4 ـ نظرية المعتزلة : التفويض 

الكتاب : محاضرات في اُصول الفقه - الجزء الاول   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 5670

 

(4)

نظريّة المعتزلة

مسألة التفويض ، ونقدها

ذهب المعتزلة إلى أنّ الله (سبحانه وتعالى) قد فوّض العباد في أفعالهم وحركاتهم إلى سلطنتهم المطلقة على نحو الأصالة والاستقلال ، بلا دخل لارادة وسلطنة اُخرى فيها ، وهم يفعلون ما يشاؤون ويعملون ما يريدون ، من دون حاجة إلى الاستعانة بقدرة اُخرى وسلطنة ثانية ، وبهذه النقطة تمتاز عن نظريّة الأمر بين الأمرين ، فانّ العبد على ضوء تلك النظريّة وإن كان له أن يفعل ما يشاء ويعمل ما يريد ، إلاّ أ نّه في عين ذلك بحاجة إلى استعانة الغير فلا يكون مستقلاً فيه(1) .

وغير خفي أنّ المفوّضة وإن احتفظت بعدالة الله تعالى ، إلاّ أ نّهم وقعوا في محذور لا يقل عن المحذور الواقع فيه الأشاعرة وهو الاسراف في نفي السلطنة المطلقة عن الباري (عزّ وجلّ) وإثبات الشريك له في أمر الخلق والايجاد .

ـــــــــــــــــــــ
(1) شرح المواقف 8 : 146 .

ــ[423]ــ

ومن هنا وردت روايات كثيرة تبلغ حدّ التواتر في ذم هذه الطائفة ، وقد ورد فيها أ نّهم مجـوس هذه الاُمّـة (1) حيث إنّ المجوس يقولون بوجود إلهين : أحدهما خالق الخير. وثانيهما خالق الشر، ويسمّون الأوّل يزدان، والثاني أهريمن، وهذه الطائفة تقول بوجود آلهة متعددة بعدد أفراد البشر ، حيث إنّ هذا المذهب يقوم على أساس أنّ كلاً منهم خالق وموجد بصورة مستقلة بلا حاجة منه إلى الاستعانة بغيره، غاية الأمر أنّ الله تعالى خالق للأشياء الكونية كالانسان ونحوه، والانسان خالق لأفعاله الخارجية من دون افتقاره في ذلك إلى خالقه .

وقد استدلّ على هذه النظريّة : بأنّ سرّ حاجة الممكنات وفقرها إلى العلّة هو حدوثها، وبعده فلاتحتاج إليها أصلاً ، لاستغناء البقاء عن الحاجة إلى المؤثّر. وعليه فالانسان بعد خلقه وإيجاده لا يحتاج في بقائه إلى إفاضة الوجـود من خالقه . فإذن بطبيعة الحال يستند صدور الأفعال إليه استناداً تاماً لا إلى العلّة المحـدثة ، ومن الواضح أنّ مردّ هذا إلى نفي السـلطنة عن الله (عزّ وجلّ) على عبيده نفياً تامّاً .

والجواب عن ذلك : يظهر على ضوء درس هذه النقطة ـ استغناء البقاء عن المؤثر ـ ونقدها : مرّةً في الأفعال الاختيارية ، واُخرى في الموجودات التكوينية .

أمّا في الأفعال الاختيارية ، فهي واضحة البطلان ، والسبب في ذلك : ما أشرنا إليه آنفاً من أنّ كل فعل اختياري مسبوق باعمال القدرة والاختيار ، وهو فعل اختياري للنفس ، وليس من مقولة الصفات ، وواسطة بين الارادة والأفعال الخارجية ، فالفعل في كل آن يحتاج إليه ولا يعقل بقاؤه بعد انعدامه وانتفائه ، فهو تابع لاعمال قدرة الفاعل حدوثاً وبقاءً ، فان أعمل قدرته فيه تحقق في الخارج ، وإن لم يعملها فيه استحال تحققه ، فعلى الأوّل إن استمرّ في

ـــــــــــــــــــــ
(1) بحار الأنوار 5 : 9 .

ــ[424]ــ

إعمال القدرة فيه استمرّ وجوده وإلاّ استحال استمراره .

وعلى الجملة : فلا فرق بين حدوث الفعل الاختياري وبقائه في الحاجة إلى السبب والعلّة ـ وهو إعمال القدرة والسلطنة ـ فان سرّ الحاجة وهو إمكانه الوجودي وفقره الذاتي كامن في صميم ذاته وواقع وجوده ، من دون فرق بين حدوثه وبقائه .

مع أنّ البقاء هو الحدوث ، غاية الأمر أ نّه حدوث ثان ووجود آخر في قبال الوجود الأوّل ، والحدوث هو الوجود الأوّل غير مسبوق بمثله ، وعليه فبطبيعة الحال إذا تحقق فعل في الخارج من الفاعل المختار فهو كما يحتاج إلى إعمال القدرة فيه والاختيار ، كذلك يحتاج إليه في الآن الثاني والثالث وهكذا ، فلا يمكن أن نتصور استغناءه في بقائه عن الفاعل بالاختيار .

وبكلمة اُخرى : أنّ كل فعل اختياري ينحل إلى أفعال متعددة بتعدد الآنات والأزمان ، فيكون في كل آن فعل صادر بالاختيار وإعمال القدرة ، فلو انتفى الاختيار في زمان يستحيل بقاء الفعل فيه . ومن هنا لا فرق بين الدفع والرفع عقلاً إلاّ بالاعتبار ، وهو أنّ الدفع مانع عن الوجود الأوّل ، والرفع مانع عن الوجود الثاني ، فكلاهما في الحقيقة دفع .

فالنتيجة : أنّ احتياج الأفعال الاختيارية في كل آن إلى الارادة والاختيار من الواضحات الأوّلية ، فلا يحتاج إلى زيادة مؤونة بيان وإقامة برهان.

وأمّا في الموجودات التكوينية ، فالأمر أيضاً كذلك ، إذ لا شبهة في حاجة الأشياء إلى علل وأسباب، فيستحيل أن توجد بدونها، وسرّ حاجة تلك الأشياء بصورة عامّة إلى العلّة وخضوعها لها بصورة موضوعية ، هو أنّ الحاجة كامنة في ذوات تلك الأشياء ، لا في أمر خارج عن إطار ذواتها ، فان كل ممكن في ذاته مفتقر إلى الغير ومتعلق به ، سواء أكان موجوداً في الخارج أم لم يكن ،

ــ[425]ــ

ضرورة أنّ فقرها كامن في نفس وجوده ، ومن الطبيعي أنّ الأمر إذا كان كذلك فلا فرق بين الحـدوث والبقاء في الحـاجة إلى العلّة ، فان سرّ الحاجة ـ وهو الامكان ـ لاينفك عنه ، كيف فانّ ذاته عين الفقر والامكان لا أ نّه ذات لها الفقر .

وعلى ضوء هذا الأساس ، فكما أنّ الأشياء في حدوثها في أمسّ الحاجة إلى وجود سبب وعلّة ، فكذلك في بقائها ، فلا يمكن أن نتصوّر وجوداً متحرراً عن تلك الحاجة ، إذ النقطة التي تنبثق منها حاجة الأشياء إلى مبدأ العلّية والايجاد ليست هي حدوثها ، لاستلزام هذه النظريّة تحديد حاجة الممكن إلى العلّة من ناحيتين : المبدأ والمنتهى .

أمّا من الناحية الاُولى : فلأ نّها توجب اختصاص الحاجة بالحوادث وهي الأشياء الحادثة بعد العدم ، وأمّا إذا فرض أنّ للممكن وجوداً مستمراً بصورة أزلية لاتوجد فيه حاجة إلى المبدأ، وهذا لايطابق مع الواقع الموضوعي للممكن حيث يستحيل وجوده من دون علّة وسبب ، وإلاّ لانقلب الممكن واجباً ، وهذا خلف .

وأمّا من الناحية الثانية : فلأنّ الأشياء على ضوء هذه النظريّة تستغني في بقائها عن المؤثر ، ومن الطبيعي أ نّها نظريّة خاطئة لا تطابق الواقع الموضوعي ، كيف فانّ حاجة الأشياء إلى ذلك المبدأ كامنة في صميم ذاتها وحقيقة وجودها كما عرفت .

فالنتيجة : أنّ هذه النظرية بما أ نّها تستلزم هذين الخطأين في المبدأ وتوجب تحديده في نطاق خاص وإطار مخصوص ، فلا يمكن الالتزام بها .

فالصحيح إذن هو نظريّة ثانية ، وهي أنّ منشأ حاجة الأشياء إلى المبدأ وخضوعها له خضوعاً ذاتياً هو إمكانها الوجودي وفقرها الذاتي . وعلى هذا الأساس فلا فرق بين الحدوث والبقاء أصلاً .

ــ[426]ــ

ونتيجة ذلك : أنّ المعلول يرتبط بالعلّة ارتباطاً ذاتياً وواقعياً ، ويستحيل انفكاك أحدهما عن الآخر ، فلا يعقل بقاء المعلول بعد ارتفاع العلّة ، كما لا يمكن أن تبقى العلّة والمعلول غير باق ، وقد عبّر عن ذلك بالتعاصر بين العلّة والمعلول زماناً .

وقد يناقش في ذلك الارتباط: بأ نّه مخالف لظواهر الموجودات التكوينية من الطبيعية والصناعية، حيث إنّها باقية بعد انتفاء علّتها ، وهذا يكشف عن عدم صحّة قانون التعاصر والارتباط ، وأ نّه لا مانع من بقاء المعلول واستمرار وجوده بعد انتفاء علّته ، وذلك كالعمارات التي بناها البنّاؤون وآلاف من العمّال ، فانّها تبقى سنين متمادية بعد انتهاء عملية العمارة والبناء ، وكالطرق والجسور ووسائل النقل المادية بشتّى أنواعها ، والمكائن والمصانع وما شاكلها ممّا شاده المهندسون وذوو الخبرة والفن في شتّى ميادينها ، فانّها بعد انتهاء عمليتها تبقى إلى سنين متطاولة وأمد بعيد من دون علّة وسبب مباشر لها، وكالجبال والأحجار والأشجار وغيرها من الموجودات الطبيعية على سطح الأرض، فانّها باقية من دون حاجة في بقائها إلى علّة مباشرة لها .

فالنتيجة : أنّ ظواهر تلك الأمثلة تعارض قانون التعاصر والارتباط ، حيث إنّها بظاهرها تكشف عن أنّ المعلول لا يحتاج في بقائه واستمرار وجوده إلى علّة ، بل هو باق مع انتفاء علّته .

ولنأخذ بالنقد على تلك المناقشة ، وحاصله : هو أ نّها قد نشأت عن عدم فهم معنى مبدأ العلّية فهماً موضـوعياً ، وقد تقدّم بيان ذلك وقلنا هناك إنّ حاجة الأشياء إلى مبدأ وسبب كامنة في واقع ذاتها وصميم وجودها ، ولايمكن أن تملك حرّيتها بعد حدوثها، والوجه في ذلك: هو أنّ علّة تلك الأشياء والظواهر حدوثاً غير علّتها بقاءً ، وبما أنّ الرجل المناقش لم ينظر إلى علّة تلك الظواهر

ــ[427]ــ

لا حدوثاً ولا بقاءً نظرة صحيحة موضوعية وقع في هذا الاشتباه والخطأ ، بيان ذلك :

أنّ ما هو معلول للمهندسين والبنّائين وآلاف من العمّال في بناء العمارات والدور بشتّى ألوانها، وصنع الطرق والجسور والوسائل المادية الاُخرى بمختلف أشكالها ، من السيّارات والطيّارات والصواريخ والمكائن وما شـاكلها ، إنّما هو نفس عملية بنائها وصنعها وتركيبها وتصميمها في إطار مخصوص ، ومن الطبيعي أنّ تلك العمـلية نتيجة عدّة من حركات أيدي الفـنّانين والعمّال والجهود التي يقومون بها ، ونتيجة تجميع المواد الخام الأوّلية من الحديد والخشب والآجر وغيرها لتصنيع هذه الصناعات وتعمير تلك العمارات ، ومن المعلوم أنّ ما هو معلول للعمّال والصادر منهم بالارادة والاختيار إنّما هو هذه الحركات لا غيرها ، ولذا تنقطع تلك الحركات بصرف إضراب العمّال عن العمل وكف أيديهم عنها .

وأمّا بقاء تلك الأشياء والظواهر على وضعها الخاص وإطارها المعيّن ، فهو معلول لخصائص تلك المواد الطبيعية ، وقوّة حيويتها ، وأثر الجاذبية العامّة التي تفرض على تلك الجاذبية المحافظة على وضع الأشياء بنظامها الخاص ، ونسبة الجاذبية إلى هذه الأشياء كنسبة الطاقة الكهربائية إلى الحديد عند اتصاله بها بقوّة جاذبية طبيعية تجرّه إليها آناً فآناً بحيث لو انقطعت منه تلك القوّة لانقطع منه الجذب لا محالة .

ومن ذلك يظهر سرّ بقاء الكرة الأرضية وغيرها بما فيها من الجبال والأحجار والأشجار والمياه وما شاكلها من الأشياء الطبيعية على وضعها الخاص ومواضعها المخصوصة ، وذلك نتيجة خصائص طبيعية موجودة في صميم موادها ، والقوّة الجاذبية التي تفرض على جميع الأشياء الكونية والمواد الطبيعية . وقد أصبحت عمومية هذه القوّة في يومنا هذا من الواضحات وقد أودعها الله (سبحانه وتعالى)

ــ[428]ــ

في صميم هذه الكرة الأرضية وغيرها للتحفظ على الكرة وما عليها على وضعها المعـيّن ونظامها الخاص ، في حين أ نّها تتحرك في هذا الفضاء الكوني بسرعة هائلة وفي مدار خاص حول الشمس .

وإن شئت فقل : إنّ بقاء تلك الظواهر والموجودات الممكنة معلول لخصائص تلك المواد الطبيعية من ناحية ، والقوّة الجاذبية المحافظة عليها من ناحية اُخرى ، فلا تملك حرّيتها بقاءً ، كما لا تملك حدوثاً .

ونتيجة ذلك نقطتان متقابلتان :

الاُولى : بطلان نظريّة أنّ سرّ حاجة الأشياء إلى العلّة هو الحدوث ، لأنّ تلك النظريّة ترتكز على أساس تحديد حاجة الأشياء إلى العلّة في إطار خاص ونطاق مخصوص لا يطابق الواقع الموضوعي ، وعدم فهم معنى العلّية فهماً صحيحاً يطابق الواقع .

الثانية : صحّة نظريّة أنّ سرّ الحاجة إلى العلّة هو إمكان الوجود ، فان تلك النظريّة قد ارتكزت على أساس فهم معنى العلّية فهماً صحيحاً مطابقاً للواقع ، وأنّ حاجة الأشياء إلى المبدأ كامنة في صميم وجوداتها فلا يعقل وجود متحرر عن المبدأ .

وقد تحصّل من ذلك : أنّ الأشياء بشتّى أنواعها وأشكالها خاضعة للمبدأ الأوّل خضوعاً ذاتياً، وهذا لاينافي أن يكون تكوينها وإيجادها بمشيئة الله تعالى وإعمال قدرته من دون أن يحكم عليه قانون التناسب والسنخية ، كما فصّلنا الحديث من هذه الناحية . أو فقل : إنّ الأفعال الاختيارية تشترك مع المعاليل الطبيعية في نقطة واحدة ، وهي الخضوع للمبدأ والسبب خضوعاً ذاتياً الكامن في صميم ذاتها ووجودها .

ولكنّها تفـترق عنها في نقطـة اُخـرى ، وهي أنّ المعاليل تصدر عن عللها على ضوء قانون التناسب ، دون الأفعال فانّها تصدر

ــ[429]ــ

عن مبدئها على ضوء الاختيار وإعمال القدرة .




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net