إذا شك في سقوط الواجب بفعل المكلف بلا اختيار 

الكتاب : محاضرات في اُصول الفقه - الجزء الاول   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 4445


الثانية : ما إذا شكّ في سقوط واجب عن ذمّة المكلف فيما لو صدر منه بغير اختيار وإرادة ، فهل مقتضى الاطلاق عدم السقوط إذا كان أو لا ؟ وجهان : ربّما قيل بالوجه الأوّل بدعوى أنّ الفعل عند الاطلاق ينصرف إلى حصّة خاصّة وهي الحصّة المقدورة ، فالسقوط بغيرها يحتاج إلى دليل ، وإلاّ فالاطلاق يقتضي عدمه . ولكن هذه الدعوى خاطئة ولا واقع موضوعي لها ، والسبب في ذلك : أنّ منشأ هذا الانصراف لا يخلو من أن يكون موادّ الأفعال أو هيئاتها .

أمّا الموادّ فقد ذكرنا في بحث المشتق بشكل موسّع (1) أ نّها موضوعة للطبيعة المهملة العارية عن كافّة الخصوصيات ، وهي مشتركة بين الحصص الاختيارية وغيرها ، مثلاً مادّة ضرب وهي (ض ر ب) موضوعة لطبيعي الحدث الصادق على ما يصدر بالاختيار وبغيره من دون عناية ، وهكذا . نعم ، وضع بعض المواد لخصوص الحصّة الاختيارية ، وذلك كالتعظيم والتجليل والسخرية والهتك وما شاكل ذلك .

وأمّا الهيئات فأيضاً كذلك ، يعني أ نّها موضوعة لمعنى جامع بين المواد بشتّى أشكالها وأنواعها ، أي سواء أكانت تلك المواد من قبيل الصفات كمادة علم وكرم وابيضّ واسودّ واحمرّ ، وما شاكل ذلك ، أو من قبيل الأفعال ، وهي قد

ـــــــــــــــــــــ
(1) في ص 267 .

 
 

ــ[501]ــ

تكون اختيارية كما في مثل قولنا : ضرب زيد ، وقام عمرو وما شاكلهما . وقد تكون غير اختيارية كما في مثل قولنا : تحقق موت زيد ، وأسرع النبض ، وجرى الدم في العروق ، ونحو ذلك . فالنتيجة : أ نّه لا أساس لأخذ الاختيار في الأفعال لا مادّةً ولا هيئةً .

ولكن شيخنا الاُستاذ (قدس سره) (1) قد ادّعى في المقام أنّ صيغة الأمر أو ما شاكلها ظاهرة في الاختيار ، لا من ناحية دعوى الانصراف ، فانّها ممنوعة ، بل لخصوصية فيها ، واستدلّ على ذلك بوجهين :

الأوّل : أنّ الغرض من الأمر الصادر من المولى إلى العبد هو بعثه وإيجاد الداعي له لتحريك عضلاته نحو إيجاد المأمور به ، ومن الطبيعي أنّ هذا يستلزم كون المتعلق مقدوراً له وإلاّ لكان طلبه لغواً محضاً ، لعدم ترتب الغرض المذكور عليه ، وصدور اللغو من المولى الحكيم مستحيل .

وعلى هذا فبطبيعة الحال يكون المطلوب في باب الأوامر حصّة خاصّة من الفعل وهي الحصّة المقدورة، وتلك الحصّة هي الواجبة على المكلف دون غيرها، ولا يسقط الواجب عنه إلاّ باتيان تلك الحصّة . وعليه فإذا شككنا في سقوط واجب بمجرد تحققه في الخارج ولو بلا اختيار ولا إرادة ، فمقتضى إطلاق الأمر عدم سقوطه ، لأنّ إجزاء غير الواجب عن الواجب يحتاج إلى دليل . فالنتيجة : أ نّا لا نقول بأنّ الاختيار جزء مدلول المادة أو الهيئة ، أو أ نّها عند الاطلاق منصرفة إلى هذا ، وذلك لأنّ هذه الدعوى ساقطة لا واقع لها أصلاً ، بل نقول : إنّه كان من خصوصيات الطلب والبعث المستفاد من الصيغة أو ما شاكلها ومن شؤونه ، فإذن تمتاز صيغة الأمر أو ما شابهها عن بقية الأفعال في هذه النقطة

ـــــــــــــــــــــ
(1) أجود التقريرات 1 : 153 .

ــ[502]ــ

والخصوصية .

الثاني : أ نّه لا يكفي في صحّة الواجب حسنه الفعلي واشتماله على مصلحة ملزمة ، بل يعتبر فيها زائداً على ذلك الحسن الفاعلي ، بمعنى أن يكون صدور الفعل على وجه حسن ، ومن هنا التزم (قدس سره) ببطلان الصلاة في الدار المغصوبة حتّى على القول بالجواز ، نظراً إلى أنّ صدور الصلاة في تلك الدار ليس بوجه حسن يستحق أن يمدح عليه ، وإن كانت الصلاة في نفسها حسنة . وحيث إنّ الفعل الصادر من المكلف بلا اختيار وإرادة لايتصف بالحسن الفاعلي ، فلا يعقل أن يكون من أفراد الواجب ، وعليه فسقوط الواجب به يحتاج إلى دليل ، وإلاّ فمقتضى الأصل عدم سقوطه .

فالنتيجة على ضوء هذين الوجهين : هي أنّ مقتضى إطلاق الأمر عدم سقوط الواجب بما إذا صدر بغير إرادة واختيار ، فالسقوط يحتاج إلى دليل . هذا إذا كان هنا إطلاق ، وإلاّ فالأصل العملي أيضاً يقتضي ذلك .

ولنأخذ بالمناقشة في هذين الوجهين :

أمّا الوجه الأوّل : فهو مورد للمؤاخذة من جهتين : الاُولى : أنّ اعتبار القدرة في متعلق التكليف إنّما هو بحكم العقل لا بمقتضى الخطاب كما فصّلنا الحديث من هذه الناحية في بحث الضد (1) فلا نعيد . الثانية : أنّ اعتبار القدرة فيه سواء أكان بحكم العقل أو بمقتضى الخطاب ليس إلاّ من ناحية أنّ التكليف بغير المقدور لغو ، ومن الطبيعي أنّ ذلك لا يقتضي إلاّ استحالة تعلّق التكليف بغير المقدور خاصّة ، وأمّا تعلّقه بخصوص الحصّة المقدورة فحسب فلا ، ضرورة أنّ غاية ما يقتضي ذلك كون متعلقه مقدوراً ، ومن المعلوم أنّ الجامع بين المقدور

ـــــــــــــــــــــ
(1) راجع المجلد الثاني من هذا الكتاب ص 356 .

ــ[503]ــ

وغيره مقدور فلا مانع من تعلّقه به ، ولا فرق في ذلك بين أن يكون اعتبار القدرة بحكم العقـل أو بمقتضى الخطاب ، أمّا على الأوّل فواضح . وأمّا على الثاني فأيضاً كذلك ، ضرورة أنّ الطلب المتعلق بشيء لا يقتضي أزيد من كون ذلك الشيء مقدوراً .

وبكلمة اُخرى : أنّ المصلحة في الواقع لا تخلو من أن تقوم بخصوص الحصّة المقدورة، أو تقوم بالجامع بينها وبين غير المقدورة . فعلى الأوّل لا معنى لاعتبار الجامع . وعلى الثاني لا مناص من اعتباره ولا يكون لغواً بعد إمكان تحقق تلك الحصّة في الخارج . فالنتيجة أنّ استحالة تعلّق الطلب بالجامع واعتباره إنّما تقوم على أساس أحد أمرين : الأوّل : أن لا يكون للجامع ملاك يدعو المولى إلى اعتباره . الثاني : أن تكون الحصّة غير المقدورة مستحيلة الوقوع في الخارج . وأمّا في غير هذين الموردين فلا مانع من اعتباره على ذمّة المكلف أصلاً .

ولا يقاس هذه المسألة بالمسألة الاُولى ، حيث قلنا في تلك المسألة بعدم إمكان تعلّق التكيف بالجامع بين فعل المكلف نفسه وبين فعل غيره ، والوجه في ذلك : هو أنّ اعتبار ذلك الجامع في ذمّة المكلف لا يرجع بالتحليل العلمي إلى معنىً محصّل ، بداهة أ نّه لا معنى لاعتبار فعل غير المكلف في ذمّته ، وهذا بخلاف مسألتنا هذه فان اعتبار فعل المكلف على ذمّته الجامع بين المقدورة وغيرها بمكان من الامكان بلا لزوم أيّ محذور كما عرفت ، هذا بحسب مقام الثبوت .

وأمّا بحسب مقام الاثبات ، فان كان هناك إطلاق كشف ذلك عن الاطلاق في مقام الثبـوت ، يعني أنّ الواجب هو الجامع دون خصوص حصّة خاصّة ، فعندئذ إن كان المولى في مقام البيان ولم يقم قرينة على التقييد ، تعيّن التمسك بالاطلاق لاثبات صحّة الفعل لو جيء به في ضمن حصّة غير مقدورة .

ــ[504]ــ

فالنتيجة : أ نّه لا مانع من التمسك بالاطلاق في هذه المسألة إن كان ، ومقتضاه سقوط الواجب عن المكلف إذا تحقق في الخارج ولو بلا إرادة واختيار . وهذا بخلاف المسألة الاُولى ، حيث إنّ الاطلاق فيها غير ممكن في مقام الثبوت فلا إطلاق في مقام الاثبات ليتمسك به ، ومن ثمة قلنا بالاشـتغال هناك وعدم السقوط ، هذا بناءً على نظريتنا من أنّ التقابل بين الاطلاق والتقييد من تقابل التضاد ، فاستحالة التقييد تستلزم ضرورة الاطلاق لا استحالته ، كما سيأتي بيانه في ضمن البحوث الآتية إن شاء الله تعالى (1) .

وأمّا بناءً على نظريّة شيخنا الاُستاذ (قدس سره) من أنّ التقابل بينهما من تقابل العدم والملكة ، فإذا أمكن أحدهما أمكن الآخر ، وإذا استحال استحال ، فلا يعقل الاطلاق في المقام حتّى يمكن التمسك به ، وذلك لاستحالة التقييد هنا ، أي تقييد الواجب في الواقع بخصوص الحصّة غير المقدورة، فإذا استحال استحال الاطلاق .

وقد تحصّل من ذلك نقطة الامتـياز بين نظريتنا ونظرية شيخنا الاُستاذ (قدس سره) في المسألة، وهي إمكان التمسك بالاطلاق على الأوّل وعدم إمكانه على الثاني ، هذا إذا كان إطلاق .

وأمّا إذا لم يكن ، فالأصل العملي يقتضي البراءة ، وذلك لأنّ تعلق الوجوب بالجامع معلوم وإنّما الشك في تعلّقه بخصوص الحصّة المقدورة ، ومن الطبيعي أنّ المرجع في ذلك هو أصـالة البراءة عن وجوب خصوص تلك الحصّة ، وعليه فلو تحقق الواجب في ضمن فرد غير مقدور سقط .

وأمّا الوجه الثاني : فترد عليه المناقشة من جهتين :

ـــــــــــــــــــــ
(1) في ص 528 .

ــ[505]ــ

الاُولى : أنّ اعتبار الحسن الفاعلي في الواجب زائداً على الحسن الفعلي والملاك القائم فيه لا دليل عليه أصلاً ، والدليل إنّما قام على اعتبار الحسن الفعلي وهو المصلحة القائمة في الفعل التي تدعو المولى إلى إيجابه .

الثانية : أ نّنا لو اعتبرنا الحسن الفاعلي في الواجب إضافةً إلى الحسن الفعلي لزم من ذلك محذور آخر ، لا إثبات ما هو المقصود هنا ، وذلك المحذور هو عدم كفاية الاتيان بالواجب عندئذ عن إرادة واختيار أيضاً في سقوطه ، بل لا بدّ من الاتيان به بقصد القربة ، بداهة أنّ الحسن الفاعلي لا يتحقق بدونه ، ومن الطبيعي أنّ الالتزام بهذا المعنى يستلزم إنكار الواجبات التوصلية، وانحصارها بالواجبات التعبّدية، وذلك لأنّ كل واجب عندئذ يفتقر إلى الحسن الفاعلي ولا يصح بدونه ، والمفروض أ نّه يحتاج إلى قصد القربة ، وهذا لا يتمشى مع تقسيمه (قدس سره) في بداية البحث الواجب إلى تعبدي وتوصلي .

فالنتيجة : أنّ اعتبار الحسن الفاعلي في الواجب رغم أ نّه لا دليل عليه ، يستلزم محذوراً لا يمكن أن يلتزم به أحد حتّى هو (قدس سره) فإذن لا مناص من الالتزام بعدم اعتباره وكفاية الحسن الفعلي . نعم ، هنا شيء آخر وهو أن لا يكون مصداق الواجب قبيحاً كما إذا أتى به في ضمن فرد محرّم ، وذلك لأنّ الحرام لا يعقل أن يقع مصداقاً للواجب .

وقد تحصّل من ذلك عدّة اُمور :

الأوّل : خطأ الوجوه المتقدمة التي اُقيمت لاثبات كون الواجب هو خصوص الحصّة الاختيارية .

الثاني : إمكان كون الواجب في الواقع هو الجامع بين الحصّة المقدورة وغيرها .

الثالث : أنّ المولى إذا كان في مقام البيان فلا مانع من التمسك بالاطلاق ، وإن

ــ[506]ــ

لم يكن فالمرجع هو أصالة البراءة . وبهذين الوجهين يعني الوجه الثاني والثالث تمتاز هذه المسألة عن المسألة الاُولى .




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net