الأقوال في المسألة - ابتناء النزاع على البساطة والتركب 

الكتاب : محاضرات في اُصول الفقه - الجزء الاول   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 4351


ــ[282]ــ


الأقوال في المسألة

قال المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) إنّ الأقوال في المسألة وإن كثرت ، إلاّ أ نّها حدثت بين المتأخرين بعد ما كانت ذات قولين بين المتقدمين ، لأجل توهم اختلاف المشتق باختلاف مبادئه في المعنى ، أو بتفاوت ما يعتريه من الأحوال ، وقد مرت الإشارة إلى أ نّه لا يوجب التفاوت فيما نحن بصدده (1) .

أقول : الصحيح كما أفاده (قدس سره) وذلك لما عرفت من أنّ مركز البحث والنزاع هنا في وضع هيئة المشتق وفي سعة معناه وضيقه واختلافه من كل من الناحيتين المزبورتين أجنبي عن المركز بالكلية .

ولشيخنا الاُستاذ (قدس سره) (2) في المقام كلام وحاصله : هو أنّ النزاع في وضع المشتق لخصوص المتلبس بالمبدأ فعلاً أو للأعم منه مبتن على البساطة والتركب في المفاهيم الاشـتقاقية ، فعلى القول بالتركب حيث إنّه قد اُخذ في مفهوم المشتق انتساب المبدأ إلى الذات ، ويكفي في صدق الانتساب التلبّس في الجملة ، فلا محالة يكون المشتق موضوعاً للأعم ، وعلى القول بالبساطة فمفهوم المشتق ليس إلاّ نفس المبدأ المأخوذ لا بشرط فهو ملازم لصدق نفس المبدأ ، ومع انتفائه ينتفي العنوان الاشتقاقي لا محالة ، ويكون حاله حينئذ حال الجوامد في أنّ المدار في صدق العنوان فعلية المبدأ ، وإن كان بينهما فرق من جهة اُخرى ، وهي أنّ شيئية الشيء حيث إنّها بصورته لا بمادته ، فالمادة لا تتصف بالعنوان أصلاً ، ولذا لا يصح استعمالها في المنقضي عنه وما لم يتلبس به بعد ولو مجازاً .

ـــــــــــــــــــــ
(1) كفاية الاُصول : 45 .
(2) أجود التقريرات 1 : 110 وما بعدها .

ــ[283]ــ

وهذا بخلاف المشتقات ، فانّ المتصف بالعناوين الاشتقاقية هي الذوات وهي باقية بعد الانقضاء وزوال التلبّس فيصحّ الاستعمال مجازاً ، وحيث إنّ المختار عندنا القول ببساطة المفاهيم الاشتقاقية ، فيتعين أنّ الحق هو وضع المشتق لخصوص المتلبس بالمبدأ فعلاً ، هذا .

ثمّ عدل (قدس سره) عن هذه الملازمة ، أي استلزام القول بالتركب الوضع للأعم ، واستلزام القول بالبساطة الوضع للأخص وقال : الحق هو وضع المشتق لخصوص المتلبس مطلقاً سواء قلنا بالبساطة أم بالتركب ، وأفاد في وجه ذلك ما ملخّصه :

أمّا على البساطة ، فلأنّ الركن الوطيد على هذا القول هو نفس المبدأ ، غاية الأمر أ نّه ملحوظ على نحو لا بشرط ، ومعه لا يأبى عن الحمل على الذات ولا يكون مبايناً لها في الوجود الخارجي ، فالصدق حينئذ متقوّم بالمبدأ وجوداً وعدماً ، فإذا انعدم فلا محالة لا يصدق العنوان الاشتقاقي إلاّ بالعناية ، بل قال : إنّ العناوين الاشتقاقية من هذه الجهة أسوأ حالاً من العناوين الذاتية ، فانّ العناوين الذاتية وإن كانت فعليتها بفعلية صورها والمادة غير متصفة بالعنوان أصلاً ، إلاّ أ نّها موجودة قبل الاتصاف وبعده وحينه ، ومن هنا يكون الاستعمال فيها قبل الاتصاف وبعد انقضـائه غلطاً ، لأنّ العلائق المذكورة في محلّها من الأول أو المشارفة أو علاقة ما كان كلّها مختصة بباب المشتقات . وهذا بخلاف العناوين الاشتقاقية ، فانّها عين مبادئها ، وهي بسيطة سواء كانت المبادئ من إحدى المقـولات أم كانت من غيرها ، وغير مركبة من صورة ومادة ، فإذا انعدمت المبادئ تنعدم العناوين بالكلية ، ولا يبقى منها شيء أبداً .

وتوهم : أ نّه لابدّ على هذا أن لا يصح استعمال العنوان الاشتقاقي في المنقضي عنه وما لم يتلبس بعد ولو مجازاً بطريق أولى ، لأ نّه أسـوأ حالاً من العنوان

ــ[284]ــ

الذاتي ، والمفروض كما عرفت عدم جواز استعماله فيهما مطلقاً ، مدفوع بأ نّه وإن كان أسوأ حالاً منه ، إلاّ أنّ المتصف بالعناوين الاشتقاقية حين الاتصاف هي الذوات ، وحيث إنّها موجودة قبل الاتصاف وبعده ، فيصحّ الاستعمال بعلاقة الأول أو المشارفة أو علاقة ما كان ، فبقاء الموصوف فيها هو المصحح لجواز الاستعمال وإن لم يؤخذ في المعنى .

وهذا بخلاف العناوين الذاتية ، فانّها كما عرفت عناوين لنفس الصور دون المادة، فالمادة لاتتصف بها في حال من الأحوال، مثلاً إنسانية الانسان بصورتها النوعية والمادة المشتركة لا تتصف بالانسانية أبداً ، ولا يصدق عليها عنوانها ، وتلك المادة وإن كانت موجودة قبل الاتصاف وبعده وحينه ، إلاّ أ نّها لا تتصف بالانسانية في حال ، ولذا لا يصحّ الاستعمال في المنقضي وما لم يتلبس بعد حتّى مجازاً ، لعدم تحقق شيء من العلائق المزبورة .

فقد أصبحت النتيجة أنّ البراهين القائمـة على البساطة تدل بالملازمة على وضع المشتق لخصوص المتلبس فعلاً ، دون الأعم .

وأمّا على التركب ، فلأنّ الذات المأخوذة في المفاهيم الاشتقاقية لا تكون مطلق الذات ، بل خصوص ذات متلبسة بالمبدأ ومتصفة بصفة ما على أنحائها المختلفة من الجواهر والأعراض وغيرهما ، ومن الواضح أ نّه لا جامع بين الذات الواجدة لصفة ما والذات الفاقدة لها ، فانّ مفهوم المشتق على القول بالتركب مركب من الذات والمبدأ وليس مركباً من المبدأ والنسبة الناقصة ، ليكون المفهوم مركباً من مفهوم اسمي وحرفي ، وإلاّ لم يصح حمله على الذات أبداً ، ولم يصح استعماله إلاّ في ضمن تركيب كلامي ، مع أنّ الأمر ليس كذلك ، لصحّة الحمل على الذات ، وصحّة الاسـتعمال منفرداً ، بل هو كما عرفت مركب من الذات والمبدأ ، غاية الأمر أنّ المفهوم على هذا متضمن لمعنى حرفي كأسماء الاشارة

ــ[285]ــ

والضمائر ونحوهما ، ومن هنا قلنا إنّه بناءً على التركب فالذات هي الركن الوطيد ، ولكنها لم تؤخذ مطلقة ، بل المأخوذ هو حصّة خاصة منها وهي الذات المتلبسة بالمبدأ والمتلونة بهذا اللون فعلاً ، ولا يكون جامع بينها وبين الذات المنقضـية عنها المبدأ ، ليصدق عليهما صدق الطبيعي على أفراده والـكلي على مصاديقه .

أو فقل : إنّ وضع المشتق للأعم يتوقف على تصوير جامع بين المنقضي والمتلبس في الواقع ومقام الثبوت ، ولمّا لم يعقل وجود جامع بينهما ثبوتاً ، فلا مجال لدعوى كون المشتق موضوعاً للأعم إثباتاً .

نعم ، لو كان الزمان مأخوذاً في مدلول المشتق بأن يقال إنّه وضع للدلالة على المتلبس في زمن ما، وهو صادق على المتلبس في الحال وفي الماضي وجامع بينهما ، لأمكن أن يدعى بأ نّه موضوع للجامع بين الفردين . ولكن قد تقدّم أنّ الزمان خارج عن مفهومه وغير مأخوذ فيه لا جزءاً ولا قيداً ولا خاصّاً ولا عامّاً ، بل لو قلنا بأخذ النسبة الناقصة في مداليلها فهي لم توضع إلاّ للمتلبس ، وذلك لأنّ النسبة الناقصة هنا حالها حال سائر النسب التقييدية والاضافات ، وهي لاتصدق إلاّ في موارد التلبّس الفعلي، ومن الظاهر أ نّه لا جامع بين النسبة في حال التلبّس والنسبة في حال الانقضاء ، ليكون المشتق موضوعاً بازاء ذلك الجامع .

تلخّص على ضوء ما بيّناه : أنّ المشتق وضع للمتلبس بالمبدأ فعلاً على كلا القولين ، ولا مجال حينئذ للنزاع في مقام الإثبات أبداً ، فانّه متفرع على إمكان تصوير الجامع في مقام الثبوت ، وقد عرفت عدم إمكانه .

وغير خفي أ نّه يمكن تصوير الجامع على القول بالتركب بأحد الوجهين :

الأوّل : أن يقال إنّ الجامع بين المتلبس والمنقضي اتصاف الذات بالمبدأ في الجملة في مقابل الذات التي لم تتصف به بعد، فانّ الذات في الخارج على قسمين :

ــ[286]ــ

قسم منها لم يتلبس بالمبدأ بعد وهو خارج عن المقسم .

وقسم منها متصف به ، ولكنّه اعم من أن يكون الاتصاف باقياً حين الجري والنسبة أم لم يكن باقياً ، وهو جامع بين المتلبس والمنقضي ، وصادق عليهما صدق الطبيعي على أفراده ، فالموضوع له على القول بالأعم هو صرف وجود الاتصاف العاري عن أيّة خصوصية ، كما هو شأن الجامع والمقسم في كل مورد ، وهو كما ينطبق على الفرد المتلبس حقيقة ، كذلك ينطبق على الفرد المنقضي ، فان هذا المعنى موجود في كلا الفردين .

أو فقل : إنّ الجامع بينهما خروج المبدأ من العدم إلى الوجود ، فانّ المبدأ كما خرج من العدم إلى الوجود في موارد التلبس ، كذلك خرج في موارد الانقضاء، فصرف وجود المبدأ للذات من دون اعتبار امتداده وبقائه جامع بين الفردين ، وخصوصية البقاء والانقضاء من خصوصيات الأفراد ، وهما خارجتان عن المعنى الموضوع له .

الثاني : أ نّا لو سلّمنا أنّ الجامع الحقيقي بين الفردين غير ممكن ، إلاّ أ نّه يمكننا تصوير جامع انتزاعي بينهما وهو عنوان أحدهما، نظير ما ذكرناه في بحث الصحيح والأعم من تصوير الجامع الانتزاعي بين الأركان . ولا ملزم هنا لأن يكون الجامع ذاتياً ، لعدم مقتض له ، إذ في مقام الوضع يكفي الجامع الانتزاعي ، لأنّ الحاجة التي دعت إلى تصوير جامع هنا هي الوضع بازائه ، وهو لا يستدعي أزيد من تصوير معنى ما، سواء كان المعنى من الماهيات الحقيقية أم من الماهيات الاعتبارية، أم من العناوين الانتزاعية . إذن للواضع في المقام أن يتصور المتلبس بالمبدأ فعلاً ويتصور المنقضي عنه المبدأ ، ثمّ يتعهد على نفسه بأ نّه متى ما قصد تفهيم أحدهما يجعل مبرزه هيئة ما من الهيئات الاشتقاقية على سبيل الوضع العام والموضوع له العام أو الخاص .

ــ[287]ــ

فالنتيجة : أنّ تصوير الجامع على القول بالأعم بأحد هذين الوجهين بمكان من الامكان .

وعلى هذا الضوء يظهر أنّ للنزاع في مقام الاثبات مجالاً واسعاً .




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net