الجهة الثانية : حقيقة التعارض وواقعه الموضوعي 

الكتاب : محاضرات في اُصول الفقه - الجزء الثالث   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 4740


وأمّا الجهة الثانية: وهي بيان حقيقة التعارض وأساسه الموضوعي، فقد ذكرنا (1) أنّ التعارض هو تنافي مدلولي الدليلين في مقام الاثبات على وجه التناقض أو التضاد بالذات أو بالعرض.
والأوّل: كما إذا دلّ دليل على وجـوب شيء ودلّ دليل آخر على عدم وجـوبه أو على حرمته، أو دلّ دليل على طهارة شيء ودلّ دليل آخر على نجاسته وهكذا، وأمثلة ذلك في الروايات والنصوص الواردة في أبواب الفقه بشتّى أنواعها كثيرة جداً، بل هي خارجة عن حدود الاحصاء عادة.
ـــــــــــــــــــــ
(1) في مصباح الاُصول 3: 417.

ــ[15]ــ

والثاني: كما إذا دلّ دليل على وجوب شيء ودلّ دليل آخر على وجوب شيء آخر أو على حرمته، من دون تناف ومضادة بينهما أبداً في مقام الجعل والتشريع لامكان ثبوت كليهما معاً في ذلك المقام، ولكن علمنا من الخارج بكذب أحدهما وعدم مطابقته للواقع من جهة قيام الاجماع أو الضرورة أو نحوها على ذلك، وهذا العلم الخارجي أوجب التنافي والتعارض بينهما في مقام الاثبات، وعدم إمكان الجمع بين ثبوت مدلوليهما في مقام الثبوت والواقع.
ومثال هذا ما لو دلّ دليل على وجوب الجمعة في يوم الجمعة تعييناً ودلّ دليل آخر على وجوب الظهر فيها كذلك، فانّه لا تنافي ولا تضاد بين مدلولي هذين الدليلين أصلاً بالذات والحقيقة، لامكان وجوب كلتا الصلاتين معاً في يوم الجمعة، ولا يلزم منه أيّ محذور من التضاد أو التناقض، ولكن بما أ نّا علمنا بعدم وجوب ست صلوات في يوم واحد يقع التعارض بين الدليلين في مقام الاثبات، فيدل كل واحد منهما بالدلالة الالتزامية على نفي مدلول الآخر.
ومن هذا القبيل التنافي بين ما دلّ على أنّ الواجب على من سافر أربعة فراسخ غير قاصد للرجوع في يومه هو الصلاة تماماً، وما دلّ على أنّ الواجب عليه الصلاة قصراً، حيث لاتنافي بين مدلوليهما بالذات والحقيقة، ولا مانع من الجمع بينهما في نفسه، والتنافي بينهما إنّما نشأ من العلم الخارجي بكذب أحدهما في الواقع وعدم ثبوته فيه من جهة عدم وجوب ست صلوات في يوم واحد، ولأجل ذلك يدل كل من الدليلين بالدلالة الالتزامية على نفي مدلول الدليل الآخر.
وقد تحصّل من ذلك: أنّ النقطة الرئيسية التي هي مبدأ انبثاق التعارض بين الدليلين بشتّى أشكاله ـ أي سواء أكان بالذات والحقيقة أو كان بالعرض والمجاز، وسواء أكان على وجه التباين أو العموم من وجه ـ هي أنّ ثبوت

ــ[16]ــ

مدلول كل منهما في مقام الجعل يقتضي رفع اليد عن مدلول الآخر وموجب لانتفائه في ذلك المقام مع بقاء موضوعه بحاله لا بانتفائه، ومن هنا يرجع جميع أقسام التعارض إلى التناقض حقيقة وواقعاً، بمعنى أنّ ثبوت مدلول كل واحد منهما يستلزم عدم ثبوت مدلول الآخر إمّا بالمطابقة، وإمّا بالالتزام.
وعلى الجملة: فملاك التعارض والتنافي بين الدليلين هو ما ذكرناه غير مرّة من أنّ كل دليل متكفل لثبوت الحكم على فرض وجود موضوعه في الخارج بنحو القضيّة الحقيقية، هذا من جانب. ومن جانب آخر أ نّك قد عرفت في غير موضع أنّ نسبة الحكم إلى الموضوع في عالم التشريع كنسبة المعلول إلى العلّة التامة في عالم التكوين، فكما يستحيل انفكاك المعلول عن علّته التامة، فكذلك يستحيل انفكاك الحكم عن موضوعه.
فالنتيجة على ضوء هذين الجانبين: هي أ نّه إذا كان هناك دليل آخر يدل على نفي هذا الحكم عن موضوعه الثابت بحـاله لا بانتفـائه، فلا محالة يقع التعارض والتكاذب بينه وبين دليله في مقام الاثبات والدلالة، فانّ دليله يقتضي ثبوته لموضوعه على تقدير وجوده في الخارج، وذاك يقتضي نفيه عن ذلك الموضـوع على هذا التقدير، ومن الواضح جداً أنّ الجمع بينهما غير ممكن لاسـتحالة الجمع بين الوجود والعدم في شيء واحد، والنفي والاثبات في موضوع فارد.
وصفوة القول: أنّ التنافي بين الحكمين في مقام الجعل والواقع بالذات أو بالعرض يوجب التنافي والتعارض بين دليليهما في مقام الاثبات والدلالة، ولأجل ذلك كان كل منهما في هذا المقام يكذّب الآخر فلا يمكن تصديق كليهما معاً والأخـذ بهما، فلا محالة يوجـب الأخذ بأحدهما رفع اليد عن الآخر وبالعكس.

ــ[17]ــ

مثلاً الأخذ بالدليل الدال على وجوب القصر في المسألة المزبورة، أو على وجوب الجمعة في يوم الجمعة، لا محالة موجب لرفع اليد عن الدليل الدال على وجوب التمام أو على وجوب الظهر، والأخذ بالدليل الدال على جواز الجمع بين فاطميتين كما هو المشهور يوجب لا محالة رفع اليد عن الدليل الدال على عدم جواز الجمع بينهما، وهكذا.
ومن ذلك يظهر أنّ التعارض بين الدليلين لا يتوقف على تحقق موضوعهما في الخارج، بل ثبوت كل منهما بنحو القضيّة الحقيقية يستلزم عدم ثبوت الآخر كذلك وكذبه في الواقع ومقام الجعل، سواء أتحقق موضوعهما في الخارج أم لم يتحقق، فانّ ملاك التعارض وأساسه الموضوعي كما عرفت هو عدم إمكان جعل كلا الحكمين معاً وثبوته في مرحلة الجعل والتشريع إمّا ذاتاً أو من ناحية العلم الخارجي، بل قد يحتمل عدم ثبوت كليهما معاً كما لا يخفى، وكيف كان فعلى هذا الأساس ثبوت كل منهما على نحو القضيّة الحقيقية يستلزم لا محالة عدم ثبوت الآخر كذلك.
وقد تحصّل مما ذكرناه أنّ منشأ التعارض أحد أمرين ولا ثالث لهما:
الأوّل: المناقضة أو المضادة بين نفس مدلولي الدليلين، وهذا هو الكثير في الأدلة والروايات الواردة في أبواب الفقه.
الثاني: العلم الخارجي بوحدة الحكم في الواقع ومقام الجعل وعدم مطابقة أحدهما للواقع.




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net