام كاعتبار قوله

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 24 : 210 / أبواب الأطعمة المحرمة ب 54 ح 4 .

(2) الوسائل 1 : 229 / أبواب الأسآر ب 3 ح 3 .

(3) التهذيب 6 : 385 ح 1142 وعنه في الوافي 6 : 209 ح 25 .

(4) الوسائل 3 : 422 / أبواب النجاسات ب 14 ح 11 .

ــ[47]ــ

مما لا يخفى على مثله ، فهل يحتمل في حقّه أن يسأله (عليه السلام) عن حكم استخدام الجارية النصرانية بعد قوله : يجوز استخدام الجارية النصرانية ، فكذلك الحال بعد فعله (عليه السلام) .

   ويحتمل أن يكون السؤال فيها على نحو القضية الحقيقية كما هو الأظهر ، لأنّ السؤال يقع على أنحاء مختلفة فتارة يسأل عن الغائب بقوله : الرجل يفعل كذا ، واُخرى يفرض السائل نفسه مبتلى بالواقعة من غير أن يكون مبتلى بها حقيقة كقوله : إنِّي اُصلِّي وأشك في كذا وكذا ، وثالثة : يفرض المسؤول عنه مبتلى بالواقعة كقوله : إذا صلّيت وشككت في كذا ، كل ذلك على سبيل الفرض والتقدير وعليه فقوله (عليه السلام) «تغسل يديها» جملة إنشائية وتدل على وجوب غسل اليد على الجارية ، وعلى كلا التقديرين الرواية تدل على طهارة أهل الكتاب وأنه لا مانع من استخدامهم إلاّ نجاستهم العرضية المرتفعة بالغسل .

   ومنها : ما ورد في ذيل صحيحة على بن جعفر المتقدِّمة (1) حينما سأل أخاه (عليه السلام) عن اليهودي والنصراني يدخل يده في الماء من قوله : «لا إلاّ أن يضطر إليه» فان حمل الاضطرار في الرواية على التقيّة كما عن الشيخ (2) (قدس سره) بعيد ، وقد قدّمنا أنه بمعنى عدم وجدان ماء غيره ، وبذلك تكون الرواية ظاهرة في طهارة اليهود والنصارى وعدم نجاسة الماء بملاقاتهما وإلاّ لم يفرق الحال بين صورتي وجدان ماء آخر وعدمه . ومنها غير ذلك من الأخبار التي يستفاد منها طهارة أهل الكتاب ، وهي كما عرفت تامة سنداً وصريحة دلالة وبعد ذلك لا بد من ملاحظة المعارضة بينها وبين الأخبار الواردة في نجاستهم فنقول :

   مقتضى الجمع العرفي بين الطائفتين حمل أخبار النجاسة على الكراهة ، لأنّ الطائفة الثانية صريحة أو كالصريحة في طهارتهم والطائفة الاُولى ظاهرة في نجاسة أهل الكتاب ، لأنّ العمدة في تلك الطائفة موثقة سعيد الأعرج أو حسنته المشتملة على

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) في ص 43 .

(2) نقل عنه الشيخ الأنصاري في كتاب الطهارة : 349 ، باب النجاسات باب نجاسة الكافر السطر 2 .

ــ[48]ــ

قوله (عليه السلام) «لا» وصحيحة علي بن جعفر المتضمنة لقوله (عليه السلام) «فيغسله ثم يغتسل» وهما كما ترى ظاهرتان في النجاسة وقابلتان للحمل على الاستحباب والكراهة ، وأما الطائفة الثانية التي منها صحيحة إسماعيل بن جابر المتقدمة فهي كالصريح في أن النهي عن مؤاكلة أهل الكتاب تنزيهي وليست بحرام فتدل على طهارتهم بالصراحة ، ومعه لا مناص من رفع اليد عن ظاهر الطائفة الاُولى بصراحة الثانية كما جرى على ذلك ديدن الفقهاء (قدس سرهم) في جميع الأبواب الفقهية عند تعارض النص والظاهر .

   ومن هنا ذهب صاحب المدارك (1) والسبزواري (2) (قدس سرهما) إلى ذلك ، وحملا الطائفة الاُولى على الكراهة واستحباب التنزه ، إلاّ أن معظم الأصحاب لم يرتضوا بهذا الجمع بل طرحوا أخبار الطهارة ـ على كثرتها ـ وعملوا على طبق الطائفة الثانية ، والمستند لهم في ذلك ـ على ما في الحدائق (3) ـ أمران :

   أحدهما :  دعوى أن أخبار الطهارة مخالفة للكتاب لقوله عزّ من قائل : (إنما المشركون نجس ... )(4) وأخبار النجاسة موافقة له ، وقد بينا في محلّه انّ موافقة الكتاب من المرجحات . ويدفعه : ما تقدمت الاشارة إليه سابقاً من منع دلالة الآية المباركة على نجاسة المشركين فضلاً عن نجاسة أهل الكتاب ، وقد بينا الوجه في ذلك بما لا مزيد عليه ، فراجع .

 وثانيهما : أنّ أخبار النجاسة مخالفة للعامة لأن معظم المخالفين ـ لولا كلّهم ـ يعتقدون طهارة أهل الكتاب(5) وقد ورد في روايات أئمتنا (عليهم السلام) الأمر بأخذ ما يخالف مذهب المخالفين من المتعارضين(6) ومقتضى ذلك الأخذ بما دلّ على نجاسة

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) المدارك 2 : 294 ـ 298 .

(2) ذخيرة المعاد : 150 .

(3) الحدائق 5 : 162 ـ 172 .

(4) التوبة 9 : 28 .

(5) قدّمنا شطراً من كلماتهم في هذه المسألة في ص 37 ، فليراجع .

(6) الوسائل 27 : 106 أبواب صفات القاضي ب 9 ح 1 ، 19 ، 25 ، وغيرها .

ــ[49]ــ

أهل الكتاب وحمل أخبار الطهارة على التقية . ولقد تعجب في الحدائق من صاحب المدارك والسبزواري (قدس سرهما) وحمل عليهما حملة شديدة وذكر في ضمن ما  ذكره استنكاراً عليهما ما هذا نصه :

فعدولهم عما مهّده أئمتهم إلى ما أحدثوه بعقولهم ـ حمل الظاهر على النص ـ واتخذوه قاعدة كلية في جميع أبواب الفقه بآرائهم من غير دليل عليه من سنة ولا كتاب جرأة واضحة لذوي الألباب ، وليت شعري لمن وضع الأئمة (عليهم السلام) هذه القواعد المستفيضة إلى أن قال : وهل وضعت لغير هذه الشريعة أو أن المخاطب بها غير العلماء الشـيعة ما هذا إلاّ عجب عجاب من هؤلاء الفضلاء الأطياب إنتهى (1) .

   ولا يخفى أن رواياتنا وإن تضمنت الأمر بعرض الأخبار الواردة على مذهب المخالفين والأخذ بما يخالفه ، إلاّ أنه يختص بصورة المعارضة ، وأين التعارض بين قوله (عليه السلام) «لا» في أخبار النجاسة وبين تصريحه (عليه السلام) بالكراهة والتنزيه في نصوص الطهارة ؟ فهل ترى من نفسك أنهما متعارضان ؟ فإذا لم تكن هناك معارضة فلماذا تطرح نصوص الطهارة على كثرتها ؟ ولم يعرض صاحب المدارك والسبزواري ومن حذى حذوهما عن قول أئمتهم وإنما لم يعملوا بأخبار النجاسة لعدم معارضتها مع الطائفة الدالة على الطهارة كما عرفت ، وحمل الظاهر على النص أمر دارج عند الفقهاء وعنده (قدس الله أسرارهم) في جميع أبواب الفقه . وليت شعري ماذا كان يصنع صاحب الحدائق (قدس سره) في كتابه لولا ذلك في موارد حمل الظاهر على النص على كثرتها .

   هذا كلّه على أن حمل أخبار الطهارة ـ على تضافرها ـ على التقيّة بعيد في نفسه وذلك لأن التقية إما أن تكون في مقام حكمه (عليه السلام) بجواز مؤاكلة أهل الكتاب وإما أن تكون في مقام العمل بأن يكون مرادهم (عليهم السلام) معاملة السائلين وغيرهم معاملة الطهارة مع أهل الكتاب ، وكلاهما بعيد غايته . أما حملها على التقية في

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الحدائق 5 : 173 .

ــ[50]ــ

مقام الحكم فلبعد أن يكون عندهم (عليهم السلام) في جميع محافلهم في هذه الأخبار ـ  على كثرتها  ـ من يتّقون لأجله ويخافون منه في حكمهم بنجاسة أهل الكتاب . وأما حملها على التقيّة في مقام العمل فلأنه أبعد ، إذ كيف يأمر الإمام (عليه السلام) بمعاملة الطهارة معهم بمخالطتهم ومساورتهم ومؤاكلتهم من غير أن يأمرهم بغسل أيديهم وألبستهم بعد المراجعة إلى منازلهم وتمكنهم من العمل على طبق الحكم الواقعي لئلاّ يبطل وضوؤهم وصلاتهم وغيرهما من أعمالهم المتوقفة على الطهور .

   وعلى الجملة أن القاعدة تقتضي العمل بأخبار الطهارة وحمل أخبار النجاسة على الكراهة واستحباب التنزه عنهم ، كما أن في نفس الأخبار الواردة في المقام دلالة واضحة على ارتكاز طهارة أهل الكتاب في أذهان المتشرعة في زمانهم (عليهم السلام) وإنما كانوا يسألونهم عن حكم مؤاكلتهم أو غيرها لأنهم مظنة النجاسة العرضية، فمن هذه الأخبار صحيحتا إبراهيم بن أبي محمود المتقدِّمتان(1) المشتملتان على قوله : «وأنت تعلم أنها نصرانية لا تتوضأ ولا تغتسل من جنابة» وقوله : «وأنت تعلم أنه يبول ولا يتوضأ» لأن أهل الكتاب لو لم تكن طهارتهم مرتكزة في أذهان المتشرعة لم يكن حاجة إلى إضافة الجملتين المتقدمتين في السؤال ، لأن نجاستهم الذاتية تكفي في السؤال عن حكم استخدامهم وعملهم من غير حاجة إلى إضافة ابتلائهم بالنجاسة العرضية .

   ومنها : صحيحة معاوية بن عمّار قال : «سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن الثياب السابرية يعملها المجوس وهم أخباث «أجناب» وهم يشربون الخمر ، قال : نعم ...» الحديث (2) فإنّ إضافة قوله : «وهم أجناب وهم يشربون الخمر» شاهدة على ارتكاز طهارتهم في ذهن السائل وإنما سأله عما يعملونه لكونهم مظنة للنجاسة العرضية وإلاّ لم تكن حاجة إلى اضافته كما هو واضح . نعم ، في بعض النسخ «وهم أخباث» إلاّ أنه غلط ولا يناسبه قوله «وهم يشربون الخمر» بخلاف الجنابة بجامع

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) في ص 46  .

(2) الوسائل 3 : 518 / أبواب النجاسات ب 73 ح 1 .

ــ[51]ــ

النجاسة العرضية كما لعله ظاهر .

   ومنها : صحيحة عبدالله بن سنان قال : «سأل أبي أبا عبدالله (عليه السلام) وأنا حاضر : إنِّي اُعير الذمي ثوبي وأنا أعلم أنه يشرب الخمر ويأكل لحم الخنزير ثم يرده عليَّ ، فأغسله قبل أن اُصلي فيه ؟ فقال أبو عبدالله (عليه السلام) : صلّ فيه ولا تغسله من أجل ذلك ، فانك أعرته إياه وهو طاهر ولم تستيقن أنه نجّسه ، فلا بأس أن تصلِّي فيه حتى تستيقن أنه نجّسه» (1) ولولا ارتكاز طهارة الذمي في ذهن السائل لم يزد على سؤاله : وأنا أعلم أنه يشرب الخمر ويأكل لحم الخنزير ، بل ناسب أن يقول : ولعلّه عرق بدنه أو لاقته يده وهي رطبة .

   ومنها : ما عن الاحتجاج عن محمد بن عبدالله بن جعفر الحميري أنه كتب إلى صاحب الزمان (عجل الله فرجه الشريف) «عندنا حاكة مجوس يأكلون الميتة ولا يغتسلون من الجنابة وينسجون لنا ثياباً ، فهل تجوز الصلاة فيها من قبل أن تغسل ؟ فكتب إليه في الجواب : لا بأس بالصلاة فيها» (2) .

   ومنها : ما عن أبي جميلة عن أبي عبدالله (عليه السلام) «أنه سأله عن ثوب المجوسي ألبسه واُصلي فيه ؟ قال : نعم ، قلت : يشربون الخمر ؟ قال : نعم ، نحن نشتري الثياب السابرية فنلبسها ولا نغسلها» (3) وتقريب الاستدلال بها قد ظهر مما قدمناه في الأخبار المتقدمة . وبذلك ظهر أن طهارة أهل الكتاب كانت ارتكازية عند الرواة إلى آخر عصر الأئمة (عليهم السلام) وإنما كانوا يسألونهم عما يعمله أهل الكتاب أو يساوره من أجل كونهم مظنة النجاسة العرضية ، ومن هنا يشكل الافتاء على طبق أخبار النجاسة إلاّ أن الحكم على طبق روايات الطهارة أشكل ، لأن معظم الأصحاب من المتقدِّمين والمتأخِّرين على نجاسة أهل الكتاب ، فالاحتياط اللزومي مما لا مناص عنه في المقام .

   ثم إنّه إذا بنينا على نجاسة أهل الكتاب بمقتضى الأخبار المتقدمة وتسالم الأصحاب

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 3 : 521 / أبواب النجاسات ب 74 ح 1 .

(2) ، (3) الوسائل 3 : 520 / أبواب النجاسا ب 73 ح 9 ، 7 .

ــ[52]ــ

حتى المرتد بقسميه واليهود والنصارى والمجوس ((1)) ، وكذا رطوباته وأجزاؤه سواء كانت مما تحله الحياة أو لا (1)

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

فهي إنما تختص باليهود والنصارى والمجوس ، ويحتاج الحكم بالنجاسة في بقية أصناف الكفّار كمنكر الضروري من المسلمين إلى دليل وهو مفقود . وأما المرتد فان صدق عليه أحد عناوين أهل الكتاب كما إذا ارتد بتنصره أو بتهوده أو بتمجسه فحكمه حكمهم ، فإذا قلنا بنجاستهم فلا مناص من الحكم بنجاسته لأنه يهودي أو نصراني أو مجوسي بلا فرق في ذلك بين كونه مسلماً من الابتداء وبين كونه كافراً ثم أسلم ، وأما إذا لم يصدق عليه شيء من عناوين أهل الكتاب فهو وإن كان محكوماً بالكفر لا محالة إلاّ أن الحكم بنجاسته ما لم يكن مشركاً أو منكراً للصانع يحتاج إلى دليل وهو مفقود ، فانّ الأدلة المتقدِّمة ـ على تقدير تماميتها ـ مختصّة بأهل الكتاب والمفروض عدم كونه منـهم ، ومع ذلك فلا بدّ من الاحتـياط لذهاب المشـهور إلى نجاسـة الكـافر على الاطلاق .

   (1) إذا بنينا على نجاسة أهل الكتاب أو غيرهم من الفرق المحكومة بكفرهم فهل نلحقهم في ذلك بالميتة فنفصّل بين ما تحلها الحياة من أجزائهم وبين ما لا تحلها الحياة بالحكم بنجاسة الاُولى دون الثانية ، أو نلحقهم بالكلب والخنزير فنحكم بنجاسة جميع أجزائهم حتى ما لا تحلّه الحياة ؟ الظاهر هو الأوّل وذلك لقصور ما يقتضي نجاستهم ، لأنا لو سلمنا دلالة الأخبار المتقدمة على نجاسة أهل الكتاب فانما استفدناها من دلالة تلك الأخبار على نجاسة أسآرهم ولا يستكشف بذلك إلاّ نجاسة خصوص الجزء الملاقي منهم للطعام أو الشراب ، وبما أ نّا نستعهد في الشريعة المقدسة الحكم بنجاسة بعض الأعيان وطهارة بعضها ـ كما هو الحال في الميتة من الحيوانات الطاهرة ـ فنحتمل أن يكون الكافر أيضاً من هذا القبيل ، ومعه لا يمكننا الحكم بنجاسة أجزائه التي لا تحلّها الحياة ، ولم يرد في شيء من الأدلة نجاسة اليهودي مثلاً

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الحكم بنجاسة أهل الكتاب مبني على الاحتياط ، وكذا الحال في المرتد إذا لم يدخل في عنوان المشرك أو الملحد .

ــ[53]ــ

   والمراد بالـكافر من كان منكراً للاُلوهية أو التوحيد أو الرسالة ((1)) ، أو ضرورياً من ضروريات الدين مع الالتفات إلى كونه ضرورياً ، بحيث يرجع إنكاره إلى إنكار الرسالة ، والأحوط الاجتناب عن منكر الضروري مطلقاً ، وإن لم يكن ملتفتاً إلى كونه ضرورياً (1) .

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

بعنوانه حتى نتمسك باطلاقه لاثبات نجاسة جميع أجزائه ، فلم يبق إلاّ دلالة الأخبار على نجاسة الكافر في الجملة، إذ لا ملازمة بين نجاسة سؤره ونجاسة جميع أجزائه، لأنّ النجاسة حكم شرعي تعبدي تتبع دليلها ، فلا يمكن الحكم بنجاسة ما لا تحله الحياة من أجزائهم لعدم قيام الدليل عليها ، إلاّ أن تحقّق الشهرة الفتوائية بذهاب الأصحاب إلى نجاستهم على وجه الاطلاق يمنعنا عن الحكم بطهارة ما لا تحلّه الحياة من أجزاء أهل الكتاب .

   (1) قد اعتبر في الشريعة المقدسة اُمور على وجه الموضوعية في تحقّق الاسلام بمعنى أن إنكارها أو الجهل بها يقتضي الحكم بكفر جاهلها أو منكرها وإن لم يستحق بذلك العقاب لاستناد جهله إلى قصوره وكونه من المستضعفين .

   فمنها : الاعتراف بوجوده (جلت عظمته) ووحدانيته في قبال الشرك ، وتدل على اعتبار ذلك جملة من الآيات والروايات وهي من الكثرة بمكان .

   ومنها : الاعتراف بنبوة النبي ورسالته (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وهو أيضاً مدلول جملة وافية من الأخبار والآيات ، منها قوله عزّ من قائل : (وإن كنتم في ريب مما نزّلنا على عبدنا فاتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين * فان لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة اُعدت للكافرين )(2) .

   ومنها : الاعتراف بالمعاد وإن أهمله فقهاؤنا (قدس سرهم) إلاّ أ نّا لا نرى لاهمال اعتباره وجهاً ، كيف وقد قرن الايمان به بالايمان بالله سبحانه في غير واحد من الموارد

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) أو المعاد .

(2) البقرة 2 : 23 ، 24 .

ــ[54]ــ

على ما ببالي كما في قوله عزّ من قائل : (إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ) (1) ، وقوله : (إن كنّ يؤمنّ بالله واليوم الآخر ) (2) وقوله : (من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر ) (3) وقوله : (من آمن بالله واليوم الآخر ) (4) إلى غير ذلك من الآيات ، ولا مناص معها من اعتبار الاقرار بالمعاد على وجه الموضوعية في تحقق الاسلام .

   وهل هناك أمر آخر يعتبر الاعتراف به في تحقق الاسلام على وجه الموضوعية ويكون انكاره سبباً للكفر بنفسه ؟

   فيه خلاف بين الأعلام فنسب في مفتاح الكرامة إلى ظاهر الأصحاب أن إنكار الضروري سبب مستقل للكفر بنفسه(5) ، وذهب جمع من المحـقِّقين إلى أن إنكار الضروري إنما يوجب الكفر والارتداد فيما إذا استلزم تكذيب النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وانكار رسالته ، كما إذا علم بثبوت حكم ضروري في الشريعة المقدسة وأن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أتى به جزماً ومع الوصف أنكره ونفاه ، لأنه في الحقيقة تكذيب للنبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وإنكار لرسالته ، وهذا بخلاف ما إذا لم يستلزم إنكاره شيئاً من ذلك كما إذا أنكر ضرورياً معتقداً عدم ثبوته في الشريعة المقدّسة وأ نّه مما لم يأت به النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلاّ أنه كان ثابتاً فيها واقعاً بل كان من جملة الواضحات فان إنكاره لا يرجع حينئذ إلى إنكار رسالة النبيّ ، فإذا سُئل أحد في أوائل إسلامه عن الربا فأنكر حرمته بزعم أنه كسائر المعاملات الشرعية فلا يكون ذلك موجباً لكفره وارتداده ، وإن كانت حرمة الربا من المسلّمات في الشريعة المقدّسة ، لعدم رجوع إنكارها إلى تكذيب النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أو إنكار رسالته .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) النساء 4 : 59 .

(2) البقرة 2 : 228 .

(3) البقرة 2 : 232 .

(4) البقرة 2 : 177 .

(5) مفتاح الكرامة 1 : 143 .

ــ[55]ــ

   ومما ذكرناه يظهر أن الحكم بكفر منكر الضروري عند استلزامه لتكذيب النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لا تختص بالأحكام الضرورية ، لأن انكار أي حكم في الشريعة المقدسة إذا كان طريقاً إلى إنكار النبوة أو غيرها من الاُمور المعتبرة في تحقق الاسلام على وجه الموضوعية فلا محالة يقتضي الحكم بكفر منكره وارتداده .

   هذا وعن شيخنا الأنصاري (قدس سره) التفصيل في الحكم بارتداد منكر الضروري بين المقصّر وغيره بالحكم بالارتداد في الأول لاطلاق الفتاوى والنصوص دون غيره ، إذ لا دليل على سببية انكاره للارتداد وعدم مبغوضية العمل وحرمته في حقّه ، وما لم يكن بمبغوض في الشريعة المقدّسة يبعد أن يكون موجباً لارتداد فاعله وكفره (1) .

   وإذا عرفت ذلك فنقول : استدل القائل بارتداد منكر الضروري مطلقاً بعدة من الأخبار وهي على طوائف ثلاث : الاُولى : صحيحة بريد العجلي(2) وغيرها مما اُخذ في موضوع الحكم بالكفر أدنى ما يكون به العبد مشركاً  كما إذا قال للنواة إنّها حصاة أو للحـصاة إنها نواة ثم دان به . الثانية : صـحيحة الكناني(3) وغيرها مما اُخذ في موضـوع الحكم بالكفر الجحد بالفريضة . والثالثة : صـحيحة عبدالله بن سـنان(4) وغيرها مما دلّ على أن من ارتكب كبيرة من الكبائر وزعم أنها حلال أخرجه ذلك عن الاسلام . وهذه الطائفة باطلاقها تدل على أن من زعم الحرام حلالاً خرج بذلك

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) كتاب الطهارة : 354 ، باب النجاسات (حكم منكر الضرورة من الدين) السطر 27 .

(2) المروية في الكافي 2 : 397 / 1 . وروى عنه في الوافي 4 : 199 / 1815 . ثم إنّ هذه الرواية والرواية الثالثة وإن عبّر عنهما بالصحيحة في كلام المحقق الهمداني [ مصباح الفقيه (الطهارة) : 566 السطر 10 ، 21 ] وغيره إلاّ أن في سنديهما محمد بن عيسى عن يونس ، وفي نفس محمد بن عيسى كلام كما أن في خصوص روايته عن يونس كلام آخر إلاّ أن الصحيح وثاقة الرجل واعتبار رواياته مطلقاً ـ ولو كانت عن يونس ـ ويأتي تفصيل الاستدلال على وثاقته عند الكلام على الحيض .

(3) ، (4) المرويتان في الوسائل 1 : 34 / أبواب مقدمة العبادات ب 2 ح 13 ، 10 ثم إن عدّ رواية الكناني صحيحة كما في كلام المحقق الهمداني وغيره مبني على أن محمد بن الفضيل الواقع في سندها هو محمد بن القاسم بن الفضيل بن يسار الثقة ، وفيه كلام فليراجع مظانّه .

ــ[56]ــ

عن الاسلام ، سواء أ كان عالماً بحرمته أم لم يكن بل وسواء كانت الحرمة ضرورية أم غير ضرورية .

   أمّا الطائفة الاُولى فقد أسلفنا الجواب عنها سابقاً وقلنا إن للشرك مراتب متعدّدة وهو غير مستلزم للكفر بجميع مراتبه وإلاّ لزم الحكم بكفر المرائي في عبادته بطريق أولى ، لأن الرياء شرك كما نطقت به الأخبار(1) بل هو أعظم من أن يقال للحصاة إنها نواة أو بالعكس ، مع أ نّا لا نقول بكفره لأنّ الشرك الموجب للكفر إنما هو خصوص الشرك في الألوهية . وعليه فلا يمكن في المقام الاستدلال بشيء من الأخبار المتضمنة للشرك .

   وأمّا الطائفة الثانية فالظاهر أنها أيضاً كسابقتها لأن ظاهر الجحد هو الانكار مع العلم بالحال كما في قوله عزّ من قائل : (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم )(2) وقد عرفت أن إنكار أيّ حكم من الأحكام الثابتة في الشريعة المقدسة مع العلم به يستلزمه تكذيب النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وإنكار رسالته سواء كان الحكم ضرورياً أم لم يكن ، ولا ريب أنه يوجب الكفر والارتداد فهو خارج عن محل الكلام ، إذ الكلام إنما هو في أن انكار الضروري بما أنه كذلك هل يستلزم الكفر والارتداد أو أنه لا يوجب الكفر إلاّ مع العلم بثبوته في الشريعة المقدسة المستلزم لانكار رسالة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) .

   وأمّا الطائفة الثالثة وهي العمدة في المقام فعلى تقدير تماميتها لا مناص من الحكم بكفر منكر الضروري مطلقاً وإن لم يكن عن علم بالحكم . وقد يورد على دلالتها ـ  كما في كلام شيخنا
الهمداني (3) وغيره  ـ بأن الصحيحة باطلاقها تشمل الأحكام الضرورية وغيرها ، ومقتضى ذلك هو الحكم بكفر كل من ارتكب كبيرة وزعم أنها حلال ، وهو مما لا يمكن الالتزام به ، كيف ولازمه أن يكفّر كل مجتهد المجتهد الآخر فيما إذا اعتقد حلية ما يرى الأوّل حرمته وارتكبه ، كما إذا بنى أحدهما على حرمة التصوير

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 1 : 67 / أبواب مقدمة العبادات ب 11 ح 11 ، 13 ، 16 وب 12 ح 2 ، 4 ، 6 .

(2) النمل 27 : 14 .

(3) مصباح الفقيه (الطهارة) : 566 السطر 24 .

ــ[57]ــ

مثلاً ورأى الثاني إباحته وارتكبه حيث يصح أن يقال حينئذ إن المجتهد الثاني ارتكب كبيرة وزعم أنها حلال ، وكذا الحال فيما إذا بنى على صحّة النِّكاح بالفارسية وعقد بها ورأى الآخر بطلانه فانه حينئذ ارتكب كبيرة وزعم أنها حلال حيث حلّل ما قد حرّمه الشارع واقعاً ، فالأخذ باطلاق الصحيحة غير ممكن فلا  مناص من تقييدها بأحد أمرين :

   فامّا أن نقيدها بالضروري بأن يكون ارتكاب الكبيرة موجباً للارتداد في خصوص ما إذا كان الحكم ضرورياً ، وإمّا أن نقيدها بالعلم بأن يقال : إن ارتكاب الكبيرة والبناء على حليتها مع العلم بأنها محرمة يوجب الكفر دون ما إذا لم تكن حرمتها معلومة ، وحيث إن الرواية غير مقيدة بشيء وترجيح أحد التقييدين على الآخر من غير مرجح ، فلا محالة تصبح الرواية في حكم المجمل وتسقط عن الاعتبار بل يمكن أن يقال : التقييد بالعلم أرجح من تقييدها بالضروري لأ نّه المناسب للفظة الجحود الواردة في الطائفة الثانية كما مرّ .

   كذا نوقش في دلالة الصحيحة إلاّ أن المناقشة غير واردة لعدم دوران الأمر بين التقييدين المتقدمين ، بل المتعين أن يتمسك باطلاقها ويحكم بكفر مرتكب الكبيرة إذا زعم أنها محللة بلا فرق في ذلك بين الأحكام الضرورية وغيرها ولا بين موارد العلم بالحكم وعدمه .

   ثم إن الالتزام بالكفر والارتداد إذا لم يصح في بعض هذه الأقسام أخرجناه عن اطلاقها ويبقى غيره مشمولاً للرواية لا محالة ، ولا نرى مانعاً من الالتزام بالارتداد في شيء من الأقسام المتقدمة بمقتضى إطلاق الصحيحة إلاّ في صورة واحدة وهي ما إذا كان ارتكاب الكبيرة وزعم أنها حلال مستنداً إلى الجهل عن قصور كما في المجتهدين والمقلدين ، حيث إن اجتهاد المجتهد إذا أدى إلى إباحة حرام واقعي فلا محالة يستند ارتكابه لذلك الحرام إلى قصوره لأنه الذي أدى إليه اجتهاده وكذا الكلام في مقلديه فلا يمكن الالتزام بالكفر في مثلهما وإن ارتكبا الكبيرة بزعم أنها حلال ، كيف وقد يكون المجتهد المخطئ من الأوتاد الأتقياء فالالتزام بالارتداد حينئذ غير ممكن ، وأما في غيره من الصور فلا مانع من التمسك باطلاق الصحيحة والحكم بكفر مرتكب

ــ[58]ــ

الكبيرة مطلقاً فلا دوران بين الأمرين المتقدِّمين .

   فالصحيح في الجواب عنها أن يقال : إنّ الكفر المترتب على ارتكاب الكبيرة بزعم حليتها ليس هو الكفر المقابل للاسلام الذي هو المقصود بالبحث في المقام ، وذلك لأنّ للكفر مراتب عديدة .

   منها : ما يقابل الاسلام ويحكم عليه بنجاسته وهدر دمه وماله وعرضه وعدم جواز مناكحته وتوريثه من المسلم ، وقد دلت الروايات الكثيرة على أن العبرة في معاملة الاسلام بالشهادتين اللتين عليهما أكثر الناس كما تأتي في محلِّها .

   ومنها : ما يقابل الايمان ويحكم بطهارته واحترام دمه وماله وعرضه كما يجوز مناكحته وتوريثه إلاّ أن الله سبحانه يعامل معه معاملة الكفر في الآخرة ، وقد كنّا سمّينا هذه الطائفة في بعض أبحاثنا بمسلم الدنيا وكافر الآخرة .

 ومنها : ما يقابل المطيع لأنه كثيراً ما يطلق الكفر على العصيان ويقال : إن العاصي كافـر ، وقد ورد في تفسير قوله عزّ من قائل : (إنّا هديناه السّبيل إمّا شاكراً وإمّا كفورا )(1) ما مضمـونه أنّ الشاكر هو المطيع والكفور العاصي(2) وورد في بعض الروايات أن المؤمن لا يزني ولا يكذب ، فقيل إنّه كيف هذا مع أ نّا نرى أنّ المؤمن يزني ويكذب فأجابوا (عليهم السلام) بأنّ الايمان يخرج عن قلوبهم حال عصيانهم ويعود إليهم بعده فلا يصدر منهم الكذب مثلاً حال كونهم مؤمنين(3) وعلى الجملة أن ارتكاب المعصية ليس بأقوى من انكار الولاية لأ نّها من أهم ما بني عليه الاسلام كما
في الخبر (4) وقد عقد لبطلان العبادة بدونها باباً في الوسائل ، فاذا لم يوجب إنكارها

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الانسان 76 : 3 .

(2) روى زرارة عن حمران بن أعين قال : «سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن قول الله عزّ وجلّ (إنّا هديناه السبيل إمّا شاكراً وإمّا كفورا ) ؟ قال : إمّا آخذ فهو شاكر وإمّا تارك فهو كافر» ونظيرها غيرها من الأخبار المروية في الوسائل 1 : 31 / أبواب مقدّمة العبادات ب 2 ح 5 .

(3) كما ورد في عدّة من الأخبار المروية في الكافي 2 : 280 / 11 ، 282 / 16 ، 285 / 21، 22 .

(4) ورد في جملة من الروايات المروية في الوسائل 1 : 13 / أبواب مقدمة العبادات ب 1 .

ــ[59]ــ

وولد الكافر يتبعه في النجاسة ((1)) (1)

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الحكم بالنجاسة والارتداد فكيف يكون ارتكاب المعصية موجباً لهما ؟

   فالموضـوع للآثار المتقدِّمة من الطهارة واحترام المال والدم وغيرهما إنما هو الاعتراف بالوحدانية والرسالة والمعاد وليس هناك شيء آخر دخيلاً في تحقّق الاسلام وترتب آثاره المذكورة . نعم ، يمكن أن يكون له دخالة في تحقّق الايمان ، وهذا القسم الأخير هو المراد بالكفر في الرواية وهو بمعنى المعصية في قبال الطاعة وليس في مقابل الاسلام فلا يكون مثله موجباً للكفر والنجاسة وغيرهما من الآثار .

   (1) لا يتوقّف البحث عن نجاسة ولد الكافر وطهارته على القول بنجاسة أهل الكتاب ، بل البحث يجري حتى على القول بطهارتهم لأن الكلام حينئذ يقع في من يتولد من المشرك ، فانّ موضوع بحثنا هذا من تولد من شخصين محكومين بالنجاسة سواء أ كانا من أهل الكـتاب أم من غيرهم . نعم ، على تقدير القول بنجاستهم فأولادهم أيضاً يكون داخلاً في محل الكلام كأولاد سائر المحكومين بالنجاسة .

   ثم إن البحث عن نجاسة ولد الكافر لا ينافي تسالمهم على أن حكم ولد الكافر حكمه من حيث جواز الأسر والاسترقاق ، وذلك لأن هناك أمرين : أحدهما : تبعية ولد الكافر لوالديه من حيث النجاسة وعدمها وهذا هو محل الكلام في المقام . وثانيهما : تبعية ولد الكافر له من حيث جواز الأسر والاسترقاق ، وهذا هو الذي تسالم عليه الأصحاب وقد ثبتت بالسيرة القطعية في حروب المسلمين ، حيث إنّهم كما كانوا يأسرون البالغـين ويسـترقّونهم من الكفّار كذلك كانوا يأسرون أولادهم وأطفالهم فالتسالم على أحدهما لا ينافي النزاع في الآخر .

   ثم إنّ ولد الكافر ينبغي أن يخرج عن محل الكلام فيما إذا كان عاقلاً رشيداً معتقداً بغير مذهب الاسلام كالتهّود والتنصر ونحوهما وإن كان غير بالغ شرعاً ، لأنّ نجاسته مسلمة ومما لا إشكال فيه وذلك لأ نّه حينئذ يهودي أو نصراني حقيقة ، وعدم تكليفه

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) هذا فيما إذا كان مميّزاً ومظهراً للكفر ، وإلاّ فالحكم بنجاسته مبني على الاحتياط .

ــ[60]ــ

وكونه غير معاقب بشيء من أفعاله لا ينافي تهوده أو تنصره ، كيف وقد يكون غير البالغ مشيِّداً لأركان الكفر والضلال ومروجاً لهما بتبليغه ـ كما ربّما يشاهد في بعض الأطفال غير البالغين ـ فضلاً عن أن يكون هو بنفسه كافراً ، وعليه فيتمحض محل الكلام فيما إذا كان ولد الكافر رضيعاً أو بعد الفطام وقبل كونه مميزاً بحيث كان تكلمه تبعاً لوالديه متلقياً كل ما اُلقي إليه على نهج تكلم الطيور المعلمة هذا .

   وقد استدلّ على نجاسته بوجوه : الأوّل : أ نّه كأبويه كافر حقيقة بدعوى أنّ الكفر أمر عدمي وهو عدم الاسلام في محل قابل له ، والمفروض أنّ الولد ليس بمسلم كما أ نّه محل قابل للاسلام وقد مرّ أن مجرد عدم الاسلام في المحل القابل له عبارة عن الكفر . وفيه : أن الكفر وإن كان أمراً عدمياً إلاّ أن ظاهر الأخبار أنه ليس مطلق عدم الاسلام كفراً بل الكفر عدم خاص وهو العدم المبرز في الخارج بشيء ، فما دام لم يظهر العدم من أحد لم يحكم بكفـره ، فالاظهار معتبر في تحقّق الكفـر كما أنه يعتبر في تحقّق الاسلام ، وحيث إن الولد لم يظهر منه شيء منهما فلا يمكن الحكم بكفره ولا باسلامه .

   الثاني : الاستصحاب بتقريب أن الولد حينما كان في بطن اُمه علقة كان محكوماً بنجاسته لكونه دماً فنستصحب نجاسته السابقة عند الشك في طهارته . ويرده أولاً : أن النجاسة حال كونه علقة موضوعها هو الدم وقد انقلب انساناً فالموضوع غير باق وثانياً : أن الاستصحاب لا يثبت به الحكم الشرعي الكلي على ما بيناه في محله .

   الثالث : الروايات كصحيحة عبدالله بن سنان (1) ورواية وهب بن وهب (2) وما ورد(3) في تفسير قوله عزّ من قائل : (والذين آمنوا واتّبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريّتهم )(4) حيث دلّت بأجمعها على أن أولاد الكفار كالكفار وأنهم يدخلون مداخل آبائهم في النار ، كما أن أولاد المسلمين يدخلون مداخل آبائهم في الجنة ، لأن الله أعلم بما كانوا عاملين به على تقدير حياتهم .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الفقيه 3 : 317 ح 1544 .

(2) الفقيه 3 : 317 ح 1543 .

(3) الكافي 3 : 248 / 2 .

(4) الطور 52 : 21 .

 
 

ــ[61]ــ

إلاّ إذا أسلم بعد البلوغ أو قبله مع فرض كونه عاقلاً مميزاً ، وكان إسلامه عن بصيرة ((1)) على الأقوى (1)

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

هذا ، ولا يخفى أن هذه الأخبار مخالفة للقواعد المسلمة عند العدلية ، حيث إنّ مجرّد علمه تعالى بايمان أحد أو كفره لو كان يكفي في صحة عقابه أو في ترتب الثواب عليه لم تكن حاجة إلى خلقه بوجه ، بل كان يدخله في النار أو في الجنان من غير أن يخلقه أوّلاً ثم يميته لعلمه تعالى بما كان يعمله على تقدير حياته إلاّ أنه سبحانه خلق الخلق ليتم عليهم الحجة ويتميز المطيع من العاصي ولئلاّ يكون للناس على الله حجة ، ومعه كيف يمكن تعذيب ولد الكافر ما دام لم يعص الله خارجاً . فهذه الأخبار غير قابلة للاستدلال بها في المقام ولا مناص من تأويلها .

   هذا على أنها على تقدير تمامية دلالتها وصحتها بحسب السند كما في صحيحة عبدالله بن سنان إنما تدل على أن الله سبحانه يعامل معهم معاملة الكفر في النشأة الآخرة ، وأين هذا مما نحن فيه من الحكم بنجاستهم وكفرهم في هذه النشأة ، ولم تثبت أية ملازمة بينهما ، وعليه فلا دليل على نجاسة ولد الكافر سوى الاجماع والتسالم القطعيين المنقولين عن أصحابنا ، فكما أن أصل نجاسة أهل الكتاب إنما ثبت باجماعهم فكذلك نجاسة أولادهم ، إلاّ أن هذا الاجماع إن تم وحصل لنا منه القطع أو الاطمئنان على أنهم كانوا في زمان الأئمة يعاملون مع ولد الكافر معاملة الكفر والنجاسة فهو وإلاّ فللتوقف والمناقشة في نجاسة ولد الكافر مجال واسع . هذا كله فيما إذا كان ولد الكافر ولداً شرعياً لأبويه ولو في مذهبهما .

   (1) إذا أقر ولد الكافر بالاسلام وأجرى الشهادتين على لسانه فلا محالة يحكم بطهارته وإسلامه لاطلاق ما دلّ على تحقق الاسلام بالاقرار بالشهادتين ، كما يحكم بتهوّده أو تنصّره إذا اعترف بهما على نفسه من غير فرق في ذلك بين البالغ وغير البالغ ، وعدم كونه مكلّفاً شرعاً لا يقتضي عدم إسلامه بعد اعترافه به واعتقاده

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) بل مطلقاً .

ــ[62]ــ

بصحّته كما ذكرناه عند اعترافه بالتهوّد والتنصّر ونحوهما ، ومعه لا مسوغ للحكم بنجاسته لأنه إمّا من جهة صدق التنصر أو التهود عليه وهو مقطوع العدم في مفروض الكلام لوضوح عدم صدقهما مع اعتقاده بخلافهما واعترافه بالاسلام ، وإما من جهة الاجماع المدعى على نجاسة ولد الكافر وهو أيضاً لا يشمل المقام لاختصاصه بالولد المتولد من شخصين كافرين من غير أن يعتقد بالاسلام .

   بقي الكلام فيما هو الفارق بين الكفر والاسلام ، هل المدار في الحكم بإسلام أحد هو اعتقاده القلبي الباطني أو أن المناط في حصوله إظهاره الاسلام في الخارج أو يعتبر في حصوله كلا  الأمرين ؟

   الصحيح أن يفصّل بين من حكم باسلامه من الابتداء لتولده من مسلمين أو من مسلم وكافر وبين من حكم بكفره من الابتداء وأراد أن يدخل في الاسلام بعد ذلك أما الأول فالتحقيق عدم اعتبار شيء من الأمرين المتقدِّمين في إسلامه ، وإنما هو محكوم بالطهارة وبالاسلام ما دام لم يظهر الكفر . ويدل على ذلك مضافاً إلى السيرة القطعية المتصلة بزمانهم (عليهم السلام) حيث إنّه لم يسمع إلزامهم أحداً من المسلمين بالإقرار بالشهادتين حين بلوغه . نعم ، إذا جحد وأنكر شيئاً من الأحكام الاسلامية مع العلم بثبوته يحكمون بكفره وارتداده كما أسلفناه في البحث عن حصول الكفر بانكار الضروري ، جملة من الروايات الواردة في المقام بمضامين مختلفة .

   منها : ما رواه زرارة عن أبي عبدالله (عليه السلام) ، قال : «لو أن العباد إذا جهلوا وقفوا ولم يجحدوا لم يكفـروا»(1) حيث رتب الكفر في المسلمين على الجحـود لأنهم المراد بالعباد بقرينة قوله (عليه السلام) «لم يكفروا» ، لبداهة أنه لا معنى للجملة المذكورة بالاضافة إلى الكفّار ، وعليه فما دام المسلم لم يجحد بشيء من الأحكام الاسلامية فهو محكوم بالطهارة والاسلام .

   ومنها : ما عن محمّد بن مسلم ، قال : «كنت عند أبي عبدالله (عليه السلام) جالساً عن يساره وزرارة عن يمينه فدخل عليه أبو بصير فقال : يا أبا عبدالله ما تقول فيمن

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 1 : 32 / أبواب مقدمة العبادات ب 2 ح 8 .

ــ[63]ــ

شكّ في الله ؟ فقال : كافر يا أبا محمّد ، قال : فشك في رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فقال : كافر ، ثم التفت إلى زرارة فقال : إنما يكفر إذا جحد» (1) ومنها غير ذلك من الأخبار التي تدل على عدم اعتبار شيء من الأمرين المتقدمين في اسلام من حكم بإسلامه من الابتداء .

   وأمّا من حكم بكفـره كذلك فالحكم بطهارته يتوقف على أن يظهر الاسلام بالإقرار بالشهادتين وإن كان إقراراً صورياً ولم يكن معتقداً به حقيقة وقلباً ، ويدل عليه مضافاً إلى السيرة المتحققة فان النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كان يكتفي في إسلام الكفـرة بمجرّد إجرائهم الشـهادتين باللِّسان مع القطع بعدم كونهم بأجمعـهم معتقدين بالاسلام حقيقة ، وإلى قوله عزّ من قائل : (والله يشهد أنّ المنافقين لكاذبون ) (2) وقوله : (ولمّا يدخل الايمان في قلوبكم )(3) حيث إنّه سبحانه أخبر في الآية الاُولى عن كذب المنافقين في اعترافهم برسـالته (صلّى الله عليه وآله وسلّم) واعترض في الثانية على دعواهم الايمان ومع ذلك كلّه كان (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يعامل معهم معاملة الطهارة والاسلام ، أضف إلى ذلك أنّ بعض الصحابة لم يؤمنوا بالله طرفة عين وإنما كانوا يظهرون الشهادتين باللسان وهو (صلّى الله عليه وآله وسلّم) مع علمه بحالهم لم يحكم بنجاستهم ولا بكفرهم ، ما ورد في غير واحد من الأخبار من أن الاسلام ليس إلاّ عبارة عن الاقرار بالشهادتين(4) كما نطق بذلك أيضاً بعض ما ورد من غير طرقنا ، ففي صحيح البخاري عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) «إنِّي اُقاتل الناس حتى يقولوا  لا إله إلاّ الله وأنّ محمّداً رسول الله كي يصون بذلك دماؤهم وأموالهم منِّي» (5) .

 ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 28 : 356 / أبواب حدّ المرتد ب 10 ح 56 .

(2) المنافقون 63 : 1 .

(3) الحجرات 49 : 14 .

(4) لاحظ الوسائل 1 : 15 / أبواب مقدمة العبادات ب 1 ح 4 ، 9 ، 17 وغيرها من روايات الباب .

(5) صحيح البخاري 1 : 13 عن ابن عمر «أن رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم) قال : أمرت أن    اُقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلاّ الله وأن محمداً رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فاذا فعلوا ذلك عصموا منّي دماءهم وأموالهم إلاّ بحق الاسلام وحسابهم على الله» . وأخرجه مسلم في الجزء الأول ص 53 وفي كنز العمال 1 : 23 بكيفيات مختلفة .

ــ[64]ــ

ولا فرق في نجاسته بين كونه من حلال أو من الزّنا (1) ولو في مذهبه ،

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

   وعلى الجملة أنّ احترام الدماء والأموال وغيرهما من الآثار مترتب على إظهار الشهادتين ولا يعتبر في ترتبها الاعتقاد بالاسلام قلباً وحقيقة . نعم ، إنما يعتبر العقد القلبي في الايمان ، ومع فقده يعامل الله سبحانه معه معاملة الكفر في الآخرة وهو الذي نصطلح عليه بمسلم الدنيا وكافر الآخرة . فالذي تحصل أن المدار في الاسلام إنما هو على إجراء الشهادتين باللسان دون العقد القلبي ولا هما معاً .

   (1) قد تقدّم الكلام في ولد الكافر فيما إذا  كان ولداً شرعياً لأبويه ، وأمّا إذا كان الولد عن زنا ولو في مذهبهما فهل يحكم بنجاسته بناء على نجاسة ولد الكافر الحلال ؟ فقد يتردد في الحكم بنجاسته نظراً إلى أنّ المراد بالولد إنّ كان هو الولد الشرعي لوالديه فلا يمكننا الحكم بنجاسة ولدهما عن زنا لأ نّه ليس بولد شرعي للزاني ولا للزانية ، وإن اُريد منه الولد لغة فهو كما يشمل الولد الحلال كذلك يشمل الولد الحرام حيث إنّه نشأ من ماء أحدهما وتربى في بطن الآخر فلا مناص من الحكم بنجاسته .

   هذا والصحيح أن ولد الزّنا أيضاً ولد لهما شرعاً ولغة وعرفاً ، فانّ الولد ليس له اصطلاح حادث في الشرع وإنما هو على معناه اللغوي ، ولم يرد في شيء من روايتنا نفي ولدية ولد الزّنا . نعم ، إنما ثبت انتفاء التوارث بينهما فلا يرثانه كما لا يرثهما وهو لا  ينافي ولديته ، كيف وقد ثبت انتفاء التوارث بين الولد ووالديه في غير واحد من المقامات من غير استلزامه نفي الولدية بوجه ، كما في من قتل أباه أو كان الولد كافراً أورقاً حيث لا توارث حينئذ من غير أن يكون ذلك موجباً لسلب ولديته . وأمّا قوله (عليه السلام) «الولد للفراش وللعاهر الحجر»(1) فهو إنّما ورد في مقام الشك في أن الولد من الزوج أو الزّنا وقد دلّ على أ نّه يعطى للفراش وللعاهر الحجر ، ولا دلالة له

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 21 : 173 / أبواب نكاح العبيد والاماء ب 58 ح 2 ، 3 ، 4 ، 7 .

ــ[65]ــ

ولو كان أحد الأبوين مسلماً فالولد تابع له إذا لم يكن عن زنا (1) بل مطلقاً على وجه مطابق لأصل الطهارة (2) .

   [ 198 ] مسألة 1 : الأقوى طهارة ولد الزّنا من المسلمين ، سواء كان من طرف أو طرفين ، بل وإن كان أحد الأبوين مسلماً كما مرّ (3).

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

على نفي ولدية ولد الزّنا بوجه ، وذلك فان الولد ليس إلاّ بمعنى تكوّنه من ماء أحدهما وتربّيه في بطن الآخر وهو متحقق في ولد الزّنا أيضاً كما مر ، وعليه فلا مناص من الحكم بنجاسة ولد الكافر الحرام إذا قلنا بنجاسة ولد الكافر عند كونه حلالاً في مذهبه ، هذا كله فيما إذا كان أبواه كافرين .

   (1) إذا حصل الولد عن زنا بين مسلم وكافرة ولم يكن العمل ممنوعاً عنه في مذهبها أو كانت جاهلة بالحال إلاّ أنه كان محرماً في مذهب الاسلام فهل يحكم بنجاسته ؟ الصحيح أن يحكم بطهارته ، لأنّ الولدية بمعنى التوارث وإن كانت ثابتة بينه وبين اُمّه كما أنه ولد لأبيه على ما بيناه إلاّ أن المقتضي لنجاسته قاصر ، حيث إن الدليل على نجاسة ولد الكافر منحصر بالاجماع وهو مختص بالمتولد من كافرين ولا يشمل المتولد من مسلم وكافرة ، وعليه فمقتضى قاعدة الطهارة طهارته . ومن هذا يظهر الحال في صورة العكس كما إذا زنى كافر بمسلمة ، وذلك لاختصاص دليل النجاسة بصورة كون الولد متولداً من كافرين ، فإذا  كان أحدهما مسلماً فلا مقتضي للحكم بنجاسته سواء أ كان الولد ولداً شرعياً لهما أو لأحدهما أم كان من الزّنا .

   (2) قد عرفت الوجه في ذلك آنفاً .

 (3) نسب إلى علم الهدى(1) والحلِّي(2) والصّدوق(3) (قدس سرهم) القـول بكفـر

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) نقله عنه في المختلف 1 : 65 ، وانظر الإنتصار : 544 .

(2) السرائر 1 : 357 ، 2 : 122 ، 353 ، 526 .

(3) ذهب الصدوق إلى عدم جواز الوضوء بسؤر ولد الزّنا كالمشرك وغيره ، فانظر الهداية : 14 ، الفقيه : 1 : 8 ذيل الحديث 11 .

ــ[66]ــ

ولد الزّنا من المسلمين ونجاسته ، وذهب المشهور إلى طهارته واسلامه . واستدل على نجاسته باُمور :

   منها : ما ورد في رواية عبدالله بن أبي يعفور من أن ولد الزّنا لا يطهر إلى سبعة آباء(1) . ويدفعه أن الرواية ناظرة إلى بيان الخباثة المعنوية المتكونة في ولد الزّنا وأن آثارها لا تزول عنه إلى سبعة آباء ولا نظر لها إلى الطهارة المبحوث عنها في المقام ويدل على ذلك أن المتولد من ولد الزّنا ممن لا كلام عندهم أي عند السيد وقرينيه في طهارته فضلاً عن طهارته إلى سبعة آباء .

   ومنها : مرسلة الوشّاء «أ نّه كره (عليه السلام) سؤر ولد الزّنا واليهودي والنصراني والمشرك وكل من خالف الاسلام، وكان أشدّ ذلك عنده سؤر الناصب»(2) . وفيه : أنه لا دلالة في كراهة سؤر ولد الزّنا على نجاسته ولعل الكراهة مستندة إلى خباثته المعنوية كما مر .

   ومنها : الأخبار الناهية عن الاغتسال من البئر التي تجتمع فيها غسالة ماء الحمام معلّلاً بأنّ فيها غسالة ولد الزّنا أو بأ نّه يسيل فيها ما يغتسل به الجنب وولد الزّنا (3) . والجواب عنها أنّ النهي في تلك الروايات مستند إلى القذارة العرفية المتوهّمة ولا دلالة لها على نجاسة ولد الزّنا ، وذكره مقارناً للنصارى واليهود لا يقتضي نجاسته ، إذ  النهي بالإضافة إليهم أيضاً مستند إلى الاستقذار العرفي كما اُشير إليه في بعض الروايات حيث قيل لأبي الحسن (عليه السلام) «إنّ أهل المدينة يقولون : إنّ فيه ـ  أي في ماء الحمام  ـ شفاء من العين ، فقال : كذبوا يغتسل فيه الجنب من الحرام والزّاني والناصب الذي هو شرّهما وكل من خلق الله ثم يكون فيه شفاء من العين»(4) بمعنى أ نّه ماء متقـذر فكيف يكون فيه شفاء من العـين . ويدل على ما ذكـرناه أيضاً أن ولد

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 1 : 219 / أبواب الماء المضاف ب 11 ح 4 .

(2) الوسائل 1 : 229 / أبواب الأسآر ب 3 ح 2 .

(3) الوسائل 1 : 219 / أبواب الماء المضاف ب 11 ح 1 ، 2 ، 4 .

(4) وهي رواية محمد بن علي بن جعفر عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) المروية في الوسائل 1 : 219 / أبواب الماء المضاف ب 11 ح 2 .

ــ[67]ــ

   [ 199  ]مسألة 2 : لا إشكال في نجاسة الغُلاة ((1)) (1)

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الزّنا قد قورن في بعض الروايات بالجنب والزّاني (2) مع أنهما ممن لا إشكال في طهارته كما هو ظاهر .

   ومنها : موثقة زرارة قال : «سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول : لا خير في ولد الزّنا ولا في بشره ، ولا في شعره ، ولا في لحمه ، ولا في دمه ولا في شيء منه يعني ولد الزّنا» (3) .

   ومنها : حسنة محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال : «لبن اليهودية والنصرانية والمجوسية أحب إليَّ من ولد الزّنا ...» (4) وعدم دلالتهما على نجاسة ولد الزّنا أظهر من أن يخفى ، فان كون لبن اليهودية والنصرانية والمجوسية خيراً من ولد الزّنا لا يقتضي نجاسته وإنما هو من جهة خباثته وتأثيرها في لبنها كما أن نفي الخير عنه لا يلازم النجاسة .

   فالصحيح أن ولد الزّنا مسلم ومحكوم بطهارته لقاعدة الطهارة كما ذهب إليه المشهور ، من غير فرق في ذلك بين أن يكون الولد من مسلمين وبين أن يكون من مسلم وغير مسلم .

   (1) الغُلاة على طوائف : فمنهم من يعتقد الربوبيّة لأمير المؤمنين أو أحد الأئمة الطاهرين (عليهم السلام) فيعتقد بأ نّه الرب الجليل وأنه الإله المجسّم الذي نزل إلى الأرض ، وهذه النسـبة لو صحّت وثبت اعتقـادهم بذلك فلا إشكال في نجاسـتهم وكفرهم لأ نّه إنكار لاُلوهيته سبحانه ، لبداهة أنه لا فرق في إنكارها بين دعوى

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) بل خصـوص من يعتقد الربوبية لأمير المؤمنين (عليه السلام) أو لأحد من بقية الأئمة الأطهار (عليهم السلام) .

(2) كما في روايتي حمزة بن أحمد ومحمد بن علي بن جعفر المرويتين في الوسائل 1 : 219 / أبواب الماء المضاف ب 11 ح 1 ، 2 .

(3) ثواب الأعمال 313 ح 9 وعنه في البحار 5 : 285 ح 6 .

(4) الوسائل 21 : 462 / أبواب أحكام الأولاد ب 75 ح 2 .

ــ[68]ــ

ثبوتها لزيد أو للأصنام وبين دعوى ثبوتها لأمير المؤمنين (عليه السلام) لاشتراكهما في انكار اُلوهيته تعالى وهو من أحد الأسباب الموجبة للكفر .

   ومنهم من ينسب إليه الاعتراف باُلوهيته سبحانه إلاّ أ نّه يعتقد أنّ الاُمور الراجعة إلى التشريع والتكوين كلها بيد أمير المؤمنين أو أحدهم (عليهم السلام) ، فيرى أ نّه المحيي والمميت وأ نّه الخالق والرازق وأ نّه الذي أيّد الأنبياء السالفين سرّاً وأيّد النبيّ الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) جهراً . واعتقادهم هذا وإن كان باطلاً واقعاً وعلى خلاف الواقع حقاً ، حيث إنّ الكتاب العزيز يدل على أن الاُمور الراجعة إلى التكوين والتشريع كلّها بيد الله سبحانه ، إلاّ أ نّه ليس مما له موضوعية في الحكم بكفر الملتزم به . نعم ، الاعتقاد بذلك عقيدة التفويض لأنّ معناه أنّ الله سبحانه كبعض السلاطين والملوك قد عزل نفسه عما يرجع إلى تدبير مملكته وفوّض الاُمور الراجعة إليها إلى أحد وزرائه ، وهذا كثيراً ما يتراءى في الأشعار المنظومة بالعربية أو الفارسية ، حيث ترى أن الشاعر يسند إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) بعضاً من هذه الاُمور .

   وعليه فهذا الاعتقاد إنكار للضروري ، فانّ الاُمور الراجعة إلى التكوين والتشريع مختصّة بذات الواجب تعالى ، فيبتني كفر هذه الطائفة على ما قدّمناه من أن إنكار الضروري هل يستتبع الكفر مطلقاً أو أنه إنما يوجب الكفر فيما إذا رجع إلى تكذيب النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كما إذا كان عالماً بأن ما ينكره ثبت بالضرورة من الدين ؟ فنحكم بكفرهم على الأوّل وأمّا على الثاني فنفصّل بين من اعتقد بذلك لشبهة حصلت له بسبب ما ورد في بعض الأدعية وغيرها مما ظاهره أنهم (عليهم السلام) مفوضون في تلك الاُمور من غير أن يعلم باختصاصها لله سبحانه ، وبين من اعتقد بذلك مع العلم بأنّ ما يعتقده مما ثبت خلافه بالضرورة من الدين بالحكم بكفره في الصورة الثانية دون الاُولى .

   ومنهم من لا يعتقد بربوبية أمير المؤمنين (عليه السلام) ولا بتفويض الاُمور إليه وإنما يعتقد أنه (عليه السلام) وغيره من الأئمة الطاهرين ولاة الأمر وأنهم عاملون لله سبحانه وأنهم أكرم المخلوقين عنده فينسب إليهم الرزق والخلق ونحوهما ، لا بمعنى إسنادها إليهم (عليهم السلام) حقيقة لأنه يعتقد أن العامل فيها حقيقة هو الله ، بل

ــ[69]ــ

والخوارج ((1)) (1) والنّواصب (2)

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

كإسناد الموت إلى ملك الموت والمطر إلى ملك المطر والاحياء إلى عيسى (عليه السلام) كما ورد في الكتاب العزيز : (واُحي الموتى باذن الله )(2) وغيرها مما هو من إسناد فعل من أفعال الله سبحانه إلى العاملين له بضرب من الاسناد . ومثل هذا الاعتقاد غير مستتبع للكفر ولا هو إنكار للضروري ، فعدّ هذا القسم من أقسام الغلوّ نظير ما نقل عن الصدوق (قدس سره) عن شيخه ابن الوليد : أن نفي السهو عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أول درجة الغلو (3) . والغلو بهذا المعنى الأخير مما لا محذور فيه بل لا مناص عن الالتزام به في الجملة .

   (1) إن اُريد بالخوارج الطائفة المعروفة (خذلهم الله) وهم المعتقدون بكفر أمير المؤمنين (عليه السلام) والمتقربون إلى الله ببغضه ومخالفته ومحاربته فلا إشكال في كفرهم ونجاستهم ، لأ نّه مرتبة عالية من النصب الذي هو بمعنى نصب العداوة لأمير المؤمنين وأولاده المعصومين (عليهم السلام) فحكمهم حكم النصّاب ، ويأتي أن الناصب محكوم بكفره ونجاسته .

   وإن اُريد منهم مَن خرج على إمام عصره من غير نصب العداوة له ولا استحلال لمحاربته بل يعتقد إمامته ويحبه ، إلاّ أنه لغلبة شقوته ومشتهيات نفسه من الجاه والمقام ارتكب ما يراه مبغوضاً لله سبحانه فخرج على إمام عصره ، فهو وإن كان في الحقيقة أشد من الكفر والالحاد إلاّ أنه غير مستتبع للنجاسة المصطلحة ، لأ نّه لم ينكر الاُلوهية ولا النبوة ولا المعاد ولا أنكر أمراً ثبت من الدين بالضرورة .

   (2) وهم الفرقة الملعونة التي تنصب العداوة وتظهر البغضاء لأهل البيت (عليهم السلام) كمعاوية ويزيد (لعنهما الله) ولا شبهة في نجاستهم وكفرهم ، وهذا لا للأخبار الواردة في كفر المخالفين كما تأتي جملة منها عن قريب ، لأنّ الكفر فيها إنما هو في مقابل

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) على الأحوط لزوماً إذا لم يكونوا من النصّاب .

(2) آل عمران 3 : 49 .

(3) الفقيه 1 : 235 .

ــ[70]ــ

الايمان ولم يرد منه ما يقابل الاسلام ، بل لما رواه ابن أبي يعفور في الموثق عن أبي عبدالله (عليه السلام) في حديث قال : «واياك أن تغتسل من غسالة الحمام ، ففيها تجتمع غسالة اليهودي والنصراني والمجوسي والناصب لنا أهل البيت وهو شرّهم فان الله تبارك وتعالى لم يخلق خلقاً أنجس من الكلب وإن الناصب لنا أهل البيت لأنجس منه»(1) حيث إن ظاهرها إرادة النجاسة الظاهرية الطارئة على أعضاء الناصب لنصبه وكفره ، وهذا من غير فرق بين خروجه على الامام (عليه السلام) وعدمه ، لأنّ مجرّد نصب العداوة وإعلانها على أئمة الهدى (عليهم السلام) كاف في الحكم بكفره ونجاسته وقد كان جملة من المقاتلين مع الحسين (عليه السلام) من النصّاب وإنما أقدموا على محاربته من أجل نصبهم العداوة لأمير المؤمنين وأولاده .

   ثم إن كون الناصب أنجس من الكلب لعله من جهة أن الناصب نجس من جهتين وهما جهتا ظاهره وباطنه ، لأن الناصب محكوم بالنجاسة الظاهرية لنصبه كما أنه نجس من حيث باطنه وروحه ، وهذا بخلاف الكلب لأن النجاسة فيه من ناحية ظاهره فحسب .

   ودعوى : أن الحكم بنجاسة الناصب بعيد لكثرة النصب في دولة بني اُمية ومساورة الأئمة (عليهم السلام) وأصحابهم مع النّصاب ، حيث كانوا يدخلون بيوتهم كما أنهم كانوا يدخلون على الأئمة (عليهم السلام) ومع ذلك لم يرد شيء من رواياتنا ما يدل على لزوم التجنب عن مساورتهم ولا أن الأئمة اجتنبوا عنهم بأنفسهم ، فهذا كاشف قطعي عن عدم نجاسة الناصب لأ نّه لولا ذلك لأشاروا (عليهم السلام) بذلك وبيّنوا نجاسة الناصب ولو لأصحابهم ، وقد عرفت أ نّه لا عين ولا أثر منه في شيء من رواياتنا .

   مدفوعة : بما نبّه عليه شيخنا الأنصاري (قدس سره) وحاصله : أنّ انتشار أغلب الأحكام إنما كان في عصر الصادقين (عليهما السلام) فمن الجائز أن يكون كفر النواصب أيضاً منتشراً في عصرهما (عليهما السلام) ، فمخالطة أصحاب الأئمة معهم في

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) المروية في الوسائل 1 : 220 / أبواب الماء المضاف ب 11 ح 5 .

ــ[71]ــ

وأمّا المجسِّمة (1)

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

دولة بني اُميّة إنما كانت من جهة عدم علمهم بنجاسة الناصب في ذلك الزمان (1) وتوضيحه :

   أنّ النواصب إنما كثروا من عهد معاوية إلى عصر العباسيين لأنّ الناس مجبولون على دين ملوكهم والمرؤوس يتقرّب إلى رئيسه بما يحبّه الرئيس ، وكان معاوية يسب أمير المؤمنين (عليه السلام) علناً ويعلن عداوته له جهراً ولأجله كثر النواصب في زمانه إلى عصر العباسيين . ولا يبعد أنهم (عليهم السلام) لم يبيّنوا نجاسة الناصب في ذلك العصر مراعاة لعدم تضيق الأمر على شيعتهم ، فانّ نجاسة الناصب كانت توقعهم في حرج شديد لكثرة مساورتهم ومخالطتهم معه أو من جهة مراعاة الخوف والتقية فانهم كانوا جماعة كثيرين ، ومن هنا أخّروا بيانها إلى عصر العباسيين حيث إنهم كانوا يوالون الأئمة (عليهم السلام) ظاهراً ولا سيما المأمون ولم ينصب العداوة لأهل البيت إلاّ قليل . وما ذكرناه هو السر في عدم اجتناب أصحابهم عن الناصب ، وأمّا الأئمة بأنفسهم فلم يظهر عدم تجنبهم عنهم بوجه ، ومعه لا مسوغ لرد ما ورد من الرواية في نجاستهم بمجرّد استبعاد كفره وأنّ الناصب لو كان نجساً لبيّنها الأئمة (عليهم السلام) لأصحابهم وخواصهم .

   (1) وهم على طائفتين : فانّ منهم من يدعي أن الله سبحانه جسم حقيقة كغيره من الأجسام وله يد ورجل إلاّ أنه خالق لغيره وموجد لسائر الأجسام ، فالقائل بهذا القول إن التزم بلازمه من الحدوث والحاجة إلى الحيّز والمكان ونفي القدمة ، فلا إشكال في الحكم بكفره ونجاسته لأنه إنكار لوجوده سبحانه حقيقة . وأما إذا لم يلتزم بذلك بل اعتقد بقدمه تعالى وأنكر الحاجة فلا دليل على كفره ونجاسته وإن كان اعتقاده هذا باطلاً ومما لا أساس له .

   ومنهم من يدّعي أنه تعالى جسم ولكن لا كسائر الأجسام كما ورد أنه شيء

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) كتاب الطهارة : 351 ، باب النجاسات (حكم المخالف) السطر 22 .

ــ[72]ــ

والمجـبِّرة (1)

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

لا  كالأشياء (1) فهو قديم غير محتاج ، ومثل هذا الاعتقاد لا يستتبع الكفر والنجاسة وأمّا استلزامه الكفر من أجل أنه إنكار للضروري حيث إنّ عدم تجسّمه من الضروري فهو يبتني على الخلاف المتقدم من أن إنكار الضروري هل يستلزم الكفر مطلقاً أو أنه إنما يوجب الكفر فيما إذا كان المنكر عالماً بالحال ، بحيث كان إنكاره مستلزماً  لتكذيب النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) .

   هذا ، والعجب من صدر المتألهين حيث ذهب إلى هذا القول في شرحه على الكافي وقال ما ملخّصه : إنّه لا مانع من التزام أنه سبحانه جسم إلهي ، فانّ للجسم أقساماً فمنها : جسم مادي وهو كالأجسام الخارجية المشـتملة على المادّة لا محالة . ومنها : جسم مثالي وهو الصورة الحاصلة للانسان من الأجسام الخارجيـة وهي جسم لا مادّة لها . ومنها : جسم عقلي وهو الكلِّي المتحقِّق في الذهن وهو أيضاً مما لا مادّة له بل وعدم اشتماله عليها أظهر من سابقه . ومنها : جسم إلهي وهو فوق الأجسام بأقسامها وعدم حاجته إلى المادّة أظهر من عدم الحاجة إليها في الجسم العقلي ، ومنها : غير ذلك من الأقسام ، ولقد صرّح بأن المقسم لهذه الأقسام الأربعة هو الجسم الذي له أبعاد ثلاثة من العمق والطول والعرض(2) . وليت شعري أن ما فيه هذه الأبعاد وكان عمقه غير طوله وهما غير عرضه كيف لا يشتمل على مادة ولا يكون متركباً حتى يكون هو الواجب سبحانه . نعم ، عرفت أن الالتزام بهذه العقيدة الباطلة غير مستتبع لشيء من الكفر والنجاسة ، كيف وأكثر المسلمين لقصور باعهم يعتقدون أنّ الله سبحانه جسم جالس على عرشه ومن ثمة يتوجهون نحوه توجه جسم إلى جسم مثله لا على نحو التوجه القلبي .

   (1) القائلون بالجبر إن التزموا بتوالي عقيدتهم من إبطال التكاليف والثواب

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) ورد مضمونه في الكافي 1 : 81 ذيل الحديث 5 .

(2) شرح اُصول الكافي : 273 .

ــ[73]ــ

والعقاب بل وإسناد الظلم إلى الله تعالى ، لأنه لازم إسناد الأفعال الصادرة عن المكلفين إليه سبحانه ونفي قدرتهم عنها نظير حركة يد المرتعش فلا تأمل في كفرهم ونجاستهم لأنه ابطال للنبوات والتكاليف . وأما إذا لم يلتزموا بها ـ  كما لا يلتزمون  ـ حيث اعترفوا بالتكاليف والعقاب والثواب بدعوى أنهما لكسب العبد وإن كان فعله خارجاً عن تحت قدرته واختياره واستشهدوا عليه بجملة من الآيات كقوله عزّ من قـائل : (ولا تكسب كلّ نفس إلاّ عليها )(1) وقوله : (لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت )(2)  وقوله : (لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ) (3) وقوله : (كل امرئ بما كسب رهين )(4) إلى غير ذلك من الآيات ، فلا يحكم بكفرهم فانّ مجرّد اعتقاد الجبر غير موجب له ولا سيّما بملاحظة ما ورد من أنّ الاسلام هو الاعتراف بالشهادتين (5) اللّتين عليهما أكثر الناس ، لأنّ لازمه الحكم بطهارة المجبِّرة وإسلامهم لاعترافهم بالشهادتين ، مضافاً إلى استبعاد نجاستهم وكفرهم على كثرتهم ، حيث إنّ القائل بذلك القول هو الأشاعرة وهم أكثر من غيرهم من العامّة . نعم ، عقيدة الجبر من العقائد الباطلة في نفسها .

   وأمّا المفوِّضة فحالهم حال المجبِّرة فانهم إذا التزموا بما يلزم مذهبهم من اعطاء السلطان للعبد في قبال سلطانه تعالى فلا مناص من الحكم بكفرهم ونجاستهم لأنه شرك لا محالة ، وأما إذا لم يلتزموا بلوازم اعتقادهم كما هو الواقع حيث إنهم أرادوا بذلك الفرار عما يلزم المجبّرة من اسناد الظلم إلى الله سبحانه ، لوضوح أنّ العقاب على ما لا يتمكّن منه العبد ظلم قبيح وإن وقعوا في محذور آخر أشدّ من حيث لا يشعرون وهو إيجاد الشريك لله تعالى في سلطانه ، فلا يستلزم اعتقادهم هذا شيئاً من النجاسة والكفر .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الأنعام 6 : 164 .

(2) البقرة 2 : 286 .

(3) البقرة 2 : 134 .

(4) الطور 52 : 21 .

(5) الوسائل 1 : 19 / أبواب مقدمة العبادات ب 1 ح 13 ، 15 ، 33 .

ــ[74]ــ

والقائلون بوحدة الوجود من الصّوفيّة إذا التزموا بأحكام الاسلام فالأقوى عدم نجاستهم إلاّ مع العلم بالتزامهم بلوازم مذاهبهم من المفاسد (1) .

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

   وأمّا ما ورد في بعض الروايات من أن القائل بالتفويض مشرك (1) فقد ظهر جوابه مما ذكرناه سابقاً من أن للشرك مراتب عديدة وهو غير مستتبع للكفر على اطلاقه كيف ولا اشكال في اسلام المرائي في عبادته مع أن الرياء شرك بالله سبحانه ، فالشرك المستلزم للكفر إنما هو الاشراك في ذاته تعالى أو في عبادته لأنه المقدار المتيقن من قوله تعالى : (إنّما المشركون نجس )(2) على تقدير دلالته على نجاسة المشرك ، لأن هؤلاء المشركين لم يكونوا إلاّ عبدة الأصنام والأوثان ، فالذي يعبد غير الله تعالى أو يشرك في ذاته هو المحكوم بكفره دون مطلق المشرك .

   ثم إنّ القول بالجبر والقول بالتفويض لما كانا في طرفي النقيض وكان يلزم على كل منهما محذور فقد نفاهما الأئمة الهداة (عليهم صلوات الله الملك المتعال) وأثبتوا الأمر بين الأمرين قائلاً : «بأنه لا جبر ولا تفويض بل منزلة بينهما» (3) فان في الفعل إسنادين : إسناد إلى الله سبحانه وهو إسناد الافاضة والاقدار دون إسناد الفعل إلى فاعله وإسناد إلى فاعله إسناد العمل إلى عامله . وقد ذكرنا شيخنا الاُستاذ (قدس سره) أن في هذه الأخبار الشريفة المثبتة للمنزلة بين المنزلتين لدلالة واضحة على ولايتهم (صلوات الله عليهم أجمعين) حيث إن الالتفات إلى هذه الدقيقة التي يتحفظ فيها على كلتا الجهتين عدالة الله وسلطانه لا يكون إلاّ عن منشأ إلهي (4) ولنعم ما أفاده .

   (1) القائل بوحدة الوجود إن أراد أن الوجود حقيقة واحدة ولا تعدد في حقيقته وأنه كما يطلق على الواجب كذلك يطلق على الممكن ، فهما موجودان وحقيقة الوجود فيهما واحدة والاختلاف إنما هو بحسب المرتبة ، لأن الوجود الواجبي في أعلى مراتب

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 28 : 340 / أبواب حدّ المرتد ب 10 ح 4 .

(2) التوبة 9 : 28 .

(3) الكافي 1 : 159 ح 10 ، 13 .

(4) أجود التقريرات 1 : 93 .

ــ[75]ــ

القوّة والتمام والوجود الممكني في أنزل مراتب الضعف والنقصان وإن كان كلاهما موجوداً حقيقة وأحدهما خالق للآخر وموجد له ، فهذا في الحقيقة قول بكثرة الوجود والموجود معاً نعم حقيقة الوجـود واحدة ، فهو مما لا يستلزم الكفر والنجاسـة بوجه بل هو مذهب أكثر الفلاسفة بل مما اعتقده المسلمون وأهل الكتاب ومطابق لظواهر الآيات والأدعية ، فترى أ نّه (عليه السلام) يقول : «أنت الخالق وأنا المخلوق وأنت الرب وأنا المربوب»(1) وغير ذلك من التعابير الدالة على أن هناك موجودين متعدِّدين أحدهما موجد وخالق للآخر ، ويعبّر عن ذلك في الاصطلاح بالتوحيد العامِّي .

   وإن أراد من وحدة الوجود ما يقابل الأول وهو أن يقول بوحدة الوجود والموجود حقيقة وأنه ليس هناك في الحقيقة إلاّ موجود واحد ولكن له تطورات متكثرة واعتبارات مختلفة ، لأنه في الخالق خالق وفي المخلوق مخلوق كما أنه في السماء سماء وفي الأرض أرض وهكذا ، وهذا هو الذي يقال له توحيد خاص الخاص وهذا القول نسبه صدر المتألهين إلى بعض الجهلة من المتصوفين ، وحكى عن بعضهم أنه قال : ليس في جبتي سوى الله ، وأنكر نسبته إلى أكابر الصوفية ورؤسائهم (2) ، وإنكاره هذا هو الذي يساعده الاعتبار فان العاقل كيف يصدر منه هذا الكلام وكيف يلتزم بوحدة الخالق ومخلوقه ويدعي اختلافهما بحسب الاعتبار .

   وكيف كان فلا إشكال في أن الالتزام بذلك كفر صريح وزندقة ظاهرة ، لأنه إنكار للواجب والنبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حيث لا امتياز للخالق عن المخلوق حينئذ إلاّ بالاعتبار ، وكذا النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأبو جهل مثلاً متّحدان في الحقيقة على هذا الأساس وإنما يختلفان بحسب الاعتبار .

   وأمّا إذا أراد القائل بوحدة الوجود أن الوجود واحد حقيقة ولا كثرة فيه من جهة وإنما الموجود متعدِّد ، ولكنه فرق بيّن بين موجودية الوجود وبين موجودية غيره من الماهيّات الممكنة، لأنّ إطلاق الموجود على الوجود من جهة أ نّه نفس مبدأ الاشتقاق

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) كما في دعاء يستشير مفاتيح الجنان : 78 .

(2) لاحظ الأسفار 1 : 71  .

ــ[76]ــ

وأمّا إطلاقه على الماهيات الممكنة فانما هو من جهة كونها منتسبة إلى الموجود الحقيقي الذي هو الوجود لا من أجل أنها نفس مبدأ الاشـتقاق ولا من جهة قيام الوجود بها حيث إن للمشتق إطلاقات فقد يحمل على الذات من جهة قيام المبدأ به كما في زيد عالم أو ضارب لأ نّه بمعنى مَن قام به العلم أو الضرب ، واُخرى يحمل عليه لأ نّه نفس مبدأ الاشتقاق كما عرفته في الوجود والموجود ، وثالثة من جهة إضافته إلى المبدأ نحو إضافة وهذا كما في اللاّبن والتامر لضرورة عدم قيام اللبن والتمر ببائعهما إلاّ أنّ البائع لما كان مسنداً ومضافاً إليهما نحو إضافة وهو كونه بائعاً لهما ، صح إطلاق اللاّبن والتامر على بائع التمر واللّبن ، وإطلاق الموجود على الماهيات الممكنة من هذا القبيل ، لأنه بمعنى أنها منتسبة ومضافة إلى الله سبحانه باضافة يعبّر عنها بالاضافة الاشراقية فالموجود بالوجود الانتسابي متعدِّد والموجود الاستقلالي الذي هو الوجود واحد .

   وهذا القول منسوب إلى أذواق المتأ لِّهين ، فكأن القائل به بلغ أعلى مراتب التأ لّه حيث حصر الوجود بالواجب سبحانه ، ويسمّى هذا توحيداً خاصياً . ولقد اختار ذلك بعض الأكابر ممن عاصرناهم وأصرّ عليه غاية الاصرار مستشهداً بجملة وافرة من الآيات والأخبار حيث إنّه تعالى قد اُطلق عليه الموجود في بعض الأدعية(1) وهذا المدعى وإن كان أمراً باطلاً في نفسه لابتنائه على أصالة الماهيّة ـ على ما تحقّق في محلّه  ـ وهي فاسـدة لأنّ الأصيل هو الوجود إلاّ انه غير مستتبع لشيء من الكفر والنجاسة والفسق .

   بقي هناك احتمال آخر وهو ما إذا أراد القائل بوحـدة الوجود وحدة الوجـود والموجود في عين كثرتهما فيلتزم بوحدة الوجود والموجود وأنه الواجب سبحانه إلاّ أن الكثرات ظهورات نوره وشؤونات ذاته ، وكل منها نعت من نعوته ولمعة من لمعات صـفاته ويسمّى ذلك عند الاصطلاح بتوحيـد أخصّ الخواص ، وهذا هو الذي حقّقه صدر المتأ لِّهين ونسبه إلى الأولياء والعرفاء من عظماء أهل الكشف واليقين قائلاً : بأن

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) وقفنا عليه في دعائي المجير والحزين المنقولين في مفاتيح المحدث القمي ص 81 وهامش 148 .

ــ[77]ــ

   [ 200 ] مسألة 3 : غير الاثني عشريّة من فِرَق الشّيعة إذا لم يكونوا ناصبين ومعادين لسائر الأئمة ولا سابّين لهم ((1)) طاهرون (1)

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الآن حصحص الحق واضمحلّت الكثرة الوهمية وارتفعت أغاليط الأوهام (2) ، إلاّ أ نّه لم يظهر لنا إلى الآن حقيقة ما يريدونه من هذا الكلام . وكيف كان فالقائل بوحدة الوجود بهذا المعنى الأخير أيضاً غير محكوم بكفره ولا بنجاسته ما دام لم يلتزم بتوال فاسدة من انكار الواجب أو الرسالة أو المعاد .

   (1) قد وقع الكلام في نجاسة الفرق المخالفة للشيعة الاثني عشرية وطهارتهم . وحاصل الكلام في ذلك أن انكار الولاية لجميع الأئمة (عليهم السلام) أو لبعضهم هل هو كانكار الرسالة يستتبع الكفر والنجاسة ؟ أو أن إنكار الولاية إنما يوجب الخروج عن الايمان مع الحكم باسلامه وطهارته ؟ فالمعروف المشهور بين المسلمين طهارة أهل الخلاف وغيرهم من الفرق المخالفة للشيعة الاثني عشرية ، ولكن صاحب الحدائق (قدس سره) نسب إلى المشهور بين المتقدِّمين وإلى السيد المرتضى وغيره الحكم بكفر أهل الخلاف ونجاستهم وبنى عليه واختاره ، كما أنه بنى على نجاسة جميع من خرج عن الشيعة الاثني عشرية من الفرق (3) .

 وما يمكن أن يستدل به على نجاسة المخالفين وجوه ثلاثة : الأول : ما ورد في الروايات الكثيرة البالغة حد الاستفاضة من أن المخالف لهم (عليهم السلام) كافر(4) وقد ورد في الزيارة الجامعة : «ومن وحّده قبل عنكم» (5) فانه ينتج بعكس النقيض

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) إيجاب السب للكفر إنما هو لاستلزامه النصب .

(2) لاحظ الأسفار 1 : 71  .

(3) الحدائق 5 : 175 .

(4) ففي بعضها «إن الله جعل علياً علماً بينه وبين خلقه ليس بينه وبينهم علم غيره ، فمن تبعه كان مؤمناً ومن جحده كان كافراً ومن شك فيه كان مشركاً . وفي آخر «علي باب هدى من خالفه كان كافراً ومن أنكره دخل النار» إلى غير ذلك من الأخبار فان شئت فراجع الوسائل 28 : 343 / أبواب حد المرتد ب 10 ح 13 ، 14 وغيرهما .

(5) البلد الأمين للكفعمي : 302 .

ــ[78]ــ

أن من لم يقبل منهم فهو غير موحّد لله سبحانه فلا محالة يحكم بكفره . والأخبار الواردة بهذا المضمون وإن كانت من الكثرة بمكان إلاّ أنه لا دلالة لها على نجاسة المخالفين ، إذ المراد فيها بالكفر ليس هو الكفر في مقابل الاسلام وإنما هو في مقابل الايمان كما أشرنا إليه سابقاً ، أو أنه بمعنى الكفر الباطني وذلك لما ورد في غير واحد من الروايات من أن المناط في الاسلام وحقن الدماء والتوارث وجواز النكاح إنما هو شهادة أن لا إله إلاّ الله وأن محمداً رسوله ، وهي التي عليها أكثر الناس (1) وعليه فلا  يعتبر في الاسلام غير الشهادتين ، فلا مناص معه عن الحكم باسلام أهل الخلاف وحمل الكفر في الاخبار المتقدِّمة على الكفر الواقعي وإن كانوا محكومين بالاسلام ظاهراً ، أو على الكفر في مقابل الايمان ، إلاّ أن الأوّل أظهر إذ الاسلام بني على الولاية وقد ورد في جملة من الأخبار أن الاسلام بني على خمس وعدّ منها الولاية(2) ولم يناد أحد بشيء منها كما نودي بالولاية ، كما هو مضمون بعض الروايات(3) فبانتفاء الولاية ينتفي الاسلام واقعاً ، إلاّ أن منكر الولاية إذا أجرى الشهادتين على لسانه يحكم بإسلامه ظاهراً لأجل الأخبار المتقدِّمة .

   هذا كلّه مضافاً إلى السيرة القطعية الجارية على طهارة أهل الخلاف ، حيث إنّ المتشرِّعين في زمان الأئمة (عليهم السلام) وكذلك الأئمة بأنفسهم كانوا يشترون منهم اللّحم ويرون حلية ذبائحهم ويباشرونهم ، وبالجملة كانوا يعاملون معهم معاملة

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) منها ما رواه سماعة عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال «قلت له : أخبرني عن الاسلام والايمان أنهما مختلفان ؟ فقال : إنّ الايمان يشارك الاسلام والاسلام لا يشارك الايمان ، فقلت : فصفهما لي ، فقال : الاسلام شهادة أن لا إله إلاّ الله والتصديق برسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) به حقنت الدماء وعليه جرت المناكح والمواريث وعلى ظاهره جماعة الناس» وفي بعضها «إن الاسلام ما  ظهر من قول أو فعل وهو الذي عليه جماعة الناس من الفِرق كلها وبه حقنت الدماء وعليه جرت المواريث وجاز النكاح» الكافي 2 : 25 / 1 ، 5 وغيرهما من الأخبار .

(2) الوسائل 1 : 13 / أبواب مقدمة العبادات في أكثر أحاديث ب 1 .

(3) اشتمل على ذلك جملة من الأحاديث وقد أورد روايتين منهما في الوسائل 1 : 18 / أبواب مقدمة العبادات ب 1 ح 10 ، 1 مقطعاً وهما روايتا أبي حمزة والفضيل .

ــ[79]ــ

الطهارة والاسلام من غير أن يرد عنهم ردع .

   الثاني : ما ورد في جملة من الروايات من أن المخالف ناصب(1) وفي بعضها : «أن الناصب ليس من نصب لنا أهل البيت ، لأنك لا تجد أحداً يقول : أنا اُبغض محمّداً وآل محمّد ولكن الناصب من نصب لكم وهو يعلم أنكم تتولونا وأنكم من شيعتنا»(2) .

   والجواب عن ذلك أن غاية ما يمكن استفادته من هذه الأخبار أن كل مخالف للأئمة (عليهم السلام) ناصبي إلاّ أن ذلك لا يكفي في الحكم بنجاسة أهل الخلاف ، حيث لا  دليل على نجاسة كل ناصب ، فان النصب إنما يوجب النجاسة فيما إذا كان لهم (عليهم السلام) وأما النصب لشيعتهم فان كان منشؤه حبّ الشيعة لأمير المؤمنين وأولاده (عليهم السلام) ولذلك نصب لهم وأبغضهم فهو عين النصب للأئمة (عليهم السلام) لأنه إعلان لعداوتهم ببغض من يحبهم ، وأما إذا كان منشؤه عدم متابعتهم لمن يرونه خليفة للنبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من غير أن يستند إلى حبهم لأهل البيت (عليهم السلام) بل هو بنفسه يظهر الحب لعلي وأولاده (عليهم السلام) فهذا نصب للشيعة دون الأئمة (عليهم السلام) إلاّ أن النصب للشيعة لا يستتبع النجاسة بوجه ، لما تقدّم من الأخبار والسيرة القطعية القائمة على طهارة المخالفـين ، فالنصب المقتضي للنجاسة إنما هو خصوص النصب للأئمة (عليهم السلام) .

   الثالث : أن أهل الخلاف منكرون لما ثبت بالضرورة من الدين وهو ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام) حيث بيّنها لهم النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأمرهم بقبولها ومتابعتها وهم منكرون لولايته (عليه السلام) وقد مرّ أن إنكار الضروري يستلزم الكفر والنجاسة .

   وهذا الوجه وجيه بالاضافة إلى من علم بذلك وأنكره ، ولا يتم بالاضافة إلى جميع أهل الخلاف ، لأن الضروري من الولاية إنما هي الولاية بمعنى الحب والولاء

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) كمكاتبة محمد بن علي بن عيسى وغيرها من الأخبار المروية في الوسائل 9 : 490 / أبواب ما  يجب فيه الخمس ب 2 ح 14 .

(2) الوسائل 9 : 486 / أبواب ما يجب فيه الخمس ب 2 ح 3 .

ــ[80]ــ

وأمّا مع النّصـب أو السّبّ للأئمـة الّذين لا يعتقـدون بإمامتـهم فهم مثل سـائر النّواصب (1) .

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وهم غير منكرين لها بهذا المعنى ، بل قد يظهرون حبّهم لأهل البيت (عليهم السلام) وأمّا الولاية بمعنى الخلافة فهي ليست بضرورية بوجه وإنما هي مسألة نظرية ، وقد فسّروها بمعنى الحب والولاء ولو تقليداً لآبائهم وعلمائهم ، وإنكارهم للولاية بمعنى الخلافة مستند إلى الشبهة كما عرفت ، وقد أسلفنا أنّ إنكار الضروري إنما يستتبع الكفر والنجاسة فيما إذا كان مستلزماً لتكذيب النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كما إذا كان عالماً بأن ما ينكره مما ثبت من الدين بالضرورة وهذا لم يتحقّق في حق أهل الخلاف ، لعدم ثبوت الخـلافة عندهم بالضرورة لأهل البيت (عليهم السلام) نعـم ، الولاية بمعنى الخلافة من ضروريات المذهب لا من ضروريات الدين .

   هذا كلّه بالاضافة إلى أهل الخلاف . ومنه يظهر الحال في سائر الفرق المخالفين للشيعة الاثني عشريّة من الزيـدية والكيسـانية والاسماعيلية وغـيرهم ، حيث إن حكمهم حكم أهل الخلاف لضرورة أنه لا فرق في إنكار الولاية بين إنكارها ونفيها عن الأئمة (عليهم السلام) بأجمعهم وبين إثباتها لبعضهم ونفيها عن الآخرين (عليهم السلام) كيف وقد ورد أن من أنكر واحداً منهم فقد أنكر جميعهم (عليهم السلام) (1) وقد عرفت أن نفي الولاية عنهم بأجمعهم غير مستلزم للكفر والنجاسة فضلاً عن نفيها عن بعض دون بعض .

   فالصحيح الحكم بطهارة جميع المخالفين للشيعة الاثني عشرية وإسلامهم ظاهراً بلا فرق في ذلك بين أهل الخلاف وبين غيرهم وإن كان جميعهم في الحقيقة كافرين ، وهم الذين سمّيناهم بمسلم الدنيا وكافر الآخرة .

   (1) أمّا مع النصب فلما تقدّم تفصيله ، وأما مع السـب فلأجل أنه لا إشـكال في نجاسة الساب لأحدهم (عليهم السلام) فيما إذا نشأ سبّه عن نصبه لأهل البيت (عليهم السلام) لأنّ السب حينئذ بعينه نصب وإعلان للعـداوة والبغضاء في حـقِّهم (عليهم

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) ورد نحوه في الوسائل 28 : 348 / أبواب حدّ المرتد ب 10 ح 29 ، الكافي 1 : 373 ح 8 .

 
 

ــ[81]ــ

    [ 201 ] مسألة 4 : مَن شكّ في إسلامه وكفره طاهر ، وإن لم يجر عليه سائر أحكام الاسلام (1) .

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

السلام) وقد مرّ أنّ الناصب نجس ، وأمّا إذا لم يكن سبّه لأجل النصب كما إذا كان موالياً للأئمة ومحبّاً لهم إلاّ أ نّه سبّهم لداع من الدواعي ففي استلزام ذلك الحكم بنجاسته إشكال ، حيث إن الساب لهم (عليهم السلام) وإن كان يقتل بلا كلام إلاّ أن جواز قتله غير مستتبع لنجاسته ، فانه كم من مورد حكم فيه بقتل شخص من غير أن يحكم بنجاسته كما في مرتكب الكبيرة ، حيث إنه يقتل في المرة الثالثة أو الرابعة ولا يحكم بنجاسته ، فمقتضى القاعدة طهارة الساب في هذه الصورة وإن كان بحسب الواقع أبغض من الكفّار .

   (1) إذا  شككنا في إسلام أحد وكفره فتارة نعلم حالته السابقة من الاسلام أو الكفر ولا ينبغي الاشكال حينئذ في جريان استصحاب إسلامه أو كفره ، وبه نرتب عليه آثارهما كالحكم بطهارته وإرثه وجواز مناكحته ووجوب دفنه وغيرها من الآثار المترتبة على إسلامه أو الحكم بنجاسته وغيرها من الآثار المترتبة على كفره ، وهذا كما إذا علمنا بتولده من مسلمين أو من مسلم وغير مسلم فانه حينئذ ممن نعلم باسلامه لأجل التبعية لوالديه أو لأشرفهما ، وقد ذكرنا أن الكفر في مثله يتوقف على جحوده وإنكاره فاذا شككنا في جحوده فلا مناص من الحكم باسلامه بالاستصحاب . وكذا الحال في من علمنا بتولده من كافرين لأن نجاسته متيقنة حينئذ من أجل تبعيّته لوالديه ، وقد عرفت أن الاسلام في مثله يتوقف على أن يعترف بالوحدانية والنبوّة ، فإذا شككنا في أنه اعترف بهما أم لم يعترف فلا بد من استصحاب كفره والحكم بترتب آثاره عليه .

   واُخرى نجهل بحالته السابقة ونشك في إسلامه وكفره بالفعل ، ومقتضى القاعدة في هذه الصورة طهارته من دون أن نرتب عليه إسلامه ولا شيئاً من آثاره كوجوب دفنه وجواز مناكحته ، والوجه في ذلك أن تقابل الكفر والاسلام وإن كان من تقابل العدم والملكة ، والأعدام والملكات من قبيل الاُمور العدمية ، إلاّ أنها ليست عدماً

ــ[82]ــ

   التاسع : الخمر ((1)) (1)

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مطلقاً بل عدم خاص . وبعبارة أوضح أن العدم والملكة ليس مركباً من أمرين أحدهما العدم وثانيهما الملكة ـ كما يعطي ذلك ظاهر التعبير ـ حتى يمكن إحراز المركب منهما بضم الوجدان إلى الأصل بأن يقال في العمى مثلاً إن الملكة وقابليته للإبصار محرزة بالوجدان لأنه إنسان ، وعدم البصر يثبت باستصحابه على نحو العدم الأزلي فاذا ضممنا أحدهما إلى الآخر فيثبت عدم البصر عمن من شأنه الإبصار ، وكذلك الكلام في من يشك في أن له لحية أو أنه أقرع أو غير ذلك مما هو من الأعدام والملكات .

   بل الصحيح أنّ الأعدام والملكات أعدام خاصّة ومن قبيل البسائط ، ولا يسعنا التعبير عنها إلاّ بالعدم والملكة لا أن تعبيرنا هذا من جهة أنها مركبة ، وعليه فلا يمكننا إحرازها بضم الوجدان إلى الأصل إذ لا حالة سابقة للأعدام الخاصة ، فلا يصح أن يقال في المقام إن القابلية محرزة بالوجدان لأن من يشك في كفره وإسلامه بالغ عاقل فاذا أثبتنا عدم إسلامه بالاستصحاب ـ لأنه أمر حادث مسبوق بالعدم ـ فبضم الوجدان إلى الأصل نحرز كلا جزئي الموضوع المركب للحكم بالكفر ، وذلك لما مرّ من أنّ الكفر عدم خاص وإذ لا حالة سابقة فلا يجري فيه الاسـتصحاب ، كما أنّ استصحاب عدم الاسلام غير جار حيث لا أثر عملي له شرعاً ، فاستصحاب عدم الاسلام لاثبات الكفر كاسـتصحاب عدم الإبصـار لاثبات العمى من أظهر أنحـاء الاُصول المثبتة ، ومعه لا يمكننا الحكم بكفر من نشك في إسلامه وكفره كما لا يمكننا أن نرتب عليه شيئاً من الآثار المترتبة على الاسلام . نعم ، يحكم بطهارته بمقتضى قاعدة الطهارة للشك في طهارته ونجاسته ، بل ولعلّه ـ أعني الحكم بطهارته ـ مما لا خلاف فيه كما أشرنا إليه سابقا (2) .

   (1) نجاسة الخمر هي المعروفة بين أصحابنا المتقدِّمين والمتأخِّرين ، ولم ينقل

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) ويلحق به النبيذ المسكر ، وأمّا الحكم بالنجاسة في غيره فهو مبني على الاحتياط ، وأما المسكر الذي لم يتعارف شربه كالاسپرتو فالظاهر طهارته مطلقا .

(2) مرّت الاشارة إليه في شرح العروة 2 : 470 ذيل المسألة  [ 181 ]  .

ــ[83]ــ

الخلاف في ذلك إلاّ من جمـاعة من المتقـدِّمين كالصدوق(1) ووالده في الرسالة(2) والجعفي(3) والعماني(4) وجملة من المتأخِّرين كالأردبيلي(5) وغيره حيث ذهبوا إلى طهارتها ، واختلافهم في ذلك إنما نشأ من اختلاف الروايات التي هي العمدة في المقام وذلك للقطع بعدم تحقّق الاجماع على نجاسة الخمر بعد ذهاب مثل الصدوق والأردبيلي وغيرهما من الأكابر إلى طهارتها ، كما أن الكتاب العزيز لا دلالة له على نجاستها حيث إن الرجس في قوله عزّ من قائل : (إنّما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجسٌ من عمل الشّيطان فاجتنبوه )(6) ليس بمعنى النجس بوجه ، لوضـوح أنه لا  معنى لنجاسة بقية الاُمور المذكورة في الآية المباركة ، فانّ منها الميسر وهو من الأفعال ولا يتّصف الفعل بالنجاسـة أبداً ، بل الرجس معـناه القبيح المعبّر عنه في الفارسية بـ «پليد و زشت» .

   وعليه فالمهم هو الأخبار ، ولقد ورد نجاسة الخمر في عدّة كثيرة من الروايات ، ففي جملة منها ورد الأمر بغسل الثوب إذا أصابته خمر أو نبيذ (7) وفي بعضها أمر باراقة ما  قطرت فيه قطرة من خمر (8) وفي ثالث : لا والله ولا تقطر قطرة منه (أي من المسكر) في حب إلاّ اُهريق ذلك الحب (9) وفي رابع غير ذلك مما ورد في الأخبار الكثيرة البالغة حدّ الاسـتفاضة ، بل يمكن دعوى القطع بصـدور بعـضها عن الأئمة (عليهم السلام) فلا  مجال للمناقشة فيها بحسب السند ، كما أن دلالتها وظهورها في نجاسة الخمر مما

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الفقيه 1 : 43 .

(2) نقله في المستمسك 1 : 399 .

(3) نقله عنه في الذكرى : 13 السطر 27 .

(4) نقله عنه في المعتبر 1 : 422 .

(5) مجمع الفائدة والبرهان 1 : 310 .

(6) المائدة 5 : 90 .

(7) الوسائل 3 : 468 / أبواب النجاسات ب 38 وفيها عدة روايات تدل على المطلب .

(8) كما في رواية زكريا بن آدم المروية في الوسائل 3 : 470 / أبواب النجاسات ب 38 ح 8 .

(9) كما في رواية عمر بن حنظلة المروية في الوسائل 25 : 341 / أبواب الأشربة المحرمة ب 18 ح 1 .

ــ[84]ــ

لا  كلام فيه .

   وفي قبالها روايات كثيرة ـ فيها صحاح وموثقات ـ وقد دلّت على طهارة الخمر بصراحتها وهي من حيث العدد أكثر من الأخبار الواردة في نجاستها ، ودعوى العلم بصدور جملة منها عن الأئمة (عليهم السلام) أيضاً غير بعيدة ، كما أنها من حيث الدلالة صريحة أو كالصريح ، حيث نفوا (عليهم السلام) البأس عن الصلاة في ثوب أصابه خمر معللاً في بعضها بأنّ الثوب لا يسكر(1) فكأنّ مبغوضية الخمر إنما هي في إسكارها المتحقق بشربها ، وأما عينها كما إذا أصاب منها الثوب مثلاً فمما لا بأس به .

  وهاتان الطائفتان متعارضتان متقابلتان فلا بد من علاجهما بالمرجحات وهي تنحصر في موافقة الكتاب ومخالفة العامة على ما قدمناه في محله (2) وكلا المرجحين مفقود في المقام ، أمّا موافقة الكتاب فلما مرّ من أنه ليس في الكتاب العزيز ما يدل على نجاسة الخمر أو طهارتها ، وأمّا مخالفة العامّة فلأنّ كلاًّ من الطائفتين موافقة للعامّة من جهة ومخالفة لهم من جهة ، فان العامة على ما نسب إليهم ـ وهو الصحيح ـ ملتزمون بنجاستها (3) وعليه فروايات الطهارة متقدمة لمخالفتها مع العامة ، إلاّ أن ربيعة الرأي

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) كما في مصححة الحسن بن أبي سارة المروية في الوسائل 3 : 471 / أبواب النجاسات ب 38 ح  10 .

(2) مصباح الاُصول 3 : 414 .

(3) في المغني لابن قدامة الحنبلي ج 10 ص 337 الخمر نجسة في قول عامة أهل العلم وفي أحكام القرآن للقاضي ابن العربي المالكي ج 2 ص 656 نفى الخلاف في نجاستها بين الناس إلاّ ما يؤثر عن ربيعة انها محرمة وهي طاهرة كالحرير عند مالك محرم مع انه طاهر . وفي الميزان للشعراني ج  1 ص 105 ادعى الاجماع على نجاستها عن غير داود حيث حكى عنه القول بطهارتها مع تحريمها . وفي فتح الباري لابن حجر العسقلاني ج 4 ص 425 انّ جمهور العلماء على ان العلة في منع بيع الميتة والخمر والخنزير النجاسة . وممن صرح بنجاستها ابن حزم في المحلى ج 1 ص 191 والنووي في المنهاج ص 15 ووافقه ابن حجر في تحفة المحتاج ج 1 ص 122 ومنهم الغزالي في الوجيز 1 ص 6 واحياء العلوم ج 1 ص 153 . والفقه على المذاهب الأربعة ج 1 ص 15 والشيرازي في المذهب ج 1 ص 53 والعيني الحنفي في عمدة    القاري ج 5 ص 606 والكاساني الحنفي في بدائع الصنائع ج 5 ص 113 . نعم ، قال النووي في المجموع ج 2 ص 563 انه لا يظهر من الآية دلالة ظاهرة على نجاسة الخمر ـ إلى أن قال : وأقرب ما يقال فيها ما ذكره الغزالي من أنه يحكم بنجاستها تغليظاً وزجراً قياساً على الكلب وما ولغ فيه .

ــ[85]ــ

الذي هو من أحد حكّامهم وقضاتهم المعاصرين لأبي عبدالله (عليه السلام) ممن يرى طهارتها .

   على أ نّا مهما شككنا في شيء فلا نشك في أن امراءهم وسلاطينهم كانوا يشربون الخمر ولا يجتنبونه ، وعليه فأخبار الطهارة موافقة للعامة عملاً فتتقدم أخبار النجاسة عليها . وعلى الجملة أن أخبار النجاسة مخالفة للعامة من حيث عملهم كما أن أخبار الطهارة مخالفة لهم من حيث حكمهم .

   فاذن لا يمكننا علاج المعارضة بشيء من المرجحين ، فلو كنّا نحن ومقتضى الصناعة العلمية لحكمنا بطهارة الخمر لا محالة ، وذلك لأ نّا إن نفينا المعارضة بين الطائفتين نظراً إلى أن إحداهما صريحة في مدلولها والاُخرى ظاهرة ، فمقتضى الجمع العرفي بينهما تقديم روايات الطهارة على أخبار النجاسة لصراحتها في طهارة الخمر ونفي البأس عن الصلاة في ثوب أصابته خمر بحمل أخبار النجاسة على الاستحباب لكونها ظاهرة في نجاستها كما في أمره (عليه السلام) بغسل الثوب الذي أصابته خمر أو إهراق المائع الذي قطرت فيه قطرة منها ، فنرفع اليد عن ظهورها في الارشاد إلى نجاسة الخمر بصراحة أخبار الطهارة في طهارتها فتحمل على الاستحباب لا محالة فلا  مناص من الحكم بطهارة الخمر .

   وإن أثبتنا التعارض بينهما وقلنا إن المقام ليس من موارد الجمع العرفي بين المتعارضين لما حررناه في محله من أن مورد الجمع العرفي بحمل الظاهر من المتقابلين على نصهما ، إنما هو ما إذا كان المتعارضان على نحو إذا ألقيناهما على أهل العرف لم يتحيروا بينهما بل رأوا أحدهما قرينة على التصرف في الآخر ، وليس الأمر كذلك في المقام ، لأنّ أمره (عليه السلام) بالإراقة والإهراق إذا انضمّ إليه نفيه (عليه السلام)

ــ[86]ــ

البأس عن الصلاة في ثوب أصابته خمر واُلقيا على أهل العرف لتحيروا بينهما لا محالة ولا يرون أحدهما قرينة على التصرف في الآخر بوجه ، فأيضاً لا بد من الحكم بطهارة الخمر لأن الطائفتين متعارضتان ولا مرجّح لاحداهما على الاُخرى، ومقتضى القاعدة هو التساقط والرجوع إلى قاعدة الطهارة وهي تقتضي الحكم بطهارة الخمر كما مرّ .

   ولكن هذا  كلّه بمقتضى الصناعة العلمية مع قطع النظر عن صحيحة علي بن مهزيار قال : «قرأت في كتاب عبدالله بن محمد إلى أبي الحسن (عليه السلام) جعلت فداك روى زرارة عن أبي جعفر وأبي عبدالله (عليهما السلام) في الخمر يصيب ثوب الرجل أنهما قالا : لا بأس بأن تصلِّي فيه إنّما حرم شربها . وروى عن (غير) زرارة عن أبي عبدالله (عليه السلام) أنه قال : إذا أصاب ثوبك خمر أو نبيذ ـ يعني المسكر ـ فاغسله إن عرفت موضعه ، وإن لم تعرف موضعه فاغسله كلّه ، وإن صليت فيه فأعد صلاتك . فاعلمني ما آخذ به ، فوقّع (عليه السلام) بخطّه وقرأته : خذ بقول أبي عبدالله (عليه السلام) »(1) وأمّا مع هذه الصحيحة فالأمر بالعكس ولا مناص من الحكم بنجاسة الخمر ، وذلك لأنّ الصحيحة ناظرة إلى الطائفتين ومبينة لما يجب الأخذ به منهما فهي في الحقيقة من أدلّة الترجيح وراجعة إلى باب التعادل والترجيح ، وغاية الأمر أنها مرجحة في خصوص هاتين المتعارضتين فلا مناص عن الأخذ بمضمونها وهي دالّة على لزوم الأخذ بقول أبي عبدالله (عليه السلام) وهو الرواية الدالة على نجاسة الخمر وعدم جواز الصلاة فيما أصابه دون رواية الطهارة ، لأنها قول الباقر والصادق (عليهما السلام) معاً وغير متمحضة في أن تكون قول الصادق (عليه السلام) وحده .

   هذا على أن الرواية الدالة على طهارة الخمر أيضاً لو كانت مرادة من قول أبي عبدالله (عليه السلام) لكان هذا موجباً لتحير السائل في الجواب، ولوجب عليه إعادة السؤال ثانياً لتوضيح مراده وأنّ قول الصادق (عليه السلام) أيّة رواية ، فانّ له (عليه السلام) حينئذ قولين متعارضين ، وحيث إن السائل لم يقع في الحيرة ولا أنه أعاد سؤاله فيستكشف منه أنه (عليه السلام) أراد خصوص الرواية الدالة على نجاسة

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 3 : 468 / أبواب النجاسات ب 38 ح 2 .

ــ[87]ــ

الخمر لأنها المتمحضة في أن تكون قوله (عليه السلام) كما مرّ .

   وبهذا المضمون رواية اُخرى عن خيران الخادم ، قال : «كتبتُ إلى الرجل (عليه السلام) أسأله عن الثوب يصيبه الخمر ولحم الخنزير أيصلّى فيه أم لا ؟ فانّ أصحابنا قد اختلفوا فيه فقال بعضهم: صلّ فيه، فانّ الله إنما حرّم شربها، وقال بعضهم: لا تصلّ فيه ، فكتب (عليه السلام) لا تصلّ فيه فانّه رجس» الحديث (1) إلاّ أنها إنما تصلح أن تكون مؤيدة للمدعى وغير صالحة للمرجحية بوجه ، لعدم كونها ناظرة إلى الطائفتين وعدم ذكر شيء منهما في الرواية ، نعم يمكن إرجـاعها إلى الصحيحة نظراً  إلى أنّ اختلاف أصحابنا إنما نشأ من اختلاف الطائفتين فكأنه (عليه السلام) حكم بترجيح أخبار النجاسة على معارضاتها ، إلاّ أنّ الرواية مع ذلك غير قابلة للاستدلال بها ، فان في سندها سهل بن زياد والأمر في سهل ليس بسهل لعدم ثبوت وثاقته في الرجال .

   والذي تحصّل عما ذكرناه في المقام أنّ الاحتمالات في المسألة أربعة :

   أحدها : تقديم أخبار النجاسة على أخبار الطهارة من جهة الصحيحة المتقدِّمة . وقد عرفت أن هذا الاحتمال هو المتعين المختار .

   وثانيها : تقديم أخبار الطهارة على روايات النجاسة من جهة الجمع العرفي المقتضي لحمل الظاهر منهما على النص أو الأظهر ، وحمل الأوامر الواردة في غسل ما  يصيبه الخمر على التنزه والاستحباب .

   وثالثها : تقديم أخبار الطهارة على أخبار النجاسة بمخالفتها للعامة بعد عدم امكان الجمع العرفي بينهما .

   ورابعها : التوقف لتعارض الطائفتين وتكافئهما فان كل واحدة منهما مخالفة للعامّة من جهة وموافقة لهم من جهة ، فأخبار الطهارة موافقة لهم عملاً ومخالفة لهم بحسب الحكم والفتوى ، كما أن روايات النجاسة موافقة معهم بحسب الحكم ومخالفة لهم عملاً فلا ترجيح في البين فيتساقطان ولا بد من التوقف حينئذ . هذه هي الوجوه المحتملة في المقام ولكنها ـ غير الوجه الأول منها ـ تندفع بصحيحة علي بن مهزيار ، حيث إن

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 3 : 469 / أبواب النجاسات ب 38 ح 4 .

ــ[88]ــ

بل كل مسكر مائع بالأصالة (1)

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

القاعدة وإن اقتضت الأخذ بأحد هذه المحتملات إلاّ أن الصحيحة منعتنا عن الجري على طبق القاعدة ودلتنا على وجوب الأخذ بروايات النجاسة وتقديمها على أخبار الطهارة لما عرفت من حكومتها على كلتا الطائفتين .

   ودعوى أنّ الصحيحة لموافقتها مع العامة بحسب الحكم أيضاً محمولة على التقيّة فهي غير صالحة للمرجحية بوجه ، مندفعة بأنّ مقتضى الأصل الأولي صدور الرواية بداعي بيان الحكم الواقعي ، ولا مسوّغ لرفع اليد عن ذلك إلاّ بقرينة كما إذا كانت الرواية معارضة برواية اُخرى تخالف العامّة ، وحيث إن الصحيحة غير معارضة بشيء فلا موجب لحملها على التقية لأنه بلا مقتض .

   هذا ، ثم إن الصحيحة قرينة على حمل أخبار الطهارة على التقية وذلك لأنها لم تنف صدور الحكم بطهارة الخمر عن الصادقين (عليهما السلام) وإنما دلت على لزوم الأخذ بما دلّ على نجاستها فبذلك لا بد من حمل أخبار الطهارة على التقية ، فلعلها صدرت موافقة لعمل اُمراء العامة وحكّامهم وسلاطينهم لبعد اجتنابهم عن الخمر كما مرّ ، فاذا سقطت أخبار الطهارة عن الاعتبار فلا محالة تبقى أخبار النجاسة من غير معارض بشيء .

   (1) لا ريب ولا إشكال في أن المسكرات المائعة بالأصالة ملحقة بالخمر من حيث حرمة شربها ، لما ورد في جملة من الأخبار من أن الله لم يحرّم الخمر لاسمها ولكن حرمها لعاقبتها (1) مضافاً إلى غيرها من الأخبار الواردة في حرمة مطلق المسكر(2) وإنما الكلام كلّه في أنها ملحقة بها من حيث نجاستها أيضاً أو أنها محكومة بالطهارة فقد يقال بنجاستها كالخمر ويستدل عليها بوجوه :

   الأوّل : الاجماع المنعقد على الملازمة بين حرمة شربها ونجاستها . ولا يخفى ما فيه

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 25 : 342 / أبواب الأشربة المحرمة ب 19 ح 1 ـ 3 .

(2) الوسائل 25 : 325 / أبواب الأشربة المحرمة ب 15 ح 1 ـ 30 .

ــ[89]ــ

لأنّ الاجماع على نجاسة نفس الخمر غير ثابت لما مرّ من ذهاب جماعة إلى طهارتها فما ظنك بنجاسة المسكر على إطلاقه . ودعوى أنّ الاجماع المدعى إجماع تقديري ومعناه أن القائل بطهارة الخمر كالأردبيلي ومن تقدمه أو لحقه لو كان يقول بنجاستها لقال بنجاسة المسكرات المائعة على إطلاقها ، مندفعة بأنها رجم بالغيب ، فمن أين علمنا بأنهم لو كانوا قائلين بنجاسة الخمر لالتزموا بنجاسة جميع المسكرات المائعة . هذا على أ نّا لو سلمنا قيام إجماع فعلي على نجاسة المسكرات لم نكن نعتمد عليه لأنه ليس إجماعاً تعبدياً كاشفاً عن قول المعصوم (عليه السلام) حيث إنّا نحتمل استنادهم في ذلك إلى الأخبار الآتية فكيف بالاجماع التقديري فهذه الدعوى ساقطة .

   الثاني : الأخبار الآمرة باهراق ماء الحب الذي قطرت فيه قطرة من المسكر كما في رواية عمر بن حنظلة «قلت لأبي عبدالله (عليه السلام) ، ما ترى في قدح من مسكر يصب عليه الماء حتى تذهب عاديته ويذهب سكره ؟ فقال : لا والله ولا قطرة قطرت في حب إلاّ اُهريق ذلك الحب» (1) والناهية عن الصلاة في ثوب أصـابه مسـكر كما في موثقة عمّار عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : «لا تصل في بيت فيه خمر ولا مسكر لأن الملائكة لا تدخله ، ولا تصل في ثوب قد أصابه خمر أو مسكر حتى تغسله» (2) وصحيحة علي بن مهزيار المتقدِّمة (3) الآمرة بالأخذ بما ورد في نجاسة النبيذ المسكر فان هذه الأخبار دلتنا على نجاسة جميع المسكرات باطلاقها وإن لم تكن خمراً .

   والجواب عن ذلك : أن رواية عمر بن حنظلة ضعيفة لعدم توثيقه في الرجال وإن عبّر عنها بالصحيحة في بعض الكلمات . نعم ، له رواية اُخرى (4) قد تلقاها الأصحاب بالقبول وعنونوها في بحث التعادل والترجيح ومن ثمة سميت بمقبولة عمر بن حنظلة ، إلاّ أن قبول رواية منه في مورد مما لا دلالة له على قبول جميع رواياته بعد ما لم ينص الأصحاب في حقه بجرح ولا تعديل ، أللّهمّ إلاّ أن يستدل على وثاقته برواية يزيد بن

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 25 : 341 أبواب الأشربة المحرمة ب 18 ح 1 .

(2) الوسائل 3 : 470 / أبواب النجاسات  ب 38 ح 7 .

(3) في ص 86 .

(4) الوسائل 27 : 106 أبواب صفات القاضي ب 9 ح 1 .

ــ[90]ــ

خليفة ، قال «قلت لأبي عبدالله (عليه السلام) : إنّ عمر بن حنظلة أتانا عنك بوقت فقال أبو عبدالله (عليه السلام) : إذن لا يكذب علينا ...» (1) لأنه توثيق له منه (عليه السلام) ، ولكنّه أيضاً مما لا يمكن المساعدة عليه لأن الرواية بنفسها ضعيفة فلا يعتمد عليها في شيء (2) .

   والصحيحة إنما دلت على نجاسـة خصوص النبيذ المسـكر ، لأنّ للنبيذ قسمين : مسكر حرام وغير مسكر حلال وقد دلت الصحيحة على نجاسة خصوص المسكر منه ، ولا دلالة لها على المدعى وهو نجاسة كل مسكر وإن لم يتعارف شربه . وأما موثقة عمّار فهي وإن كانت موثقة بحسب السند إلاّ أنها معارضة كما يأتي تفصيله ومعها لا يمكن الاستدلال بها بوجه . ونحن إنما حكمنا بنجاسة الخمر بصحيحة علي ابن مهزيار ولم نعتمد فيه على هذه الموثقة وغيرها مما ورد في نجاستها لابتلائها بالمعارض كما مر .

   هذا وقد يقال : إن الأخبار الواردة في نجاسة الخمر متقدمة على الأخبار الواردة في طهارتها ولو من جهة الصحيحة المتقدمة ، وقد قدمنا أن أخبار الطهارة محمولة على التقية بقرينة الصحيحة المذكورة ، وعليه فأخبار النجاسة التي منها موثقة عمّار مما لا  معارض له فلا مناص من العمل على طبقها ، وقد دلت الموثقة على نجاسة المسكر مطلقاً وإن لم يتعارف شربه كما في المادة الألكلية المعروفة بالاسپرتو .

   ويدفع ذلك أمران : أحدهما : أن المسكر ينصرف إلى المسكرات المتعارف شربها وأما ما لم يتعارف شربه بين الناس أو لم يمكن شربه أصلاً ـ وإن كان يوجب الاسكار على تقدير شربه ـ فهو أمر خارج عن إطلاق المسكر في الموثقة ، ولا سيما بلحاظ عدم تحققه في زمان تحريم الخمر والمسكر لأنه إنما وجد في الأعصار المتأخرة ، فدعوى انصراف المسكر عن مثله ليست بمستبعدة . وقد ادعى بعض المعاصرين في هامش تقريره لبحث شيخنا الاُستاذ (قدس سره) أن ما ورد في المنع عن بيع الخمر والمسكر

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 4 : 133 أبواب المواقيت ب 5 ح 6 .

(2) وذلك لأنّ يزيد بن خليفة واقفي ولم تثبت وثاقتـه ، على أنّ في سـندها محمّد بن عيسى عن يونس وهو مورد الكلام في الرجال .

ــ[91]ــ

من الروايات منصرفة عن المادة المعروفة بالألكل وأن المطلقات إنما تشمل المسكرات المتعارفة التي هي قابلة للشرب دون ما لم يتعارف شربه .

   وثانيهما : أن الموثقة معارضة فان الأخبار الواردة في الخمر والمسكر على طوائف أربع : الاُولى والثانية : ما دلّ على نجاسة الخمر وما دلّ على طهارتها . الثالثة : ما ورد في طهارة المسكر مطلقاً وهو موثقة ابن بكير قال : «سأل رجل أبا عبدالله (عليه السلام) وأنا عنده عن المسكر والنبيذ يصيب الثوب، قال: لا بأس»(1) . الرابعة : ما ورد في نجاسة مطلق المسكر كما في موثقة عمّار والصحيحة المتقدِّمة ، وقد أسلفنا أن ما دلّ منها على نجاسة الخمر متقدمة على معارضتها للصحيحة المتقدِّمة ، وأمّا ما دلّ على نجاسة مطلق المسكر وطهارته فهما متعارضان ولا مرجّح لأحدهما على الآخر ، لأن فتـوى العامّة وعملهم في مثل المسكر غير المتعارف شربه غير ظاهـرين فالترجـيح بمخالفة العامّة غير ممكن ولا مناص معه من الحكم بتساقطهما والرجوع إلى قاعدة الطهارة ، وهي تقتضي الحكم بطهارة كل مسكر لا يطلق عليه الخمر عرفاً .

   الثالث : ما ذكره صاحب الحدائق (قدس سره) (2) من أن الخمر ليست اسماً لخصوص مائع خاص بل يعمه وجميع المسكرات لأنها حقيقة شرعية في الأعم ، فان الخمر ما يخامر العقل كان هو المائع المخصوص أو غيره مما يوجب الاسكار ، وقد ورد في تفسير الآية المباركة (إنّما الخمر والميسر ... )(3) أنّ كل مسكر خمر(4) . ويتوجّه عليه أن الوجه في تسمية الخمر خمراً وإن كان هو ما نقله عن بعض أهل اللّغة من أنه يخامر العقل ويخالطه (5) إلاّ أنه لم يدلّنا دليل على أن كل ما يخامر العقل خمر أو نجس

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 3 : 471 / أبواب النجاسات ب 38 ح 11 .

(2) الحدائق 5 : 112 .

(3) المائدة 5 : 90 .

(4) علي بن إبراهيم في تفسيره [ تفسير القمي 1 : 180 ] عن أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله تعالى (إنما الخمر والميسر ) الآية . «أما الخمر فكل مسكر من الشراب إذا أخمر فهو خمر ...» المروية في الوسائل 25 : 280 / أبواب الأشربة المحرمة ب 1 ح 5 .

(5) الحدائق 5 : 115 .

ــ[92]ــ

لأنّ البنج أيضاً يخامر العقل إلاّ أنه ليس بخمر ولا أنه نجس . وأما ما ورد في تفسير الآية المباركة فهو مما لا دلالة له على نجاسة الخمر حتى يدل على نجاسة كل مسكر وإنما يدل على أن الخمر رجس يجب الاجتناب عنه ، ولا نخصِّص هذا بالخمر بل نلتزم أنّ كل مسكر رجس .

   الرابع : الأخبار الواردة في نجاسة النبيذ المسكر ، وهي جملة من الروايات وقد عطف النبيذ المسكر في بعضها على الخمر (1) فيستكشف من ذلك أن النجاسة تعم الخمر وغيرها من المسكرات ، مضافاً إلى ما ورد من أن للخمر أقساماً وأنها لا تختص بما صنع من عصير العنب كما في صحيحة عبدالرحمن بن الحجّاج «قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : الخمر من خمسة : العصير من الكرم ، والنقيع من الزبيب ، والبتع من العسل ، والمرز من الشعير ، والنبيذ من التمر»(2) . وعليه فلا فرق في النجاسة بين الخمر وبين غيرها من المسكرات .

   والجواب عن ذلك : أنّ الروايات المشتملة على عطف النبيذ المسكر على الخمر إنما دلّت على حرمة النبيذ أو على نجاسته ، إمّا من جهة أنه أمر خارج عن حقيقة الخمر ولكنه أيضاً محكوم بحرمته ونجاسته ـ كما لعلّه الصحيح ـ حيث إنّ مجرّد إلقاء مقدار من التمر في ماء ومضي مقدار من الزمان على ذلك لا يكفي في صيرورة الماء خمراً لأنها تحتاج إلى صنعة خاصة ، فلو كان ذلك كافياً في صنعها لتمكن كل شارب من إيجادها وصنعها في بيته ولم يكن لغلاء ثمنها وجه ، فالنبيذ خارج عن الخمر حقيقة إلاّ أن الدليل دلّ على حرمته ونجاسته . وإما من جهة أنه خمر في الحقيقة وإنما خصّوه بالذكر من بين أفرادها من باب التعرض لبيان الفرد الخفي لخفاء كونه منها ، وعلى أي حال لا  دلالة لها على أن كل مسكر نجس .

   وأمّا ما دلّ على أن للخمر أقساماً متعددة فهو أيضاً كسابقه مما لا دلالة له على نجاسة كل مسكر ، وإنما يدل على تعدّد مصاديق الخمر وعدم انحصارها بما يصنع من

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 3 : 468 / أبواب النجاسات ب 38 ذيل الحديث 2 ، 3 ، 8 .

(2) الوسائل 25 : 280 / أبواب الأشربة المحرمة ب 1 ح 3 .

ــ[93]ــ

العصير العنبي ، وهذا أمر لا ننكره بوجه ونسلّم النجاسة في كل ما صدق عليه عنوان الخمر خارجاً ، كيف ولعل الخمر من العنب لم يكن له وجود في زمان نزول الآية المباركة أصلاً ولا في زمانه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وإنما كان المتعارف غيرها من أفرادها . وعلى الجملة لا إشكال في نجاسة كل ما صدق عليه أنه خمر خارجاً وإنما كلامنا في نجاسة المسكر الذي لا يصدق عليه أنه خمر ، وقد عرفت أنه لا دلالة في شيء من الأخبار المتقدمة على نجاسته .

   الخامس : الأخبار الواردة في أن كل مسكر خمر وكل خمر حرام (1) . والجواب عنها أن الأخبار المستدل بها مضافاً إلى ضعف أسنادها قاصرة الدلالة على هذا المدعى لأن الظاهر المستفاد من قران قوله : «كل خمر حرام» لقوله «كل مسكر خمر» أن التشبيه والتنزيل إنما هما بلحاظ الحرمة فحسب لا أن المسكر منزّل منزلة الخمر في جميع آثاره وأحكامه . ولقد انتج ما تلوناه عليك في المقام أن المادة المعروفة بالألكل والاسپرتو التي يتخذونها من الأخشاب وغيرها لا يمكن الحكم بنجاستها ، حيث لا  يصدق عليها عنوان الخمر عرفاً وإن كانت مسكرة ـ كما قيل ـ وأما المتخذة من الخمر المعبّر عنها بـ  (جوهر الخمر) التي تتحصل بتبخيرها وأخذ عرقها فهي أيضاً كسابقتها غير محكومة بالنجاسة بوجه ، لما قدمناه في محله من أن التبخير يوجب الاستحالة وهي تقتضي الطهارة كما في بخار البول وغيره من الأعيان النجسة(2) وعليه فاذا اُخذ بخار الخمر ولم يلاقه شيء من الأعيان النجسة فمقتضى القاعدة الحكم بطهارته ، لأنّ الألكل لا يسمّى عندهم خمراً كما أنه ليس بخمر حقيقة لفرض استحالته وإن كان مسكراً على تقدير شربه . هذا كلّه على طبق القاعدة إلاّ أن الاجماع التقديري المتقدِّم في صدر المسألة وانعقاد الشهرة الفتوائية على نجاسة جميع المسكرات أوقفـنا عن الحكم بطهارة غير الخمر من المسـكرات التي يتعـارف شربها وألزمـنا

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) كما في رواية عطاء بن ياسر عن أبي جعـفر (عليه السلام) قال : «قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : كلّ مسكر حرام وكل مسكر خمر» . إلى غير ذلك من الأخبار المروية في الوسائل 25 : 336 / أبواب الأشربة المحرمة ب 15 ح 5 وغيرها .

(2) في المسألة [ 365 ]  .

ــ[94]ــ

وإن صار جامداً بالعرض (1) لا الجامد (2) كالبنج ، وإن صار مائعاً بالعرض .

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

بالاحتياط اللاّزم في المقام .

   (1) لا إشكال في أن الخمر أو المسكر ـ على تقدير القول بنجاسته ـ إذا جفت وانعدمت بتبدلها هواءً لا يحكم بنجاستها لارتفاع موضوعها . نعم ، الآنية الملاقية لهما قبل انعدامهما متنجسة فلا بدّ من غسلها ثلاث مرّات كما يأتي في محلّه (1) . هذا فيما إذا انعدمت الخمر ولم تبق لها مادة بعد صيرورتها هواء ، وأما إذا جفت وصارت كالرُبّ لأجل ما فيها من المواد أو انجمدت ـ كما ينجمد الماء ـ على تقدير تحقّق الانجماد في مثل الخمر والألكل ونحوهما فلا ينبغي التردد في نجاسة الجامد منها ، لوضوح أن الجفاف والانجماد ليسا من المطهرات ، وقد كانت المادة جزءاً من الخمر أو المسكر قبل جفافهما وكانت محكومة بالنجاسة حينئذ ولم يرد عليها مطهر شرعي فيحكم بنجاستها لا محالة . نعم ، يمكن أن يزول عنها إسكارها لأنه من خواص المواد الألكلية الموجـودة في الخمر وهي سريعة الفناء وتنقلب هواء في أسرع الزمـان إلاّ أن ذلك لا يوجب الحكم بطهارة المادة اليابسة ، لما عرفت من أنها كانت جزءاً من الخمر قبل الجفاف ولم يرد عليها مطهر بعد الجفاف . هذا كلّه في المسكر المائع بالأصالة الذي صار جامداً بالعرض .

   (2) بالأصالة وإن انقلب مائعاً بالعرض ، وهل يحكم بنجاسته ؟ بعد الفراغ عن حرمته لقوله (عليه السلام) : «إن الله سبحانه لم يحرِّم الخمر لاسمها ولكن حرّمها لعاقبتها ...» كما تقدّم(2) وغيره من الأخبار الواردة في حرمة المسكر على إطلاقه ، فان اعتمدنا في الحكم بنجاسة المسكر المائع بالأصالة على الاجماع المدعى في المسألة ، فمن الظاهر أنه لا إجماع على النجاسة في المسكرات الجامدة بالأصالة فلا يمكن الحكم بنجاسة الجوامد من المسكرات . كما أنه إذا قلنا بنجاسة المسكرات المائعة من جهة أنها

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) في المسألة  [ 314 ] .

(2) في ص 88  .

ــ[95]ــ

   [ 202 ] مسألة 1 : ألحقَ المشهور بالخمر العصير العنبي إذا غلى قبل أن يذهب ثلثاه وهو الأحوط وإن كان الأقوى طهارته (1) .

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

خمر حقيقة لأنها اسم وحقيقة شرعية لكل ما يخامر العقل ويستره كما ادعاه صاحب الحدائق (قدس سره) (1) ، فأيضاً لا سبيل إلى الحكم بنجاسة المسكر الجامد للقطع الوجداني بعدم كونه خمراً ، لأنها على تقدير كونها اسماً لكل مسكر لا لمسكر خاص فانما تختص بالمسكرات المشروبة دون المأكولة ، فانّ البنج لا تطلق عليه الخمر أبداً .

   وأمّا إذا بنينا على نجاسـة المسـكر المائع بقوله (عليه السلام) «كلّ مسكر حرام» و «كلّ مسكر خمر» (2) فهل يمكـننا الحكم بنجاسة المسكر الجامد بدعـوى أنه خمر تنزيلية ؟ الصحيح : لا ، وذلك أمّا أوّلاً فلأجل ضعف سندها كما مرّ ، وأمّا ثانياً فلأجل أنّ التنزيل ـ إن تمّ ولم نناقش فيه بما مرّ ـ فانما يتم فيما يناسب التنزيل والتشـبيه والذي يناسب أن ينزّل منزلة الخمر إنما هو المسكرات المائعة دون الجوامد لبعد تنزيل الجامد منزلة المائع ، فهل ترى من نفسك أن لبس لباس إذا فرضناه موجباً للإسـكار يصحّ أن يقال إنّ اللبس خمر ؟ هذا كلّه على أنّ المسألة اتفاقيّة ولم يذهب أحد إلى نجاسة المسكر الجامد .

   (1) العصير على ثلاثة أقسام : العنبي والتمري والزبيبي .

   أما العصير العنبي ففي نجاسته بالغليان قبل أن يذهب ثلثاه قولان معروفان في الأعصار المتأخرة أحدهما : أنه ملحق بالخمر من حيث نجاسته وحرمته ، وذهاب الثلثين مطهّر ومحلل له . وثانيهما : أنه ملحق بالخمر من حيث حرمته فحسب فذهاب ثلثيه محلل فقط . هذا وعن المستند أن المشهور بين الطبقة الثالثة ـ يعني طبقة متأخري المتأخرين ـ الطهارة ، والمعروف بين الطبقة الثانية ـ أي المتأخِّرين ـ النجاسة (3) .

 ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) تقدّم في ص 91 .

(2) الوسائل 25 : 326 / أبواب الأشربة المحرمة ب 15 ح 5 .

(3) مستند الشيعة 1 : 214 .

ــ[96]ــ

   وأمّا الطبقة الاُولى ـ وهم المتقدِّمون ـ فالمصرح منهم بالنجاسة إما قليل أو معدوم ، وعليه فدعوى الاجماع على نجاسة العصير العنبي إذا غلى ولم يذهب ثلثاه ساقطة ، كيف ولم يتحقق الاجماع على نجاسة الخمر فما ظنك بنجاسة العصير ، لما عرفته من الخلاف فيها بين الطبقات . ومما يؤيد ذلك بل يدل عليه أن صاحبي الوافي (1) والوسائل (2) لم ينقلا روايات العصـير في باب النجاسات وإنما أورداها في باب الأشربة المحرمة ، فلو كان العصير العنبي كالخمر من أحد النجاسات لنقلا رواياته في بابها كما نقلا أخبار الخمر كذلك ، ولم يكن لترك نقلها في باب النجاسات وجه صحيح .

   وأمّا الاستدلال على نجاسته بما استدل به على نجاسة المسكر ففيه مضافاً إلى عدم استلزام الغليان الاسكار ، ما قدّمناه من عدم تماميته في نفسه وعدم ثبوت نجاسة كل مسكر كما مرّ . نعم ، لا كلام في حرمة شرب العصير العنبي إذا غلى ولم يذهب ثلثاه إلاّ أنها أجنبية عما نحن بصدده في المقام . وما ورد في بعض الروايات من أنه لا خير في العصير إن طبخ حتى يذهب ثلثاه وبقي منه ثلث واحد (3) لا دلالة له على نجاسته بوجه لأن خيره شربه فاذا غلى يصح أن يقال إنه لا خير فيه حتى يذهب ثلثاه لحرمة شربه قبل ذهابهما ، وذلك لوضوح أن الخير فيه لا يحتمل أن يكون هو استعماله في رفع الحدث أو الخبث ـ ولو قلنا بطهارته ـ لأنه ليس بماء ، فنفي الخير عنه نفي للأثر المرغوب منه وهو الشرب وقد عرفت صحته . ومن المضحك الغريب الاستدلال على نجاسة العصير بعد غليانه بما ورد في جملة من الأخبار من منازعة آدم وحواء ونوح (عليهم السلام) مع الشيطان (لعنه الله تعالى) في عنب غرسه آدم وما غرسه نوح (عليه السلام) وأن الثلثين له والثلث لآدم أو نوح (4) فالسـنّة جرت على ذلك ، أو

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوافي 20 : 651 .

(2) الوسائل 25 : 279 / أبواب الأشربة المحرمة ب 1 ح 1 ، 3 وغيرهما .

(3) كما في روايتي أبي بصير ومحمد بن الهيثم المرويتين في الوسائل 25 : 285 / أبواب الأشربة المحرمة ب 2 ح 6 ، 7 .

(4) الوسائل 25 : 282 / أبواب الأشربة المحرمة ب 2 ح 2 ، 4 وغيرهما .

ــ[97]ــ

بما  ورد من أن الخمر يصنع من عدة اُمور منها العصير من الكرم (1) وذلك لأنها أجنبية عن الدلالة على نجاسة العصير رأساً .

   وعليه فالمهم في الاستدلال على نجاسته موثقة معاوية بن عمّار المروية عن الكافي والتهذيب ، قال : «سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن الرجل من أهل المعرفة بالحق ـ  يعني به الشـيعة  ـ يأتيني بالبخـتج ويقول : قد طبخ على الثلث ، وأنا أعرف أنه يشربه على النصف أفأشربه بقوله وهو يشربه على النصف ؟ فقال : خمر لا تشربه ، قلت : فرجل من غير أهل المعرفة يشربه على الثلث ، ولا يستحله على النصف يخبرنا أن عنده بختجاً قد ذهب ثلثاه وبقي ثلثه يشرب منه ؟ قال : نعم» (2) حيث دلتنا هذه الموثقة على عدم الاعتناء بقول ذي اليد وإخباره عن ذهاب ثلثي العصير وأن المناط في سماع قوله اعتقاده وعمله ، فان كان معتقداً بجواز شربه على النصف وكان عمله أيضاً شربه عليه فلا يعتد باخباره ، وأما إذا اعتقد جوازه على الثلث كما أن عمله كان شربه على الثلث فيعتمد على إخباره . كما دلتنا على أن العصير العنبي ـ بعد غليانه وقبل أن يذهب ثلثاه ـ خمر تنزيلية فيترتب عليه ما كان يترتب عليها من أحكامها وآثارها التي منها نجاستها ، لأنّ البختج ـ على ما فسروه ـ بمعنى «پخته» فالمراد منه هو العصير العنبي المطبوخ .

   هذا وقد نوقش في الاستدلال بها من وجوه :

   الأوّل : أنّ البختج لم يثبت أنه بمعنى مطلق العصير المطبوخ وإن فسّره به جمع منهم المحدِّث الكاشـاني (قدس سره) (3) بل الظاهر أنه عصير مطبـوخ خاص وهو الذي يسمّى عندنا بالرُبّ  كما في كلام المحقق الهمداني (قدس سره) (4) ومن الحتمل القوي أن يكون هذا القسم مسكراً قبل استكمال طبخه ، وعليه فغاية ما تقتضيه هذه الموثقة

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 25 : 279 / أبواب الأشربة المحرمة ب 1 ح 1 ، 3 .

(2) الكافي 6 : 421 / 7 ، التهذيب 9 : 122 / 526 ، الوسائل 25 : 293 / أبواب الأشربة المحرمة ب  7 ح 4 .

(3) الوافي 20 : 654 .

(4) مصباح الفقيه (الطهارة) : 551 السطر 35 .

ــ[98]ــ

تنزيل خصوص هذا القسم من العصير منزلة الخمر بجامع إسكارهما ، ولا نضايق نحن من الالتزام بنجاسة القسم المسكر منه للموثقة ، وأما مطلق العصير العنبي المطبوخ ـ  وإن لم يكن مسكراً ـ فلا دلالة لها على نجاسته بوجه .

   ويدفعه : أن تفسير البختج بالقسم المسكر من العصير المطبوخ مخالف صريح لما حكم به (عليه السلام) في ذيل الموثقة من طهارته وجواز شربه إذا كان المخبر ممن يعتقد حرمة شربه على النصف وكان عمله جارياً على الشرب بعد ذهاب الثلثين . والوجه في المخالفة أن البختج لو كان هو القسم المسكر من العصير لم يكن وجه لحكمه (عليه السلام) بطهارته وجواز شربه عند اخبار من يعتبر قوله بذهاب الثلثين ، لأن ذهابهما وإن كان مطهّراً للعصير ـ لو قلنا بنجاسته ـ أو محللاً له إلاّ أنه لا يكون مطهراً للمسكر أبداً لأنه محكوم بنجاسته وحرمة شربه ذهب ثلثاه أم لم يذهبا ، فمن هذا نستكشف أن البختج ليس بمعنى القسم المسكر من العصير ، وإنما معناه مطلق العصير المطبوخ كما فسّره به جماعة . وظني ـ وإن كان لا يغني من الحق شيئاً ـ أن البختج معرّب «پختك» والكاف في الفارسية علامة التصغير فمعنى «پختك» حينئذ ما طبخ طبخاً غير تام وهو الذي لم يذهب ثلثاه ، ثم اُبدل الكاف بالجيم كما هو العادة في تعريب الألفاظ الأجنبية ، فان أواخرها إذا كانت مشتملة على لفظة كاف تتبدل بالجيم كما في البنفسج الذي هو معرّب «بنفشك» ، فالنتيجة أن البختج بمعنى العصير المطبوخ فهذه المناقشة غير واردة .

   الثاني : أنّ الرواية ـ على ما رواه الكليني (قدس سره) ـ غير مشتملة على لفظة «خمر» بعد قوله فقـال ، وإنما تشـتمل على قوله (عليه السلام) لا تشربه ، وعليه فلا  دلالة لها على نجاسة العصير وإنما تدل على حرمة شربه فحسب . نعم ، نقلها الشيخ (قدس سره) في تهذيبه مشتملة على لفظة خمر فالرواية هكذا : فقال : خمر لا  تشربه ، وان لم ينقل هذه اللّفظة في شيء من الوافي والوسائل مع إسنادهما الرواية إلى الشيخ أيضاً .

   ومن هنا تعجب في الحدائق من صاحبي الوافي والوسائل حيث نقلا الرواية عن

ــ[99]ــ

الكليني غير مشتملة على لفظة خمر ونسباها إلى الشيخ أيضاً مع أن رواية الشيخ مشتملة عليها (1) ، فعلى هذا فالرواية وإن دلت على نجاسة العصير قبل ذهاب ثلثيه إلاّ أن رواية الشيخ معارضة برواية الكليني ، وأصالة عدم الزيادة وإن كانت تتقدم على أصالة عدم النقيصة لبناء العقلاء على العمل بالزيادة ، لأن أصالة عدم الغفلة في طرف الزيادة أقوى عن أصالة عدم الغفلة في طرف النقيصة فان الانسان قد ينسى فينقص لفظة أو لفظتين مثلاً ، وأما أنه ينسى فيضيف على الرواية كلمة أو كلمتين فهو من البعد بمكان ، ومقتضى هذا تقديم رواية الشيخ على رواية الكليني (قدس سرهما) إلاّ أن أضبطية الكليني في نقل الحديث تمنعنا عن ذلك ، لأن الشيخ (قدس سره) كما شاهدناه في بعض الموارد ونقله غير واحد قد ينقص أو يزيد ، ومعه أصالة عدم الغفلة في رواية الكليني لا يعارضها أصالة عدمها في رواية الشيخ فتتقدم رواية الكافي على رواية التهذيب وبه يثبت عدم اشتمال الرواية على لفظة خمر، أو أنّ الروايتين تتعارضان ومعه لا مناص من الرجوع إلى قاعدة الطهارة في العصير قبل ذهاب ثلثيه .

   هذا على أن أصالة عدم الزيادة إنما تتقدم على أصالة عدم النقيصة فيما إذا كان ناقلها ساكتاً وغير ناف للزيادة ، وهذا كما إذا دلت إحدى الروايتين على استحباب شيء يوم الجمعة من دون أن تنفي استحبابه في غيره مثلاً ودلت الاُخرى على استحبابه يوم الجمعة وليلتها فحينئذ يؤخذ بالزيادة لبناء العقلاء كما مر ، وأما إذا كان ناقل النقيصة نافياً للزيادة كما أن راوي الزيادة مثبت لها ـ كما هو الحال في المقام لأن الناقل بنقله النقيصة ينفي اشتمال الرواية على الزيادة ـ فلا وجه لتقديم المثبت على النافي فهما متعارضتان ، فلا بد من المراجعة إلى قاعدة الطهارة وهي تقتضي الحكم بطهارة العصير حينئذ .

   هذا  كلّه بناءً على أن رواية الشيخ في تهذيبه مشتملة على زيادة لفظة «خمر» ، وأمّا إذا بنينا على عدم اشتمالها على الزيادة نظراً إلى أن صاحبي الوافي والوسائل من مهرة فن الحديث ومن أهل الخبرة والتضلع فيه ، ومعه إذا نقلا الرواية عن الشيخ في تهذيبه

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الحدائق 5 : 124 .

ــ[100]ــ

غير مشتملة على لفظة خمر فلا محالة يكون ذلك كاشفاً عن أن الكتاب المذكور غير مشتمل عليها وإن اشتمل عليها بعض نسخه ، فلا يرد عليهما ما أورده صاحب الحدائق (قدس سره) من اشتباهما في نقل الحديث ، وقد ذكرنا في محلّه أن التعارض من جهة اختلاف النسخ خارج عن موضوع تعارض الروايتين لأنه من اشتباه الحجة بلا حجة كما أشرنا إليه في بحث التعادل والترجيح (1) حيث إنّا إنما نعتمد على رواية الكافي أو الوسائل أو غيرهما للقطع بأن الأول للكليني والثاني للحر العاملي وهما ثقتان ورواياتهما حجة معتبرة ، فاذا اشتبهت النسخ واختلفت فنشك في أن ما رواه المخبر الثقة هل هو هذه النسخة أو تلك فهو من اشتباه الحجّة بلا حجّة الموجب لسقوط الرواية عن الاعتبار ، فالأخذ برواية الكليني أوضح ، إذ لم تثبت رواية الشيخ لا مع الزيادة ولا بدونها لسقوطها عن الاعتبار من جهة اشتباه الحجة بلا حجة ، ومعه تبقى رواية الكليني من غير معارض وقد مرّ أنها غير مشـتملة على لفظة خمر فلا دلالة لها على نجاسة العصـير قبل ذهاب ثلثيه وإنما تستفاد منها حرمته فحسب هذا .

   والصحيح اشتباه الوافي والوسائل في نقلهما ، فان الظاهر أن التهذيب مشتمل على الزيادة لكثرة نقلها عن الشيخ في تهذيبه وهي تكشف عن أن أكثر نسخ الكتاب مشتمل على الزيادة ، فلو كانت عندهما نسخة غير مشتملة عليها فهي نسخة غير دارجة ولا معروفة ، فلا بد من أن ينبّها على أن النقيصة من جهة النسخة غير المعروفة الموجودة عندهما ، فحيث لم ينبّها على ذلك بوجه فدلنا هذا على اشتمال النسخة الموجودة عندهما أيضاً على الزيادة المذكورة وإنما تركا نقلها اشتباهاً برواية الكليني (قدس سره) ، وعليه فالروايتان متعارضتان ولا مناص من الحكم بتساقطهما والرجوع إلى قاعدة الطهارة وهي تقتضي الحكم بطهارة العصير حينئذ .

   الثالث : أن تنزيل شيء منزلة شيء آخر قد يكون على وجه الاطلاق ومن جميع الجهات والآثار ففي مثله يترتب على المنزّل جميع ما كان يترتب على المنزل عليه من

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) مصباح الاُصول 3 : 422 .

 
 

ــ[101]ــ

أحكامه وآثاره ، كما إذا ورد : العصير خمر فلا تشربه أو قال : لا تشرب العصير لأنه خمر ، لأنّ لفظة «فاء» ظاهرة في التفريع وتدل على أن حرمة الشرب من الاُمور المتفرعة على تنزيل العصير منزلة الخمر مطلقاً ، وكذلك الحال في المثال الثاني لأنه كالتنصيص بأن النهي عن شربه مستند إلى أنه منزّل منزلة الخمر شرعاً ، وبذلك يحكم بنجاسة العصير لأنها من أحد الآثار المترتبة على الخمر .

   وقد يكون التنزيل بلحاظ بعض الجهات والآثار ولا يكون ثابتاً على وجه الاطلاق كما هو الحال في المقام ، لأن قوله (عليه السلام) «خمر لا تشربه» إنما يدل على أن العصير منزّل منزلة الخمر من حيث حرمته فحسب ، ولا دلالة له على تنزيله منزلة الخمر من جميع الجهات والآثار وذلك لعدم اشتماله على لفظة «فاء» الظاهرة في التفريع ، حيث إن جملة «لا تشربه» وقوله «خمر» بمجموعهما صفة للعصير أو من قبيل الخبر بعد الخبر أو أنها نهي ، وعلى أي حال لا دلالة له على التفريع حتى يحكم على العصير بكل من النجاسة والحرمة وغيرهما من الآثار المترتبة على الخمر .

   فتحصّل أنّ الصحيح هو القول الثاني ، ولا دليل على نجاسة العصير بالغليان كما هو القول الآخر .

   هذا وقد يفصّل في المسألة بين ما إذا كان غليان العصير مستنداً إلى النار فيحكم بحرمته ويكون ذهاب ثلثيه محللاً حينئذ ، وبين ما إذا استند إلى نفسه أو إلى حرارة الهواء أو الشمس فيحكم بنجاسته إلاّ أن ذهاب الثلثين حينئذ لا يرفع نجاسته ، لأنّ حاله حال الخمر فلا يطهّره إلاّ تخليله . وهذا التفصيل نسب من القدماء إلى ابن حمزة في الوسيلة (1) واختاره شـيخنا شيخ الشريعة الاصفهاني (قدس سره) في رسـالته إفاضة القدير التي صنفها في حكم العصير ، وقد  نسبه إلى جماعة منهم ابن ادريس(2) والشيخ الطوسي في بعض كلماته(3) .

 ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسيلة : 365 .

(2) السرائر 3 : 130 .

(3) النهاية : 591 .

ــ[102]ــ

   واستدلّ عليه تارة بما يرجع حاصله إلى المنع الصغروي ، حيث ذكر أنّ العصير العنبي إذا نش وغلى بنفسه ـ ولو بمعونة أمر خارجي غير منفرد في الاقتضاء كالشمس وحرارة الهواء ونحوهما ـ كما إذا مضت عليه مدّة لا محالة يصير مسكراً ، لأنه ببقائه مدة من الزمان يلقى الزبد وتحدث فيه حموضة وهي التي يعبّر عنها في الفارسية بـ «ترشيدن» فبه ينقلب مسكراً حقيقياً ، وهو إذن من أحد أفراد الخمر والمسكر ولا اشكال في نجاسة الخمر كما مر . والتكلم في الصغريات وإن كان خارجاً عن الأبحاث العلمية إلاّ أن ما أفاده (قدس سره) لو تمّ وثبت اقتضى التفصيل في المسألة من دون حاجة إلى اقامة الدليل والبرهان عليه ، لأن ما قدمناه من الأدلة على نجاسة الخمر يكفينا في الحكم بنجاسة العصير إذا غلى من قبل نفسه لأنه فرد من أفراد الخمر حينئذ ، إلاّ أنه لم يثبت عندنا أن العصير إذا غلى بنفسه ينقلب خمراً مسكراً كما لم يدع ذلك أهل خبرته وهم المخلِّلون وصنّاع الخل والدبس ، بل المتحقق الثابت خلافه ، فانّ صنع الخمر وإيجادها لو كان بتلك السهولة لم يتحمّل العقلاء المشقّة في تحصيلها من تهيئة المقدّمات والمؤونات وبذل الأموال الطائلة في مقابلها ، بل يأخذ كل أحد مقداراً من العصير ثم يجعله في مكان فاذا مضت عليه مدّة ينقلب خمراً مسكراً . نعم ، ربما ينقلب العصير الذي وضع لأجل تخليله خمراً ، إلاّ أنه أمر قد يتّفق من قبل نفسه وقد لا يتّفق .

   واُخرى منع عن كبرى نجاسة مطلق العصير بالغليان ، وعمدة ما اعتمد عليه في ذلك أمران :

   أحدهما : دعوى أن كل رواية مشتملة على لفظة الغليان من الأخبار الواردة في حرمة العصير إنما دلت على أنه لا خير في العصير إذا غلى أو لا تشربه إذا غلى أو غيرهما من المضامين الواردة في الروايات ، إلاّ أن الحرمة أو النجاسة ـ  على تقدير القول بها  ـ غير مغياة في تلك الأخبار بذهاب الثلثين أبداً ، وعليه فلا دلالة في شيء منها على أن الحكم الثابت على العصير بعد غليانه يرتفع بذهاب ثلثيه بل ليس من ذلك في الروايات عين ولا أثر ، كما أن كل رواية اشتملت على التحديد بذهاب الثلثين فهي مختصّة بالعصير المطبوخ أو ما يساوقه كالبختج والطلا ، والجامع ما يغلى بالنار .

ــ[103]ــ

   فهذه الأخبار قد دلّتنا على أنّ العصير المطبوخ الذي يستند غليانه إلى النار ـ  دون مطلق العصير المغلي  ـ إذا ذهب عنه ثلثاه وبقي ثلثه فلا بأس به ، ولا دلالة في شيء منها على عدم البأس في مطلق العصير المغلي إذا ذهب عنه ثلثاه ، فمن ذلك يظهر أن ذهاب الثلثين محلل للعصير الذي استند غليانه إلى الطبخ بالنار ولا نجاسة فيه أبداً وأمّا ما استند غليانه إلى نفسه ـ ولو بمعونة أمر خارجي غير منفرد في الاقتضاء كالشمس وحرارة الهواء ـ فذهاب الثلثين فيه لا يكون موجباً لحليته ولا مزيلاً لنجاسته ، فبذلك نبني على أن العصير إذا غلى بنفسه فهو نجس محرّم شربه ولا يرتفع شيء من نجاسته وحرمته إلاّ بانقلابه خلا كما هو الحال في الخمر ، وسرّه أنّ الغليان في الطائفة الاُولى من الروايات ـ وهي الأخبار المشتملة على حرمة العصير أو نجاسته بغليانه ـ لم يذكر له سبب ، وكلّ وصف لشيء لم يذكر استناده إلى سبب فالظاهر أنه مما يقتضيه نفس ذلك الشيء بمادّته .

   وعليه فالروايات ظاهرة في أنّ الغليان المنتسب إلى نفس مادة العصير ـ ولو بمعونة أمر خارجي ـ هو الذي يقتضي نجاسته دون الغليان المنتسب إلى النار ، وبهذا صحّ التفصيل المتقدم ذكره ، ومعه لا وجه لما عن المحقق الهمداني وغيره من عدم استناد ذلك إلى دليل ، حيث ذكر المحقِّق المذكور ـ بعد نقله التفصيل المتقدِّم ذكره عن ابن حمزة في الوسيلة ـ أنه لم يعلم مستنده (1) .

   ودعوى: أنّ هذه النكتة في الروايات ـ ذكر السبب وعدمه ـ قضيّة اتفاقية لا يناط بها الحكم الشرعي ـ كما عن بعض معاصريه ـ مندفعة بأنّ النكات والدقائق التي أعملها الأئمة (عليهم السلام) في كلماتهم مما لا مناص من أخذها كما يجب الأخذ بأصلها (2) . هذه خلاصة ما أفاده (قدس سره) في الأمر الأول من استدلاله بعد ضم بعض كلماته ببعض وزيادة منّا لتوضيح المراد .

   ولكن لا يمكننا المساعدة على هذه الدعوى بوجه، لأنها مما لا أصل له حيث إنّ

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) مصباح الفقيه (الطهارة) : 552 السطر 31 .

(2) إفاضة القدير : 16 ـ 35 .

ــ[104]ــ

الأخبار المشتملة على لفظة الغليان مما دلّ على حرمة العصير أو نجاسته وإن لم يغي فيها الحكم بذهاب الثلثين ، إلاّ أن عدم ذكر السبب للغليان لا يقتضي استناده إلى نفس العصير ، لأنه دعوى لا شاهد لها من العرف ولا من كلمات أهل اللّغة ، كيف فان عدم ذكر السبب يقتضي الاطلاق من حيث أسبابه فلا يفرق بين استناده إلى نفسه أو إلى النار أو غيرهما ، فالمراد بالغليان في حسنة حماد عن أبي عبدالله (عليه السلام) «لا  يحرم العصير حتى يغلي» (1) وفي خبره الآخر : «تشرب ما لم يغل فاذا غلى فلا  تشربه»(2)  أعم من الغليان بالنار والغليان بنفسه ، فلا يكون عدم ذكر السبب موجباً لتقييد الغليان بخصوص ما يستند إلى نفسه ، فإذا ورد أن الرجل إذا مات ينتقل ماله إلى وارثه ، فلا يحمله أحد على إرادة خصوص موته المستند إلى نفسه ، بل يعمّه وما إذا كان مستنداً إلى غيره من قتل أو غرق أو غيرهما من الأسباب الخارجية .

   هذا كله على أن الغليان لا يعقل أن يستند إلى نفس العصير ، فانّه لو صُبّ في ظرف ـ  كالإناء  ـ وجُعل في ثلاجة أو غيرها مما لا تؤثر فيه حرارة خارجية فلا محالة يبقى مدّة من الزمان ولا يحدث فيه الغليان أبداً ، وعليه فالغليان غير مسبب عن نفس العصير بل دائماً مستند إلى أمر خارجي من نار أو حرارة الهواء أو الشمس ، ومعه لا  وجه لحمل الغليان في الطائفة الاُولى على الغليان بنفسه حتى ينتج أن الحاصل بسببه لا يرتفع حكمه بذهاب ثلثي العصير .

   نعم يبقى له سؤال وهو أنه هب أن الغليان في الروايات المذكورة مطلق ولا يختص بالغليان بنفسه إلاّ أنه لم يدلنا دليل على أن ذهاب الثلثين في مطلق العصير يقتضي طهارته ويرفع حرمته ، لما قدمناه من أن الطائفة الثانية المشتملة على ذهاب الثلثين مختصة بالعصير المطبوخ بالنار أو ما يساوقه ، فذهابهما إنما يكون غاية لارتفاع الحرمة أو النجاسـة في خصوص ما غلى بالنار ، وأما في غيره فلا دليل على ارتفاع حكمـه بذهابهما فلا بدّ من التمسك حينئذ بعدم القول بالفصل والملازمة بين ما غلى بالنار وما غلى بغيرها وهي بعد لم تثبت .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) ، (2) الوسائل 25 : 287 / أبواب الأشربة المحرمة ب 3 ح 1 ، 3 .

ــ[105]ــ

   وهذا السؤال وإن كان له وجه إلاّ أنه يندفع بأن الطائفة الثانية وإن اختصت بالمطبوخ كما ادعاه إلاّ أن بينها صحيحة عبدالله بن سنان أو حسنته ، قال : «ذكر أبو عبدالله (عليه السلام) أنّ العصير إذا طبخ حتى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه فهو حلال» (1) والعصير فيها مطلق وتدلّنا هذه الصحيحة على أنّ ذهاب الثلثين رافع لحرمة مطلق العصير سواء غلى بنفسه ونشّ أوّلاً ثم أغلي بالنار وذهب ثلثاه أم لم يغل قبل غليانه بالنار ، هذا بل قيل إن الغالب في العصير الموجود في دكاكين المخللين وصنّاع الخل والدبس هو الأول ، لأن العصير عندهم كثير ولا يتمكنون من جعله دبساً دفعة ومن هنا يبقى العصير في دكاكينهم مدة ويحصل له النشيش من قبل نفسه ثم يغلى بالنار ويذهب ثلثاه . فالمتحصل أن ذهاب الثلثين مطلقاً يرفع الحرمة الثابتة على العصير غلى بنفسه أم غلى بالنار .

   ثانيهما : صحيحة ابن سنان أو حسنته عن أبي عبدالله (عليه السلام) ، قال : «كل عصير أصابته النار فهو حرام حتى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه» (2) حيث إنه رتّب الحرمة المغياة بذهاب الثلثين على العصير الذي أصابته النار ، فيستفاد منها أن ما لم تصبه النار من العصير ـ كما إذا غلى بسبب أمر آخر ـ لا ترتفع حرمته بذهاب ثلثيه وإلاّ فما فائدة تقييده العصير بما أصابته النار ؟

   ودعوى أنّ القيد توضيحي ، خلاف ظاهر التقييد لأنّ القيود محمولة على الاحتراز ـ  فيما إذا لم يؤت بها لفائدة اُخرى  ـ كما في قوله عزّ من قائل : (وربائبكم اللاّتي في حجوركم )(3) حيث إن الاتيـان بالقيد من جهة الاشـارة إلى حكمة الحكم بحـرمة الربائب لا أنّ حرمتها مختصّة بما إذا كانت في الحجور ، وعليه لا مناص من التفصيل في حلية العصير بذهاب ثلثيه بين صورة غليانه بنفسه وصورة غليانه بسبب أمر آخر ، لأنّ الغاية لحرمة العصير المغلي بنفسه تنحصر بتخليله هذا .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 25 : 277 / أبواب الأشربة المباحة ب 32 ح 2 ، 288 أبواب الأشربة المحرمة ب 5 ح  1 .

(2) الوسائل 25 : 282 / أبواب الأشربة المحرمة ب 2 ح 1 .

(3) النساء 4 : 23 .

ــ[106]ــ

   ويتوجّه عليه أن الأصل في القيود وإن كان هو الاحتراز وقد بيّنا في مبحث المفاهيم أن الوصف كالشرط ذات مفهوم إلاّ أن مفهومه أن الطبيعة على إطلاقها غير مقتضية للحكم والاثر وإنما المقتضي لهما حصة خاصة من الطبيعي ، ولا دلالة له على أن الحكم الثابت لتلك الحصة غير ثابت لحصة اُخرى من الطبيعة (1) ، مثلاً إذا ورد أكرم الرجل العالم يدلنا تقييد الرجل بأن يكون عالماً على أن طبيعي الرجولية غير مقتض لوجوب إكرامها ، بل الذي ثبت له وجوب الاكرام حصة خاصة وهي الرجل المتصف بالعلم ، لأنه لو كان ثابتاً لطبيعي الرجل على إطلاقه كان تقييده بالعالم من اللغو الظاهر ، إلاّ أنه لا يدل على أن الرجل العادل أو غيره من الحصص غير متصف بهذا الحكم ، حيث لا دلالة في الوصف على كونه علة منحصرة للوجوب في المثال ومعه يمكن أن تكون العدالة أو الشيخوخة أو غيرهما من القيود كالعلم علّة لوجوب الاكرام مثلاً .

   وعليه يدلّنا تقييد العصير في الرواية «بما أصابته النار» أن ارتفاع الحرمة بذهاب الثلثين غير مترتِّب على طبيعي العصير ـ وإلاّ كان تقييده لغواً ظاهراً ـ وإنما يترتّب على حصّة خاصّة منه وهو الذي تصيبه النار ، إلاّ أنه لا يدلّنا بوجه على عدم ارتفاع الحرمة بذهاب الثلثين في غيره من الحصص المتصورة للعصير كالمغلي بنفسه أو بحرارة الشمس أو الهواء ، لما عرفت من أن الوصف لا ظهور له في العلية المنحصرة ، ومعه يمكن أن يكون الغليان بنفسه كالغليان بالنار علة للحرمة المغياة بذهاب الثلثين هذا .

   على أ نّا لو سلمنا ظهور الرواية في إرادة خصوص الغليان بالنار وفرضنا أنها كالصريح في أن الغليان بالنار هو الذي يقتضي الحرمة المغياة بذهاب الثلثين دون الغليان بغيرها من الأسباب ، فغاية ذلك أن نفصّل في حرمة العصير بين ما إذا غلى بنفسه فلا ترتفع حرمته إلاّ بتخليله وما إذا غلى بالنار فترتفع حرمته بذهاب ثلثيه ، وأين هذا من التفصيل في نجاسة العصير ؟ حيث لم يدلنا أي دليل على أن العصير إذا غلى بنفسه ينجس حتى يحكم بعدم ارتفاعها بذهاب ثلثيـه . فالصحيح هو الذي

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) محاضرات في اُصول الفقه 5 : 133 .

ــ[107]ــ

قدّمناه عن المحقق الهمداني (قدس سره) من أن التفصيل في نجاسة العصير بين غليانه بالنار وغليانه بغيرها مما لم يعلم مستنده (1) ، فان ما أفاده شيخ الشريعة (قدس سره) لو تمّ فانما يقتضي التفصيل في حرمة العصير دون نجاسته هذا .

   وقد يستدلّ على هذا التفصيل برواية الفقه الرضوي «فان نش من غير أن تصيبه النار فدعه حتى يصير خلاًّ من ذاته» (2) فانّه كالصريح في أنّ الغليان من قبل نفس العصير مولد لحرمته وكذا لنجاسته وأنهما لا يرتفعان إلاّ بتخليله ، إلاّ أ نّا ذكرنا غير مرّة أن الفقه الرضوي لم يثبت كونه رواية فضلاً عن أن تكون حجّة .

   وقد يستدلّ برواية عمّار بن موسى الساباطي ، قال : «وصف لي أبو عبدالله (عليه السلام) المطبوخ كيف يطبخ حتى يصير حلالاً فقال : تأخذ ربعاً من زبيب وتنقيه ثم تصب عليه اثني عشر رطلاً من ماء ، ثم تنقعه ليلة فاذا كان أيام الصيف وخشيت أن ينش جعلته في تنور سخن قليلاً حتى لا ينش ثم تنزع الماء منه كلّه إذا أصبحت ، ثم تصب عليه من الماء بقدر ما يغمره، ثم تغليه حتى تذهب حلاوته إلى أن قال: فلا تزال تغليه حتى يذهب الثلثان ويبقى الثلث» الحـديث(3) بتقريب أن قوله : «وخشيت أن ينش ظاهره» أن العصير مع النشيش من قبل نفسه لا يقبل الطهارة والحلية باذهاب ثلثيه ، فالخشية إنما هي من صيرورته خارجاً عن قابلية الانتفاع به بذهاب الثلثين لأجل غليانه من قبل نفسه ، فالنش في قبال غليانه بالنار الذي يحلله ذهاب الثلثين .

   والكلام في هذا الاستدلال تارة يقع في فقه الحديث ، واُخرى في الاسـتدلال به على المدعى .

   أما فقه الحديث فقد وقع الكلام في المراد من أمره (عليه السلام) بجعل العصير في تنور سخن قليلاً خوفاً من نشيشه من قبل نفسه ، مع أن جعله في مـكان حارّ معد لنشيشه لا أنه مانع عنه .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) تقدّم في ص 103 .

(2) فقه الرضا : 280 .

(3) الوسائل 25 : 289 / أبواب الأشربة المحرمة ب 5 ح 2 .

ــ[108]ــ

   ذكر شيخنا شيخ الشريعة (قدس سره) أن المراد بذلك جعل العصير في التنور السخن لأجل أن يغلي بالنار حتى لا ينش من قبل نفسه . ويبعّده أوّلاً : أن جعله في التنور السخن قليلاً لا يوجب غليانه لقلة مكثه فيه . وثانياً : أن مراده (عليه السلام) لو كان غليانه بالنار لعبّر عنه بعبارة أخصر كقوله فاغله ، ولم يكن يحتاج إلى قوله : «جعلته في تنور سخن قليلاً» على طوله . وثالثاً : أن ظاهر الرواية أنه (عليه السلام) يريد أن يتحفّظ على العصير من نشيشه من دون أن يغلي ، فما وجّه به الرواية مما لا يمكن المساعدة عليه .

   والصحيح في وجه ذلك أن يقال : إن العصير أو غيره من الأشربة أو الأطعمة القابلة لأن يطرأ عليها الضياع والحموضة إذا أصابته الحرارة بكم خاص منع عن فسادها ، ولما طرأت عليها الحموضة بوجه فلا يسقط عن قابلية الانتفاع بها بأكلها أو بشربها ، فلو جعلت طعاماً على النار مثلاً في درجة معينة من الحرارة ترى أنه يبقى أياماً بحيث لو كان بقي على حاله من غير حرارة لفسد من ساعته أو بعد ساعات قلائل كما في الصيف . وقد ذكر المستكشفون العصريون في وجه ذلك أن الفساد إنما يطرأ على الطعام أو الشراب من جهة الميكروبات الداخلة عليهما التي تتكون في الجو والهواء ، بحيث لو اُبقي ذلك الطعام أو الشراب على الحرارة في درجة معينة أعني درجة السـتين وماتت المكروبات الطارئة عليهما بتلك الحرارة لم يطرأ عليهما الحـموضة والفساد من غير أن يصل إلى درجة الغليان ، لأنّ الحرارة إنما تولد الغليان في درجة المائة . هذا على أن ما ادعيناه وعرفته مما أثبتته التجربة وهي أقوى شاهد عليه سواء قلنا بمقالة العصريين أم أنكرنا وجود المكروب من رأس ، وعليه فغرضه (عليه السلام) من الأمر بجعل العصير في تنور سخن إنما هو التحفظ من أن تعرضه الحموضة والفساد لمكان حرارة التنور من غير أن يبلغ درجة الغليان ، هذا كلّه في فقه الحديث .

   وأمّا الاستدلال به على التفصيل المدعى ففيه أوّلاً : أنّ الرواية ضعيفة بحسب السند ، لأنّ الراوي عن علي بن الحسن في السند لم يعلم أنه محمّد بن يحيى أو أنه رجل ومحمّد بن يحيى يروي عن ذلك الرجل ، وحيث إن الرجل مجهـول فتصبح الرواية

ــ[109]ــ

   نعم ، لا إشكال في حرمته سواء غلى بالنار أو بالشمس أو بنفسه ، وإذا ذهب ثلثاه صار حلالاً سواء كان بالنار أو بالشمس ((1)) أو بالهواء (1)

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

بذلك مرسلة وإن عبر عنها بالموثقة في كلمات بعضهم .

   وثانياً : أن قوله (عليه السلام) : «وخشيت أن ينش» لم يظهر أنه من جهة احتمال صيرورته محرماً على نحو لا تزول عنه بذهاب ثلثيه ، لجواز أن تكون خشيته من جهة احتمال طرو الحموضة والنشيش على العصير وهما يمنعان عن طبخه على الكيفية الخاصة التي بيّنها (عليه السلام) حتى يفيد لعلاج بعض الأوجاع والأمراض مع إمكان إبقائه مدة من الزمان ، فالاستدلال بالرواية غير تام .

   والصحيح هو الذي ذهب إليه المشهور من أنه لا فرق في زوال حرمة العصير وكذا في نجاسـته ـ على تقدير القول بها ـ بين غليانه بالنار وغليانه بنفسه بعد ذهاب الثلثين .

   (1) استدل على ذلك بالاطلاق ، وليت شعري ما المراد من ذلك وأي إطلاق في روايات المسألة حتى يتمسّك به في المقام ، كيف فان الأخبار المشتملة على حلية العصير بذهاب الثلثين إنما وردت في خصوص ذهابهما بالنار ، فيكفينا في المقام عدم الدليل على حلية العصير بذهاب ثلثيه بمثل الشمس والهواء ، وكذا طهارته إذا قلنا بنجاسته بالغليان ، هذا على أن بعضها ذات مفهوم ومقتضى مفهومه عدم ارتفاع حرمة العصير بذهاب ثلثيه بمثل الشمس والهواء ، وإليك موثقة أبي بصير : «إن طبخ حتى يذهب منه اثنان ويبقى واحد فهو حلال» (2) فان مفهومها أنه إذا لم يطبخ بالنار ليذهب ثلثاه فلا يحل .

   بل يمكن استفادة ما ذكرناه من الأخبار الواردة في حكمة تحريم الثلثين المشتملة

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) في كفاية ذهاب الثلثين بغير النار إشكال ، بل الظاهر عدمها ، نعم ، إذا استند ذهاب الثلثين إلى النار وإلى حرارتها الباقية بعد إنزال القدر عنها مثلاً كفى .

(2) الوسائل 25 : 285 / أبواب الأشربة المحرّمة ب 2 ح 6 .

ــ[110]ــ

على منازعة الشيطان وآدم (عليه السلام) وتحاكمهما إلى روح القدس ، حيث ورد في بعضها أنّ روح القدس أخذ ضغثاً من النار فرمى به على القضيبين والعنب في أغصانهما حتى ظن آدم أنه لم يبق منه وظن ابليس مثل ذلك ، قال: فدخلت النار حيث دخلت وذهب منهما ثلثاهما وبقي الثلث ، فقال الروح أما ما ذهب منهما فحظ إبليس وما بقي فلك يا آدم (1) ، لأن ظاهرها أن المحلل للثلث الباقي إنما هو ذهاب الثلثين بالنار .

   وكيف كان، فلا نرى إطلاقاً في شيء من الأخبار. نعم، ورد في بعض أخبار المسألة أنّ العصير إذا طبخ حتى يذهب منه ثلاثة دوانيق ونصف ثم ترك حتى برد فقد ذهب ثلثاه وبقي ثلثه (2) ، وقد دلت على أن ذهاب ثلثي العصير المعتبر في حليته لا يعتبر أن يكون حال غليانه بالنار بل لو ذهب منه مقدار ـ كثلاثة دوانيق ونصف ـ وهو على النار وذهب نصف الدانق منه بعد رفعه عنها كفى ذلك في حليته لأنّ مجموع الذاهب حينئذ أربعة دوانيق ، ثلاثة ونصف حال كونه على النار ونصف الدانق بعد أخذه منها لتصاعده بالبخار وهما ثلثان والباقي ثلث واحد وهو دانقان ، ولكن لا دلالة لها على كفاية ذهاب نصف الدانق الباقي ـ في حلية العصير ـ بمثل الشمس والهواء . والوجه فيه أنّ ذهاب نصف الدانق بعد أخذه من النار أيضاً مستند إلى غليانه بسببها ، لأنّ النار أغلته وأحدثت فيه الحرارة الموجبة لتصاعد المقدار الباقي منه بالبخار بعد أخذه من النار ، فلا يستفاد منها أن ذهاب نصف الدانق يكفي في حلية العصير ولو كان مستنداً إلى غير النار . على أ نّا لو سلمنا دلالتها على كفاية ذهابه ولو بغير النار فانما نلتزم بذلك في خصوص مورد الرواية وهو نصف الدانق فحسب ، وأما ذهاب مجموع الثلثين بغير النار فلم يدل على كفايته دليل . فالصحيح الاقتصار ـ في الحكم بحلية العصير بعد غليانه ـ بذهاب ثلثيه بالنار .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) هذا مضون ما رواه في الوسائل 25 : 282 / أبواب الأشربة المحرمة ب 2 ح 2 وهي رواية أبي الربيع الشامي .

(2) رواه عبدالله بن سنان في الوسائل 25 : 291 / أبواب الأشربة المحرمة ب 5 ح 7 .

ــ[111]ــ

بل الأقوى ((1)) حرمته بمجرد النشيش (1) وإن لم يصل إلى حد الغليان

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

   (1) النشيش ـ كما قيل ـ هو الصوت الحادث في الماء أو في غيره قبل أخذه بالغليان وهو في بعض الأواني أوضح وأشد من بعضها الآخر وفي السماور أظهر . وهل يكفي ذلك في الحكم بحرمة العصير وكذا في نجاسته ـ على تقدير القول بها ـ أو أن موضوعيهما الغليان ؟

   ذهب الماتن إلى الأول وتبعه عليه غيره ، ولعله اعتمد في ذلك على موثقة ذريح «سمعت أبا عبدالله (عليه السلام) يقول : إذا نش العصير أو غلى حرم» (2) حيث عطف الغليان فيها على النشيش وظاهر العطف هو التغاير والاثنينية . هذا ولكنها معارضة بحسنة حماد عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال:  «لا يحرم العصير حتى يغلي» (3) وغيرها من الأخبار الواردة في عدم حرمة العصير قبل أن يغلي ، فانها ظاهرة في عدم العبرة بالنشيش الحاصل قبل الغـليان غالباً ، ومع المعارضة كيف يمكن الاعتماد على موثقة ذريح . على أن لازمها أن يكون اعتبار الغليان وعطفه على النشيش لغواً ظاهراً ، لأنه مسبوق بالنشيش دائماً ، فلا مناص معه من حمل النشيش في الموثقة على معنى آخر ـ كنشيشه بنفسه ـ أو حمل الغليان فيها على موارد يتحقق فيها الغليان من دون أن يسبقه النشيش ، كما إذا وضع مقدار قليل من العصير على نار حادة كثيرة فانها تولد الغليان فيه دفعة ، ولا سيما إذا كانت حرارة الاناء المصبوب فيه العصير بالغة درجة حرارة النار ، فان العصير حينئذ يغلي من وقته من غير سبقه بالنشيش .

 وكيف ما كان ، فالاستدلال بالموثقة مبني على أن تكون الرواية كما رواها في الوسائل والوافي بعطف الغليان على النشيش بلفظة «أو» لكنها لم تثبت كذلك ، لأنّ شيخنا شيخ الشريعة الاصفهاني (قدس سره) نقل عن النسخ المصحّحة من الكافي عطف أحدهما على الآخر بالواو ، وأن العصير إذا نش وغلى حرم (4) ، وعليه فلا تنافي

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) بل الأحوط .

(2) ، (3) الوسائل 25 : 287 / أبواب الأشربة المحرمة ب 3 ح 4 ، 1 .

(4) إفاضة القدير : 4 .

ــ[112]ــ

بين اعتبار كل من الغليان والنشيش ـ الذي هو صوته ـ في ارتفاع حلية العصير ، وبما أنه (قدس الله سره) ثقة أمين وقد روى عطف أحدهما على الآخر بالواو فلا مناص من الأخذ بروايته لاعتبارها وحجيتها ، وبه يرتفع التنافي عن نفس الموثقة كما ترتفع المعارضة بينها وبين حسنة حماد المتقدمة ونظائرها .

   ثم إذا أخذنا برواية الوافي والوسائل وهي عطف أحدهما على الآخر بلفظة «أو» فلا بد في رفع المعارضة أن يقال : إن النشيش لم يثبت أنه أمر مغاير مع الغليان بل هو هو بعينه ـ على ما في أقرب الموارد ـ حيث فسّر النشيش بالغليان وقال : نش النبيذ : غلى (1) . وأما تفسيره بصوت الغليان كما عن القاموس (2) وغيره فالظاهر إرادة أنه صوت نفس الغليان لا الصوت السابق عليه ، وعليه فهما بمعنى واحد ، وبهذا المعنى استعمل النشيش في رواية عمّار (3) الواردة في كيفية طبخ العصير حيث قال : «وخشيت أن ينش» فانّ معناه خشيت أن يغلي ، وليس معناه الصوت المتقدِّم على غليانه لأنه لا وجه للخشية منه .

   وهذا الذي ذكرناه وإن كان يرفع المعارضة بين الموثقة والحسنة إلاّ أنه لا يكفي في رفع التنافي عن نفس الموثقة ، لأنه لا معنى لعطف الشيء على نفسه والقول بأنه إذا غلى العصير أو غلى حرم ، فلا بد في رفعه من بيان ثانوي وهو أن يقال : إن النشيش وإن كان بمعنى الغليان كما مر إلاّ أنه ليس بمعنى مطلق الغليان ، وإنما معناه غليان خاص وهو غليان العصير بنفسه أو أنه مما ينصرف إليه لفظه ، فالغليان بالنار لا يطلق عليه النشيش ولم يرَ استعماله بهذا المعنى في شيء من الأخبار ، لأنّ الغليان ـ كما في خبر حمّاد ـ هو القلب أعني تصاعد الأجزاء المتنازلة وتنازل الأجزاء المتصاعدة ، وهو إنما يتحقّق بالنار ولا يتأتّى في الغليان بنفسه ، وعليه فالنشيش أمر والغليان أمر آخر ، ومعه لا يبقى أي تناف في الموثقة فكأنه (عليه السلام) قال : إن غلى العصير بنفسه أو

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) أقرب الموارد 2 : 1301 .

(2) القاموس المحيط 2 : 290 .

(3) المتقدِّمة في ص 107 .

ــ[113]ــ

ولا فرق بين العصير ونفس العنب ، فاذا غلى نفس العنب من غير أن يعصر كان حراماً ((1)) (1)

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

غلى بالنار حرم ، وعليه فموضوع الحكم بالحرمة أحد الغليانين المتقدِّمين ، وأما النشيش بمعنى الصوت الحادث قبل غليان الماء أو غيره فهو مما لا يوجب الحرمة بوجه ، وإن كان الأحوط التجنب عنه من حين نشيشه .

   (1) قد مر أن الموضوع للحكم بحرمة العصير إنما هو غليانه بنفسه ـ  أعني النشيش  ـ أو غليانه بالنار ، فهل هذا يختص بما إذا استخرجنا ماء العنب بعصره أو أنه يعم ما إذا خرج ماؤه من غير عصر كما إذا خرج عنه بالفوران في جوف العنب أو من جهة كثرة مائه فخرج عن قشره بالضغطة الشديدة ثم اُغلي ؟

   لا ينبغي التردّد في أنّ العرف لا يستفيد من أدلّة حرمة العصير ـ  على تقدير غليانه  ـ خصوصية لعصره ولا يفهم مدخلية ذلك في حرمته بالغليان ، ولا سيما بملاحظة ما ورد في حكمة حرمة العصـير من منازعة آدم (عليه السلام) وإبليس وإذهاب روح القدس ثلثي ماء العنب بالنار (2) ، حيث إن المستفاد منها أن الميزان في الحكم بحلية ماء العنب إنما هو ذهاب ثلثيه بالنار ، بلا فرق في ذلك بين خروج مائه بالعصر وبين خروجه بغيره ، وعليه لا فرق في الحكم بحرمة العصير بالغليان بين اسـتخراج ماء العنـب بعـصره وبين خروجه عنه بغير عصر ، للقطع بعدم مدخلية العصر ـ  بحسب الفهم العرفي  ـ في حرمته ، هذا كلّه إذا خرج عنه ماؤه .

   وأما إذا غلى ماء العنب في جوفه بحرارة الهواء أو الشمس ونحوهما من دون استخراجه من العنب بوجه فهل يحكم بحرمته ونجاسته على القول بنجاسة العصير بالغليان ؟ الظاهر أن هذه المسألة فرضية خيالية لأنها تبتني على فرض أمر غير واقع أبداً ، حيث إن العنب ليس كالقربة وغيرها من الأوعية مشـتملاً على مقدار من المـاء

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) على الأحوط .

(2) المتقدمة في ص 110 .

ــ[114]ــ

وأمّا التمر والزبيب وعصيرهما (1) فالأقوى عدم حرمتهما أيضاً بالغليان وإن كان الأحوط الاجتناب عنهما أكلاً ، بل من حيث النجاسة أيضاً (2) .

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

حتى يمكن غليانه في جوفه ، بل العنب ـ على ما شاهدنا جميع أقسامه ـ نظير الخيار والبطِّيخ والرقِّي مشتمل على لحم فيه رطوبة وكلما وردت عليه ضغطة خرج منه ماؤه وبقيت سفالته . نعم ، الماء الخارج من العنب أكثر مما يمكن استخراجه من الخيار وكيف كان ، فلا ماء في جوف العنب حتى يغلي ، وقد مرّ أنّ الغليان هو القلب وتصاعد النازل وتنازل الصاعد ، وكيف يتصور هذا في مثل العنب والبطيخ والخيار وغيرها مما لا يشتمل على الماء في جوفه .

   ثم على تقدير إمكان ذلك ووقوعه في الخارج ـ بفرض أمر غير واقع ـ فهل يحكم بحرمته قبل أن يذهب ثلـثاه ؟ التحقيق أنه لا وجه للحكم بحرمته ، لأن ما دلّ على حرمة العصير العنبي بعد غليانه إنما دلّ على حرمة مائه الذي خرج منه بعصره أو بغير عصر ، وأما ماء العنب في جوفه فحرمته تحتاج إلى دليل ، ولم يدلنا دليل على أن ماء العنب إذا غلى في جوفه حرم حتى يذهب ثلثاه .

   (1) المصطلح عليهما بالنبيذ ، فيقال : نبيذ الزبيب أو التمر ولا سيما في الأخير ، كما أن المصطلح عليه في ماء العنب هو العصير كذا ذكره صاحب الحدائق (قدس سره) (1) .

   (2) إذا نبذ الزبيب أو التمر في ماء وأكسبه حلاوة ثم غلى ذلك الماء بسبب فهل يحكم بحرمته ونجاسته أو أنه محكوم بالطهارة والحل ؟

   أمّا النجاسـة فظاهرهم الاتفاق على عدمها بعد بطلان التفصيل المتقدِّم(2) عن ابن حمزة في الوسيلة الذي اختاره شيخنا شيخ الشريعة (قدس سره) ، حيث ذهب إلى نجاسة العصير فيما إذا غلى بنفسه وعدم ارتفاعها إلاّ بانقلابه خلاً بلا فرق في ذلك بين العصير العنبي وعصيري التمر والزبيب . وقد ذكر في الحدائق أني لم أقف على قائل

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الحدائق 5 : 125 .

(2) في ص 101 .

ــ[115]ــ

بنجاسة العصير الزبيبي، ونقل التصريح بذلك عن الفاضل السبزواري (قدس سره)(1) . وكيف كان ، فالظاهر عدم الخلاف في طهارة النبيذ أو لو كان هناك خلاف في نجاسة العصير الزبيبي فهو خلاف جزئي غير معتد به .

   وأمّا حرمته فقد وقع الكلام فيها بينهم وذهب بعضهم إلى حرمته ، ونسب ذلك إلى جملة من متأخِّري المتأخِّرين والمشهور حليته . ولنتكلّم أوّلاً في حكم النبيذ الزبيبي ثم نتبعه بالتكلّم في النبيذ التمري إن شاء الله . فنقول : الذي يمكن أن يستدل به لحرمة النبيذ الزبيبي بل لنجاسته أمران : أحدهما : الاستصحاب التعليقي بتقريب أن الزبيب حينما كان رطباً وعنباً كان عصيره إذا غلى يحرم فاذا جففته الشمس أو الهواء وشككنا في بقائه على حالته السابقة وعدمه فمقتضى الاستصحاب أنه الآن كما كان ، فيحكم بحرمة مائه على تقدير غليانه بل بنجاسته أيضاً إذا قلنا بنجاسة العصير العنبي .

   وترد على هذا الاستصحاب المناقشة من جهات : الاُولى : أن الاستصحاب دائماً ـ  كما مرّ غير مرّة  ـ مبتلى بالمعارض في الأحكام الكلية الإلهيّة ، فلا مورد للاستصحاب في الأحكام المنجّزة فضلاً عن الأحكام المعلقة . الثانية : أنه لا أصل للاستصحاب التعليقي أساساً ، وهذا لا لأن كل شرط يرجع إلى الموضوع كما أن كل موضوع يرجع إلى الشرط في القضايا الحقيقية حتى يدعى أن رجوع الشرط إلى الموضوع أمر دقي فلسفي ، والمدار في جريان الاستصحاب إنما هو على المفاهيم العرفية المستفادة من القضايا الشرعية ولا إشكال في أن الشرط ـ  بمفهومه العرفي المستفاد من الخطاب  ـ يغاير الموضوع، وحيث إن الموضوع باق بالنظر العرفي فلا مانع من جريان الاستصحاب في حكمه وإن لم يتحقّق شرطه ـ أعني الغليان ـ وذلك لأنّ هذه الدعوى وإن كانت صحيحة في نفسها على ما برهن عليها شـيخنا الاُسـتاذ (قدس سره) في محلّه (2) .

   إلاّ أن الوجه في إنكارنا ومنع شيخنا الاُستاذ (قدس سره) عن الاستصحابات

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الحدائق 5 : 125 ، ذخيرة المعاد : 155 السطر 3 .

(2) أجود التقريرات 2 : 412 .

ــ[116]ــ

التعليقية من أساسها إنما هو ما قررناه في المباحث الاُصولية ، من أن الأحكام الشرعية لها مرحلتان : مرحلة الجعل ومرحلة المجعول ، والشك في المرحلة الاُولى أعني الشك في بقاء جعلها وارتفاعه لا يتحق إلاّ بالشك في نسخها ، فاذا شككنا في نسخ حكم وبقائه فعلى المسلك المشهور يجري الاستصحاب في بقائه وعدم نسخه ولا يجري على مسلكنا لما حققناه في محله . وأما الشك في الأحكام في المرحلة الثانية وهي مرحلة المجعول فلا يمكن أن يتحقق إلاّ بعد فعليتها بتحقق موضوعاتها في الخارج بما لها من القيود ، فاذا وجد موضوع حكم وقيوده وشككنا في بقائه وارتفاعه بعد فعليته فأيضاً لا كلام في جريان الاستصحاب في بقائه ـ بناء على القول بجريانه في الأحكام الكلية الإلهيّة ـ ولا معنى للشك في بقاء الحكم الشرعي وعدمه في غير هاتين المرحلتين ، وحيث إن الشك في حرمة العصير الزبيبي على تقدير الغليان لم ينشأ عن الشك في نسخها للقطع ببقاء جعلها في الشريعة المقدسة فلا مجرى فيها للاستصحاب بحسب مرحلة الجعل لعدم الشك على الفرض . كما أن الشك في حرمته ليس من الشك في بقاء الحكم بعد فعليته فان العصير العنبي لم يتحقق في الخارج في أي زمان حتى يغلي ويتصف بالحرمة الفعلية ويشك في بقائها فلا يجري الاستصحاب فيها بحسب مرحلة المجعول أيضاً ، وعليه فليس لنا حكم شرعي في هذه الموارد حتى نستصحبه عند الشك في بقائه . نعم ، الذي لنا علم بوجوده ـ بعد ما تحقّق العنب في الخارج وقبل أن يغلي ـ إنما هو الملازمة العقلية بين حرمته وغليانه ، لأنه بعد العلم بتحقّق أحد جزئي الموضوع للحكم بحرمة العصير يتحقق العلم بالملازمة بين حرمته ووجود جزئه الآخر فيقال : إنه بحيث إذا غلى يحرم ، إلاّ أنه حكم عقلي غير قابل للتعبّد ببقائه بالاستصحاب .

   الثالثة : هب أ نّا بنينا على جريان الاستصحاب في جميع الأحكام الكلية منجّزها ومعلّقها إلاّ أن الأخبار الواردة في المقام كلها أثبتت الحرمة ، وكذا النجاسة ـ  على القول بها  ـ على عنوان العصير المتخذ من العنب ولم يترتّبا على نفس العنب ولا على أمر آخر ، وظاهر أن الزبيب ليس بعصير حتى يقال إذا شككنا في بقاء حكمه لجفافه وصيرورته زبيباً نستصحب بقاءه ، لأنّ مغايرة العصير والزبيب مما لا يكاد يخفى على

ــ[117]ــ

أحد ، كما أن النبيذ ـ أعني الماء الذي نبذ فيه شيء من الزبيب واكتسب حلاوته ـ كذلك ، لأنه ماء الفرات أو بئر أو مطر وإنما جاور الزبيب مقداراً من الزمان واكتسب حلاوته ولا يصدق عليه العصير العنبي أبداً ، ومع التعدد وارتفاع الموضوع المترتب عليه الحكم والأثر لا مجال لاجراء الاستصحاب بوجه .

   نعم ، لو كان العنب بنفسه موضوعاً للحكم بحرمته أو بنجاسته لحكـمنا بجـريان استصحابهما عند صيرورة العنب زبيباً ، لأن الجفاف والرطوبة تعدان من الحالات الطارئة على الموضوع لا من مقوماته ، فلا نضايق من القول باستصحاب الأحكام المترتبة على نفس العنب عند تبدله بالزبيب كاستصحاب ملكيته ونحوها . فالمتحصل أن الاستصحاب التعليقي مما لا أصل له .

   وثانيهما : الروايات حيث استدلّ لحرمة العصير الزبيبي بجملة من الأخبار : منها : رواية زيد النرسي في أصله ، قال : «سئل أبو عبدالله (عليه السلام) عن الزبيب يدق ويلقى في القدر ثم يصب عليه الماء ويوقد تحته ، فقال : لا تأكله حتى يذهب الثلثان ويبقى الثلث ، فان النار قد أصابته ، قلت : فالزبيب كما هو في القدر ويصب عليه الماء ثم يطبخ ويصفى عنه الماء ؟ فقال : كذلك هو سواء ، إذا أدّت الحلاوة إلى الماء فصار حلواً بمنزلة العصير ثم نش من غير أن تصيبه النار فقدم حرم ، وكذلك إذا أصابته النار فأغلاه فقد فسد» (1) حيث دلت على حرمة العصير الزبيبي إذا غلى ولم يذهب ثلثاه . وقد جعلها شيخنا شيخ الشريعة (قدس سره) مؤيدة لما ذهب إليه من التفصيل المتقدم نقله عند الكلام على نجاسة العصير العنبي ، وذلك لتصريحها بأنه إذا نش من غير أن تصيبه النار فقد حرم . وأما إذا غلى بالنار فيفسد حتى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه وحيث إنها لم تقيد الحرمة ـ فيما إذا غلى بنفسه ـ بشيء وقد قيّدتها بعدم ذهاب الثلثين فيما إذا غلى بالنار فيستفاد منها أنّ الحرمة في الصورة الاُولى لا ترتفع إلاّ بالانقلاب . وأما إطلاق ذيلها أعني قوله : «وكذلك إذا أصابته النار فأغلاه فقد فسد» ـ من غير أن تقيّد فساده بشيء ـ فهو من جهة وضوح حكمه وغايته في صدر الرواية (2) .

 ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) المستدرك 17 : 38 / أبواب الأشربة المحرمة ب 2 ح 1 .

(2) إفاضة القدير : 23 .

ــ[118]ــ

   هذا ولقد جاءت الرواية في جملة من كتب فقهـائنا كالجـواهر(1) والحـدائق(2) ومصباح الفقيه(3) ، وطهارة شـيخنا الأنصـاري(4) (قدس سره) وغيرها على كيفيـة اُخرى حيث رووا عن الصادق (عليه السلام) «في الزبيب يدق ويلقى في القدر ويصب عليه الماء ، فقال : حرام حتى يذهب الثلثان (إلاّ أن يذهب ثلثاه) قلت : الزبيب كما هو يلقى في القدر ، قال : هو كذلك سواء ، إذا أدت الحلاوة إلى الماء فقد فسد ، كلّما غلى بنفسه أو بالماء أو بالنار فقد حرم حتى يذهب ثلثاه (إلاّ أن يذهب ثلثاه) » وقد اُسندت الرواية في جملة منها إلى كل من زيد الزراد وزيد النرسي ، كما أن الرواية تختلف عن سابقتها من وجوه عمدتها اشتمال الرواية الثانية على التسوية بين قسمي الغليان أعني الغليان بالنار والغليان بنفسه لدلالتها على أن الحرمة في كلا القسمين مغياة بذهاب الثلثين ، وعليها لا يبقى لتأييد شيخنا شيخ الشريعة (قدس سره) على تفصيله بهذه الرواية مجال .

   هذا إلاّ أن العلاّمة المجلسي في أطعمة البحار(5) وشيخنا النوري في مستدركه(6) نقلا الرواية كما نقلناه أوّلاً وصرّح في المستدرك بوقوع التحريف والتصحيف في الرواية(7) وقوّاه شيخنا شيخ الشريعة في رسالته وقال : إنّ أوّل من وقع في تلك الورطة الموحشة هو الشيخ سليمان الماخوري البحراني وتبعه من تبعه من غير مراجعة إلى أصل زيد النرسي .  كما أنّ الرواية مختصة بزيد المذكور وليس في أصل زيد الزراد منها عين ولا أثر ، فإسنادها إليه خطأ  (8) .

 ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الجواهر 6 : 34 .

(2) الحدائق 5 : 158 .

(3) مصباح الفقيه (الطهارة) : 553 السطر 24 .

(4) كتاب الطهارة : 362 باب النجاسات (حكم الزبيب إذا غلى) السطر 32 .

(5) البحار 66 : 506 ح 8 .

(6) تقدّم في ص 117 .

(7) المستدرك 17 : 38 / أبواب الأشربة المحرمة ب 2 ذيل الحديث 1 .

(8) إفاضة القدير : 24 .

ــ[119]ــ

   وكيف كان ، فقد استدل بها على حرمة العصير الزبيبي عند غليانه قبل أن يذهب ثلثاه . والصحيح أن الرواية غير صالحة للاستدلال بها على هذا المدعى ولا لأن يؤتى بها مؤيدة للتفصيل المتقدم نقله ، وذلك لضعف سندها فان زيداً النرسي لم يوثّقه أرباب الرجال ولم ينصّوا في حقه بقدح ولا بمدح . على أ نّا لو أغمضنا عن ذلك وبنينا على جواز الاعتماد على روايته نظراً إلى أن الراوي عن زيد النرسي هو ابن أبي عمير وهو ممن أجمعت العصابة على تصحيح ما يصح عنه ، فأيضاً لا يمكننا الاعتماد على روايته هذه ، إذ لم تثبت صحة أصله وكتابه الذي أسندوا الرواية إليه ، لأنّ الصدوق وشيخه ـ محمّد بن الحسن بن الوليد ـ قد ضعّفا هذا الكتاب وقالا : إنّه موضوع وضعه محمّد بن موسى الهمداني (1) .

   والمجلسي (قدس سره) إنما رواها عن نسخة عتيقة وجدها بخط الشيخ منصور بن الحسن الآبي(2) ، ولم يصله الكتاب باسناد متصل صحيح ، ولم ينقل طريقه إلينا على تقدير أن الكتاب وصله باسناد معتبر ، فلا ندري أن الواسطة أيّ شخص ولعله وضّاع أو مجهول ، وأما الأخبار المروية في غير تلك النسخة كتفسير علي بن إبراهيم القمي وكامل الزيارة وعدّة الداعي وغيرها عن زيد النرسي بواسطة ابن أبي عمير ، فلا  يدل وجدانها في تلك النسخة على أنها كتاب زيد المذكور وأصله ، وذلك لأ نّا نحتمل أن تكون النسخة موضوعة وإنما أدرج فيها هذه الأخبار المنقولة في غيرها تثبيتاً للمدعى وإيهاماً على أنها كتاب زيد وأصله .

   وعلى الجملة أ نّا لا نقطع ولا نطمئن بأن النسخة المذكورة كتاب زيد كما نطمئن بأن الكافي للكليني والتهذيب للشيخ والوسائل للحر العاملي (قدس الله أسرارهم)، والذي يؤيد ذلك أنّ شيخنا الحر العاملي لم ينقل عن تلك النسخة في وسائله مع أنها كانت موجـودة عنده بخطه على ما اعترف به شـيخنا شيخ الشريعة (قدس سره) ، بل ذكر ـ  على ما ببالي  ـ أنّ النسخة التي كانت عنده منقولة عن خط شيخنا الحرّ العاملي

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الفهرست للشيخ : 71 نقلاً عن فهرست الصدوق .

(2) البحار 1 : 43 .

ــ[120]ــ

بواسطة (1) وليس ذلك إلاّ من جهة عدم صحّة إسناد النسخة إلى زيد أو عدم ثبوته . وبعد هذا كلّه لا يبقى للرواية المذكورة وثوق ولا اعتبار فلا يمكننا الاعتماد عليها في شيء من المقامات .

   ومنها : رواية علي بن جعفر عن أخيه موسى أبي الحسن (عليه السلام) ، قال : «سألته عن الزبيب هل يصلح أن يطبخ حتى يخرج طعمه ثم يؤخذ الماء فيطبخ حتى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه ثم يرفع فيشرب منه السنة ؟ فقال : لا بأس به» (2) حيث نفت البأس عن العصير الزبيبي فيما إذا ذهب عنه ثلثاه ولم تنف البأس عنه قبل ذهابهما . وفيه : أن نفيه (عليه السلام) البأس عن العصير الزبيبي عند ذهاب ثلثيه لم يظهر أنه من أجل حرمته قبل ذهابهما ونجاسته فلا بأس بشربه بعده لحليته وطهارته ، أو أنه مستند إلى أمر آخر ـ مع الحكم بحلية العصير وطهارته قبل ذهاب الثلثين وبعده ـ وهو أن العصير لو بقي سنة من غير إذهاب ثلثيه نش من قبل نفسه وحرم فلا يمكن ابقاؤه للشرب منه سنة إلاّ أن يذهب ثلثاه . نعم ، لا بأس بابقائه سنة بعد ذهابهما فلا  دلالة لها على حرمته قبل ذهابهما ولا على نجاسته ، وهذا الاحتمال من القوة بمكان .

   وظنِّي أنّ العصير بجميع أقسامه يشتمل على المادة الألكلية التي هي الموجبة للاسكار ـ على تقدير نضجه ومع الغليان ـ إلى أن يذهب ثلثاه ترتفع عنه المادة المسببة للاسكار فلا يعرضه النشيش وإن بقي سنة أو سنتين أو أكثر ولا ينقلب مسكراً بابقائه ، ومن هنا ترى أن الدبس في بعض البيوت والدكاكين يبقى سنة بل سنتين من غير أن يعرضه النشيش ، وهذا بخلاف ما إذا لم يذهب ثلثاه لأنه إذا بقي مدّة ووصلت حرارته إلى مرتبة نضج المادة الألكلية فلا محالة ينش وبه يسقط عن قابلية الانتفاع به ، ولعله السر في نفيه (عليه السلام) البأس في الرواية عن إبقاء العصير إلى سـنة إذا ذهب عنه ثلثاه ، ومع هذا الاحتمال كيف يمكن الاسـتدلال بها على حرمة

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) إفاضة القدير : 24 .

(2) الوسائل 25 : 295 / أبواب الأشربة المحرمة ب 8 ح 2 .

 
 

ــ[121]ــ

عصير الزبيب إذا غلى قبل ذهاب ثلثيه .

   ومنها : موثقة عمّار الساباطي عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : «سئل عن الزبيب كيف يحل طبخه حتى يشرب حلالاً ؟ قال : تأخذ ربعاً من زبيب فتنقيه ثم تطرح عليه اثني عشر رطلاً من ماء ثم تنقيه ليلة ، فاذا كان من غد نزعت سلافته ثم تصب عليه من الماء بقدر ما يغمره ثم تغليه بالنار غلية ، ثم تنزع ماءه فتصبه على الأوّل ثم تطرحه في إناء واحد ، ثم توقد تحته النار حتى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه وتحته النار ...» (1) .

   ومنها : روايته الاُخرى المتقدِّمة(2) ، والظاهر وحدة الروايتين وإنما وقع الاختلاف في نقلها ، ويكشف عن ذلك اتحاد رواتهما إلى عمرو بن سعيد ، فانّ من البعيد أن يسأل شخص واحد عن مسألة واحـدة مـرّتين ويرويهما كذلك . وكيف كان ، لا مجـال للاستدلال بهما على حرمة عصير الزبيب بعد غليانه ، للقطع بعدم مدخلية مجموع القيود الواردة فيهما في حليته بحيث تنتفي إذا انتفى بعض تلك القيود التي منها قوله (عليه السلام) «فروّقه» أي صفّه فلا يستفاد منهما حرمة العصير بمجرد غليانه ، ولعل السر فيما اعتبره من القيود التي منها ذهاب الثلثين هو أن لا يطرأ الفساد على العصير بنشيشه ـ بعد ما مضى عليه زمان ـ الذي يوجب حرمته وسقوطه عن القابلية للانتفاع به ، كما اُشير إلى ذلك في ذيل الرواية بقوله (عليه السلام) «فان أحببت أن يطول مكثه عندك فروّقه» (3) .

 ويؤيِّده ما ورد في رواية إسماعيل بن الفضل الهاشمي من قوله : «وهو شراب طيِّب لا يتغيّر إذا بقي إن شاء الله» (4) . نعم جاءت حرمة النبيذ الذي فيه القعوة أو العكر في جملة من الأخبار (5) إلاّ أنها أيضاً لا تدل على حرمته بمجرّد الغليان ، حيث إنّ القعوة

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 25 : 290 / أبواب الأشربة المحرمة ب 5 ح 3 .

(2) في ص 107 .

(3) الوسائل 25 : 289 / أبواب الأشربة المحرمة ب 5 ح 2 .

(4) الوسائل 25 : 291 / أبواب الأشربة المحرمة ب 5 ح 4 .

(5) الوسائل 25 : 353 / أبواب الأشربة المحرمة ب 24 ح 1 ، 3 ، 5 ، 6 .

ــ[122]ــ

ـ  كما في نفس تلك الروايات  ـ وكذلك العكر عبارة عن ثفل التمر يضرب به الاناء حتى يهدر النبيذ فيغلى أو أنها حب يؤتى به من البصرة فيلقى في النبيذ حتى يغلي ـ  وإن لم يظهر أنه أي حب  ـ فلعل الوجه في نهيه عما كان مشتملاً على القعوة من النبيذ إنما هو صيرورته مسكراً بسببها بحيث لولا ما فيه من القعوة والعكر لم يكن يتحقق فيه صفة الاسكار بوجه ، فهما مادتان للمسكر في الحقيقة كما أن مادة الجبن كذلك حيث إنه لولاها لم يوجد الجبن .

   ويدلّنا على ذلك ما ورد في بعض الروايات : «شه شه تلك الخمرة المنتنة» بعد قول السائل : إنّا ننبذه فنطرح فيه العكر وما سوى ذلك (1) ، وعليه فلا مجال للاستدلال بهذه الأخبار على حرمة النبيذ بعد غليانه فيما إذا لم يوجب الاسكار .

   هذا وقد يستدل في المقام بحسنة عبدالله بن سنان «كل عصير أصابته النار فهو حرام حتى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه» (2) نظراً إلى أن عموم قوله «كل عصير ...» شامل لعصير الزبيب أيضاً فاذا أصابته النار فلا محالة يحكم بحرمته . ولا يخفى ما في هذا الاستدلال من المناقشة .

   أمّا أوّلاً : فلأن الظاهر المنسبق إلى الأذهان من لفظة العصير بحسب العرف واللغة إنما هو الرطوبة المتكونة فيما يعصر من الأشياء ـ كالبرتقال والعنب ونحوهما ـ فيما إذا استخرجت بعصره ، فيقال هذا المائع عصير العنب أو البرتقال وهكذا . نعم ، ذكر صاحب الحدائق أنّ العصير اسم مختص بماء العنب ولا يعم غيره (3) . ولعلّ مراده أن العصير الوارد في روايات المسألة مختص بماء العنب ، وأمّا بحسب اللّغة فقد عرفت أنه اسم للماء المتحصِّل من مثل البرتقال وغيره مما هو مشتمل على رطوبة متكوِّنة في جوفه ، ومن الظاهر أن الزبيب غير مشتمل على رطوبة متكونة في جوفه حتى تستخرج بعصره ويصدق عليها عنوان العصير ، ومجرّد صبّ الماء عليه خارجاً

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 1 : 203 أبواب الماء المضاف ب 2 ح 2 .

(2) المتقدِّمة في ص 105 .

(3) الحدائق 5 : 125 .

ــ[123]ــ

لا  يصحّح إطلاق العصير عليه فانّ له اسماً آخر ، فتارة يعبّر عنه بالنبيذ باعتبار ما نبذ من الزبيب في الماء واُخرى بالمريس باعتبار دلكه وثالثة بالنقيع باعتبار تصفيته وأما عنوان العصير فلا يطلق عليه أبداً .

   وأمّا ثانياً : فلأن الاستدلال بعموم الحديث في المقام مستلزم لتخصيص الأكثر المسـتهجن فيلزم أن يقال : كل عصير أصـابته النار فقد حرم إلاّ عصير البرتقال واللّيمون والرمّان والبطِّيخ وعصير كل شيء سوى عصيري العنب والزّبيب وهو من الاستهجان بمكان ، فلا مناص من حمل الحسنة على معنى آخر لا يلزمه هذا المحـذور وبما أنّ المراد بالعصير في الرواية لم يظهر أنه أيّ فرد وأنه خصوص العصير العنبي أو الأعم منه ومن عصير الزبيب ، ولم يمكن إرادة جميع أفراده ومصاديقه فلا يمكننا الحكم بشمولها للمقام .

   وعليه فالصحيح أن العصير الزبيبي مطلقاً لا نجاسة ولا حرمة فيه سواء غلى أم لم يغل ، إلاّ أن الاحتياط بالاجتناب عن شربه ـ إذا غلى قبل ذهاب ثلثيه ـ حسن على كل حال .

   وأمّا العصير التمري فالحلية فيه كطهارته أظهر ، حيث لم ترد نجاسته ولا حرمته في شيء من الأخـبار سوى ما تقـدّم من مثل قوله (عليه السلام) : «كلّ عصير أصابتـه النار...» وما ورد في حرمة النبيذ الذي فيه القعوة أو العكر وغيره مما سردناه في عصير الزبيب ، كما أسلفنا هناك الجواب عنها بأجمعها وقلنا إنه لا دلالة لها على حرمة العصير إلاّ أن يكون مسكراً لنشه بنفسه .

 هذا مضافاً إلى جملة من الروايات الواردة في دوران الحرمة مدار وصف الاسكار وأحسنها صحيحتان : إحداهما صحيحة معاوية بن وهب ، قال «قلت لأبي عبدالله (عليه السلام) : إنّ رجلاً من بني عمِّي وهو من صلحاء مواليك يأمرني أن أسألك عن النبيذ وأصفه لك ، فقال: أنا أصف لك ، قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : كلّ مسكر حرام...»(1) وثانيتهما صحيحة صفوان الجمّال ، قال : «كنت مبتلى بالنبيذ معجباً

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 25 : 337 / أبواب الأشربة المحرمة ب 17 ح 1 .

ــ[124]ــ

   [ 203 ] مسألة 2 : إذا صار العصير دبساً (1) بعد الغليان قبل أن يذهب ثلثاه فالأحوط حرمته ، وإن كان لحليته وجه ((1)) ، وعلى هذا فاذا استلزم ذهاب ثلثيه إحتراقه ، فالأولى أن يصب عليه مقدار من الماء ،

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

به فقلت لأبي عبدالله (عليه السلام) : أصف لك النبيذ ؟ فقال : بل أنا أصفه لك ، قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : كل مسكر حرام» (2) وفي بعض الأخبار بعدما سألوه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عن النبيذ وأطالوا في وصفه : «يا هذا قد أكثرت عليَّ أفيسكر ؟ قال : نعم ، قال : كل مسكر حرام» (3) إلى غير ذلك من الأخبار . فالمتحصل ان العصير زبيبياً كان أم تمرياً طاهر محلل قبل غليانه وبعده ما دام غير مسكر ، وإنما يحرم شربه إذا كان موجباً للاسكار وإن كان الأحوط الاجتناب .

   (1) لكثرة مادته الحلوية فهل يحكم بحليته وطهارته ـ إذا قلنا بنجاسة العصير العنبي حينئذ ـ أو أنه باق على حرمته ونجاسته ولا رافع لهما سوى ذهاب الثلثين المفروض عدمه في المقام ؟

 الوجوه المحتملة في إثبات حليته ثلاثة : الأوّل : أن الحرمة إنما كانت معلقة في الأخبار المتقدِّمة على شرب العصير كقوله (عليه السلام): «تشرب ما لم يغل فاذا غلا فلا تشربه»(4) فموضوع الحرمة هو المشروب ، فاذا فرضنا أنه صار مأكولاً ـ كالدبس مثلاً ـ فقد ارتفع موضوع الحرمة وتبدل أمراً آخر لا يتحقق فيه شرب العصير فلا محالة يحكم بحليته . هذه الدعوى وإن كانت جارية في بعض الروايات كما عرفت إلاّ أنها لا تتأتى في أكثرها ، لأنّ الموضوع للحرمة فيها نفس العصير كما في حسنة عبدالله ابن سنان المتقدِّمة(5) ومن الظاهر أنّ إطلاقها يشمل ما إذا صار العصير دبساً حيث

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) لكنه ضعيف لا يلتفت إليه .

(2) الوسائل 25 337 / أبواب الأشربة المحرمة ب 17 ح 3 .

(3) الوسائل 25 : 356 / أبواب الأشربة المحرمة ب 24 ح 6 .

(4) وهو خبر حماد المتقدِّم نقله في ص 104 .

(5) في ص 105 ، 122 .

ــ[125]ــ

دلّت على أن كل عصير أصابته النار فقد حرم سواء أصار دبساً بعد ذلك أم لم يصر .

   الثاني : أن الغاية المقصودة من ذهاب الثلثين متحققة عند صيرورة العصير دبساً ومع حصول الغاية والغرض بذلك لا وجه للحكم بحرمته . ولا يخفى أن هذه الدعوى جزافية بحتة ، إذ من أخبرنا بما هو الغاية المقصودة من ذهاب الثلثين في العصير حتى نرى أنها حاصلة في المقام عند صيرورته دبساً أو غير حاصلة .

   الثالث : ما عن الشهيد الثاني (قدس سره) من أن العصير إذا صار دبساً فقد انقلب من حال إلى حال ، والانقلاب من أحد موجبات الطهارة والحل كما في انقلاب الخمر والعصير خلاً  (1) . وفيه : أن الانقلاب غير الاستحالة والاستهلاك ، إذ الاستحالة عبارة عن انعدام شيء ووجود شيء آخر عقلاً وعرفاً وإما بحسب العرف فقط ، ومن هنا لا  يصح أن يطلق المطهّر على الاستحالة إلاّ على وجه المسامحة ، لأنّ ما هو الموضوع للحكم بالنجاسة قد زال وأما ما وجد فهو موضوع جديد ، فارتفاع النجاسة وغيرها من أحكامه مستند إلى ارتفاعه بنفسه وانعدامه بصورته ، لأن شيئية الشيء إنما هي بصورته النوعية ، والاستحالة هي انعدام صورة نوعية ووجود صورة اُخرى عقلاً وعُرفاً وإمّا بالنظر العرفي فحسب ، لوضوح أن الصور النوعية العُرفية هي الموضوع للأحكام الشرعية في أدلّتها ومع ارتفاع موضوع الحكم وانعدامه لا موضوع ليطرأ عليه حكمه . وأما القدر المشترك بين الصورتين النوعيتين المعبّر عنه بالهيولى عند الفلاسفة فلا حكم له في الشريعة المقدسة لاشتراكه بين موجودات العالم بأسرها ، مثلاً إذا استحال كلب ملحاً أو الخشبة المتنجسة رماداً ترتفع عنهما نجاستهما لانعدام موضوعها، لأنّ الموجود غير المنعدم على الفرض، وهذا بخلاف الانقلاب لأنه عبارة عن تبدل وصف بوصف آخر كتبدل الحنطة خبزاً من دون تبدل في الصور النوعية بوجه ، حيث إن الخبز والدقيق عين الحنطة وإنما الاختلاف في الأوصاف ، ولم يدلّنا دليل على أن الانقلاب موجب للطهارة أو الحلية . نعم ، خرجنا عن ذلك في خصوص الانقلاب خلاًّ بالنص ولا يمكننا التعدِّي عن مورده إلى غيره ، ومن هنا إذا

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) راجع الروضة البهيّة 1 : 67 .

ــ[126]ــ

فاذا ذهب ثلثاه حل بلا إشكال .

   [ 204 ] مسألة 3 : يجوز أكل الزبيب والكشمش والتمر في الأمراق والطبيخ وإن غلت ، فيجوز أكلها بأيّ كيفية كانت على الأقوى (1) .

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

تنجّس العصير بسبب آخر غير غليانه بأن قطرت عليه قطرة بول أو غيره ثم انقلب دبساً مثلاً فلا نظن أن يلتزم الشهيد (قدس سره) بطهارته بدعوى الانقلاب ، وعليه فالصحيح أن الحرمة الطارئة على العصير بغليانه لا ترتفع إلاّ بذهاب ثلثيه ، فاذا فرضنا أنه انقلب دبساً لشدة حلاوته ـ كما يتفق في بعض البلاد ـ فلا مناص من الحكم بحرمته إلاّ أن يصب عليه مقدار من الماء فيغلي ، فإذا ذهب ثلثاه نحكم بحليته حيث لا يفرق في ارتفاع الحرمة بذهاب الثلثين بين غليان العصير في نفسه وبين غليانه بالماء الخارجي المصبوب عليه ، فاذا فرضنا أنّ العصير عشرة كيلوات وقد أغلي وصار دبساً بعد ذهاب نصفه بالغليان ، فلا مانع من أن يصب عليه الماء بمقدار خمسة كيلوات اُخر حتى إذا غلى وذهب منه نصـفه ـ وهو خمسة كيلوات ـ يحكم بحلِّيّته ، لأن الباقي ثلث المجموع المركب من الماء والعصير .

   (1) إذا طبخ الزبيب أو التمر في المرق أو غيره فحرمته على تقدير الغليان وعدمها مبتنيان على ما قدمناه في المسألة السابقة ، فان قلنا بعدم حرمة العصير زبيبياً  كان أم تمرياً كما قلنا به فلا ينبغي الاشكال في جواز أكلهما في الطبيخ والأمراق غلى بالماء أو الدهن أم لم يغل ، وأما إذا قلنا بحرمة عصيرهما إلحاقاً له بالعصير العنبي في المرق أو في غيره فلا  كلام أيضاً في حلية أكلهما . وقد قدّمنا أنّ الغليان هو القلب وهو تنازل الأجزاء وتصاعدها ، وذكرنا أنه لا يتحقق في غير المائعات كالعنب والتمر والزبيب . وأمّا إذا فرض غليانهما ولو بالماء أو الدهن وفرضنا صدق عنوان العصير ولو مع المقدار القليل مما حولهما من الدهن والمرق فأيضاً لا نلتزم بحرمة أكلهما في الأغذية وذلك لأنّ المحرم حينئذ إنما هو المقدار القليل الذي في حولهما إلاّ أنه لما كان مستهلكاً في بقية المرق والطبيخ جاز أكله لانعدام موضوع الحرمة عرفاً ، فحاله حال الدم المتخلِّف في اللّحم حيث إنه طاهر محرم أكله ولكنّه إذا طُبخ مع اللّحم واستهلك في ضمنه يحكم بجواز أكله بالاستهلاك .

ــ[127]ــ

   العاشر : الفقّاع (1)

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

   هذا  كلّه فيما إذا قلنا بطهارة عصيري التمر والزبيب ، وأما إذا قلنا بنجاستهما إلحاقاً لهما بالعصير العنبي ـ عند القائلين بنجاسته ـ فلا مانع أيضاً من أكلهما في الأغذية والأطعمة إذا لم يعرض عليهما الغـليان ، وأما إذا غليا فيحكم بنجاسة ما حولهما ولو بمقدار قليل ، ومع تنجس شيء من المرق يتنجس الجميع فلا محالة يحرم أكلهما مع المرق والطّبيخ ، ولا ينفع حينئذ استهلاك ذلك المقدار النجس القليل في بقية أجزاء الطبيخ لأنه ينجّس البقية بمجرد ملاقاتها ، نظير ما إذا أصابته قطرة دم أو بول لأنها ينجّس جميع المرق وشبهه وإن كانت مستهلكة في ضمن المرق .

   فتحصّل أن المسألة تبتني على المسألة المتقدِّمة ، وحيث إنّا نفينا هناك حرمة عصيري التمر والزبيب فضلاً عن نجاستهما فلا نرى مانعاً من أكلهما في الطبيخ والمرق وكذلك الحال في العنب ، لأ نّا وإن قلنا بحرمة عصيره إلاّ أ نّا أنكرنا نجاسته ، وقد عرفت أنّ الحرمة غير مانعة عن جواز أكله في الأطعمة والأمراق ما دام لم تطرأ عليه صفة الاسكار فيما إذا كان بمقدار يستهلك في بقية الطبيخ والمرق .

   (1) لا إشكال في نجاسة الفقاع في الشريعة المقدّسة كحرمته ، بل الظاهر أنها اتفاقيّة بين أصحابنا القائلين بنجاسة الخمر ، وتدلّ على نجاسته الأخبار المستفيضة منها : مكاتبة ابن فضال ، قال : «كتبتُ إلى أبي الحسن (عليه السلام) أسأله عن الفقّاع فقال : هو الخمر وفيه حد شارب الخمر»(1) . ومنها : موثقة عمّار قال : «سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن الفقّاع فقال: هو خمر»(2) إلى غير ذلك من الأخبار ، حيث اشتملت على أنّ الفقّاع خمر وورد في بعضها أنه خمر مجهول(3) ، وهذا إما لأجل أنّ الفقّاع خمر حقيقة وإن كان إسكاره ضعيفاً بحيث لا يسكر إلاّ بشرب مقدار كثير منه ـ  وعن بعض أهل الخبرة والاطلاع أن المادة الألكلية التي تدور عليها رحى الاسكار

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) ، (2) الوسائل 25 : 360 / أبواب الأشربة المحرمة ب 27 ح 2 ، 4 .

(3) كما في موثقة ابن فضال ورواية أبي جميلة المرويتين في الوسائل 25 : 361 / أبواب الأشربة المحرّمة ب 27 ح 11 ، 8 .

ــ[128]ــ

وهو شراب متّخذ من الشـعير على وجه مخصوص ، ويقال :  إن فيه سكراً خفيّاً وإذا كان متخذاً من غير الشعير فلا حرمة ولا نجاسة إلاّ إذا كان مسكراً  (1) .

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

في العرق بأقسامه إنما هي بنسبة الواحد إلى اثنين فنصفه الآخر خليط ومزيج ، وأما في الخمر بأقسامها فهي بنسبة الواحد إلى خمس ، وفي الفقّـاع بنسبة الواحد إلى خمسين ، وحيث إنه خمر حقيقية حكم بنجاسته وحرمته ، ويدل عليه قوله (عليه السلام): انه خمر مجهول ـ  كما مرّ  ـ وقوله : إنه خمرة استصغرها الناس (1)  ـ وإما من جهة أنّ الفقّاع وإن لم يكن خمراً حقيقية إلاّ أن الشارع نزّله منزلة الخمر في جميع ما كان يترتّب عليها من أحكامها فهو تنزيل موضوعي . وكيف كان ، فلا إشكال في أنّ حكمه حكم الخمر بعينها ، وإنما الكلام في تعيين موضوعه وتحقيق أن الفقّاع أي شيء وإليه أشار الماتن بقوله : وهو شراب متخذ من الشعير .

   (1) وقع الكلام بينهم في أن الفقاع ما هو ، فذهب بعضهم إلى أنه شراب يتّخذ من ماء الشعير ، وعن آخر أن الفقّاع وإن كان بحسب القديم والغالب يتّخذ من ماء الشعير إلاّ أنه الآن قد يتّخذ من الزبيب ، وقيل : إن إطلاقه على الأعم لعله اصطلاح حدث في خصوص الشـام .  وعليه فلا بدّ من النظر إلى أن ما نحكم بنجاسته وحرمته هل هو خصوص ما اتخذ من ماء الشعير أو أن كل شيء صدق عليه أنه فقّاع محكوم بنجاسته وحرمته وإن اتّخذ من غيره ؟

   الصحيح الاقتصار في الحكم بهما على خصوص ما اتخذ من ماء الشعير ، وذلك لأنهم بعد اتفاقهم على أن الشراب المتخذ من ماء الشعير فقّاع حقيقة اختلفوا في أن المتخذ من غيره أيضاً كذلك أو أنه خارج عن حقيقته فهو من الاختلاف في سعة الموضوع وضيقه ، ولا مناص معه من الاكتفاء بالمقدار المتيقن ـ  وهو المتخذ من ماء الشعير  ـ كما هو الحال في جميع الموارد التي يدور فيها الأمر بين الأقل والأكثر ، وذلك للشك في أن المتّخذ من غيره أيضاً من الفقّاع حقيقة أو أن المراد به في زمانهم (عليهم

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 25 : 365 / أبواب الأشربة المحرمة ب 28 ح 1 .

ــ[129]ــ

   [ 205 ] مسألة 4 : ماء الشعير الذي يستعمله الأطباء في معالجاتهم ليس من الفقاع فهو طاهر حلال (1) .

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

السلام) وبلدهم إنما هو خصوص المتخذ من ماء الشعير ، حيث إن إطلاقه على الأعم في غير زمانهم أو في غير بلادهم ـ كالشام ـ مما لا يكاد يجدي في الحكم بحرمته ونجاسته ، إذ المدار فيهما على ما يطلق عليه الفقاع في عصرهم وبلدهم وحيث إنه مشكوك السعة والضيق فيرجع في غير المورد المتيقن إلى أصالة الطهارة والحل .

   فالمتحصّل أن المائع إذا كان مسكراً فلا إشكال في حرمته كما يحكم بنجاسته ـ  إن تمّ ما استدل به على نجاسة مطلق المسكر  ـ وأما إذا لم يكن مسكراً فالحكم بنجاسته وحرمته يحتاج إلى دليل وهو إنما قام عليهما في الشراب المتخذ من الشعير ، فيرجع في المتخذ من غيره إلى مقتضى الاُصول .

   بقي الكلام في شيء وهو أنه هل تتوقّف نجاسـة الفقّـاع وحرمته على غليانه ونشيشه أو يكفي فيهما مجرّد صدق عنوانه كما هو مقتضى إطلاق الفتاوى وأغلب النصوص ؟ فقد يقال بالأول وأن حكمهم بحرمة الفقاع ونجاسته على الاطلاق إنما هو بملاحظة أن الغليان والنشيش معتبران في تحقق مفهومه ، لأن الفقاع من فقاعة ، فلا  يكون فقاعاً حقيقة إلاّ إذا نش وارتفع في رأسه الزبد ، وهذا هو الصحيح لصحيحة محمّد بن أبي عمير عن مرازم ، قال : «كان يعمل لأبي الحسن (عليه السلام) الفقاع في منزله ، قال ابن أبي عمير : ولم يعمل فقاع يغلي» (1) حيث دلّت على أن المحرّم من الفقّـاع هو الذي يغلي وينش ، وإلاّ لم يكن وجه لعمله في منزل أبي الحسن (عليه السلام) وتفسير ابن أبي عمير بأنه لم يعمل فقّاع يغلي .

   (1) وذلك لأن ما يستعمله الأطـباء في معالجاتهم إنما هو الماء الذي يلقى على الشعير ثم يطبخ معه ويؤخذ عنه ثانياً فيشرب ولا دليل على حرمته ونجاسته ، إذ الفقاع وإن اُطلق عليه ماء الشعير إلاّ أنه ليس كل ما صدق عليه ماء الشعير محكوماً

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 25 : 381 / أبواب الأشربة المحرمة ب 39 ح 1 .

ــ[130]ــ

   الحادي عشر : عرق الجنب من الحرام ((1)) (1)

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

بنجاسته وحرمته ، وإنما المحرّم والنجس منه هو الذي يطبخونه على كيفية مخصوصة يعرفها أهله .

   (1) وقع الخلاف في نجاسة عرق الجنب من الحرام وطهارته ، فعن الصدوقين (2) والشيخين (3) وغيرهم القول بنجاسته ، بل عن الأمالي : أن من دين الامامية الاقرار بنجاسته (4) ، وظاهره أن النجاسة إجماعية عندنا ، وعن الحلِّي (قدس سره) دعوى الاجماع على طهارته وأن من قال بنجاسته في كتاب رجع عنه في كتاب آخر(5) .

   واستدلّ للقول بنجاسته باُمور :

   الأوّل : ما نقله المجلسي في البحار من كتاب المناقب لابن شهرآشوب نقلاً عن كتاب المعتمد في الاُصول ، قال ، قال علي بن مهزيار: وردتُ العسكر وأنا شاك في الامامة فرأيت السلطان قد خرج إلى الصيد في يوم من الربيع إلاّ أنه صائف والناس عليهم ثياب الصيف وعلى أبي الحسن (عليه السلام) لبادة وعلى فرسه تجفاف لبود وقد عقد ذنب فرسه والناس يتعجّبون عنه ويقولون : ألا ترون إلى هذا المدني وما قد فعل بنفسه ؟ فقلتُ في نفسي لو كان هذا إماماً ما فعل هذا ، فلما خرج الناس إلى الصحراء لم يلبثوا إلاّ أن ارتفعت سحابة عظيمة هطلت فلم يبق أحد إلاّ ابتل حتى غرق بالمطر وعاد (عليه السلام) وهو سالم من جميعه ، فقلتُ في نفسي يوشك أن يكون هو الامام ، ثم قلت اُريد أن أسأل عن الجنب إذا عرق في الثوب فقلتُ في نفسي

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) في نجاسته إشكال بل منع ، ومنه يظهر الحال في الفروع الآتية ، نعم الأولى ترك الصلاة فيه فيما إذا كانت الحرمة ذاتية .

(2) نقل الصدوق في المقنع : 43 ـ 44 عن والده حرمة الصلاة فيه وبه قال الصدوق في الفقيه 1 : 40 ذيل الحديث 153 .

(3) المقنعة : 71 ، النهاية : 53 .

(4) أمالي الصدوق : 746 مجلس 93 .

(5) السرائر 1 : 181 .

ــ[131]ــ

إن كشف وجهه فهو الامام فلمّا قرب منِّي كشف وجهه ثم قال : إن كان عرق الجنب في الثوب وجنابته من حرام لا يجوز الصلاة فيه ، وإن كانت جنابته من حلال فلا بأس ، فلم يبق في نفسي بعد ذلك شبهة (1) .

   الثاني : ما رواه إدريس بن داود أو يزداد الكفرثوثي أنه كان يقول بالوقف فدخل سر من رأى في عهد أبي الحسن (عليه السلام) فأراد أن يسأله عن الثوب الذي يعرق فيه الجنب أيصلّى فيه ؟ فبينما هو قائم في طاق باب الانتظار إذ حرّكه أبو الحسن (عليه السلام) بمقرعة وقال مبتدئاً : إن كان من حلال فصلّ فيه ، وإن كان من حرام فلا تصلّ فيه (2) .

   الثالث : رواية الفقه الرضوي «إن عرقت في ثوبك وأنت جنب وكانت الجنابة من الحلال فتجوز الصلاة فيه وإن كانت حراماً فلا تجوز الصلاة فيه حتى يغسل»(3) وهذه الرواية وإن كانت بحسب الدلالة ظاهرة ، حيث إنّه (عليه السلام) جعل الحكم بعدم جواز الصلاة فيما أصابه عرق الجنب من الحرام مغياً بغسله ولم يجعل غايته الزوال وتوضيحه : أن الثوب الذي أصابه عرق الجنب لم يسقط عن قابلية الصلاة فيه إلى الأبد بضرورة الفقه بل بالضرورة الارتكازية ، فيرتفع المنع عن الصلاة في مثله بأحد أمرين لا محالة ، فان المنع إذا كان مستنداً إلى نجاسة عرق الجنب من الحرام فيرتفع بغسله ، وإن كان مستنداً إلى مانعية العرق عن الصلاة في نفسه ـ ولو مع القول بطهارته نظير أجزاء ما لايؤكل لحمه حيث إنها مانعة عن الصلاة وإن كانت طاهرة كما في بصاق الهرّة مثلاً ـ فترتفع مانعيته بزواله كإزالته بالنفط أو البانزين أو بغيرهما إلاّ أنه (عليه السلام) لمّا جعل منعه عن الصلاة فيه مغياً بغسله ولم يجعل غايته الزوال كشف ذلك عن نجاسة عرق الجنب من الحرام ، إلاّ أنها لا تتم بحسب السند ، فان الفقه الرضوي لم يثبت كونه رواية فضلاً عن أن تكون معتبرة .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) البحار 50 : 173 ـ 174 ، المناقب 4 : 413 ـ 414 .

(2) الوسائل 3 : 447 / أبواب النجاسات ب 27 ح 12 .

(3) فقه الرضا : 84 .

ــ[132]ــ

   وأما الرواية الاُولى والثانية فهما أيضاً ضعيفتان ، أما بحسب السند فلأنّ حال إسنادهما غير واضح حيث لم يذكر السند فيهما بتمامه . ودعوى انجبارهما بشهرة الفتوى بمضمونهما بين القدماء ، مدفوعة صغرى وكبرى ، أما بحسب الكبرى فلما مرّ غير مرّة من أن الشهرة لا يمكن أن تكون جابرة لضعف الرواية كما أن إعراضهم عن رواية لا يكون كاسراً لاعتبارها ، وأما بحسب الصغرى فلما قدّمنا نقله عن الحلي (قدس سره) ـ وهو من الأعلام المحقِّقين ـ من أن من ذهب إلى نجاسة عرق الجنب من الحرام في كتاب ذهب إلى طهارته في كتاب آخر(1) .

   فالمشهور حينئذ هو طهارة العرق دون نجاسـته فكيف يتوهّم أنهم اعتمدوا في الحكم بنجاسته إلى هاتين الروايتين .  على أنّ اشتهار الفتوى بنجاسـته ـ لو سلم ـ أيضاً لا يكاد يجدي في المقام ، لأنّ الشهرة التي يدعى أنها جابرة أو كاسرة إنما هي الشهرة في مقابل النادر لا الشهرة في مقابل شهرة اُخرى مثلها ـ كما في المقام ـ  .

   وأما بحسب الدلالة فلأنّ الروايتين إنما تدلاّن على المنع من الصلاة في ثوب أصابه عرق الجنب من الحرام ولا دلالة له على نجاسته لأنه لازم أعم للنجاسة كما مر ، ومما يبعّد نجاسة عرق الجنب من الحرام أو مانعيّته عن الصلاة أنّ السؤال في الأخبار المتقدِّمة إنما هو عن عرق الجنب ولم يقع السؤال عن عرق الجنب من الحرام ، وهذا كاشف عن عدم معهوديّة نجاسته إلى زمان العسكري (عليه السلام) ، والتفصيل في نجاسته أو مانعيّتـه بين كون الجنابة من الحلال وبين كونها من الحرام إنما صدر منه (عليه السلام) مع أن من البعيد أن تخفى نجاسته أو مانعيّته عند المسلمين إلى عصر العسكري (عليه السلام) لكثرة ابتلائهم به في تلك الأزمنة ، لكثرة الفجرة من السلاطين والاُمراء وبالأخص إذا عممنا الحرام إلى الحرام بالعرض كوطء الزوجة أيام حيضها أو في نهار شهر رمضان .

 كيف وقد ورد في جملة من الأخبار عدم البأس بعرق الجنب وأن الثوب والعرق لا يجنبان (2) ، فلو كان عرق الجنب من الحرام نجساً أو مانعاً عن الصلاة لورد ما يدلّنا

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) تقدّم في ص 130 .

(2) الوسائل 3 : 445 / أبواب النجاسات ب 27 ح 1 ، 3 ، 5 ، 6 ، 9 .

ــ[133]ــ

على نجاسته أو مانعيته إلى زمان العسكري (عليه السلام) فمن هذا كله يظهر أنه لا  مناص من حمل الأخبار المانعة على التنزه والكراهة لاستقذار عرق الجنب من الحرام ، وبهذا المقدار أيضاً تثبت كرامته (عليه السلام) وإعجازه حيث أجاب عما في ضمير السائل من غير أن يسبقه بالسؤال .

   بقي الكلام في مرسلة الشيخ (قدس سره) في مبسوطه حيث قال في محكي كلامه : وإن كانت الجنابة من حرام وجب غسل ما عرق فيه على ما رواه بعض أصحابنا (1) . فالكلام في أن ما رواه ذلك البعض أي رواية ، والظاهر أنه أراد بذلك رواية علي بن الحكم عن رجل عن أبي الحسن (عليه السلام) قال : «لا تغتسل من غسالة ماء الحمّام ، فانه يغتسل فيه من الزنا ، ويغتسل فيه ولد الزنا ، والناصب لنا أهل البيت وهو شرّهم» (2) وذلك لأنه إن كانت هناك رواية اُخرى دالة على نجاسة عرق الجنب من الحرام لنقلها نفس الشيخ في كتابي الأخبار أو نقلها لا محالة في شيء من كتبه المعدّة للاستدلال كالمبسوط وغيره ، ولم ينقل شيئاً يدل على ذلك في كتبه فتعيّن أن يكون مراده تلك الرواية المتقدِّمة ، إلاّ أنها غير قابلة للاعتماد لضعف سندها ، فانّ علي بن الحكم إنما رواها عن رجل وهو مجهول ، ومعه تدخل الرواية في المراسيل ولا يمكن أن نعتمد عليها في مقام الاستدلال .

   وأضف إلى ذلك ، المناقشة في دلالتها حيث إنها إنما تقتضي نجاسة بدن الزاني وولد الزنا وقد قدّمنا طهارة ولد الزنا كما لا إشكال في طهارة بدن الزاني ، وإنما الكلام في نجاسة عرقه ولا دلالة لها على نجاسة عرقه بوجه ، على أنها معارضة بما دلّ على طهارة الزاني وولد الزنا . نعم ، لا إشكال في نجاسة الناصب كما أسلفنا في محلِّه(3) فتحصّل أنه لم ترد رواية معـتبرة في عرق الجنب من الحرام حتى يستدلّ بها على

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) المبسوط 1 : 91 ما نصّه : «ان كانت الجنابة عن حرام روى أصحابنا انه لا تجوز الصلاة فيه» .

(2) الوسائل 1 : 219 / أبواب الماء المضاف ب 11 ح 3 ، وكذا في 3 : 448 / أبواب النجاسات ب  27 ح 13 .

(3) في ص 69  .

ــ[134]ــ

سواء خرج حين الجماع أو بعده (1) من الرجل أو المرأة ، سواء كان من زنا أو غيره ، كوطء البهيمة أو الاستمناء أو نحوهما مما حرمته ذاتية ، بل الأقوى ذلك في وطء الحائض والجماع في يوم الصوم الواجب المعيّن أو في الظهار قبل التكفير (2) .

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

نجاسته . وقد بيّنا في كتاب الصلاة أن الشيخ (قدس سره) كثيراً ما  يسند الرواية إلى أصحابنا اجتهاداً منه (قدس سره) في دلالة رواية وحسبان دلالتها على المدعى مع أنها محل منع أو خلاف .

   وبالجملة أن الأخبار المتقدمة التي استدل بها على النجاسة في المقام ضعيفة وغير قابلة للاعتماد عليها في الاستدلال . ثم إنه لو قلنا بانجبار ضعفها من جهة شهرة الفتوى بمضامينها عند القدماء فغاية ما يستفاد منها عدم جواز الصلاة فيما أصابه عرق الجنب من الحرام ، وقد عرفت أنه غير ملازم للحكم بنجاسته لاحتمال كونه مانعاً مستقلاًّ عن الصلاة كما هو الحال في أجزاء ما لايؤكل لحمه .

   (1) لأن الجنابة إنما تتحقق بالتقاء الختانين وحيث إنها من الحرام فيصدق أنه جنب من الحرام ، فاذا بنينا على نجاسة عرقه بمقتضى الأخبار المتقدمة فلا مناص من الحكم بنجاسته حين التقائهما وبعده بلا فرق في ذلك بين خروج المني وعدمه ، لأن النجاسة مترتِّبة على عنوان الجنابة وهي غير متوقِّفة على الانزال في الجماع . وأما العرق قبل الجماع والالتقاء فلا إشكال في طهارته لعدم تحقّق موضوع النجاسة وهو الجنابة من الحرام فعدم نجاسته سالبة بانتفاء موضوعها ، فما في بعض الكلمات من أن العرق قبل الجماع محـكوم بطهارته لخروجه عن الاطلاق من سهو القلم حيث لا  موضوع حتى يخرج عن الاطلاق .

   (2) تبتني هذه المسألة على أن المراد بالحلال والحرام في روايتي علي بن مهزيار وإدريس بن داود المتقدمتين هل هو الحلية والحرمة الفعليتين سواء كانتا ذاتيتين أم عرضيتين ، مثلاً إذا اُكره أحد على الزنا أو اضطر إليه فكان حلالاً فعلياً في حقه لم يحكم بنجاسة عرقه وإن كان محرّماً ذاتياً في نفسه ، كما أنه إذا جامع زوجته وهي حائض أو في يوم الصوم الواجب المعيّن بحيث كان الوطء محرّماً فعلياً في حقِّه حكم




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net