الخلاف في رجوع القيد إلى المادة أو الهيئة - وجوه استحالة رجوع القيد إلى مفاد الهيئة 

الكتاب : محاضرات في اُصول الفقه - الجزء الثاني   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 5203


بقي الكلام في النزاع المعروف الواقع بين شيخنا الأنصاري (قدس سره) وغيره من الأعلام ، وهو أنّ القيود المأخوذة في لسان الأدلة هل ترجع إلى مفاد الهيئة أو إلى نفس المادة ؟ فنسب صاحب التقرير إلى الشيخ (قدس سره) (1) رجوعها إلى المادة دون مفاد الهيئة ، وإن كان ظاهر القضية الشرطية بحسب المتفاهم العرفي هو رجوعها إلى مفاد الهيئة ، ضرورة أنّ المتفاهم عرفاً من مثل قولنا : إن جاءك زيد فأكرمه ، هو ترتب وجوب الاكرام على مجيئه وأ نّه قيد له دون الواجب ، وكذا المتفاهم من مثل قوله تعالى (وَللهِِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ ا لْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ) (2) ومن هنا اعترف الشيخ (قدس سره) بهذا الظهور وقال : إنّ مقتضى القواعد العربية وإن كان ذلك ، إلاّ أ نّه ادعى استحالة رجوع القيد إلى مفاد الهيئة من ناحية ، وادعى لزوم رجوعه إلى نفس المادة لباً من ناحية اُخرى ، فهنا نقطتان من البحث ، الاُولى : في دعوى استحالة رجوع القيد إلى مفاد الهيئة . الثانية : في دعوى لزوم رجوعه إلى المادة لباً .
أمّا النقطة الاُولى : فالبحث فيها يعود إلى دعاو ثلاث :
الاُولى: ما نسب إلى الشيخ (قدس سره) في تقريره كما ذكره صاحب الكفاية (قدس سره)(3) وحاصله : هو أنّ مفاد الهيئة معنى حرفي والمعنى الحرفي جزئي حقيقي ، ومن البديهي أنّ الجزئي غير قابل للتقييد ، فانّ ما هو قابل له هو المعنى

ـــــــــــــــــــــ
(1) مطارح الأنظار : 45 ، 46 ، 52 .
(2) آل عمران 3 : 97 .
(3) كفاية الاُصول : 95 .

ــ[143]ــ

الكلي حيث يصدق على حصص متعددة ، وأمّا المعنى الجزئي فلا يعقل فيه الاطلاق والتقييد .
ولكنّه يندفع أوّلاً : بما حققناه في مبحث المعنى الحرفي (1) من أنّ الحروف لم توضع للمعاني الجزئية الحقيقية حتّى لا تكون قابلة للتقييد ، وإنّما وضعت للدلالة على تضييق المعاني الاسمية وتخصيصها بخصوصية ما ، ومن الواضح أنّ المعنى الاسمي بعد تخصيصه وتضييقه أيضاً قابل للانطباق على حصص وأفراد كثيرة في الخارج ، وذلك كما إذا كان أحد طرفي المعنى الحرفي كلياً أو كلاهما ، مثل قولنا : سر من البصرة إلى الكوفة ، فانّ السير كما كان قبل التضييق كلياً قابلاً للانطباق على كثيرين ، كذلك بعده ، فعندئذ بطبيعة الحال يصير المعنى الحرفي كلياً بتبعه.
وثانياً : أنّ التقييد على قسمين : الأوّل : التقييد بمعنى التضييق والتخصيص ، وفي مقابله الاطلاق بمعنى التوسعة . الثاني : بمعنى التعليق ، وفي مقابله الاطلاق بمعنى التنجيز ، وعليه فلو سلّمنا أنّ المعنى الحرفي جزئي حقيقي ، إلاّ أنّ الجزئي الحقيقي غير قابل للتقييد بالمعنى الأوّل ، وأمّا تقييده بالمعنى الثاني فهو بمكان من الوضوح ، بداهة أ نّه لا مانع من تعليق الطلب الجزئي المنشأ بالصيغة أو بغيرها على شيء ، كما إذا علق وجوب إكرام زيد مثلاً على مجيئه حيث لا محذور فيه أبداً .
الثانية : ما أفاده شيخنا الاُستاذ (قدس سره) (2) من أنّ المعنى الحرفي وإن كان كلياً ، إلاّ أ نّه ملحوظ باللحاظ الآلي فلا يرد عليه الاطلاق والتقييد ،

ـــــــــــــــــــــ
(1) راجع المجلد الأوّل من هذا الكتاب ص 83 وما بعدها .
(2) أجود التقريرات 1 : 195 .

ــ[144]ــ

لأ نّهما من شؤون المعاني الملحوظة باللحاظ الاستقلالي ، وبما أنّ معنى الهيئة معنى حرفي فلا يتصف بالاطلاق حتّى يصلح للتقييد ، ولأجل ذلك امتنع رجوع القيد إلى مفاد الهيئة .
ويرد عليه أوّلاً : ما حققناه في مبحث الحروف بشكل موسّع من أنّ ذلك ـ أي المعنى الحرفي ملحوظ باللحاظ الآلي ، والمعنى الاسمي ملحوظ باللحاظ الاستقلالي ـ وإن كان كلاماً مشهوراً بين الأصحاب ، إلاّ أ نّه لا يبتني على أصل صحيح ، ومن ذلك ذكرنا هناك أ نّه لا فرق بين المعنى الحرفي والمعنى الاسمي من هذه الناحية أبداً ، بل ربّما يكون مورد الالتفات والتوجه استقلالاً هو خصوص المعنى الحرفي ، وذلك كما إذا علمنا بورود زيد مثلاً في بلد ونعلم أ نّه سكن في مكان ، ولكن لانعلم المكان بخصوصه، فنسأل عن تلك الخصوصية التي هي معنى الحرف ، أو إذا علمنا وجود زيد في الخارج وقيامه ، ولكن لا نعلم خصوصية مكانه أو زمانه ، فنسأل عن تلك الخصوصية وهكذا ، ففي أمثال هذه الأمثلة المعنى الحرفي هو الملحوظ مستقلاً والمورد للتوجه والالتفات كذلك . وقد تقدّم تفصيل ذلك فلاحظ .
وثانياً : على تقدير تسليم أنّ المعنى الحرفي لا بدّ أن يلحظ باللحاظ الآلي ، إلاّ أ نّه إنّما يمنع عن طروء التقييد عليه حين لحاظه كذلك ، وأمّا إذا قيّد المعنى أوّلاً بقيد ، ثمّ لوحظ المقيّد آلياً ، فلا محذور فيه أبداً ، وعليه فلا مانع من ورود اللحاظ الآلي على الطلب المقيد في رتبة سابقة عليه .
الثالثة : ـ وهي العمدة في المقام ـ أنّ رجوع القيد إلى مفاد الهيئة بما أ نّه مستلزم لتفكيك الانشاء عن المنشأ والايجاب عن الوجوب الذي هو مساوق لتفكيك الايجاد عن الوجود فهو غير معقول ، والسبب في ذلك : هو أ نّه لا ريب في استحالة تفكيك الايجاد عن الوجود في التكوينيّات ، حيث إنّهما واحد ذاتاً

ــ[145]ــ

وحقيقة ، والاختلاف بينهما إنّما هو بالاعتبار ، فلا يعقل التفكيك بينهما ، وكذا الحال في التشريعيات ، بداهة أ نّه لا فرق في استحالة التفكيك بين الايجاد والوجود في التشريع والتكوين . وعلى الجملة : فايجاب المولى ووجوبه إنّما يتحققان بنفس إنشائه فلا فرق بينهما إلاّ بالاعتبار ، فبملاحظة فاعله إيجاب ، وبملاحظة قابله وجوب ، كما هو الحال في الايجاد والوجود التكوينيين .
وعلى هذا الضوء فلا محالة يرجع القيد إلى المادة دون الهيئة ، وإلاّ لزم تحقق الايجاب دون الوجوب ، ولازم ذلك انفكاكه عنه ، لفرض عدم إنشاء آخر في البين ، ومردّه إلى تخلف الوجود عن الايجاد وهو مستحيل ، فالنتيجة تعيّن رجوع القيد إلى المادة بعد استحالة رجوعه إلى الهيئة ، لعدم ثالث في البين .
وقد أجاب المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) عن ذلك بما إليك نصّه : المنشأ إذا كان هو الطلب على تقدير حصوله ـ الشرط ـ فلا بدّ أن لا يكون قبل حصوله طلب وبعث ، وإلاّ لتخلف عن إنشائه ، وإنشاء أمر على تقدير كالاخبار به بمكان من الامكان ، كما يشهد به الوجدان (1) .
وفيه : أنّ ما أفاده (قدس سره) مصادرة ظاهرة ، وذلك لأنّ الكلام إنّما هو في إمكان هذا النحو من الانشاء ، وأ نّه كيف يمكن مع استلزامه تخلف الوجوب عن الايجاب وهو مساوق لتخلف الوجود عن الايجاد . وبكلمة اُخرى : أنّ محل الكلام هنا إنّما هو في إمكان كون الايجاد حالياً والوجود استقبالياً وعدم إمكانه، فكيف يمكن أن يستدل على إمكانه بنفس ذلك ، وهذا نظير ما تقدّم في الجواب عن الشرط المتأخر من أنّ الشرط بوصف كونه متأخراً شرط ، أو بوصف كونه معدوماً كذلك ، فلو تقدّم كان خلفاً .

ـــــــــــــــــــــ
(1) كفاية الاُصول : 97 .

ــ[146]ــ

فالصحيح أن يقال : إنّه لا مدفع لهذا الاشكال بناءً على نظرية المشهور من أنّ الانشاء عبارة عن إيجاد المعنى باللفظ ، ضرورة عدم إمكان تخلف الوجود عن الايجـاد . وأمّا بناءً على نظريتنا من أنّ الانشـاء عبارة عن إبراز الأمر الاعتباري النفساني في الخارج بمبرز من قول أو فعل كما حققناه في مبحث الخبر والانشاء بشكل موسّع (1) ، فيندفع الاشكال المذكور من أصله ، والسبب في ذلك : هو أنّ المراد من الايجاب سواء أكان إبراز الأمر الاعتباري النفساني أم كان نفس ذلك الأمر الاعتباري ، فعلى كلا التقديرين لا يلزم محذور من رجوع القيد إلى مفاد الهيئة .
أمّا على الأوّل ، فلأنّ كلاًّ من الابراز والمبرز والبروز فعلي ، فليس شيء منها معلّقاً على أمر متأخر ، وهذا ظاهر .
وأمّا على الثاني ، فلأنّ الاعتبار بما أ نّه من الاُمور النفسانية التعليقية يعني ذات الاضافة كالعلم والشوق وما شاكلهما من الصفات الحقيقية التي تكون كذلك ، فلا مانع من تعلّقه بأمر متأخر كما يتعلّق بأمر حالي ، نظير العلم فإنّه كما يتعلق بأمر حالي كذلك يتعلّق بأمر استقبالي . وعلى الجملة : فكما يمكن تأخر المعلوم عن العلم زمناً كقيام زيد غداً أو سفره أو نحو ذلك ، حيث إنّ العلم به حالي والمعلوم أمر استقبالي ، فكذلك يمكن تأخر المعتبر عن الاعتبار ، بأن يكون الاعتبار حالياً والمعتبر أمراً متأخراً ، كاعتبار وجوب الصوم على زيد غداً أو نحو ذلك ، فالتفكيك إنّما هو بين الاعتبار والمعتبر ولا محذور فيه أصلاً ، ولا يقاس ذلك بالتفكيك بين الايجاد والوجود في التكوينيات أصلاً .
وممّا يشهد لما ذكرناه : صحة الوصية التمليكية ، فلو قال الموصي هذه الدار

ـــــــــــــــــــــ
(1) راجع المجلد الأوّل من هذا الكتاب ص 99 .

ــ[147]ــ

لزيد بعد وفاتي ، فلا شبهة في تحقق الملكية للموصى له بعد وفاته ، مع أنّ الاعتبار فعلي ، ومن البديهي أنّ هذا ليس إلاّ من ناحية أنّ الموصي اعتبر فعلاً الملكية للموصى له في ظرف الوفاة . ومن هنا لم يستشكل أحد في صحة تلك الوصية حتّى من القائلين برجوع القيد إلى المادة دون الهيئة .
وتوهّم أنّ الملكية فعلية ولكن المملوك وهو العين الخارجية مقيدة بما بعد الوفاة ، خاطئ جداً ، فإنّه يقوم على أساس قابلية تقيد الجواهر بالزمان، ومن المعلوم أنّ الجواهر غير قابلة لذلك . نعم ، يمكن هذا في الأعراض القائمة بها ، كما إذا اعتبر المالك ملكية المنفعة المتأخرة حالاً . وعلى الجملة : فالأعيان الخارجية التي هي من قبيل الجواهر غير قابلة للتقدير بالزمن والتحديد به ، فإنّ القابل للتقدير والتحديد به إنّما هو المعنى الحدثي ، يعنى الأعراض والاُمور الاعتبارية كالضرب والقيام وما شاكلهما . ومن هنا قلنا إنّ المنفعة قابلة للتقدير بالزمن كمنفعة شهر أو سنة أو نحو ذلك ، وعليه فلا مانع من اعتبار ملكية المنفعة المتأخرة من الآن ، بأن تكون الملكية فعلية والمملوك أمراً متأخراً ، بل هو واقع في باب الاجارة .




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net