4 ـ الوضوء أو الغسل من الماء المغصوب \ الوضوء أو الغسل من إناء النقدين 

الكتاب : محاضرات في اُصول الفقه - الجزء الثاني   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 6838


ــ[495]ــ
 

الأمر الرابع

هل يمكن الحكم بصحة الوضـوء أو الغسل من إناء الذهب أو الفضة أو المغصوب أم لم يمكن ؟
أقول : تحقيق الكلام في هذه المسألة يستدعي البحث عنها في جهات:
الاُولى: الوضوء أو الغسل من الماء المغصوب.
الثانية: الوضوء أو الغسل من إناء الذهب أو الفضة أو المغصوب.
الثالثة: الوضوء أو الغسل في الدار المغصوبة أو في الفضاء المغصوب.
أمّا الجهة الاُولى : فلا شبهة في فساد الوضوء أو الغسل، والوجه فيه ظاهر، وهو أنّ المنهي عنه يستحيل أن يكون مصداقاً للمأمور به، وحيث إنّ الوضوء أو الغسل في هذا الماء بنفسه تصرّف في مال الغير ومصداق للغصب، فيستحيل أن ينطبق عليه المأمور به، ولا يدخل ذلك في كبرى مسألة التزاحم أبداً كما هو ظاهر.
وأمّا الجهة الثانية : فلو قلنا إنّه يصدق على الوضوء أو الغسل من إناء المغصوب أو الذهب أو الفضة أ نّه نحو تصرف فيه بناءً على عدم جواز استعمال الآنيتين مطلقاً، فلا إشكال في فساده أيضاً، لما عرفت من أنّ المحرّم يستحيل أن يكون مصداقاً للمأمور به، وبما أنّ الوضوء أو الغسل على هذا بنفسه محرّم فيمتنع أن ينطبق الواجب عليه، وهذا واضح. وأمّا بناءً على ما هو الصحيح من أنّ المأمور به في مثل هذه الموارد غير متحد مع المنهي عنه، فانّ المأمور به هو صب الماء على الرأس والبدن أو على الوجه واليدين، والمنهي عنه هو أخذ الماء من تلك الأواني، فلا مانع من الحكم بصحة الوضوء أو الغسل، وذلك

ــ[496]ــ

لعدم سراية الحكم من متعلقه إلى مقارناته ولوازمه الاتفاقية.
وإن شئت فقل: إنّ متعلق النهي هو أخذ الماء منها، فانّه نحو اسـتعمال لها وهو محرّم على الفرض، وأمّا صبّه على الوجه واليدين مثلاً بعد أخذه منها فليس باستعمال لها ليكون محرّماً، نعم هو مترتب عليه، وقد ذكرنا في بحث مقدمة الواجب (1) أنّ حرمة المقدمة لا تمنع عن إيجاب ذيها إذا لم تكن منحصرة، وأمّا إذا كانت منحصرة فتقع المزاحمة بينهما. فإذن المرجع هو قواعد باب التزاحم.
ولكن المشهور بين الأصحاب قديماً وحديثاً هو التفصيل بين ما إذا كان الماء منحصراً فيها وما إذا لم يكن، فذهبوا إلى فساد الوضوء أو الغسل في الصورة الاُولى، وإلى صحته في الصورة الثانية.
أمّا الصورة الاُولى : فقد ذكروا أنّ أخذ الماء منها بما أ نّه كان محرّماً شرعاً فالمكلف وقتئذ فاقد للماء، لما ذكرناه غير مرّة من أنّ المستفاد من الآية المباركة بقرينة داخلية وخارجية هو أنّ المراد من وجدان الماء فيها وجوده الخاص، وهو ما إذا تمكن المكلف من استعماله عقلاً وشرعاً، وفي المقام وإن تمكن من استعماله عقلاً وتكويناً، ولكنّه لا يتمكن منه شرعاً، والممنوع الشرعي كالممتنع العقلي، فإذن وطيفته هي التيمم.
وأمّا الصورة الثانية : فلأنّ الوضوء أو الغسل مشروع في حقّه، لفرض أ نّه واجد للماء غاية الأمر أ نّه قد ارتكب مقدمة محرّمة وهي أخذ الماء من الأواني، وهذا لايمنع عن صحة وضوئه أو غسله بعد ما كان الماء الموجود في يده مباحاً، وهذا ظاهر.
أقول : التحقيق على ما هو الصحيح من عدم اتحاد المأمور به مع المنهي عنه

ـــــــــــــــــــــ
(1) في ص 273.

ــ[497]ــ

خارجاً، صحة الوضوء أو الغسل على كلا التقديرين، وبيان ذلك يقتضي دراسة نواحي عديدة:
الاُولى: صورة انحصار الماء بأحد الأواني المزبورة مع عدم تمكن المكلف من تفريغ الماء منها في إناء آخر على نحو لا يصدق عليه الاستعمال.
الثانية: ما إذا تمكن المكلف من تفريغه في إناء آخر من دون أن يصدق عليه الاستعمال.
الثالثة: صورة عدم انحصار الماء فيها ووجود ماء آخر عنده يكفي لوضوئه أو غسله.
أمّا الكلام في الناحية الاُولى: فيقع في موردين:
الأوّل: ما إذا أخذ المكلف الماء من هذه الأواني دفعة واحدة بمقدار يفي لوضوئه أو غسله.
الثاني: ما إذا أخذ الماء منها غرفة غرفة.
أمّا الأوّل : فالظاهر أ نّه لا إشكال في صحة الوضوء أو الغسل به، ضرورة أنّ المكلف بعد أخذ الماء منها صار واجداً للماء وجداناً ومتمكناً من استعماله عقلاً وشرعاً، ولا نرى في استعمال هذا الماء في الوضوء أو الغسل أيّ مانع، هذا نظير ما إذا توقف التمكن من استعمال الماء على التصرف في أرض مغصوبة، ولكن المكلف بسوء اختياره تصرف فيها ووصل إلى الماء، وبعد وصوله إليه لا إشكال في أ نّه واجد للماء ووظيفته عندئذ هي الوضوء أو الغسل دون التيمم، وإن كان قبل التصرف فيها أو قبل الأخذ منها فاقداً للماء وكانت وظيفته التيمم دون غيره، ولكن بعد التصرف فيها أو بعد الأخذ منها انقلب الموضوع وصار الفاقد واجداً للماء. وهذا لعلّه من الواضحات.

ــ[498]ــ

وأمّا الثاني : فلأنّ بطلان الوضوء أو الغسل على هذا يبتني على اعتبار القدرة الفعلية على مجموع العمل المركب من أجزاء تدريجية كالصلاة والصوم والوضوء والغسل وما شاكلها من الابتداء وقبل الشروع فيه، ولم نكتف بالقدرة التدريجية على شكل تدريجية أجزائه بأن تتجدد القدرة عند كل جزء منها، ويكون تجددها عند الأجزاء اللاّحقة شرطاً لوجوب الأجزاء السابقة على نحو الشرط المتأخر. وعلى هذا فلا يمكن تصحيح الوضوء أو الغسل بأخذ الماء منها غرفة غرفة، ضرورة أنّ المكلف قبل الشروع في التوضؤ أو الاغتسال لم يكن واجداً للماء بمقدار يكفي لوضوئه أو غسله، فوقتئذ لو عصى وأخذ الماء منها غرفة غرفة وتوضأ أو اغتسل به فيكون وضوءه أو غسله باطلاً، لعدم ثبوت مشروعيته.
وهذه النظرية وإن قوّيناها سابقاً، ولكنّها نظرية خاطئة، بيان ذلك: أ نّه لا مجال لتلك النظرية بناءً على ما حققناه من إمكان الشرط المتأخر وأ نّه لا مناص من الالتزام به في الواجبات المركبة من الأجزاء الطولية، هذا من ناحية. ومن ناحية اُخرى: قد حققنا ضرورة إمكان الترتب وأ نّه لا مناص من التصديق به. ومن ناحية ثالثة: قد ذكرنا غير مرّة أنّ القدرة التي هي شرط للتكليف إنّما هي القدرة في ظرف العمل والامتثال، ومن الواضح أنّ العقل لا يحكم بأزيد من اعتبار القدرة عند الاتيان بكل جزء ولا دليل على اعتبارها من الابتداء.
فالنتيجة على ضوء هذه النواحي: هي صحة الوضوء أو الغسل بالماء المأخوذ منها بالاغتراف، فانّ القدرة تتجدّد عند كل جزء من أجزائه بالعصيان وبارتكاب المحرّم، حيث إنّ المكلف بعد ارتكابه واغترافه الماء من الأواني المغصوبة أو الذهب والفضة يقدر على الوضوء مثلاً بمقدار غسل الوجه، وبما

ــ[499]ــ

أ نّه يعلم بارتكابه المحرّم ثانياً وثالثاً إلى أن يتمّ الوضوء أو الغسل، يعلم بطروء التمكن عليه من غسل سائر الأعضاء، فعندئذ لا مانع من الالتزام بثبوت الأمر به مترتباً على عصيانه، بناءً على ما ذكرناه من صحة الترتب وجوازه، وأنّ وجود القدرة في ظرف الاتيان بالأجزاء اللاّحقة شرط لوجوب الأجزاء السابقة على نحو الشرط المتأخر.
ومن المعلوم أ نّه لا فرق في ذلك بين أنّ القدرة تبقى من الابتداء، أو تحدث في ظرف الاتيان بها، وقد عرفت أ نّه لا دليل على اعتبار القدرة بأزيد من ذلك.
وبتعبير واضح: أ نّه لاينبغي الاشكال في كفاية القدرة بالتدريج على الواجبات المركبة على شكل تدرج أجـزائها، بأن تحدث القدرة على كل جزء منها في ظرفه، مثلاً إذا فرض أنّ عند المكلف ماءً قليلاً لا يفي إلاّ بغسل وجهه فقط، ولكنّه يعلم بنزول المطر من جهة إخبار معصوم (عليه السلام) مثلاً، أو قرينة قطعية اُخرى، فلا إشكال في صحة غسله وجهه بقصد الوضوء، لتمكنه عندئذ من غسل بقية الأعضاء بعد غسل وجهه، أو لو كان عنده ثلج يذوب شيئاً فشيئاً، وليس عنده إناء ليجمعه فيه، ففي مثل ذلك يتمكن من الوضوء أو الغسل بأخذ الماء غرفة غرفة وعلى نحو التدريج، فلا تكون وظيفته التيمم، لأ نّه واجد للماء وقادر على استعماله في الوضوء أو الغسل عقلاً وشرعاً، بداهة أ نّه لا يعتبر في صحة الوضوء أو الغسل أن يكون عنده ماء بمقدار يفي به من الابتداء وقبل الشروع فيه، إذ هو عمل تدريجي لا يعتبر في صحته وتعلق الأمر به إلاّ القدرة عليه، سواء أكانت موجودة من الأوّل أو وجدت تدريجاً، فانّه لا دخل لشيء من الخصوصيتين في فعلية التكليف بنظر العقل.
ونظير هذا ما إذا فرض خروج الماء من الأرض بمقدار غرفة واحدة دون الزائد، ولكنّه لو أخذ ذلك الماء فيخرج بذاك المقدار ثانياً وهكذا، فلا إشكال

ــ[500]ــ

في وجوب الوضوء عليه أو الغسل.
ومن هذا القبيل ما إذا كان الماء لغير المكلف ولم يرض بالتصرف فيه إلاّ بالأخذ منه بمقدار غرفة واحدة، ولكنّه يعلم أ نّه يبدو له ويرضى بعد غسل وجهه به مثلاً بالأخذ منه غرفة ثانية وثالثة وهكذا إلى أن يتم وضوءه أو غسله، فانّه يجب عليه الوضوء أو الغسل حينئذ بلا إشكال.
وقد تحصّل من ذلك: أ نّه لا شبهة في وجوب الوضوء أو الغسل في أمثال تلك الموارد، ولا يشرع في حقّه التيمم، لكونه واجداً للماء ومتمكناً من استعماله عقلاً وشرعاً، ضرورة أ نّه لا نعني بوجدان الماء إلاّ كونه متمكناً من استعماله من زمان الشروع في الوضوء أو الغسل إلى زمان انتهائه، ولا أثر لوجدان الماء من الابتداء بالاضافة إلى الأجزاء التالية، وإنّما الأثر لوجدانه حين الاتيان بها وغسلها كما هو واضح، هذا من جانب. ومن جانب آخر: أ نّك قد عرفت أنّ الترتب أمر ممكن، بل لا مناص من الالتزام به.
وعلى ضوء هذين الجانبين فالنتيجة هي صحة الوضوء أو الغسل من الأواني المغصوبة أو الذهب والفضة بقانون الترتب، وأنّ الأمر بالوضوء أو الغسل مترتب على عصيان المكلف النهي عن التصرف فيها، إذ المانع من الأمر به إنّما هو حرمة التصرف في تلك الأواني، وأمّا بعد ارتكابه المحرّم باغترافه منها يتمكن من الوضوء أو الغسل بمقدار غسل الوجه أو الرأس فحسب، ولكنّه علم بطروء العصيان باغترافه ثانياً وثالثاً إلى أن يتمكن من غسل بقية الأعضاء، وإن فرض أ نّه لم يتوضأ أو لم يغتسل به خارجاً، فحينئذ لا مناص من الالتزام بالأمر به مترتباً على عصيانه، لكونه واجداً للماء ومتمكناً من استعماله عقلاً وشرعاً، وقد عرفت أ نّه لا فرق بين الوجدان الفعلي والوجدان التدريجي، فكلاهما بالاضافة إلى وجوب الغسل أو الوضوء على نسبة واحدة،

 
 

ــ[501]ــ

كما أ نّه لا فرق في الالتزام بالترتب بين أن تطول مدة المعصية وارتكاب المحرّم وأن تقصر، وبين أن تكون المعاصي متعددة وأن تكون واحدة، ضرورة أنّ كل ذلك لا دخل له فيما هو ملاك إمكان الترتب واستحالته، فان ملاك إمكانه كما سبق هو أ نّه لا يلزم من طلب المهم على تقدير عصيان الأمر بالأهم وترك متعلقه طلب الجمع، ومن الواضح جداً أ نّه لا يفرق في هذا بين العصيان الفعلي والعصيان التدريجي، كما أنّ ملاك استحالته هو لزوم طلب الجمع من ذلك، ولا يفرق فيه بين معصية واحدة فعلية ومعاصي عديدة تدريجية كما هو واضح.
ومثل المقام ما إذا وقعت المزاحمة بين الصلاة الفريضة في آخر الوقت وصلاة الآيات، فانّ الأمر بصلاة الآيات حينئذ مترتب على عصيان الفريضة وتركها في مقدار من الزمان الذي يتمكن المكلف من الاتيان بصلاة الآيات ولا يكفي عصيانها في الآن الأوّل، لفرض وجوبها في جميع آنات صلاة الآيات، فالمكلف بعد عصيانها في الآن الأوّل وإن تمكن من جزء منها، إلاّ أ نّه لا يتمكن من بقية أجزائها، ولكنّه حيث علم بأ نّه يعصي الأمر بالفريضة في الآن الثاني والثالث وهكذا، علم بطروء التمكن عليه من الاتيان بها بعد الاتيان بالجزء الأوّل.
ومثله أيضاً ما إذا وقعت المزاحمة بين وجوب الازالة عن المسجد ووجوب الصلاة، فانّ الأمر بالصلاة عندئذ منوط بعصيان الأمر بالازالة في الآنات التي يقدر المكلف فيها على الاتيان بالصلاة تماماً، ولا يكفي عصيانها آناً ما، ولكن المكلف حيث علم بعد عصيانه في الآن الأوّل بأ نّه يعصيه في الآن الثاني والثالث وهكذا، علم بعروض التمكن من الاتيان بها تدريجاً، وقد عرفت أنّ القدرة التدريجية كافية في مقام الامتثال، ولا تعتبر القدرة الفعلية، وعليه فلا مانع من الالتزام بوجوبها من ناحية الترتب، بل لا مناص من ذلك.
وقد تبيّن لحدّ الآن: أنّ تدريجية وجود القدرة مرّة من ناحية تدريجية وجود

ــ[502]ــ

مقتضيه وتحققه في الخارج، ومرّة اُخرى من ناحية تدريجية ارتفاع مانعه، ومرّة ثالثة من ناحية تدريجية عصيان الأمر بالأهم.
ومثال الأوّل : ما مرّ من أ نّه إذا كان عند المكلف ثلج فيذوب شيئاً فشيئاً ولم يكن عنده إناء ليجمع ماءه فيه ثمّ يتوضأ أو يغتسل به، فلا يقدر على جمعه إلاّ بمقدار يسع كفّه. أو إذا فرض خروج الماء من الأرض بمقدار يسعه كفّه دون الزائد، ولكنّه إذا أخذ ذلك الماء يخرج منها بهذا المقدار ثانياً وهكذا، أو إذا كان عنده مقدار من الماء لا يفي لوضوئه أو غسله، ولكنّه يعلم بنزول المطر بعد صرفه في غسل الوجه أو الرأس من جهة إخبار المعصوم (عليه السلام) به أو من طريق آخر، ففي هذه الموارد وما شاكلها جميعاً لا شبهة في وجوب الوضوء أو الغسل، بناءً على كفاية القدرة التدريجية كما هو الصحيح، وقد تقدّم أنّ العقل مستقل بكفايتها، وأنّ حكم العقل بذلك لم يدع مجالاً لتوهم اعتبار القدرة الفعلية في مقام الامتثال، لتكون نتيجته سقوط وجوب الوضوء أو الغسل في تلك الموارد، وانتقال الوظيفة إلى التيمم.
ومثال الثاني : ما إذا كان الماء ملكاً لغيره ولم يرض بالتصرف فيه إلاّ بالأخذ منه بمقدار غرفة لا يفي إلاّ لغسل الوجه فحسب، ولكنّه يعلم بأ نّه يرضى بعد غسل وجهه بالأخذ منه ثانياً وثالثاً وهكذا كما عرفت. أو إذا كان هناك مانع آخر لا يتمكن معه من الوضوء أو الغسل إلاّ تدريجاً، ففي كل ذلك لا مناص من الالتزام بوجوب الوضوء أو الغسل كما تقدّم بصورة واضحة.
ومثال الثالث : ما إذا كان الماء في الأواني المغصوبة أو الذهب والفضة، ولم يتمكن المكلف من تفريغه في إناء آخر، كما هو مفروض الكلام هنا، أو ما ذكرناه من الأمثلة المتقدمة، فوقتئذ لو عصى المكلف وارتكب المحرم بالاغتراف من تلك الأواني، فلا محالة يتمكن من الوضوء بمقدار غسل الوجه أو من

ــ[503]ــ

الغسل بمقدار غسل الرأس مثلاً، ولكنّه لما علم بأ نّه يعصي ويغترف منها ثانياً وثالثاً، وهـكذا علم بأ نّه قادر على الوضـوء أو الغسل بالتدريج، وعليه فلا مناص من الحكم بوجوبه بناءً على الأساسين المتقدمين هما: كفاية القدرة التدريجية في مقام الامتثال، والالتزام بامكان الترتب وجوازه.
ومن ذلك يظهر أنّ ما أفاده شيخنا الاُستاذ (قدس سره)(1) من بطلان الوضوء أو الغسل في هذا الفرض لا يمكن المساعدة عليه، والوجه في ذلك: هو أنّ ما ذكره (قدس سره) مبني على ما أسّسه من ابتناء جريان الترتب على كون العمل واجداً للملاك حين الأمر به، وبما أنّ الوضوء أو الغسل فيما نحن فيه غير واجد له، فان وجدانه يتوقف على كون المكلف واجداً للماء من الأوّل، والمفروض عدمه هنا، إذ كونه واجداً له موقوف على جواز تصرفه في الأواني، وبما أ نّه محرّم وممنوع شرعاً، والممنوع الشرعي كالممتنع العقلي، فلم يكن واجداً للماء ومتمكناً من استعماله عقلاً وشرعاً.
ولكن قد عرفت فساد ما أفاده (قدس سره) وأنّ جريان الترتب في مورد لا يتوقف على ذلك، وقد أوضحناه بصورة مفصلة فلا نعيد. هذا من ناحية الملاك. وأمّا من ناحية عدم كون المكلف واجداً للماء فأيضاً يظهر فساده ممّا ذكرناه الآن من أ نّه لا فرق بين كون المكلف واجداً للماء بالفعل وكونه واجداً له بالتدريج، فالترتب كما يجري في الأوّل كذلك يجري في الثاني من دون فرق بينهما من هذه الجهة أبداً كما عرفت بشكل واضح.
فالنتيجة قد أصبحت أنّ النقطة الرئيسية لصحة الوضوء أو الغسل في أمثال المقام هي كفاية القدرة على العمل في مقام الامتثال بالتدريج، وعدم اعتبارها

ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أجود التقريرات 2: 101.

ــ[504]ــ

من الابتداء. وعلى ضوء هذه النقطة لا مناص من الالتزام بصحة الوضوء أو الغسل من جهة الترتب.
وأمّا الكلام في الناحية الثانية: وهي صورة تمكن المكلف من تفريغ الماء في ظرف آخر، فلا شبهة في صحة الوضوء أو الغسل حينئذ، وذلك لأ نّه واجد للماء ومتمكن من استعماله عقلاً وشرعاً، وعليه فالأمر بالطهارة المائية في حقه فعلي، ضرورة أ نّه مع تمكنه من التفريغ بدون أن يصدق عليه الاستعمال بوجه قادر عليها، وعندئذ تتعين وظيفته بمقتضى الآية المباركة وغيرها من روايات الباب في الوضوء أو الغسل، ولا يشرع في حقه التيمم.
ثمّ إنّه لو عصى وأخذ الماء من الأواني بالاغتراف فهل يمكن الحكم بصحة وضوئه أو غسله مع قطع النظر عن القول بالترتب وكفاية القدرة التدريجية أم لا ؟
وجهان، والصحيح هو الأوّل، وذلك لأ نّه قادر عليه فعلاً، والمفروض أنّ مشروعيته لا تتوقف على القول بالترتب، غاية الأمر أ نّه بسوء اختياره قد ارتكب مقدمة محرمة، ومن الواضح أنّ ارتكابها لا يضر بصحته أبداً.
فالنتيجة هي صحة الوضوء أو الغسل في هذه الصورة مطلقاً قلنا بالترتب أم لم نقل، قلنا بفساد الوضوء أو الغسل في الصورة الاُولى أم لم نقل.
وأمّا الكلام في الناحية الثالثة: وهي صورة عدم انحصار الماء في الأواني المزبورة، فأيضاً لا شبهة في صحة الوضوء أو الغسل بالاغتراف، سواء فيه القول بالترتب وعدمه، وسواء فيه القول باعتبار القدرة الفعلية وعدم اعتبارها، وذلك لفرض أنّ المكلف متمكن من الطهارة المائية بالفعل، ولايتوقف مشروعيتها على القول بالترتب، غاية الأمر أ نّه بسوء اختياره قد ارتكب فعلاً محرماً، وقد عرفت أ نّه لا يضر بصحة وضوئه أو غسله، بعد ما كان الماء الموجود في يده

ــ[505]ــ

مباحاً على الفرض.
فقد تحصّل ممّا ذكرناه: أنّ الوضوء أو الغسل صحيح في جميع تلك النواحي والصور.
وقد تبيّن ممّا قدّمناه لحدّ الآن أمران:
الأوّل : أنّ الوضوء أو الغسل من الأواني إذا كان ارتماسياً فلا إشكال في فساده، وذلك لأ نّه بنفسه تصرف فيها، وهو محرّم على الفرض، ومن الواضح جدّاً أنّ المحرّم لا يقع مصداقاً للواجب، ولا يفرق في ذلك بين صورتي انحصار الماء فيها وعدمه، وصورة التمكن من التفريغ في إناء آخر وعدم التمكن منه، فانّ التوضؤ أو الاغتسال إذا كان في نفسه محرّماً فلا يمكن التقرب به ولا يقع مصداقاً للواجب، وهذا ظاهر.
الثاني : أ نّه قد ظهر فساد ما أفاده السيد العلاّمة الطباطبائي (قدس سره) في العروة في بحث الأواني وإليك نص كلامه: لا يجوز استعمال الظروف المغصوبة مطلقاً، والوضـوء والغسل منها مع العلم باطل مع الانحصـار، بل مطلقاً (1). وقال في مسألة اُخرى ما لفظه: إذا انحصر ماء الوضوء أو الغسل في إحدى الآنيتين، فان أمكن تفريغه في ظرف آخر وجب، وإلاّ سقط وجوب الوضوء أو الغسل ووجب التيمم، وإن توضأ أو اغتسل منهما بطل، سواء أخذ الماء منهما بيده أو صب على محل الوضوء بهما أو ارتمس فيهما، وإن كان له ماء آخر أو أمكن التفريغ في ظرف آخر، ومع ذلك توضأ أو اغتسل منهما فالأقوى أيضاً البطلان (2).

ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) العروة الوثقى 1: 116 المسألة [ 398 ] فصل في حكم الأواني.
(2) العروة الوثقى 1: 120 المسألة [ 411 ] فصل في حكم الأواني.

ــ[506]ــ

فالنتيجة أ نّه (قدس سره) قد حكم ببطلان الوضوء والغسل في جميع تلك الصور والنواحي، من دون فرق بين صورتي الانحصار وعدمه، وإمكان التفريغ في إناء آخر وعدم إمكانه.
أقول : ما أفاده (قدس سره) في المقام لا يمكن المساعدة عليه بوجه، وذلك لما عرفت من الحكم بصحة الوضوء أو الغسل في صورة انحصار الماء في تلك الأواني مع عدم التمكن من التفريغ في إناء آخر فضلاً عن صورة عدم الانحصار أو التمكن من التفريغ، وعلى ذلك فمن المحتمل قوياً أن يكون نظر السيد (قدس سره) في هذا إلى أنّ المأمور به في هذه الموارد متحد مع المنهي عنه، بمعنى أنّ الوضوء أو الغسل من الأواني ولو بالاغتراف بنفسه تصرّف فيها فيكون منهياً عنه، وعليه فلا يمكن أن يقع مصداقاً للمأمور به، ولأجل ذلك حكم بالبطلان مطلقاً.
ولكن ممّا ذكرناه ظهر فساده، والوجه فيه: أنّ الوضوء أو الغسل بعد أخذ الماء منها بالاغتراف ليس تصرفاً فيها بشيء، ضرورة أنّ ما هو التصرف في الآنية إنّما هو تناول الماء منها وأخذه، وأمّا التصرفات الواقعة بعده فلا يصدق على شيء منها عرفاً أ نّه تصرف فيها، لوضوح أنّ صبه على الأرض أو استعماله في الطهارة الخبثية أو سقيه للحيوان أو إعطاءه لشخص آخر أو غير ذلك جميعاً تصرفات خارجية، فليس شيء منها تصرفاً في الآنية ليكون مشمولاً للروايات الناهية عن استعمالها، ومن المعلوم أنّ التوضؤ أو الاغتسال به أيضاً من هذه التصرفات فلا تشمله الروايات.
وعلى الجملة : فالذي هو استعمال للآنية إنّما هو تناول الماء منها وأخذه، وأمّا التصرّف في الماء بعد أخذه واستعماله بنحو من أنحاء الاستعمال، سواء أكان في الوضوء أو الغسل أو كان في غيره، فلا شبهة في أ نّه ليس باستعمال

ــ[507]ــ

للآنية قطعاً، بداهة أ نّه استعمال للماء حقيقة وليس باستعمال لها بوجه، وهذا واضح جداً.
ومن هنا ذهب كثير من الفقهاء إلى صحة الوضوء أو الغسل في صورة عدم انحصار الماء فيها كما عرفت، ومن المعـلوم أ نّه إذا كان بنفسـه تصرّفاً فيها ومصداقاً للمحرّم، لم يكن وجه للقول بالصحة أبداً، بناءً على حرمة التصرف فيها مطلقاً كما هو مختارهم، لاستحالة كون المحرّم مصداقاً للمأمور به.
فالنتيجة: أنّ ما أفاده السيد (قدس سره) في المقام لايرجع إلى أساس صحيح.
بقي الكلام في أمر : وهو أنّ ما ذكرناه حول أواني الذهب والفضة يبتني على وجهة نظر المشهور من حرمة استعمال الآنيتين مطلقاً من دون اختصاصها بالأكل والشرب، وعليه فحالهما حال الأواني المغصوبة.
وأمّا بناءً على القول بعدم حرمة سائر الاستعمالات من الوضوء والغسل وإزالة النجاسات وغيرها ممّا يعدّ عرفاً استعمالاً لهما، فلا إشكال عندئذ في صحة الوضوء أو الغسل من الآنيتين مطلقاً ولو كان ارتماسياً.
وقد ذكرنا في بحث الفقه (1) أنّ القول بذلك لا يخلو عن وجه، والوجه في ذلك ملخـصاً: أنّ جميع ما اسـتدلّوا به على حرمة غير الأكل والشرب من الاستعمالات يرجع إلى وجوه ثلاثة وكلّها قابل للمناقشة:
الأوّل : الاجماع كما ادّعاه غير واحد منهم. ويردّه: مضافاً إلى أ نّه لم يثبت في نفسه لاقتصار جماعة على خصوص الأكل والشرب وعدم تعرّضهم لغيرهما، أ نّه اجماع منقول لم يقم دليل على اعتباره كما ذكرناه في محلّه(2). على أ نّه محتمل

ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) شرح العروة 4: 282.
(2) مصباح الاُصول 2: 156.

ــ[508]ــ

المدرك لو لم يكن معلوماً. وعليه فلا أثر له.
الثاني : رواية موسى بن بكر عن أبي الحسن (عليه السلام) «آنية الذهب والفضة متاع الّذين لا يوقنون» (1) بتقريب أنّ المتاع ما ينتفع به، فالرواية تدل على حرمة الانتفاع من الآنيتين وأ نّه خاص لغير الموقنين، ومقتضى إطلاقها حرمة جميع استعمالاتهما حيث إنّ استعمال الشيء انتفاع به.
وغير خفي أنّ الرواية ضعيفة سنداً ودلالة. أمّا سنداً فلأ نّها ضعيفة بسهل ابن زياد وموسى بن بكر على طريق الكافي، وبموسى بن بكر على طريق آخر رواها عنه البرقي. وأمّا دلالةً فمع إمكان المناقشة في أصل دلالتها على الحرمة باعتبار أنّ مجرد اختصاص الانتفاع بهما لغير الموقنين لا يدل على حرمة الانتفاع لهم، أنّ مناسبة الحكم والموضوع تقتضي أنّ الانتفاع من كل متاع بحسب ما يناسبه، فالانتفاع بالكتاب إنّما هو بمطالعته، والانتفاع بالفرش إنّما هو بفرشه، وباللباس بلبسه وهكذا. ومن الواضح جداً أنّ الانتفاع بالآنيتين ظاهر في استعمالهما في الأكل والشرب فلا يشمل غيرهما، لكون الأواني معدّة لذلك. إذن فالرواية ظاهرة في حرمة الأكل والشرب منهما فلا تشمل سائر الانتفاعات والاستعمالات.
الثالث : ما ورد من النهي عن أواني الذهب والفضة وهي روايات كثيرة:
منها : صحيحة محمّد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) «أ نّه نهى عن آنية الذهب
والفضة»(2).
ومنها : صحيحة محمّد بن إسماعيل بن بزيع قال: «سألت أبا الحسن الرضا

ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الوسائل 3: 507 / أبواب النجاسات ب 65 ح 4.
(2) الوسائل 3: 506 / أبواب النجاسات ب 65 ح 3.

ــ[509]ــ

(عليه السلام) عن آنية الذهب والفضة، فكرههما» (1).
ومنها : صحيحة الحلبي عن أبي عبدالله (عليه السلام) «أ نّه كره آنية الذهب والفضة والآنية المفضضة»(2) بتقريب أ نّه لا معنى لتعلّق النهي والكراهة بالأعيان والذوات، نعم الكراهة بمعنى الصفة النفسانية المعبّر عنها بالكراهة التكوينية الحقيقية وإن أمكن تعلقها بالذوات بما هي بأن يكون الشيء مبغوضاً بذاته، كما أ نّه قد يكون محبوباً كذلك، إلاّ أنّ الكراهة بالمعنى الشرعي لا معنى لتعلقها بها أبداً، ومن المعلوم أ نّه لم يرد من الكراهة في هاتين الصحيحتين الكراهة التكوينية، ضرورة أنّ الظاهر منهما هو أنّ الإمام (عليه السلام) في مقام بيان الحكم الشرعي، لا في مقام إظهار كراهته الشخصية وهذا واضح، وعليه فلا بدّ من تقدير فعل من الأفعال فيها، ليكون هو المتعلق للنهي والكراهة، وبما أ نّه لا قرينة على التخصيص ببعض منها دون بعضها الآخر، فلا محالة يكون المقدّر هو مطلق الانتفاعات والاستعمالات.
ولكن قد ظهر الجواب عنه بما تقدّم من أنّ المقدر في كل مورد بحسب ما يناسب ذلك المورد، ومن هنا ذكروا أنّ المقدر في مثل النهي عن الاُمّهات هو النكاح، فانّه المناسب للمقام والأثر الظاهر من النساء، كما أنّ المقدر في مثل النهي عن الميتة والدم وما شاكلهما هو الأكل، وهكذا.
وفيما نحن فيه بما أنّ الأثر الظاهر من الاناء هو استعماله في الأكل والشرب، فلا محالة ينصرف النهي عنه إلى النهي عن الأكل والشرب فلا يشمل غيرهما.
وعلى الجملة : فالنهي في أمثال هذه الموارد بمناسبة الحكم والموضوع

ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الوسائل 3: 505 / أبواب النجاسات ب 65 ح 1.
(2) الوسائل 3: 508 / أبواب النجاسات ب 65 ح 10.

ــ[510]ــ

منصرف إلى النهي عن الأثر الظاهر من الشيء، فلا يعم مطلق أثره.
ونتيجة ذلك: هي أنّ المقدر في تلك الصحاح بمقتضى الفهم العرفي هو خصوص الأكل والشرب دون مطلق الاستعمال والانتفاع، فإذن لا دليل على حرمة استعمال الآنيتين في غير الأكل والشرب، وعليه فلا مانع من الوضوء أو الغسل بهما مطلقاً ولو كان ارتماسياً، كما أ نّه لا مانع من غيره، وتمام الكلام في ذلك في بحث الفقه (1).
وقد تحصّل ممّا ذكرناه أمران: الأوّل: الوضوء أو الغسل الترتيبي من الأواني المغصوبة أو الذهب والفضة صحيح مطلقاً، سواء أكان الماء منحصراً فيها أم لم يكن، وسواء أتمكن المكلف من التفريغ في إناء آخر أم لم يتمكن، وسواء أخذ الماء منها دفعة واحدة أم بالتدريج. الثاني: أنّ الوضوء أو الغسل الارتماسي باطل على جميع هذه التقادير والفروض.

ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) شرح العروة 4: 282.




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net