إجزاء كل مأمور به عن أمره \ توهم جواز الامتثال بعد الامتثال في موردين 

الكتاب : محاضرات في اُصول الفقه - الجزء الثاني   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 5050


ــ[36]ــ


[ إجزاء كل مأمور به عن أمره ]

أمّا الكلام في المسألة الاُولى : فقد ذكر المحقق صاحب الكفاية (قدس سره)(1) أنّ إجزاء الاتيان بكل مأمور به عن أمره عقلي سواء كان أمراً واقعياً أو اضطرارياً أو ظاهرياً، ضرورة أنّ العقل يستقل بعدم بقاء موضوع للتعبد ثانياً .
أقول : الأمر كما أفاده (قدس سره) ومن هنا لا نزاع فيه وإن نسب الخلاف إلى بعض ، ولكنّه على تقدير صحّته لا يعتد به أصلاً ، والوجه في ذلك : هو أنّ المكلف إذا جاء بالمأمور به وأتى به خارجاً واجداً لجميع الأجزاء والشرائط حصل الغرض منه لا محالة وسقط الأمر ، وإلاّ لزم الخلف أو عدم إمـكان الامتثال أبداً ، أو بقاء الأمر بلا ملاك ومقتض ، والجميع محال . أمّا الأوّل : فلأنّ لازم بقاء الأمر تعدد المطلوب لا وحدته وهو خلف . وأمّا الثاني : فلأنّ الامتثال الثاني كالامتثال الأوّل، فإذا لم يكن الأوّل موجباً لسقوط الأمر فالثاني مثله ، وهكذا . وأمّا الثالث : فلأنّ الغرض إذا تحقق في الخارج ووجد كيف يعقل بقاء الأمر ، ضرورة استحالة بقائه بلا مقتض وسبب .
فالنتيجة : أنّ إجزاء الاتيان بالمأمور به عن أمره ضروري من دون فرق في ذلك بين المأمور به الواقعي والظاهري والاضطراري أصلاً .
وعلى ضوء ما بيّناه قد ظهر أنّ الامتثال عقيب الامتثال غير معقول .
ولكن قد يتوهم جواز الامتثال بعد حصول الامتثال في موردين :

ـــــــــــــــــــــ
(1) كفاية الاُصول : 83 .

ــ[37]ــ

أحدهما : جـواز إعادة من صلّى فرادى جماعة ، وقد دلّت على ذلك عدّة روايات منها : صحيحة هشام بن سالم عن أبي عبدالله (عليه السلام) «أ نّه قال : في الرجل يصلي الصلاة وحده ثمّ يجد جماعة، قال : يصلي معهم ويجعلها الفريضة إن شاء»(1) ومنها : صحيحة زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) في حديث «قال : لا ينبغي للرجل أن يدخل معهم في صلاتهم وهو لا ينويها صلاة ، بل ينبغي له أن ينويها ، وإن كان قد صلّى فانّ له صلاة اُخرى» (2) إلى غيرهما من الروايات الواردة في هذا الـباب ، فهذه الروايات تدل على جواز الامتثال ثانياً بعد حصول الامتثال الأوّل وهو الاتيان بالصلاة فرادى ، وهذا من الامتثال بعد الامتثال الذي قد قلنا باستحالته .
وثانيهما : جواز إعادة من صلّى صلاة الآيات ثانياً ، وقد دلّت على ذلك صحيحة معاوية بن عمار قال : «قال أبو عبدالله (عليه السلام) صلاة الكسوف إذا فرغت قبل أن ينجلي فأعد» (3) وغيرها من الروايات الواردة في المقام ، فانّها ظاهرة في وجوب إعادتها ثانياً فضلاً عن أصل مشروعيتها ، وهذا معنى الامتثال بعد الامتثال .
أقول : أمّا الجواب عن المورد الأوّل : فالنصوص الواردة فيه على طائفتين :
إحداهما : ما وردت في إعادة الصلاة مع المخالفين ، منها : صحيحة عمر بن يزيد عن أبي عبدالله (عليه السلام) «أ نّه قال : ما منكم أحد يصلي صلاة فريضة في وقتها ثمّ يصلي معهم صلاة تقيّة وهو متوضئ إلاّ كتب الله له بها خمساً وعشرين

ـــــــــــــــــــــ
(1) الوسائل 8 : 401 / أبواب صلاة الجماعة ب 54 ح 1 .
(2) الوسائل 8 : 401 / أبواب صلاة الجماعة ب 54 ح 2 .
(3) الوسائل 7 : 498 / أبواب صلاة الكسوف والآيات ب 8 ح 1 .

ــ[38]ــ

درجة فارغبوا في ذلك» (1) . ومنها : صحيحة عبدالله بن سنان عن أبي عبدالله (عليه السلام) «قال : ما من عبد يصلي في الوقت ويفرغ ثمّ يأتيهم ويصلي معهم وهو على وضوء إلاّ كتب الله له خمساً وعشرين درجة»(2) وغيرهما من الروايات الواردة في هذا المورد. وهذه الطائفة لاتدل على مشروعية الامتثال بعد الامتثال أصلاً ، والسبب في ذلك : أ نّها وردت في مقام التقية فتكون الاعادة لأجلها ، ولولا التقية لم يكن لنا دليل على جوازها ومشروعيتها. وعلى الجملة: فالروايات الدالّة على جواز الاعادة تقية لا تدل على جواز الامتثال بعد الامتثال ، فهذه الطائفة أجنبية عن محل الكلام ولا صلة لها بما نحن بصدده .
وثانيتهما : ما دلّت على إعادة الصلاة جماعة، منها : الصحيحتان المتقدمتان(3) ولكنّهما أيضاً لا تدلاّن على مشروعية الامتثال ثانياً ، بداهة أنّ الامتثال الأوّل ـ وهو الاتيان بالمأمور به بجميع أجزائه وشرائطه ـ مسقط لأمره ، ويكون علّة له وإلاّ فلا يعقل سقوطه ، بل مفاد تلك الروايات استحباب الاعادة جماعة بداعي الأمر الاستحبابي ـ لا بداعي الأمر الأوّل ـ المستفاد من نفس تلك الروايات ، أو بداعي الأمر الوجوبي قضاءً لا أداءً وعليه تدل صحيحة هشام ابن سالم «يصلي معهم ويجعلها الفريضة إن شاء»(4) وصحيحة حفص بن البختري «يصلي معهم ويجعلها الفريضة»(5) بقرينة قوله (عليه السلام) في صحيحة إسحاق

ـــــــــــــــــــــ
(1) الوسائل 8 : 302 / أبواب صلاة الجماعة ب 6 ح 1 .
(2) الوسائل 8 : 302 / أبواب صلاة الجماعة ب 6 ح 2 .
(3) في الصفحة السابقة .
(4) تقدّم ذكر مصدرها في الصفحة السابقة .
(5) الوسائل 8 : 403 / أبواب صلاة الجماعة ب 54 ح 11 .

ــ[39]ــ

ابن عمار «صلّ واجعلها لما فات» (1) .
وبتعبير آخر: أنّ المستفاد من تلك الطائفة من الروايات هو أنّ إعادة الصلاة جماعة بعد الاتيان بها فرادى أمر مستحب ، فيكون الاتيان بها بقصد ذلك الأمر الاستحبابي . نعم ، من كان في ذمته قضاء فله أن يجعلها لما فات . فالنتيجة أ نّها أجنبية عن الدلالة على جواز الامتثال بعد الامتثال بالكلّية ، فضلاً عن الدلالة على أنّ سقوط الأمر الأوّل مراعى بعدم تعقب الامتثال الآخر جماعة . وأمّا ما ورد من الرواية من أنّ الله تعالى يخـتار أحبّهما إليه (2) فيردّه ضعف السند فلا يمكن الاعتماد عليه . وعلى تقدير تسليم سنده فهو لا يدل على جواز تبديل الامتثال بالامتثال الآخر وكون سقوط الأمر مراعىً بعدم تعقب الأفضل ، وذلك لأنّ معناه والله العالم هو أنّ الله تعالى يعطي ثواب الجماعة فانّها عنده تعالى أحب من الصلاة فرادى ، وهذا تفضل منه تعالى ، ولا سيّما إذا قلنا بأنّ أصل الثواب من باب التفضل لا من باب الاستحقاق . وكيف ما كان ، فهذه الرواية سـاقطة كغيرها من الروايات ، فلا وجه لاطالة الكـلام فيها كما عن شيخنا المحقق (قدس سره)(3) . مع أنّ ما أفاده (قدس سره) في تفسير هذه الرواية خارج عن الفهم العرفي وراجع إلى الدقّة الفلسفية كما لا يخفى .
وعلى ضوء هذا البيان قد ظهر فساد ما احتمله شيخ الطائفة (قدس سره) في التهذيب وإليك نصّه : والمعنى في هذا الحديث قوله (عليه السلام) «يصلّي معهم ويجعلها الفريضة إن شاء» أنّ من يصلّي ولم يفرغ من صلاته ووجد جماعة فليجعلها نافلة ثمّ يصلّي في جماعة، وليس ذلك لمن فرغ من صلاته بنيّة الفرض،

ـــــــــــــــــــــ
(1) الوسائل 8 : 404 / أبواب صلاة الجماعة ب 55 ح 1 .
(2) الوسائل 8 : 403 / أبواب صلاة الجماعة ب 54 ح 10 (نقل بالمضمون) .
(3) نهاية الدراية 1 : 374 .

ــ[40]ــ

لأنّ من صلّى الفرض بنيّة الفرض فلا يمكن أن يجعلها غير فرض(1) وأيّده الوحيد (قدس سره) (2) بقوله بأ نّه ظاهر صيغة المضارع .
وذلك لأنّ ما أفاده (قدس سره) خلاف ظاهر الحديث ، بل خلاف صريحه فانّه نص من جهة العطف بكلمة «ثمّ» [ في ] أنّ وجدانه الجماعة بعد الفراغ عن الصلاة فرادى لا في أثنائها. وبذلك ظهر أ نّه لا وجه لتأييد الوحيد (قدس سره) بأ نّه ظاهر صيغة المضارع ، فانّها وإن كانت ظاهرة في الفعلية إلاّ أنّ العطف بكلمة «ثمّ» يدل على أنّ وجدانه الجماعة كان متأخراً زماناً عن إتيانه بالصلاة فرادى .
وأمّا الجواب عن المورد الثاني: فالصحيح هو أنّه لابدّ من رفع اليد عن ظهور تلك الروايات في وجوب الاعادة وحملها على الاستحباب ، وذلك لاستقلال العقل بسقوط الأمر بالامتثال الأوّل فلا يعقل أن تكون الاعادة بداعي ذلك الأمر كما أشرنا إليه في ضمن البحوث السالفة أيضاً .
فالنتيجة قد تحقّقت لحدّ الآن في عدّة خطوط :
الأوّل : أنّ مسألة الإجزاء مسألة اُصولية عقلية وليست من المسائل اللفظية.
الثاني : أنّ الاتيان بكل مأمور به مسقط لأمره، وهذا ليس من محل الكلام في شيء ، وإنّما الكلام في سقوط الأمر الواقعي باتيان المأمور به بالأمر الاضطراري أو الظاهري .
الثالث : أنّ الروايات الدالّة على جواز الاعادة على اختلافها لا تدل على الامتثال بعد الامتثال .

ـــــــــــــــــــــ
(1) التهذيب 3 : 50 / 176 .
(2) حاشية المدارك : 254 .


 
 
 




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net