الكلام في أخذ بقية الدواعي في الواجب 

الكتاب : محاضرات في اُصول الفقه - الجزء الاول   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 4411


يبقى الكلام في بقية الدواعي القربية كقصد المحبوبية أو قصد المصلحة أو الاتيان بالعـبادة بداعي أنّ الله (سبحانه وتعالى) أهلاً لها ، أو غير ذلك ، فهل يمكن اعتبار تلك الدواعي في متعلق الأمر أم لا ؟ وعلى تقدير الامكان فهل يجوز التمسك بالاطلاق لاثبات عدم اعتبارها أو لا يجوز ؟

فالبحث هنا يقع في مقامين :

الأوّل : في إمكان أخذها في متعلق الأمر وعدم إمكانه .

الثاني : في جواز التمسك بالاطلاق وعدم جوازه .

أمّا المقام الأوّل : فذهب المحـقق صاحب الكفاية (قدس سره) (1) إلى أنّ أخذ تلك الدواعي في متعلق الأمر وإن كان بمكان من الامكان ، إلاّ أ نّا نعلم قطعاً بعدم أخذها في العبادات ، وذلك لأنّ تلك الدواعي لو كانت مأخوذة في متعلق الأمر لم تصحّ العبادة بدون قصدها وإن كان قاصداً لامتثال الأمر ، مع أ نّه لا شبهة في صحّتها إذا اُتي بها بداعي أمرها من دون الالتفات إلى أحد هذه الدواعي فضلاً عن قصدها، وهذا كاشف قطعي عن عدم اعتبارها . فالنتيجة أنّ الدواعي القربية بكافّة أصنافها لم تؤخذ في متعلق الأمر ، غاية الأمر عدم أخذ بعضها من ناحية الاستحالة ، وبعضها الآخر من ناحية وجود القطع الخارجي .

ولنأخذ بالنقد على ما أفاده (قدس سره) وذلك لأنّ ما ذكره من صحّة العـبادة مع قصد أمرها وبدون قصد تلك الدواعي لا يكشف إلاّ عن عدم اعتبارها بالخصوص . وأمّا اعتبار الجامع بين الجميع وهو إضافة العمل إليه

ـــــــــــــــــــــ
(1) كفاية الاُصول : 74 .

ــ[538]ــ

تعالى فهو بمكان من الامكان . ولا دليل فيما ذكره (قدس سره) على عدم اعتباره فلعل صحّة العبادة المأتي بها بداعي أمرها إنّما هي من ناحية تحقق الجامع القربي به .

بكلمة واضحة : أ نّنا لو افترضنا أنّ تقييد العـبادة بقصد الأمر مستحيل ، وافترضنا أيضاً اليقين الخارجي بعدم تقييدها ببقية الدواعي القربية أيضاً ، ولكنّه لا مانع من تقييدها بالجامع لا من الناحية الاُولى لما عرفت من أنّ الجامع بين المقدور وغير المقدور مقدور ، ولا مانع من تعلّق التكليف به ، وعليه فعدم إمكان تقييد العبادة بخصوص قصد الأمر لايستلزم عدم إمكان تقييدها بالجامع بينه وبين غيره من الدواعي ، لعدم الملازمة بينهما أصلاً ، ولا من الناحية الثانية ، لعدم القطع الخارجي بعدم اعتباره أيضاً . فإذن لا مانع من أخذ الجامع القربي بين هذه الدواعي في العبادة .

وتوهم أنّ لازم ذلك هو أن يكون الاتيان بذات الصلاة مثلاً بداعي أمرها تشريعاً ومحرّماً ، لفرض أنّ الأمر قد تعلّق بها مع قصد ذلك الجامع ولا يتعلّق بذات الصلاة وحدها ، مع أ نّه لا شبهة في صحّة الاتيان بها بداعي أمرها ، ومن الطبيعي أنّ ذلك يكشف عن تعلّق الأمر بذاتها لا بها مع قصد التقرب ، وعليه فكيف يحتمل أخذ الجامع القربي فيها ، خاطئ جداً لما تقدّم بشكل موسّع في ضمن البحوث السابقة(1) من أنّ الاتيان بالعبادة بداعي أمرها لا يستدعي تعلّق الأمر النفسي الاستقلالي بذاتها ، بل يمكن الاتيان بها بداعي أمرها الضمني ، والمفروض أنّ الأمر الضمني موجود . فإذن لا تشريع في البين أصلاً .

ولشيخنا الاُستاذ (قدس سره) في المقام كلام : وهو أنّ الدواعي القربية حيث

ـــــــــــــــــــــ
(1) في ص 523 .

ــ[539]ــ

كانت بأجمعها في عرض واحد ، وأنّ الجامع بين الجميع هو كون العمل لله تعالى كما يستفاد من قوله (عليه السلام) : «وكان عمله بنيّة صالحة يقصد بها ربّه»(1) فلا يمكن أخذها في المأمور به ، وذلك لأنّ الداعي أيّاً منها فرض فهو في مرتبة سابقة على الارادة المحرّكة للعمل ، فإذا كان كذلك استحال كونه في عرض العمل الصادر عن الارادة التكوينية ، فانّ المفروض سبقه على الارادة حيث إنّ الارادة تنبعث منه ، والعمل متأخر عن الارادة على الفرض ، فإذا لم يمكن وقوع الداعي في حيّز الارادة التكوينية فلا يمكن وقوعه في حيّز الارادة التشريعية أيضاً ، بداهة أنّ متعلق الارادة التشريعية هو بعينه ما يوجده العبد في الخارج وتتعلق به إرادته التكوينية ، فلو لم يمكن تعلّق الارادة التكوينية بشيء لم يمكن تعلّق الارادة التشريعية به أيضاً .

أو فقل : إنّ الداعي حيث كان علّةً لحدوث الارادة التكوينية في نفس المكلف كان مقدّماً عليها رتبةً وهي متأخرة عنه كذلك ، فلو افترضنا أنّ الارادة تتعلق به لزم كونها مقدمةً عليه رتبة ، ومردّ هذا إلى تقدّم الشيء على نفسه وهو محال ، فإذا لم يمكن أخذ كل واحد من تلك الدواعي في المأمور به لم يمكن أخذ الجامع بينها فيه بعين البيان المذكور(2) .

ولنأخذ بالمناقشة عليه أوّلاً بالنقض . وثانياً بالحل .

أمّا الأوّل : فلو تمّ ما أفـاده (قدس سره) من عدم إمـكان تعلّق الارادة التشريعية والتكوينية بداع من الدواعي القربية ، لكان ذلك موجباً لعدم إمكان تعلقهما به بمتمم الجعل وبالأمر الثاني أيضاً ، مع أ نّه (قدس سره) قد التزم بامكان أخذه بالأمر الثاني ، والسبب في ذلك : هو ما عرفت من أنّ الداعي

ـــــــــــــــــــــ
(1) الكافي 3 : 268 / 3 (بتفاوت) .
(2) أجود التقريرات 1 : 163 .

ــ[540]ــ

عبارة عمّا تنبعث الارادة منه في نفس المكلف للقيام بالعمل ، وعليه فبطبيعة الحال تكون الارادة متأخرةً عنه . فإذن كيف يعقل أن تتعلق الارادة به كما تتعلق بالفعل الخارجي ، ومن الواضح أ نّه لا فرق في استحالة أخذه في متعلق الارادة بين أن يكون بالأمر الأوّل أو بالأمر الثاني.

وأمّا الثاني : فلأنّ ما أفاده (قدس سره) إنّما يتم في الارادة الشخصية ، حيث إنّها لا يعقل أن تتعلق بما تنبعث منه ، بداهة استحالة تعلّق الارادة الناشئة عن داع بذلك الداعي ، لتأخرها عنه رتبةً فكيف تتقدّم عليه كذلك .

أو فقل : إنّ هذه الارادة معلولة لذلك الداعي فكيف يعقل أن تتقدّم عليه وتتعلّق به . وأمّا تعلّق فرد آخر من الارادة به غير الفرد الناشئ منه فلا استحالة فيه أصلاً . وما نحن فيه من هذا القبيل ، وذلك لأنّ الواجب فيه مركب على الفرض من فعل خارجي كالصلاة مثلاً وفعل نفساني كأحد الدواعي القربية ، حيث إنّه فعل اختياري للنفس يصدر منها باختيارها وإرادتها وبلا واسطة إحدى قواها كقصد الاقامة وما شاكله ، وقد تقدّم تفصيل ذلك بصورة موسّعة في ضمن البحوث السابقة (1) هذا من ناحية .

ومن ناحية اُخرى : قد ذكرنا سابقاً بشكل مفصّل (2) أنّ الملاك في كون الفعل اختيارياً ، ما كان مسبوقاً باعمال القدرة والاختيار ، سواء أكان من الأفعال الخارجية أم كان من الأفعال النفسانية .

فالنتيجة على ضوء هـاتين الناحيتين : هي أنّ الاختيار المتعلق بالفعل الخارجي كالصلاة مثلاً غير الاختيار المتعلق بالفعل النفساني ، فانّ تعدد الفعل بطبيعة الحال يستلزم تعدّد الاختيار وإعمال القدرة، فلا يعقل تعلّق اختيار واحد

ـــــــــــــــــــــ
(1) في ص 523 .
(2) في ص 403 .

 
 

ــ[541]ــ

بهما معاً . فإذن لايلزم المحذور المتقدم حيث إنّ الاختيار المتعلق بالفعل الخارجي هو الناشئ عن الفعل النفساني يعني أحد الدواعي القربية ، والاختيار المتعلق به غير ذلك الاختيار ولم ينشأ منه .

وأمّا ما أفاده (قدس سره) من أنّ الارادة التشريعية تتعلّق بما يوجده العبد وتتعلّق به إرادته التكوينية فيرد عليه ما ذكرناه سابقاً (1) : من أ نّه لا معنى للارادة التشريعية في مقابل الارادة التكوينية إلاّ أن يكون المراد من الارادة التشريعية الأمر الصادر من المولى المتعلق بفعل المكلف ، ولكن على هذا الفرض فالارادة التشريعية في المقام واحدة دون الارادة التكوينية ، وذلك لأنّ وحدة الارادة التشريعية وتعددها تتبع وحدة الغرض وتعدده ، وحيث إنّ الغرض في المقام واحد قائم بالمجموع المركب منهما، لفرض كون الواجب ارتباطياً ، فبطبيعة الحال الارادة التشريعية المتعلّقة به أيضاً واحدة .

وقد تحصّل من ذلك : أ نّه لا مانع من أخذ الجامع بين جميع الدواعي القربية في متعلق الأمر وإن قلنا باستحالة أخذ خصوص قصد الأمر فيه ، كما أ نّه لا مانع من أخذ بقية الدواعي القربية فيه .

قد يقال كما قيل(2) : إذا افترض استحالة أخذ قصد الأمر في متعلقه من ناحية ، واليقـين بعدم أخذ غيره من الدواعي القربية فيه من ناحية اُخرى ، فبطبيعة الحال كان عدم أخذ الجامع بين جميع هذه الدواعي أيضاً متيقناً ، لفرض أ نّه لا يعمّ غيرها .

وإن شئت فقل : إنّ أخذ خصوص قصد الأمر في متعلقه حيث إنّه مستحيل فلا معنى لأخذ الجامع بينه وبين غيره من الدواعي القربية فيه ، وعندئذ فلو

ـــــــــــــــــــــ
(1) في ص 482 .
(2) نهاية الأفكار 1 : 188 (مع اختلاف يسير) .

ــ[542]ــ

كان الجامع مأخوذاً فلا بدّ أن يكون الجامع بين بقية الدواعي ، وهو غير مأخوذ قطعاً وإلاّ لم تكن العبادة صحيحةً بدون أحد تلك الدواعي وإن كانت مع قصد الأمر .

والجواب عنه يظهر ممّا حققناه سابقاً (1) وحاصله : هو أنّ الاطـلاق عبارة عن رفض القـيود وملاحظة عدم دخل شيء من الخصوصيات فيه من الخصوصيات النوعية أو الصنفية أو الشخصية ، وليس عبارة عن الجمع بين القيود والخصوصيات . وعلى هذا فلا مانع من أخذ الجامع بين جميع هذه الدواعي القربية في العبادات ، ولايستلزم عدم اعتبار كل واحد من تلك الدواعي فيها عدم أخذ الجامع ، وذلك لأنّ معنى أخذ الجامع ليس أخذ خصوص قصد الأمر وقصد المحبوبية وقصد الملاك ونحو ذلك من الدواعي في المتعلق ليلزم المحذور السابق ، لما عرفت من أ نّه يقوم على أساس أن يكون معنى الاطلاق هو الجمع بين القيود ولحاظ دخل الجميع فيه ، ولكن قد عرفت خطأ هذا التفسير ، بل معناه لحاظ عدم دخل شيء منها فيه ، ومن الطبيعي أ نّه لا محذور في ذلك ، فانّ المحذور إنّما هو في أخذ خصوص قصد الأمر لا في عدم أخذه ، وهكذا.

ومن هنا قلنا إنّه لو أمكن للمكلف إيجاد المطلق المعرى عنه جميع الخصوصيات فقد حصل الغرض وامتثل الأمر . مثلاً ففي مثل قولنا : اعتق رقبةً ، الذي لاحظ المولى طبيعي الرقبة من دون ملاحظة خصوصية من الخصوصيات فيها، لو تمكن المكلف من إيجاد عتق الرقبة خالياً عن تمام الخصوصيات لامتثل الأمر .

فالنتيجة لحدّ الآن قد أصبحت : أ نّه لا مانع من أخذ خصوص قصد الأمر

ـــــــــــــــــــــ
(1) في ص 530 .

ــ[543]ــ

في المتعلق . وعلى تقدير تسليم المانع منه فلا مانع من أخذ الجامع القربي فيه ، بداهة أنّ ما ذكر من المحاذير لايلزم شيء منها على تقدير أخذه، هذا من ناحية.

ومن ناحية اُخرى : أنّ الدواعي القربية بكافّة أصنافها في عرض واحد فليس واحد منها في طول الآخر ، فانّ المعتبر في العبادة هو الاتيان بها بقصد التقرب إلى المولى ، وهو يتحقق باضافة الفعل إليه حيث لا واقع له ما عدا ذلك ، ومن المعلوم أنّ الاضافة جامعة بين جميع أنحاء قصد القربة ، ومن ذلك يظهر أنّ كل واحد من الدواعي القربية غير مأخوذ في متعلق الأمر ، والمأخوذ إنّما هو الجامع بين الجميع ، ومن ثمة لو أتى المكلف بالعبادة بأيّ داع من تلك الدواعي لكانت صحيحة، ولا خصوصية لواحد منها بالاضافة إلى الآخر أصلاً .

ثمّ لو تنزّلنا عن ذلك وسلّمنا أنّ أخذ الجامع القربي في متعلق الأمر أيضاً مستحيل ، ولكن للمولى التوصّل إلى غرضه في الواجبات العبادية بأخذ ما يلازم قصد الأمر فيها ، بيان ذلك : أنّ كل عمل صادر عن الفاعل المختار لا بدّ أن يكون صدوره عن داع من الدواعي التي تدعو المكلف نحو العمل وتبعث نحوه ، ومن الواضح أنّ الداعي لا يخلو من أن يكون داعياً نفسانياً أو يكون داعياً إلهياً فلا ثالث لهما . وعليه فلو أخذ المولى في متعلق أمره عدم إتيانه بداع نفساني فقد وصل به إلى غرضه ، حيث إنّ هذا العنوان العدمي ملازم لاتيان الفعل المأمور به مضافاً به إلى المولى . مثلاً لو أمر بالصلاة مقيّدةً بعدم إتيانها بداع من الدواعي النفسانية ، فقد أخذ في متعلق أمره عنواناً عدمياً ملازماً لاتيان الصلاة بداع إلهي ، وبهذه الطريقة يتمكن المولى أن يتوصل إلى غرضه .

ولكن قد أورد عليه شيخنا الاُستاذ (قدس سره) (1) بأ نّه لو فرض محالاً انفكاك العمل العبادي المعنون بالعنوان المذكور عن الدواعي الإلهية وبالعكس ،

ـــــــــــــــــــــ
(1) أجود التقريرات 1 : 166 .

ــ[544]ــ

لزم كون العبادة صحيحةً على الأوّل وباطلةً على الثاني ، وهذا ممّا لا يعقل أن يلتزم به فقيه قطعاً ، بداهة صحّة العبادة مع قصد القربة وإن لم يتحقق العنوان المزبور ، وعدم تعقل صحّتها بدونه وإن تحقق ذلك العنوان .

وغير خفي أنّ غرض المولى من أخذ ذلك العنوان الملازم في العبادات إنّما هو التوصل به إلى غرضه خارجاً ، وحيث إنّ عدم الاتيان بالعبادة بداع نفساني في الخارج ملازم للاتيان بها بداع إلهي ولا ينفك أحدهما عن الآخر خارجاً ، فلا مانع من اعتباره فيها توصلاً إلى مقصوده ، وأمّا فرض الانفكاك محالاً فلا أثر له أصلاً حيث إنّه لا يخرج عن مجرد الفرض من دون واقع موضوعي له ، والأثر إنّما هو للانفكاك خارجاً وهو غير متحقق .

ولو تنزّلنا عن ذلك أيضاً وسلّمنا بأنّ التقييد كما لا يمكن بداعي الأمر ، ولا بالجامع بينه وبين غيره ، كذلك لا يمكن بما يكون ملازماً له ، ولكن مع ذلك يمكن للمولى التوصل إلى مقصوده إذا تعلّق بالعمل مع قصد القربة بالإخبار عن ذلك بجملة خبرية بعد الأمر به أوّلاً كقوله : تجب الصلاة مع قصد القربة ، وأنّ غرضي لا يحصل من الأمر المتعلق بها إلاّ باتيانها بداعي الأمر أو نحو ذلك . إلى هنا قد عرفت حال المانع عن أخذه في متعلقه بالأمر الأوّل .

ولكن شيخنا الاُستاذ (قدس سره)(1) قد اختار طريقاً آخر لتوصل المولى إلى غرضه في العبادات ـ بعد اعترافه بعدم إمكان أخذه فيها بالأمر الأوّل ـ وهو الأمر بها ثانياً بداعي أمرها الأوّل ، ويسمى الأمر الثاني بمتمم الجعل ، بيان ذلك : أ نّنا إذا افترضنا أنّ غرض المولى مترتب على الصلاة بداعي القربة ، فإذا أراد المولى استيفاء غرضه وحيث لا يمكن له ذلك إلاّ بأمرين : أمر متعلق بذات الصلاة وأمر آخر متعلق باتيانها بقصد القربة ، فلا بدّ له من ذلك ، ولا

ـــــــــــــــــــــ
(1) أجود التقريرات 1 : 173 .

ــ[545]ــ

يمكن الاكتفاء بأمر واحد وإيكال الجزء الآخر ـ وهو قصد القربة ـ إلى حكم العقل ، ضرورة أنّ شأن العقل إدراك الواقع على ما هو عليه وأنّ هذا الشيء ممّا جعله الشارع جزءاً أو شرطاً أم لم يجعله ، وليس له الجعل والتشريع في قبال الشارع ، وعليه فكلّ ما تعلّق به غرض المولى فلا بدّ أن يكون اعتـباره من قبله ، فإذا لم يمكن ذلك بالأمر الأوّل فبالأمر الثاني ، وقصد القربة من هذا القبيل فلا فرق بينه وبين غيره من الأجزاء والشرائط إلاّ في هذه النقطة وهي عدم إمكان اعتباره إلاّ بالأمر الثاني المتمم للجعل الأوّل ، فلذا يكون الأمران بحكم أمر واحد .

فالنتيجة : أنّ متعلق الأمر الأوّل مهمل فلا إطلاق له ولا تقييد ، فعندئذ إن دلّ دليل من الخارج على اعتبار قصد القربة فيه كالأمر الثاني أفاد نتيجة التقييد، وإن دلّ دليل على أنّ الجعل لا يحتاج إلى متمم أفاد نتيجة الاطلاق، ولا فرق في ذلك بين متعلق الحكم وموضوعه .

وقد أورد عليه المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) (1) بأنّ أخذ قصد القربة في متعـلق الأمر كما لا يمكن بالأمر الأوّل كذلك لا يمكن بالأمر الثـاني أيضـاً ، وذلك مضافاً إلى القطع بأ نّه ليس في العبادات إلاّ أمر واحد ، أنّ التكليف إن سقط باتيان المأمور به بالأمر الأوّل فلا يبقى مجال للأمر الثاني ، لانتفائه بانتفاء موضوعه فلا يتمكن المولى أن يتوصل إلى غرضه بهذه الطريقة ، وإن لم يسقط عندئذ فبطبيعة الحال ليس الوجه لعدم سقوطه إلاّ عدم حصول غرضه بذلك من أمره ، وبدونه لا يعقل سقوطه ، وعليه فلا حاجة في الوصول إلى غرضه إلى تعدد الأمر ، لاستقلال العقل بلزوم تحصيل غرضه وهو لا يمكن إلاّ باتيان العمل مع قصد القربة .

ـــــــــــــــــــــ
(1) كفاية الاُصول : 74 .

ــ[546]ــ

والجواب عنه : أ نّنا نلتزم بعدم سقوط الأمر الأوّل إذا أتى المكلف به من دون قصد القربة مع وجود الأمر الثاني من المولى باتيانه بداعي الأمر الأوّل ، وبسقوطه باتيانه كذلك مع فرض عدم وجود الأمر الثاني به ، فإذن لا يكون الأمر الثاني لغواً، وذلك لأنّ المولى إذا أمر ثانياً باتيان شيء بداعي أمره الأوّل ، كشف ذلك عن أنّ الغرض منه خاص وهو لا يحصل إلاّ باتيانه بداعي القربة ويعبّر عن ذلك بنتيجة التقييد ، وإذا لم يأمر ثانياً باتيانه كذلك كشف ذلك عن أنّ المأمور به بالأمر الأوّل واف بالغرض وأ نّه يحصل بتحققه في الخارج ولو كان غير مقرون بقصد القربة .

الذي يرد على ما ذكره شيخنا الاُستاذ (قدس سره) ما تقدّم منّا في ضمن البحوث السالفة (1) من أنّ الاهمال في الواقعيات غير معقول ، فالحكم المجعول من المولى لا يخلو من أن يكون مطلقاً في الواقع أو مقيّداً ولا يعقل لهما ثالث ، ولكن لو تنزلنا عن جميع ما ذكرناه سابقاً وسلّمنا أنّ استحالة التقييد تستلزم استحالة الاطلاق ، فلا مناص من الالتزام بمقالته (قدس سره) وأنّ الحكم بالجعل الأوّل مهمل فلا بدّ من نتيجة التقييد أو نتيجة الاطلاق .

إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة وهي أ نّه لا مانع من أخذ قصد الأمر في متعلقه ، وعلى تقدير تسليم استحالته فلا مانع من أخذ الجامع بينه وبين بقية الدواعي فيه ، كما أ نّه لا مانع من أخذ بقية الدواعي . وعلى تقدير تسليم استحالته أيضاً فلا مانع من أخذ العنوان الملازم لعنوان قصد الأمر في متعلقه، وعلى تقدير تسليم استحالته أيضاً فلا مانع من بيان ذلك بجملة خبرية ، أو بالأمر الثاني .

ـــــــــــــــــــــ
(1) في ص 534 .

ــ[547]ــ

وعلى ضوء هذا الأساس لو شككنا في اعتبار قصد القربة في عمل فلا مانع من التمسك بالاطلاق لنفي اعتباره ، وذلك لأ نّه لو كان معتبراً ودخيلاً في الغرض لكان على المولى البيان ولو بجملة خبرية أو بالأمر الثاني فإذا لم يبيّن علم بعدم اعتباره . فالنتيجة : أنّ مقتضى الاطلاق وكون المولى في مقام البيان هو أنّ الواجب توصلي ، فالتعبدية تحتاج إلى دليل وبيان .




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net