موضوع علم الاُصول 

الكتاب : محاضرات في اُصول الفقه - الجزء الاول   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 6009


ويتلخص ما ذكرناه في اُمور :

الأوّل : أنّ صحّة تدوين أيّ علم لا تتوقف على وجود موضوع له ، لما بيّنا من أنّ حقيقة العلم عبارة عن : مجموع القضايا والقواعد المتخالفة التي جمعها الاشتراك في غرض خاص لا يحصل ذلك الغرض إلاّ بالبحث عنها .

الثاني : أ نّه لا منافاة بين ما ذكرناه من عدم قيام الدليل على لزوم الموضوع في العلوم ، وبين أن يكون لبعض العلوم موضوع ، وذلك لأنّ ما ذكرناه إنّما هو من جهة عدم قيام البرهان على لزوم الموضوع في كل علم ، بحيث لا يكون العلم علماً بدونه ، ولذا يبحث في أكثر العلوم عن محمولات مسائلها المترتبة على موضوعاتها ، وذلك لا ينافي وجود الموضوع لبعض العلوم ، كما إذا فرض تعلق غرض المدوّن بمعرفة موضوع ما ، فيدوّن علماً يبحث فيه عن عوارض موضوعه .

الثالث : أنّ تمايز العلوم بعضها عن بعض كما لا ينحصر بالموضوع ، كذا لا ينحصر بالغرض ، بل كما يمكن أن يكون بهما ، يمكن أن يكون بالمحمول ، وببيان الفهرس والأبواب إجمالاً ، بل بالذات تارة ، على حسب اختلاف العلوم والمقامات ، هذا كلّه في موضوع العلم بصورة عامّة .

وأمّا الكلام في موضوع هذا العلم ، فقد سبق أ نّه أقمنا البرهان على أ نّه لا موضوع له واقعاً ، وأنّ حقيقته عبارة عن عدّة من القضايا والقواعد المتباينة بحسب الموضوع والمحمول التي جمعها في مرحلة التدوين اشتراكها في الدخل في

ــ[28]ــ

غرض واحد .

ولو تنزلنا عن ذلك ، وفرضنا أنّ له موضوعاً ، فما هو الموضوع له ؟ قيل : إنّ موضوعه الأدلة الأربعة بوصف دليليتها ، وهذا القول هو مختار المحقق القمي (قدس سره) كما هو ظاهر كلامه في أوّل كتابه (1) وقد صرّح بذلك في هامشه عليه (2) .

ويرد عليه : أنّ لازم ذلك خروج المسائل الاُصولية عن علم الاُصول، وكونها من مبادئه، كمباحث الحجج والأمارات ، ومباحث الاستلزامات العقلية ، والاُصول العملية : الشرعية والعقلية ، ومبحث حجية العقل ، وظواهر الكتاب بل مبحث التعادل والترجيح ، ما عدا مباحث الألفاظ ، فانّ كبرى هذه المسألة ـ وهي مسألة حجية الظواهر ـ مسلّمة عند الكل ، ولم يخالف فيها أحد ولم يقع البحث عنها في أيّ علم من العلوم ، فلا كلام فيها .

وإنّما الكلام في صغريات هذه الكبرى ، أعني ظهور الألفاظ في شيء وعدم ظهورها فيه ، كالبحث عن أنّ الأمر أو النهي هل هو ظاهر في الوجوب أو التحريم أم لا ، وغير ذلك . وعليه فيكون البحث عنها عن عوارض الدليل بما هو دليل ، فانّه لا شبهة في دليليّة الكتاب والسنّة في أنفسهما ، وإنّما الكلام هناك في تعيين مدلولهما ، وذلك من عوارضهما .

أمّا خروج مباحث الحجج والأمارات فواضـح ، لأنّ البحث فيها بأسرها عن الدليليّة ، وهو بحث عن ثبوت الموضوع لا عن عوارضه الذاتية، فتدخل إذن في مقدماته ومبادئه لا في مسائله ، حتى مبحث التعادل والترجيح ، على ما

ـــــــــــــــــــــ
(1) قوانين الاُصول 1 : 9 السطر 22 .
(2) نفس المصدر ص 8 .

ــ[29]ــ

هو الصحيح من أنّ البحث فيه في الحقيقة عن حجية أحد الخبرين المتعارضين في هذا الحال .

وأمّا خروج مباحث الاستلزامات العقلية ، فلأجل أنّ البحث فيها ليس عن عوارض أحد الأدلة الأربعة ، لا بما هي أدلة ولا بما هي هي ، بل عن أحوال الأحكام بما هي أحكام ، مع قطع النظر عن كونها مستفادةً منها ومداليل أدلة .

ويظهر بذلك وجه خروج الاُصول العملية : الشرعية والعقلية .

ولأجل ذلك عدل صاحب الفصول (قدس سره) عن هذا المسلك ، واختار أنّ الموضوع ذوات الأدلة الأربعة بما هي هي (1) وعليه فالبحث عن دليليتها بحث عن عوارض الموضوع لا عن ثبوته .

ويرد عليه أيضاً : لزوم خروج كثير من مسائل هذا العلم عن كونها اُصولية ، كمباحث الحجج والأمارات ـ ما عدا مبحث حجية العقل وظواهر الكتاب ـ ومباحث الاستلزامات العقلية ، والاُصول العملية : الشرعية والعقلية . والوجه في ذلك : هو أنّ البحث في كل علم لا بدّ أن يكون عن العوارض الذاتية لموضوعه ، وإذا لم يكن كذلك ، فهو ليس من مباحث العلم ومسائله في شيء ، وعليه فكل مسألة يكون البحث فيها عن العوارض الذاتية لأحد الأدلة الأربعة ، فهي من مسائل علم الاُصول ، وإلاّ فلا .

وعلى ذلك يترتب خروج مباحث الاستلزامات العقلية ، فانّ البحث فيها ليس عن أحوال أحد الأدلة مطلقاً ، بل عن الاستحالة والامكان ، وخروج مسألة حجية خبر الواحد ، إذ البحث فيها ليس عن عوارض السنّة التي هي موضوع علم الاُصول ، بل عن عوارض الخبر ، وخروج مسألة حجية الإجماع

ـــــــــــــــــــــ
(1) الفصول الغرويّة : 12 السطر 10 .

ــ[30]ــ

المنقول والشهرة الفـتوائية ، ومبحث التعادل والترجيح ، والاُصول العملية : الشرعية والعقلية ، فانّ البحث في جميع هذه المسائل ليس عن العوارض الذاتية لأحد الأدلة الأربعة كما هو ظاهر .

فتحصّل : أ نّه لا فرق بين هذا القول والقول الأوّل إلاّ في مسألة حجية ظواهر الكتاب وحجية العقل ، فانّهما ليستا من المسائل الاُصولية على القول الأوّل ، وتكونان منها على هذا القول .

ومن هنا التجأ شيخنا العلاّمة الأنصاري (قدس سره) إلى إرجاع البحث عن مسألة حجية خبر الواحد إلى البحث عن أحوال السنّة ، وأنّ مرجعه إلى أنّ السنّة ـ أعني قول المعصوم أو فعله أو تقريره ـ هل تثبت بخبر الواحد أو لا ؟ وبذلك تدخل في مسائل اُصول الفقه الباحثة عن أحوال الأدلة (1) .

ويرد عليه : أ نّه غير مفيد، وذلك لأ نّه لو اُريد من الثبوت ، الثبوت التكويني الواقعي ، أعني كون خبر الواحد واسطة وعلة لثبوت السنّة واقعاً ، فهذا غير معقول ، بداهة أنّ خبر الواحد ليس واقعاً في سلسلة علل وجـودها ، وكيف يمكن أن يكون كذلك وهو حاك عنها ، والحكاية عن شيء متفرعة عليه وفي مرتبة متأخرة عنه . على أنّ البحث في هذه المسألة حينئذ يكون عن مفاد كان التامة ، أي عن ثبوت الموضوع ، لا عن عوارضه .

ولو اُريد منه الثبوت التكويني الذهني ، أعني كون خبر الواحد واسطة لاثبات السنّة واقعاً ووجداناً ، فهو أيضاً غير معقول ، ضرورة أنّ خبر الواحد لا يفيد العلم الوجداني بالسنّة ، ولا يعقل انكشاف السنّة به واقعاً كما تنكشف بالمتواتر والقرينة القطعية ، ومع فرض الانكشاف حقيقة ، لا تبقى للبحث عن

ـــــــــــــــــــــ
(1) فرائد الاُصول 1 : 156 .

ــ[31]ــ

حجية خبر الواحد موضوعية أصلاً، فانّ العبرة حينئذ بالعلم الوجداني الحاصل بالسنّة ، فيجب الجري على وفقه دون الخبر بما هو .

والحاصل : أنّ لازم خبر الواحد بما هو أن يحتمل الصدق والكذب ، فكما لا يعقل أن يكون واسطة في ثبوت السنّة واقعاً ، فكذلك لا يعقل أن يكون واسطة لاثباتها كذلك .

وإن اُريد منه الثبوت التعبدي ـ كما هو الظاهر ـ فالأمر وإن كان كذلك ، أي أنّ السنّة الواقعية تثبت تعبّداً بخبر الواحد ، إلاّ أ نّه من عوارض الخبر دون السنّة ، وذلك لأنّ الثبوت التعبّدي ـ بناءً على ما سلكناه ـ عبارة عن إعطاء الشارع صفة الطريقية والكاشفية لشيء وجعله علماً للمكلف شرعاً بعد ما لم يكن كذلك ، وهذا وإن اسـتلزم إثبات السنّة وانكشافها شرعاً ـ وهو من عوارضها ولواحقها ـ إلاّ أ نّه ليس هو المبحوث عنه في هذه المسألة ، وإنّما المبحوث عنه فيها طريقية خبر الواحد وجعله علماً تعبّداً ، ومن الواضح أنّها من عوارض الخبر دون السنّة . والثبوت التعبدي بناءً على ما سلكه المشهور عبارة عن إنشـاء الحكم الظاهري على طبق الخبر ، وهو أيضاً من عوارضه دونها كما هو ظاهر .

ومنه يظهر الحال على ما سلكه المحقق صاحب الكفاية من أ نّه عبارة عن جعل المنجزيّة والمعذريّة (1) فانّهما أيضاً من عوارضه وصفاته لا من عوارضها ، وهو واضح .

فتحصّل : أنّ البحث في هذه المسألة على جميع المسالك بحث عن عوارض الخبر لا عن عوارض السنّة الواقعية . على أنّ ما أفاده (قدس سره) لو تمّ فانّما

ـــــــــــــــــــــ
(1) كفاية الاُصول : 277 .

ــ[32]ــ

يتم في خصوص هذه المسألة دون غيرها ، وقد عرفت أنّ الإشكال المزبور غير منحصر فيها .

ولذلك عدل صاحب الكفاية (قدس سره) عن مسلك المشهور وذهب إلى أنّ موضوع العلم عبارة عن جامع مقولي واحد بين موضوعات مسائله (1) .

ولكن قد مرّ الكلام في هذا مفصلاً وذكرنا هناك أ نّه لم يقم برهان على لزوم موضوع كذلك في العلوم فضلاً عن علم الاُصول ، بل سـبق منّا أ نّه لا يعقل وجود جامع ذاتي بين موضوعات مسائله لتباينها تبايناً ذاتياً .

ثمّ إن أبيت إلاّ أن يكون لكل علم موضوع ولو كان واحداً بالعنوان كعنوان الكلمة والكلام في علم النحو ، وعنواني المعلوم التصديقي والتصوري في علم المنطق ، وعنوان فعل المكلف في علم الفقه وهكذا .

فأقول : إنّ موضوع علم الاُصول هو : الجامع الذي ينتزع من مجموع مسائله المتباينة ، كعنوان ما تقع نتيجة البحث عنه في طريق الاستنباط وتعيين الوظيفة في مقام العمل .




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net