3 ـ نظرية الأشاعرة :مسألة الجبر \ استدلال الأشاعرة على الجبر 

الكتاب : محاضرات في اُصول الفقه - الجزء الاول   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 4534


(3)

نظريّة الأشاعرة

مسألة الجبر ، ونقدها

استدلّوا على الجبر بوجوه :

الأوّل : ما إليكم نصّه : لو كان العبد موجداً لأفعاله بالاختيار والاستقلال لوجب أن يعلم تفاصيلها ، واللازم باطل . أمّا الشرطية ـ أي الملازمة ـ فلأنّ الأزيد والأنقص ممّا أتى به ممكن ، إذ كل فعل من أفعاله يمكن وقوعه منه على وجوه متفاوتة بالزيادة والنقصان ، فوقوع ذلك المعيّن منه دونهما لأجل القصد إليه بخصوصه، والاختيار المتعلق به وحده مشروط بالعلم به كما تشهد به البداهة، فتفاصيل الأفعال الصادرة عنه باختياره لا بدّ أن تكون مقصودة معلومة ، وأمّا بطلان اللازم فلأنّ النائم وكذا الساهي قد يفعل باختياره كانقلابه من جنب إلى جنب آخر ، ولا يشعر بكمّية ذلك الفعل وكيفيته (1) .

ـــــــــــــــــــــ
(1) شرح المواقف 8 : 148 .

ــ[386]ــ

والجواب عنه: أنّ دخل العلم والالتفات في صدور الفعل عن الفاعل بالاختيار أمر لا يعتريه شك ولم يختلف فيه اثنان ، وبدون ذلك لا يكون اختيارياً ، هذا من ناحية .

ومن ناحية اُخرى : أنّ العلم المعتبر في ذلك إنّما هو العلم بعنوان الفعل والالتفات إليه حين صدوره بأن يعلم الانسان أنّ ما يصدر منه في الخارج ينطبق عليه عنوان شرب الماء مثلاً أو الصلاة أو الصوم أو الحج أو قراءة القرآن أو السفر إلى بلد أو التكلم أو ما شابه ذلك ، ومن الواضح أ نّه لا يعتبر في صدور هذه الأفعال بالاختيار أزيد من ذلك ، فإذا علم الانسان بالصلاة بما لها من الأجزاء والشرائط وأتى بها كذلك ، فقد صدرت منه بالاختيار وإن كان لا يعلم حقيقة أجزائها ودخولها تحت أيّة مقولة من المقولات .

فالنتيجة : أنّ ملاك صدور الفعل بالاختيار هو سبقه بالالتفات والتصور على نحو الاجمال في مقابل صدوره غفلةً وسهواً .

وبعد ذلك نقول : إن أراد الأشعري من العلم بتفاصيل الأفعال العلم بكنهها وحقيقتها الموضوعية فيردّه :

أوّلاً : أنّ ذلك لا يتيسر لغير علاّم الغيوب ، فان حقائق الأشياء بكافة أنواعها وأشكالها مستورة عنّا ، ولا طريق لنا إليها ، لأنّ أفكارنا لا تملك قوّة إدراكها والوصول إلى واقعها ومغزاها .

وثانياً : أنّ هذا العلم لا يكون ملاكاً لاتصاف الفعل بالاختيار كما عرفت .

وإن أراد منه العلم بما يوجب تمييز الأفعال بعضها عن بعضها الآخر ، كأن يعلم بأنّ ما يفعله خارجاً ويأتي به شرب ماء مثلاً لاشرب خل وهكذا ، وإن لم يعلم كنهه وحقيقته فهو صحيح كما مرّ ، إلاّ أنّ اللازم على هذا ليس بباطل ،

ــ[387]ــ

لفرض أنّ كل فاعل مختار يعلم أفعاله في إطار عناوينها الخاصة .

وإن أراد منه العلم بحدها التام المشهوري أو برسمها التام أو الناقص فيرد عليه :

أوّلاً : أنّ ذلك العلم لا يتيسر لأغلب الناس ، بداهة أنّ العامي لا يعرف جنس الأشياء ولا فصلها ولا خواصها حتّى يعرف حدّها التام أو الناقص أو رسمها التام أو الناقص .

وثانياً : قد سبق أنّ هذا العلم لا يكون مناطاً لصدور الفعل بالاختيار .

ومن هنا يظهر أنّ ما ذكره لبيان بطلان اللازم من أنّ النائم وكذا الساهي قد يفعله باختياره غريب جداً ، بداهة أنّ ما يصدر منهما من الحركة كالتقلب من جنب إلى جنب آخر أو نحو ذلك غير اختياري ، ولذا لا يستحقان عليه المدح والذم والعقاب والثواب . وقد تقدّم أنّ الالتفات إلى الفعل على نحو الاجمال ركيزة أساسية لاختياريته ، وبدونه لا يعقل صدوره بالاختيار .

الثاني : ما إليك نصّه : إنّ العبد لو كان موجداً لفعله بقدرته واختياره استقلالاً فلا بدّ أن يتمكن من فعله وتركه ، وإلاّ لم يكن قادراً عليه مستقلاً فيه وأن يتوقف ترجيح فعله على تركه على مرجح ، إذ لو لم يتوقف عليه كان صدور الفعل عنه مع جواز طرفيه وتساويهما اتفاقياً لا اختيارياً ، ويلزم أيضاً أن لا يحتاج وقوع أحد الجائزين إلى سبب ، فينسدّ باب إثبات الصانع ، وذلك المرجّح لا يكون من العبد باختياره ، وإلاّ لزم التسلسل ، لأ نّا ننقل الكلام إلى صدور ذلك المرجّح عنه ويكون الفعل عنده ـ أي عند ذلك المرجح ـ واجباً ، أي واجب الصدور عنه بحيث يمتنع تخلفه عنه ، وإلاّ لم يكن الموجود ـ أي ذلك المرجح المفروض ـ تمام المرجح ، لأ نّه إذا لم يجب منه الفعل حينئذ جاز أن

ــ[388]ــ

يوجد معه الفعل تارةً ويعدم اُخرى ، مع وجود ذلك المرجح فيهما ، فتخصيص أحد الوقتين بوجوده يحتاج إلى مرجح لما عرفت، فلا يكون ما فرضناه مرجحاً تاماً، هذا خلف، وإذا كان الفعل مع المرجح الذي ليس منه واجب الصدور عنه فيكون ذلك الفعل اضطرارياً لازماً لا اختيارياً بطريق الاستقلال كما زعموه(1).

يتضمن هذا النص عدّة نقاط :

الاُولى : أنّ العبد لو كان مستقلاً في فعله ومختاراً فلازمه أن يكون متمكناً من تركه وفعله .

الثانية : أنّ ترجيح وجود الفعل على عدمه في الخارج يتوقف على وجود مرجح ، إذ لو وجد بدونه لكان اتفاقياً لا اختيارياً .

الثالثة : أنّ وقوع أحد الجائزين ـ الوجود والعدم ـ في الخارج لو كان ممكناً من دون وجود مرجّح وسبب ، لا نسدّ باب إثبات الصانع ولأمكن وجود العالم بلا سبب وعلّة .

الرابعة : أنّ المرجّح لا يمكن أن يكون تحت اختيار العبد ، وإلاّ لزم التسلسل .

الخامسة : أنّ وجود الفعل واجب عند تحقق المرجح .

ولنأخذ بالمناقشة في هذه النقاط :

أمّا النقطة الاُولى : فالصحيح على ما سيأتي بيانه بشكل واضح أن يقال : إنّ ملاك صدور الفعل عن الانسـان بالاختيار هو أن يكون باعمال القدرة والسلطنة ويعبّر عن هذا المعنى بقوله : له أن يفعل وله أن لا يفعل ، ولا ينافي ذلك ما سـنحققه إن شاء الله تعالى في المبحث الآتي وهو بحث الأمر بين

ـــــــــــــــــــــ
(1) شرح المواقف 8 : 149 .

ــ[389]ــ

الأمرين (1) أنّ العبد لا يستقل في فعله تمام الاستقلال ، حيث إنّ كافة مبادئ الأفعال كالحياة والقدرة والعلم والاختيار مفاضة من الله تعالى آناً فآناً وخارجة عن اختياره ، بحيث لو انقطعت الافاضة آناً ما لانتفت تلك المبادئ بأسرها .

وعلى هذا الضوء فان اُريد من استقلال العبد اسـتقلاله من كافة النواحي فهو باطل ، لا ما هو لازمه فانّه صـحيح على تقدير ثبوته . وإن اُريد منه استقلاله في فرض تحقق تلك المبادئ وإفاضتها فهو صحيح ، وكذا لازمه . وعلى كلا التقديرين فالتالي صادق .

وأمّا النقطة الثانية : فهي خاطئة جداً ، وذلك لأ نّها ترتكز على ركيزة لا واقع لها ، وهي استحالة ترجيح وجود الفعل على عدمه بدون وجود مرجّح ، والسبب في ذلك : أنّ المحال إنّما هو وجود الفعل في الخارج بلا سبب وفاعل ، وأمّا صدور الفعل الاختياري عن الفاعل من دون وجود مرجّح له ليس بمحال ، لما عرفت من أنّ وجوده خارجاً يدور مدار اختياره وإعمال قدرته من دون توقفه على شيء آخر كوجود المرجّح أو نحوه . نعم ، بدونه يكون لغواً وعبثاً .

وقد تحصّل من ذلك : أ نّه لا دخل لوجود المرجّح في إمكان الفعل أصلاً ، ولا صلة لأحدهما بالآخر . على أنّ وجود المرجّح لاختيار طبيعي الفعل كاف وإن كانت أفراده متساوية من دون أن يكون لبعضها مرجّح بالاضـافة إلى بعضها الآخر ، ولا يلزم وجوده في كل فعل شخصي اختاره المكلف .

ودعوى أنّ الاختيار هو المرجّح في فرض التساوي ساقطة بأنّ الاختيار لا يمكن أن يكون مرجحاً ، لوضوح أنّ المرجح ما يدعو الانسان إلى اختيار

ـــــــــــــــــــــ
(1) في ص 436 ، 440 .

ــ[390]ــ

أحد فردين متساويين أو أفراد متساوية ، فلا يعقل أن يكون هو المرجح ، على أ نّه لو كان مرجّحاً لم يبق موضوع لما ذكر من أنّ ترجيح وجود الفعل على عدمه يتوقف على وجود مرجح ، لفرض أ نّه موجود وهو الاختيار .

ومن هنا يظهر بطلان ما ذكر من أنّ الفعل الصادر من دون وجود مرجح اتفاقي لا اختياري .

وأمّا النقطة الثالثة : فقد ظهر فسادها ممّا أشرنا إليه في النقطة الثانية ، من أنّ المحال إنّما هو وجود الفعل بلا سبب وفاعل ، لا وجوده بدون وجود مرجحّ . وقد وقع الخلط في كلامه بين هذين الأمرين ، وذلك لأنّ ما يوجب سدّ باب إثبات الصانع إنّما هو وجود الممكن بدونه ، حيث قد برهن في موطنه استحالة ترجح الممكن ووجوده من دون سبب وفاعل ، لأنّ حاجة الممكن إليه داخلة في كمون ذاته وواقع مغزاه ، لفرض أ نّه عين الفقر والحاجة لا ذات له الفقر والحاجة ، فلا يمكن تحققه ووجوده بدونه .

وأمّا وجوده بدون وجود مرجح كما هو محل الكلام فلا محذور فيه أصلاً .

وأمّا النقطة الرابعة : فقد عرفت أنّ الفعل الاختياري لا يتوقف على وجود مرجّح له . وعلى تقدير توقفه عليه وافتراضه فلا يلزم أن يكون اختيارياً دائماً، لوضوح أنّ المرجح قد يكون اختيارياً ، وقد لا يكون اختيارياً . وعلى تقدير أن يكون اختيارياً فلا يلزم التسلسل ، وذلك لأنّ الفعل في وجوده يحتاج إلى وجود مرجّح ، وأمّا المرجّح فلا يحتاج في وجوده إلى مرجّح آخر ، بل هو ذاتي له ، فلا يحتاج إلى سبب كما هو ظاهر .

وأمّا النقطة الخامسة : فيظهر خطؤها ممّا ذكرناه من أ نّه لا دخل للمرجّح في صدور الفعل بالاختيار ، فيمكن صدوره عن اختيار مع عدم وجود المرجّح

ــ[391]ــ

له أصلاً. كما أ نّه يظهر بذلك أنّ وجوده لايوجب وجوب صدور الفعل وضرورة وجوده في الخارج ، وذلك لأنّ الفعل الاختياري ما يصدر بالاختيار وإعمال القدرة ، سواء أكان هناك مرجّح أم لم يكن ، بداهة أنّ المرجّح مهما كان نوعه لا يوجب خروج الفعل عن الاختـيار ، ولو كان ذلك المرجّح هو الارادة ، لما سنشير إليه (1) إن شاء الله تعالى من أنّ الارادة مهما بلغت ذروتها من القوّة والشدّة لا توجب سلب الاختيار عن الانسان .

الثالث : ما إليكم لفظه : إنّ فعل العبد ممكن في نفسه ، وكل ممكن مقدور لله تعالى ، لما مرّ من شمول قدرته للممكنات بأسرها ، وقد مرّ مخالفة الناس من المعتزلة والفرق الخارجة عن الاسـلام في أنّ كل ممكن مقدور لله تعالى على تفاصيل مذاهبهم وإبطالها في بحث قادرية الله تعالى ، ولا شيء ممّا هو مقدور لله بواقع بقدرة العبد ، لامتناع قدرتين مؤثرتين على مقدور واحد (2) .

والجواب عنه : أمّا ما ذكره من الصغرى والكبرى ـ يعني أنّ فعل العبد ممكن ، وكل ممكن مقدور لله تعالى ـ وإن كان صحيحاً ، ضرورة أنّ الممكنات بشتى أنواعها وأشكالها مقدورة له تعالى ، فلا يمكن خروج شيء منها عن تحت قدرته وسلطنته ، إلاّ أنّ ما فرّعه على ذلك من أ نّه لا شيء ممّا هو مقدور لله بواقع تحت قدرة العبد ، لامتناع اجتماع قدرتين مؤثرتين على مقدور واحد ، خاطئ جداً ، والسبب في ذلك ما سيأتي بيانه (3) بشكل واضح من أنّ أفعال العباد رغم كونها مقدورةً لله تعالى من ناحية أنّ مبادءها بيده سبحانه مقدورة للعباد أيضاً وواقعة تحت اختيارهم وسلطانهم ، فلا منافاة بين الأمرين أصلاً .

ـــــــــــــــــــــ
(1) في ص 397 .
(2) شرح المواقف 8 : 148 المرصد السادس .
(3) في ص 417 .




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net