كلام صاحب الكفاية في المقام - كلام المحقق العراقي 

الكتاب : محاضرات في اُصول الفقه - الجزء الاول   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 4929


ــ[171]ــ

وفي تقريرات بعض الأعاظم (قدس سره) بيان آخر لتصوير الجامع بين الأفراد الصحيحة، وملخّصه: هو أنّ الجامع لاينحصر بالجامع المقولي ولا بالجامع العنواني ، بل هنا جامع ثالث وهو المرتبة الخاصة من الوجود الساري ، فانّ الصلاة مثلاً مركبة من مقولات متباينات ، وتلك المقولات وإن لم تندرج تحت جامع مقولي حقيقي ، إلاّ أ نّها مندرجة تحت مرتبة خاصّة من الوجود الساري إليها، وتلك المرتبة الخاصّة البسيطة وجود سار إلى جملة من المقولات ، ومحدود من ناحية القلّة بالأركان على سعتها ، وأمّا من ناحية الزيادة فهو لا بشرط ، وهذه جهة جامعة بين جميع الأفراد الصحيحة ، فالصلاة عبارة عن تلك المرتبة الخاصّة من الوجود ، وعلى هذا كانت الصلاة أمراً بسيطاً خاصاً يصدق على القليل والكثير والقوي والضعيف ، وهكذا (1) .

ويردّه أوّلاً : أ نّه لا ريب في أنّ لكل مقولة من المقولات وجود في نفسه في عالم العين ، فكما أ نّه لا يعقل أن يكون بين مقولتين أو ما زاد جامع مقولي واحد ، بأن تندرجا تحت ذلك الجامع ، فكذلك لا يعقل أن يكون لهما وجود واحد في الخارج ، ضرورة استحالة اتحاد مقولة مع مقولة اُخرى في الوجود .

وعلى الجملـة : فكل مركب اعتـباري عـبارة عن نفس الأجزاء بالأسر ، فالوحدة بين أجزائه وحدة اعتبارية ، ومن الضروري أ نّه ليس لمجموع تلك الأجزاء المتباينة بالذات والحقيقة حصّة خاصة من الوجود حقيقة سارية إليها، فالصلاة مثلاً مركبة من مقولات متباينة كمقولة الوضع والكيف ونحوهما، وليست تلك المقولات مشتركة في مرتبة خاصة بسيطة من الوجود لتكون وجوداً للجميع .

ـــــــــــــــــــــ
(1) نهاية الأفكار 1 : 82 .

ــ[172]ــ

وعلى ذلك فانّه (قدس سره) إن أراد به اشتراك تلك المقولات في مفهوم الوجود فهو لا يختص بها ، بل يعم جميع الأشياء ، وإن أراد به اشتراكها في حقيقة الوجود فالأمر أيضاً كذلك ، وإن أراد أنّ لتلك المقولات وحدها مرتبة خاصة من الوجود ، ففيه : أ نّه غير معقول كما عرفت ، وقد برهن في محلّه أنّ الاتحاد الحقيقي في الوجود بين أمرين أو اُمور متحصلة مستحيل ، ولو اعتبر الوحدة بينهما أو بينها ألف مرة ، وكيف ما كان ، فلا نعقل لذلك معنى متحصّلاً أصلاً .

وثانياً : أ نّه لو سلّم ذلك فانّ الصلاة ليست عبارة عن تلك المرتبة الخاصة الوجـودية ، ضرورة أنّ المتفاهم منها عند المتشرعة ليس هذه ، بل نفس المقولات والأجزاء والشرائط ، وهذا واضح .

وثالثاً : أ نّا قد ذكرنا سابقاً أنّ الألفاظ لم توضع للموجودات الخارجية ، بل وضعت للماهيات القابلة لأن تحضر في الأذهان ، وعليه فلا يعقل أن يوضع لفظ الصلاة لتلك المرتبة الخاصة من الوجود ، فانّها غير قابلة لأن تحضر في الذهن .

ولشيخنا المحقق (قدس سره) بيان ثالث في تصويرالجامع بين الأفراد الصحيحة ، وإليك نصّه :

والتحقيق أنّ سنخ المعاني والماهيات ، وسنخ الوجود العيني الذي حيثية ذاته حيثية طرد العدم ، في مسألة السعة والإطلاق متعاكسان ، فان سعة سنخ الماهيات من جهة الضعف والابهام ، وسعة سنخ الوجود الحقيقي من فرط الفعلية ، فلذا كلّما كان الضعف والإبهام في المعنى أكثر كان الإطلاق والشمول أوفر ، وكلّما كان الوجود أشد وأقوى كان الإطلاق والسعة أعظم وأتم .

فان كانت الماهية من الماهيات الحقيقية كان ضعفها وإبهامها بلحاظ الطوارئ

ــ[173]ــ

وعوارض ذاتها مع حفظ نفسها ، كالانسان مثلاً فانّه لا إبهام فيه من حيث الجنس والفصل المقوّمين لحقيقته ، وإنّما الإبهام فيه من حيث الشكل ، وشدّة القوى وضعفها وعـوارض النفس والبدن ، حتّى عوارضها اللازمة لها ماهية ووجوداً .

وإن كانت الماهية من الاُمور المؤتلفة من عدّة اُمور بحيث تزيد وتنقص كمّاً وكيفاً ، فمقتضى الوضع لها بحيث يعمها مع تفرقها وشتاتها أن تلاحظ على نحو مبهم في غاية الإبهام بمعرفية بعض العناوين غير المنفكة عنها ، فكما أنّ الخمر مثلاً مائع مبهم من حيث اتخاذه من العنب والتمر وغيرهما ، ومن حيث اللون والطعم والريح، ومن حيث مرتبة الإسكار ، ولذا لا يمكن وصفه إلاّ لمائع خاص، بمعرفية المسكرية من دون لحاظ الخصـوصية تفصيلاً ، بحيث إذا أراد المتصور تصوّره لم يوجد في ذهنه إلاّ مصداق مائع مبهم من جميع الجهات إلاّ حيثية المائعية بمعرفية المسكرية ، كذلك لفظ الصلاة مع هذا الاختلاف الشديد بين مراتبها كمّاً وكيفاً ، لا بدّ من أن يوضع لسنخ عمل معرّفه النهي عن الفحشاء ، أو غيره من المعرّفات ، بل العرف لا ينتقلون من سماع لفظ الصلاة إلاّ إلى سنخ عمل خاص مبهم ، إلاّ من حيث كونه مطلوباً في الأوقات الخاصة ، ولا دخل لما ذكرناه بالنكرة ، فانّه لم يؤخذ فيه الخصوصية البدلية ، كما اُخذت فيها .

وبالجملة : الإبهام غير الترديد ، وهذا الذي تصورناه فيما وضع له الصلاة بتمام مراتبها من دون الالتزام بجامع ذاتي مقولي ، وجامع عنواني ، ومن دون الالتزام بالاشتراك اللفظي، ممّا لا مناص عنه بعد القطع بحصول الوضع ولو تعيناً .

ثمّ قال (قدس سره) بقـوله : وقد التزم بنظيره بعض أكابر فن المعقول في تصحيح التشكيك في الماهية ، جواباً عن تصور شمول طبيعة واحدة لتمام مراتب الزائدة والمتوسطة والناقصة ، حيث قال : نعم ، الجميع مشترك في سنخ واحد

ــ[174]ــ

مبهم غاية الإبهام بالقياس إلى تمام نفس الحقيقة ، ونقصها وراء الإبهام الناشئ فيه عن اختلاف في الأفراد بحسب هوياتها انتهى . مع أنّ ما ذكرناه أولى به ممّا ذكره في الحقائق المتأصلة ، والماهيات الواقعية ، كما لا يخفى .

ثمّ قال (قدس سره) وأمّا على ما تصوّرنا الجامع ، فالصحيحي والأعمي في إمكان تصوير الجامع على حد سواء ، فانّ المعرّف إن كان فعلية النهي عن الفحشاء فهي كاشفة عن الجامع بين الأفراد الصحيحة ، وإن كان اقتضاء النهي عن الفحشاء فهو كاشف عن الجامع بين الأعم (1) هذا .

يتلخص نتيجة ما أفاده (قدس سره) في ضمن اُمور :

الأوّل : أنّ الماهية والوجود متعاكسان من جهة السعة والإطلاق ، فالوجود كلّما كان أشد وأقوى كان الإطلاق والشمول فيه أوفر ، والماهية كلّما كان الضعف والإبهام فيها أكثر كان الإطلاق والشمول فيها أعظم وأوفر .

الثاني : أنّ الجامع بين الماهيات الاعتبارية كالصلاة ونحوها سنخ أمر مبهم في غاية الإبهام ، فانّه جامع لجميع شتاتها ومتفرقاتها ، وصادق على القليل والكثير والزائد والناقص ، مثلاً الجامع بين أفراد الصلاة سنخ عمل مبهم من جميع الجهات ، إلاّ من حيث النهي عن الفحشاء والمنكر ، أو من حيث فريضة الوقت .

الثالث : أنّ الماهيات الاعتبارية نظير الماهيات المتأصلة التشكيكية من جهة إبهامها ذاتاً ، بل إنّ ثبـوت الابهام في الاعتباريات أولى من ثبـوته في المتاصلات .

الرابع : أنّ القول بالصحيح والأعم في تصوير الجامع المزبور على حد سواء.

ـــــــــــــــــــــ
(1) نهاية الدراية 1 : 101 ـ 103 ، 113 .

ــ[175]ــ

أمّا الأمر الأوّل : فهو وإن كان متيناً إلاّ أ نّه خارج عن محل كلامنا في المقام.

وأمّا الأمر الثاني : فيردّه أنّ الماهـيات الاعتبارية لا تكون مبهمة أصلاً ، ضرورة أنّ للصلاة مثلاً حقيقة متعيّنة من قبل مخترعها، وهي أجزاؤها الرئيسية التي هي عبارة عن مقولة الكيف والوضع ونحوهما ، ومن المعلوم أ نّه ليس فيها أيّ إبهام وغموض ، كيف فانّ الابهام لا يعقل أن يدخل في تجوهر ذات الشيء ، فالشيء بتجوهر ذاته متعيّن ومتحصّل لا محالة ، وإنّما يتصور الابهام بلحـاظ الطوارئ وعوارضه الخارجية كما صرّح هو (قدس سره) بذلك في الماهيات المتأصلة .

فحقيقة الصلاة حقيقة متعيّنة بتجوهر ذاتها، وإنّما الابهام فيها بلحاظ الطوارئ وعوارضها الخارجية ، وعليه فالعمل المبهم إلاّ من حيث النهي عن الفحشاء ، أو فريضة الوقت ، لا يعقل أن يكون جامعاً ذاتياً ، ومنطبقاً على جميع مراتبها المختلفة زيادة ونقيصة انطباق الكلّي على أفراده ، ومتحداً معها اتحاد الطبيعي مع مصاديقه ضرورة ، إذ قد عرفت أنّ الصلاة مركبة من عدّة مقولات متباينة فلا تندرج تحت جامع ذاتي ، فلا محالة يكون ما فرض جامعاً عنواناً عرضياً لها ومنتزعاً عنها ، إذ لا ثالث بين الذاتي والعرضي ، ومن الواضح جدّاً أنّ لفظ الصلاة لم يوضع بازاء هذا العنوان ، وإلاّ لترادف اللفظان وهو باطل يقيناً ، ومن هنا يظهر بطلان قياس المقام بمثل كلمة الخمر ونحوها ممّا هو موضوع للعنوان العرضي ، دون الذاتي .

على أنّ الكلام في هذه المسألة كما مرّ (1) إنّما هو في تعيين مسمّى لفظ الصلاة الذي هو متعلق للأمر الشرعي ، لا في تعيين المسمّى كيف ما كان ، ومن الظاهر

ـــــــــــــــــــــ
(1) في ص 168 .

ــ[176]ــ

أنّ الجامع المزبور لايكون متعلق الأمر ، بل المتعلق له هو نفس الأجزاء المتقيدة بقيود خاصة ، فانّها هي التي واجدة للملاك الداعي إلى الأمر بها ، كما لا يخفى .

ومن هنا كان المتبادر عرفاً من لفظ الصلاة هذه الأجزاء المتقيدة بتلك الشرائط لا ذلك الجامع . ومن الغريب أ نّه (قدس سره) قال: إنّ العرف لا ينتقلون من سماع لفظ الصلاة إلاّ إلى سنخ عمل مبهم ، إلاّ من حيث كونه مطلوباً في الأوقات المخصوصة ، كيف فانّ العرف لا يفهم من إطلاق لفظ الصلاة إلاّ كمّية خاصة من الأجزاء والشرائط التي تعلق الأمر بها وجوباً أو ندباً ، وفي الأوقات الخاصة ، أو في غيرها ، ومن هنا كان إطلاق لفظ الصلاة على صلاة العيدين وصلاة الآيات إطلاقاً حقيقياً من دون إعمال عناية أو رعاية علاقة .

وبما ذكرناه يظهر حال ما أفاده (قدس سره) في الأمر الثالث فلا حاجة إلى الإعادة .

وأمّا الرابع : فيرد عليه ما تقدّم من أنّ النهي عن الفحشاء إنّما يترتب فعلاً على ما يتصف بالصحّة بالفعل ، وهو غير المسمّى قطعاً ، فلا يمكن أن يكون ذلك جامعاً بين الأفراد الصحيحة .

وقد تلخص من جميع ما ذكرناه : أنّ الجامع بين الأفراد الصحيحة إمّا أ نّه غير معقول ، أو هو معقول ولكن اللفظ لم يوضع بازائه .




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net