موضوع العلم وعوارضه الذاتية وتمايز العلوم - الاشارة إلى قاعدة الواحد لا يصدر إلاّ من واحد 

الكتاب : محاضرات في اُصول الفقه - الجزء الاول   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 8186


الأمر الثالث

في بيان موضوع العلم وعوارضه الذاتية وتمايز العلوم

فيقع الكلام في جهات :

الجهة الاُولى : في مدرك ما التزم به المشهور من لزوم الموضوع في كل علم .

الجهة الثانية : في وجه ما التزموا به من أنّ البحث في كل علم لا بدّ أن يكون عن العوارض الذاتية لموضوعه .

الجهة الثالثة : في بيان تمايز العلوم بعضها عن بعض .

أمّا الكلام في الجهة الاُولى : فغاية ما قيل أو يمكن أن يقال في وجهه : هو أنّ الغرض من أيّ علم من العلوم أمر واحد ، مثلاً الغرض من علم الاُصول الاقتدار على الاستنباط ، ومن علم النحو صون اللسان عن الخطأ في المقال ، ومن علم المنطق صون الفكر عن الخطأ في الاستنتاج .
وحيث إنّ هذا الغرض الوحداني يترتب على مجموع القضايا المتباينة في

ــ[14]ــ

الموضوعات والمحمولات التي دوّنت علماً واحداً وسميت باسم فارد ، يستحيل أن يكون المؤثر فيه هذه القضايا بهذه الصفة ، لاستلزامه تأثير الكثير بما هو كثير في الواحد بما هو واحد ، فإذن يكشف إنّاً عن أنّ المؤثر فيه جامع ذاتي وحداني بينها ، بقانون أنّ المؤثر في الواحد لا يكون إلاّ الواحد بالسنخ ، وهو موضوع العلم .

وبتعبير آخر: أنّ البرهان على اقتضاء وحدة الغرض لوحدة القضايا موضوعاً ومحمولاً، ليس إلاّ أنّ الاُمور المتباينة لا تؤثِّر أثراً واحداً، كما عليه جلّ الفلاسفة لولا كلّهم .

ويرد عليه أوّلاً : أنّ البرهان المزبور وإن سلّم في العلل الطبيعية لا في الفواعل الارادية ، إلاّ أنّ الغرض الذي يترتب على مسائل العلوم ، لا يخلو إمّا أن يكون واحداً شخصياً ، أو واحـداً نوعياً ، أو عنوانياً ، وعلى أيّ تقدير لا تكشف وحدة الغرض عن وجود جامع ماهوي وحداني بين تلك المسائل .

أمّا على الأوّل ، فإنّه يترتب على مجموع المسائل من حيث المجموع ، لا على كل مسألة مسألة بحيالها واستقلالها ، فحينئذ المؤثر فيه المجموع من حيث هو، فتكون كل مسألة جزء السبب لا تمامه ، نظير ما يترتب من الغرض الوحداني على المركبات الاعتبارية من الشرعية : كالصلاة ونحوها، أو العرفية ، فانّ المؤثر فيه مجمـوع أجزاء المركّب بما هو ، لا كل جزء جزء منه ، ولذا لو انتفى أحد أجزائه انتفى هذا الغرض .

فوحدة الغرض بهذا النحو لاتكشف عن وجود جامع وحداني بينها بقاعدة استحالة صدور الواحد عن الكثير ، فان استناده إلى المجموع بما هو لا يكون مخالفاً لتلك القاعدة ليكشف عن وجود الجامع ، إذ سببية المجموع من حيث هو ، سببية واحدة شخصية ، فالاستناد إليه استناد معلول واحد شخصي إلى

ــ[15]ــ

علة واحدة شخصية لا إلى علل كثيرة .

ومقامنا من هذا القبيل ، فانّ المؤثر في الغرض الذي يترتّب على مجموع القضايا والقواعـد ، المجمـوع من حيث المجموع ، لا كل واحدة واحدة منها ، والمفروض ـ كما عرفت ـ أنّ سببية المجموع سببية واحدة شخصية فاردة ، فاستناده إليه ليس من استناد الواحد إلى الكثير ، بل حقيقةً من استناد معلول واحد شخصي إلى علة كذلك .

فإذن لا سبيل لنا إلى استكشاف وجود جامع ذاتي بين المسائل .

وأمّا على الثاني ، بأن كان الغرض كلياً له أفراد يترتب كل فرد منها على واحدة من المسائل بحيالها واستقلالها ـ كما هو الصحيح ـ فالأمر واضح ، إذ بناءً على ذلك لا محالة يتعدد الغرض بتعدد المسائل والقواعد ، فيترتب على كل مسألة بحيالها غرض خاص غير الغرض المترتب على مسألة اُخرى .

مثلاً الاقتدار على الاستنباط الذي يترتب على مباحث الألفاظ ، يباين الاقتدار على الاستنباط المترتب على مباحث الاسـتلزامات العقلية ، وهما يباينان ما يترتب على مباحث الحجج والأمارات ، فانّ الاقتدار على الاستنباط الحاصل من مباحث الاستلزامات العقلية اقتدار على استنباط الأحكام الشرعية على نحو البتّ والجزم ، وهذا بخلاف الاقـتدار الحاصل من مباحث الحجج والأمارات ، وهكذا ...

وإذا كان الأمر كذلك فلا طـريق لنا إلى إثبات جامع ذاتي وحداني بين موضوعات هذه المسائل، لأنّ البرهان المزبور لو تمّ فانّما يتم في الواحد الشخصي البسيط بحيث لا يكون ذا جهتين أو جهات ، فضلاً عن كونه واحداً نوعياً ، فإذا فرضنا أنّ الغرض واحد نوعي فلا يكشف إلاّ عن واحد كذلك ، لا عن واحد شخصي .

ــ[16]ــ

وأمّا على الثالث ، فالحال فيه أوضح من الثاني ، فانّ القاعدة المزبور لو تمّت فانّما تتم في الواحد الحقيقي لا في الواحد العنواني ، والمفروض أنّ الغرض في كثير من العلـوم واحد بالعنوان لا بالحقيقة ، فان صون الفكر عن الخطأ في الاستنتاج في علم المنطق ، وصون اللسان عن الخطأ في المقال في علم النحو ، والاقتدار على الاستنباط في علم الاُصول ، وهكذا ، ليس واحداً بالذات ، بل بالعنوان الذي انتزع من مجموع أغراض متعددة بتعدد القواعد المبحوث عنها في العلوم ، ليشار به إلى هذه الأغراض .

فإذن كيف يكشف مثل هذا الواحد عن جامع ذاتي ؟ فانّ الواحد بالعنوان لا يكشف إلاّ عن واحد كذلك .

وثانياً : أنّ الغرض المترتب على كل علم لايترتب على نفس مسائله الواقعية وقواعده النفس الأمرية ، ليكشف عن جامع وحداني بينها ، ويقال ذلك الجامع الوحداني موضوع العلم ومؤثر في ذلك الغرض ، وهذا لعلّه من أبده البديهيات ، فانّ لازم ذلك حصول ذلك الغرض لكل من كان عنده كتب كثيرة من علم واحد أو علوم مختلفة ، من دون أن يكون عالماً بما فيها من القواعد والمسائل .

بل هو مترتب على العلم بنسبها الخاصة ، وبثبوت محمولاتها لموضوعاتها ، فانّ الاقتدار على الاستنباط في علم الاُصول ، إنّما يترتب على معرفة قواعده ، بأن يعرف حجية أخبار الثقة، وحجية ظواهر الكتاب ، والاستصحاب ، ونحوها، فإذا عرف هذه القواعد ، وعلم بنسبها الخاصة، يحصل له الاقتدار على الاستنباط .

وصون اللسان عن الخطأ في المقال في علم النحو إنّما يحصل لمن يعرف مسائله وقواعده ، كرفع الفاعل ونصب المفعول وجرّ المضاف إليه ، ونحو ذلك .

وصون الفكر عن الخطأ في علم المنـطق ، إنّما يترتب على معرفة قوانينه وقواعده ، كايجاب الصغرى وكلية الكبرى وتكرر الحد الأوسط، وهكذا .

ــ[17]ــ

فلا بدّ من تصوير الجامع حينئذ بين العلوم أو لا أقل بين النسب الخاصة ، لا بين الموضوعات .

وثالثاً : أنّ المحمولات التي تترتب على مسائل علم الفقه بأجمعها ، وعدة من محمولات مسائل علم الاُصول ، من الاُمور الاعتبارية التي لا واقع لها عدا اعتبار من بيده الاعتبار ، فانّ محمولات مسائل علم الفقه على قسمين :

أحدهما : الأحكام التكليفية كالوجوب والحرمة والاباحة والكراهة والاستحباب .

والآخر : الأحكام الوضعية كالملكية والزوجية والرقية ونحوها ، وكلتاهما من الاُمور الاعتبارية التي لا وجود لها إلاّ في عالم الاعتبار .

نعم ، الشرطية والسببية والمانعية ونحوها من الاُمور الانتزاعية التي تنتزع من القيود الوجودية أو العدمية المأخوذة في متعلقات الأحكام أو موضوعاتها ، ولهذا لا تكون موجودة في عالم الاعتبار إلاّ بالتبع ، ولكن مع ذلك هي تحت تصرف الشارع رفعاً ووضعاً ، من جهة أنّ منشأ انتزاعها تحت تصرفه كذلك .

وإن شئت قلت : إنّ محمولات مسائل علم الفقه على سنخين :

أحدهما موجود في عالم الاعتبار بالأصالة ، كجميع الأحكام التكليفية ، وكثير من الأحكام الوضعية .

والآخر موجود فيه بالتبع كعدّة اُخرى من الأحكام الوضعية .

ومن هنا ظهر حال بعض محمولات علم الاُصول أيضاً ، كحجية خبر الواحد والاجماع المنقول ، وظواهر الكتاب ، وأحد الخبرين المتعارضين في هذا الحال ونحوها، فانّها من الاُمور الاعتبارية حقيقة وواقعاً، بل البراءة والاحتياط الشرعيان أيضاً من هذا القبيل .

ــ[18]ــ

نعم ، محمولات مثل مباحث الألفاظ والاستلزامات العقلية والبراءة والاحتياط العقليين ، ليست من الاُمور الاعتبارية في اصطلاح الاُصوليين ، وإن كانت كذلك في اصطلاح الفلاسفة ، فانّ المصطلح عندهم إطلاق الأمر الاعتباري على الأعم منه ومن الأمر الانتزاعي كالامكان والامتناع ونحوهما . والمصطلح عند الاُصوليين إطلاق الأمر الاعتباري في مقابل الأمر الانتزاعي الواقعي .

إذا عرفت ذلك فأقول : لو سلّم ترتب الغرض الواحد على نفس مسائل العلم الواحد ، فلا يكاد يعقل أن يكشف عن جامع واحد مقولي بينها ، ليقال إنّ ذلك الجامع الواحد يكشف عن جامع كذلك بين موضوعاتها ، بقاعدة السنخية والتطابق ، ضرورة أ نّه كما لا يعقل وجود جامع مقولي بين الأمر الاعتباري والأمر التكويني، كذلك لا يعقل وجوده بين أمرين اعتباريين أو اُمور اعتبارية، فانّه لو كان بينها جامع ، لكان من سنخها لا من سنخ الأمر المقولي ، فلا كاشف عن أمر وحداني مؤثر في الغرض الواحد ، فانّ التأثير والتأثر إنّما يكونان في الأشياء المتأصلة ، كالمقولات الواقعية من الجواهر والأعراض .

ورابعاً : أنّ موضوعات مسائل علم الفقه على أنحاء مختلفة :

فبعضها من مقولة الجوهر كالماء والدم والمني ، وغير ذلك .

ونحو من مقولة الوضع كالقيام والركوع والسجود ، وأشباه ذلك .

وثالث من مقولة الكيف المسموع كالقراءة في الصلاة ، ونحوها .

ورابع من الاُمور العدمية كالتروك في بابي الصوم والحج وغيرهما .

وقد برهن في محلّه أ نّه لا يعقل وجود جامع ذاتي بين المقولات كالجواهر والأعراض ، لأنّها أجناس عالية ومتباينات بتمام الذات والحقيقة ، فلا اشتراك أصلاً بين مقولة الجوهر مع شيء من المقولات العرضية ، ولا بين كل واحدة منها مع الاُخرى ، وإذا لم يعقل تحقق جامع مقولي بينها ، فكيف بين الوجود

ــ[19]ــ

والعدم .

وملخص ما ذكرناه أمران :

الأوّل : أ نّه لا دليل على اقتضاء كل علم وجود الموضـوع ، بل سبق أنّ حقيقة العلم عبارة عن : جملة من القضايا والقواعد المختلفة بحسب الموضوع والمحمول ، التي يجمعها الاشتراك في الدخل في غرض واحد دعا إلى تدوينها علماً .

الثاني : أنّ البرهـان قد قام على عدم إمكان وجود جامع مقولي بين موضوعات مسائل بعض العلوم كعلم الفقه والاُصول .

وأمّا الكلام في الجهة الثانية : فتفصيل القول فيها يحتاج إلى تقديم مقدّمة وهي : أنّ المشهور قد قسّموا العوارض على سبعة أقسام : فانّ العارض على الشيء إمّا أن يعرض ذلك الشيء ويتّصف المعروض به بلا توسط أمر آخر ، كادراك الكلّيات العارض للعقل ، أو بواسطة أمر آخر مساو للمعروض ، كصفة الضحك العارضة للانسان بواسـطة أمر مساو له وهو صفة التعجب ، أو هذه الصفة عارضة له بواسطة ما هو مساو له ، وهو صفة الادراك ـ هذا في الواسطة المساوية الخارجة عن ذات ذيها ، بأن لا تكون جزءه ـ .

وقد يعرض على شيء بواسطة جزئه الداخلي المساوي له في الصدق ، كعروض عوارض الفصل على النوع ، مثل عروض النطق على الانسان بواسطة النفس الناطقة ، أو بواسطة أمر أخص ، كعروض عوارض النوع أو الفصل على الجنس ، كما هو الحال في أكثر مسائل العلوم ، فانّ نسبة موضوعات مسائلها إلى موضوعات العلوم نسبة الأنواع إلى الأجناس ، فعروض عوارضها لها من العارض على الشيء بواسطة أمر أخص، أو بواسطة أمر أعم كعروض عوارض الأجناس للأنواع، مثل صفة المشي العارضة للانسان بواسطة كونه حيواناً، هذا

ــ[20]ــ

في الأعم الداخلي .

وربّما يعرض على شيء بواسطة أعم خارجي ـ أي خارج عن ذاته ولا يكون جنسه ولا فصله ـ أو بواسـطة أمر مباين له ، كعروض الحرارة للماء بواسطة النار أو الشمس ، أو عروض الحركة للسيارة أو الطيارة بواسطة القوّة الكهربائية .

وملخص ما ذكرناه : هو أنّ الواسطة إمّا مساوية أو أعم ، وهما إمّا داخليان كالجنس والفصل، وإمّا خارجيان ، وإمّا خارجي أخص، وإمّا مباين، فهذه ستّة أقسام ، والسابع منها ما لا يكون له واسطة .

إذا عرفت ذلك فأقول : إنّ المعروف والمشهور بل المتفق عليه بينهم ، أنّ ما لا واسطة له أو كانت أمراً مساوياً داخلياً من العوارض الذاتية، كما أنّ ما كانت الواسطة فيه أمراً مبايناً أو أعم خارجياً من العوارض الغريبة عندهم .

وأمّا الثلاثة الباقية فكلماتهم فيها مختلفة غاية الاختلاف ، فاختار جمع منهم أنّ عوارض النوع ليست ذاتية للجنس ، ومنها عوارض الفصل ، واختار جمع آخر بل نسب إلى المشهور أنّ عوارض الجنس ليست ذاتية للنوع .

وبهذا يشكل كون محمولات العلوم عوارض ذاتية لموضوعاتها ، فانّها إنّما تعرض لموضوعات المسائل أوّلاً وبالذات ، وبوسـاطتها تعرض لموضـوعات العلوم فإذا فرض أنّ عوارض الأنواع ليست ذاتية للأجناس وبالعكس ، لزم أن يكون البحث في العلوم عن العوارض الغريبة ، لوضوح أنّ نسبة موضوعات المسائل إلى موضوعات العلوم نسبة الأنواع إلى الأجناس .

كما أنّ البحث في عدّة من مسائل هذا العلم عمّا يعرض لموضوعه بواسطة أمر أعم، كمباحث الألفاظ والاستلزامات العقلية ، فان موضوع العلم خصوص

  
 

ــ[21]ــ

الكتاب والسنّة، وموضوع البحث الأعم منهما، إذن بناءً على أنّ عوارض الجنس ليست ذاتية للنوع ، يكون البحث فيهما عن العوارض الغريبة لموضوع العلم .

وملخص الكلام : أنّ هذا الإشكال يبتني على أمرين :

الأوّل : أن يكون البحث في العلوم عن العوارض الذاتية لموضوعها .

الثاني : أن لا تكون عوارض النوع ذاتية للجنس وبالعكس .

ثمّ إنّهما يبتنيان على أمر واحد وأصل فارد ، وهو الالتزام بلزوم الموضوع في كل علم ، وإلاّ فلا موضوع لهذين الأمرين فضلاً عن الاشكال .

وكيف كان ، فقد ذهب غير واحد من الأعلام والمحققين في التفصي عنه يميناً وشمالاً ، منهم صدر المتألهين في الأسفار ، إلاّ أنّ جوابه لا يجدي إلاّ في المسائل الفلسفية فقط (1) .

ـــــــــــــــــــــ
(1) قال: نعم، كلّ ما يلحق الشيء لأمر أخص وكان ذلك الشيء مفتقراً في لحوقه له إلى أن يصير نوعاً متهيأ لقبوله، ليس عرضاً ذاتياً بل عرض غريب على ما هو المصرّح به في كتب الشيخ وغيره. كما أنّ ما يلحق الموجود بعد أن يصير تعليمياً أو طبيعياً، ليس البحث عنه من العلم الإلهي في شيء، وما أظهر لك أن تفطن بأنّ لحوق الفصول لطبيعة الجنس كالاستقامة والانحناء للخط ـ مثلاً ـ ليس بعد أن يصير نوعاً متخصص الاستعداد، بل التخصص إنّما يحصل بها لا قبلها، فهي مع كونها أخص من طبيعة الجنس أعراض أوّلية له ... » . الأسفار الأربعة ج1 [ ص33 ]، فصل موضوع العلم الإلهي.
وأوضحه بعض المحققين بما إليك نصّه : توضيحه : أنّ الموضوع في علم المعقول ـ مثلاً ـ هو الموجود أو الوجود ، وهو ينقسم أوّلاً إلى الواجب والممكن ثمّ الممكن إلى الجوهر والمقولات العرضية ، ثمّ الجوهر إلى عقل ونفس وجسم ، ثمّ العرض كل مقولة =

ــ[22]ــ

ولكن على ضوء ما حققناه سابقاً يتّضح لك أ نّه لا أساس للاشكال المذكور،

ـــــــــــــــــــــ
= منه إلى أنواع ، والكل من مطالب ذلك العلم ومن لواحقه الذاتية ، مع أنّ ما عدا التقسيم الأوّل ، يتوقف على تخصص الموضوع بخصوصية أو خصوصيات ، إلاّ أنّ جميع تلك الخصوصيات مجعولة بجعل واحد وموجودة بوجود فارد ، فليس هناك سبق في الوجود لواحد بالإضافة إلى الآخر ، كي يتوقف لحوق الآخر على سبق استعداد وتهيؤ للموضوع بلحوق ذلك الواحد المفروض تقدمه رتبة ، فانّ الموجود لا يكون ممكناً أوّلاً ثمّ يوجد له وصف الجوهرية أو العرضية، بل إمكانه بعين جوهريته وعرضيته، كما أنّ جوهريته بعين العقلية أو النفسية أو الجسمية ، ففي الحقيقة لا واسطة في العروض والحمل الذي هو الاتحاد في الوجود ، بل الامكان يتحد مع الوجود بعين الاتحاد الجوهري العقلي أو النفسي أو الجسماني في الوجود ، فليس هناك عروضان حتى يكون أحدهما بالذات والآخر بالعرض، بخلاف لحوق الكتابة والضحك للحيوان، فانّه يتوقف على صيرورة الحيوان متخصصاً بالنفس الإنسانية تخصصاً وجودياً حتى يعرضه الضحك والكتابة ، وليس الضحك والكتابة بالإضافة إلى الانسان كالعقلية والنفسية بالإضافة إلى الجوهر ، بداهة أنّ إنسانية الانسان ليست بضاحكيته وكاتبيته ، نعم تجرّد النفس وما يماثله ممّا يكون تحققه بتحقق النفس الانسانية ، من الأعراض الذاتية للحيوان كالنفس .
ثمّ قال (قدس سره) أيضاً : وهذا الجواب وإن كان أجود ما في الباب ، إلاّ أ نّه وجيه بالنسبة إلى علم المعقول ، وتطبيقه على سائـر الموضوعات للعلوم لا يخلو عن تكلف ، فانّ موضوع علم الفقه هو فعل المكلف ، وموضوعات مسائله الصلاة والصوم والحج ، إلى غير ذلك ، وهذه العناوين نسبتها إلى موضوع العلم كنسبة الأنواع إلى الجنس ، وهي وإن كانت لواحق ذاتية له إلاّ أ نّه لا يبحث عن ثبوتها له ، والحكم الشرعي ليس بالإضافة إليها كالعقلية بالإضافة إلى الجوهرية ، بل هما موجودان متباينان وكذا الأمر في النحو والصرف . [ نهاية الدراية 1 : 22 ، 24 ] .

ــ[23]ــ

فانّه يبتني على الالتزام بالأمرين المزبورين اللّذين هما مبتنيان على أصل وأساس واحد ، وهو الالتزام بلزوم الموضوع في كل علم ، وقد سبق أنّه لا دليل عليه بصورة عامـة وعرفت قيام الدليل على عدمه بصورة خاصة في بعض العلوم ، كعلم الفقه والاُصول .

وتوهم أنّ وحدة العلم تدور مدار وحدة موضوعه ، فإذا فرض أ نّه لا موضوع له فلا وحدة له ، مدفوع بأنّ وحدة كل علم ليست وحدة حقيقية ، لنحتاج إلى تكلف إثبات وجود جامع حقيقي بين موضوعات مسائله ، بل وحدته وحدة اعتبارية ، فانّ المعتبر يعتبر عدّة من القضايا والقواعد المتباينة بحسب الموضوع والمحمول علماً ويسميها باسم فارد من جهة اشتراكها في الدخل في غرض واحد .

ثمّ لو تنزلنا عن ذلك وسلّمنا لزوم الموضوع للعلم ، فلا دليل على اعتبار أن يكون البحث فيها عن العوارض الذاتية لموضوعه بالمعنى الذي فسّرها المشهور به ، والوجه في ذلك ما بيّناه من أنّ حقيقة العلم عبارة عن عدّة من المسائل والقواعد المختلفة موضوعاً ومحمولاً ، التي جمعها الاشتراك في غرض واحد ، وعليه فيبحث في كل علم عمّا له دخل في غرضه ، سواء كان من العوارض الذاتية في الاصطلاح ، أم كان من الغريبة ، ضرورة أ نّه لا ملزم بأن يكون البحث عن العوارض الذاتية فقط ، بعد فرض دخل العوارض الغريبة أيضاً في المهم .

ولو تنزلنا عن هذا أيضاً وسلّمنا أنّ البحث في العلوم عن العوارض الذاتية لموضوعاتها ، إلاّ أ نّه لا دليل على أنّ عوارض الأنواع ليست ذاتية للأجناس وبالعكس ، بل الصحيح أنّ ما يلحق الشيء بتوسط نوعه أو جنسه ذاتي له لا غريب ، بداهة أنّ المراد منه ليس ما يعرض الشيء أوّلاً وبالذات ومن دون

ــ[24]ــ

واسطة، فانّ لازمه خروج كثير من محمولات العلوم التي لها دخل في الأغراض المترتبة عليها .

وبالجملة : لا وجه للقول بكون عوارض النوع غريبة للجنس ، فانّ البحث عنها لا بدّ منه في العلوم ، وبدونه لا يتم أمرها .

وعليه فنقول : لا بدّ من الالتزام بأحد أمرين : إمّا أن نلتزم بأنّ عوارض النوع ذاتية للجنس، وإمّا أن نلتزم بأنّ المبحوث عنه في العلوم أعم من العوارض الذاتية والغريبة ، وهو : كل ما له دخل في الغرض ذاتياً كان أو غريباً ، ومع التنزل عن الثاني ، فلا مناص من الالتزام بالأوّل .

وعلى ذلك فملاك الفرق بينهما : هو أنّ ما له دخل في الغرض فليس بعرض غريب ، وما لا دخل له فيه غريب . ومن ذلك ظهر أ نّه لا وجه لإطالة الكلام في المقام ، في بيان أنّ عارض النوع ذاتي للجنس وبالعكس ، أو لا ، كما صنعه شيخنا الاُستاذ (قدس سره) (1) وغيره .
ثمّ إنّ مرادنا من العرض مطلق ما يلحق الشيء ، سـواء كان من الاُمـور الاعتبارية أم من الاُمور المتأصلة الواقعية ، لا خصوص ما يقابل الجوهر .

وأمّا الكلام في الجهة الثالثة : فقد اشتهر أنّ تمايز العلوم بعضها عن بعض بتمايز الموضوعات. وقد خالف في ذلك صاحب الكفاية (قدس سره) (2) واختار أنّ تمايز العلوم بتمايز الأغراض المترتبة عليها الداعية إلى تدوينها ، كالاقتدار على الاستنباط في علم الاُصول ، وصون اللسان عن الخطأ في المقال في علم النحو، وصون الفكر عن الخطأ في الاستنتاج في علم المنطق، وهكذا ... .

ـــــــــــــــــــــ
(1) أجود التقريرات 1 : 8 .
(2) كفاية الاُصول : 8 .

ــ[25]ــ

وأورد على المشهور بما ملخّصه : أنّ الملاك في تمايز العلوم لو كان تمايز موضوعاتها ، فلازمه أن يكون كل باب بل كل مسألة علماً على حدة، لتحقق هذا الملاك فيهما .

والتحقيق في المقام أن يقال : إنّ إطلاق كل من القولين ليس في محلّه ، وبيان ذلك : أنّ التمايز في العلوم تارةً يراد به التمايز في مقام التعليم والتعلم ، لكي يقتدر المتعلم ويتمكن من تمييز كل مسألة ترد عليه ، ويعرف أنّها مسألة اُصولية أو مسألة فقهية أو غيرهما .

واُخرى يراد به التمايز في مقـام التدوين ، وبيان ما هو الداعي والباعث لاختيار المدوّن عدّة من القضايا والقواعد المتخالفة ، وتدوينها علماً واحداً ، وتسميتها باسم فارد ، واختياره عدّة من القضايا والقواعد المتخالفة الاُخرى وتدوينها علماً آخر وتسميتها باسم آخر ، وهكذا .

أمّا التمايز في المقام الأوّل : فيمكن أن يكون بكل واحد من الموضوع والمحمول والغرض ، بل يمكن أن يكون ببيان فهرس المسائل والأبواب إجمالاً ، والوجه في ذلك : هو أنّ حقيقة كل علم حقيقة اعتبارية، وليست وحدتها وحدةً بالحقيقة والذات ليكون تمييزه عن غيره بتباين الذات، كما لو كانت حقيقة كل واحد منهما من مقولة على حدة، أو بالفصل كما لو كانت من مقولة واحدة ، بل وحدتها بالاعتبار ، وتمييز كل مركب اعتباري عن مركب اعتباري آخر يمكن بأحد الاُمور المزبورة .

وأمّا التمايز في المقام الثاني : فبالغرض إذا كان للعلم غرض خارجي يترتب عليه ، كما هو الحال في كثير من العلوم المتداولة بين الناس كعلم الفقه والاُصول والنحو والصرف ونحوها ، وذلك لأنّ الداعي الذي يدعو المدوّن لأن يدوّن عدّة من القضايا المتباينة علماً كقضايا علم الاُصول مثلاً ، وعدّة اُخرى منها

ــ[26]ــ

علماً آخر كقضايا علم الفقه ، ليس إلاّ اشتراك هذه العدّة في غرض خاص ، واشتراك تلك العدّة في غرض خاص آخر ، فلو لم يكن ذلك ملاك تمايز هذه العلوم بعضها عن بعض في مرحلة التدوين ، بل كان هو الموضوع ، لكان اللاّزم على المدوّن أن يدوّن كل باب بل كل مسألة علماً مستقلاً ، لوجود الملاك كما ذكره صاحب الكفاية (قدس سره) .

وأمّا إذا لم يكن للعلم غرض خارجي يترتب عليه سوى العرفان والاحاطة به ، كعلم الفلسفة الاُولى، فامتيازه عن غيره إمّا بالذات أو بالموضوع أو بالمحمول، كما إذا فرض أنّ غرضاً يدعو إلى تدوين علم يجعل الموضوع فيه الكرة الأرضية مثلاً ، ويبحث فيه عن أحوالها من حيث الكمية والكيفية والوضع والأين، إلى نحو ذلك، وخواصها الطبيعية ومزاياها على أنحائها المختلفة.

أو إذا فرض أنّ غرضاً يدعو إلى تدوين علم يجعل موضوعه الإنسان ويبحث فيه عن حالاته الطارئة عليه ، وعن صفاته من الظاهرية والباطنية ، وعن أعضائه وجوارحه وخواصها ، فامتياز العلم عن غيره في مثل ذلك ، إمّا بالذات أو بالموضوع ، ولا ثالث لهما ، لعدم غرض خارجي له ما عدا العرفان والإحاطة ، ليكون التمييز بذلك الغرض الخارجي .

كما أ نّه قد يمكن الامتياز بالمحمول فيما إذا فرض أنّ غرض المدوّن يتعلق بمعرفة ما تعرضه الحركة مثلاً ، فله أن يدوّن علماً يبحث فيه عمّا تثبت الحركة له ، سواء كان ما له الحركة من مقولة الجوهر أم من غيرها من المقولات ، فمثل هذا العلم لا امتياز له إلاّ بالمحمول .

وبما حققناه تبيّن لك وجه عدم صحّة إطلاق كل من القولين ، وأنّ تميّز أيّ علم عن آخر كما لا ينحصر بالموضوع ، كذلك لا ينحصر بالغرض ، بل كما يمكن أن يكون بهما ، يمكن أن يكون بشيء ثالث لا هذا ولا ذاك .

ــ[27]ــ

ثمّ إنّ من القريب جداً أن يكون نظر المشهور فيما ذهبوا إليه من أنّ تمايز العلوم بالموضوعات ، إلى تقدم رتبة الموضوع على رتبتي المحمول والغرض ، ولعلّهم لأجله قالوا إنّ التمايز بها ، وليس مرادهم الانحصار ، وإلاّ فقد عرفت عدمه .




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net