الكلام في أنّ التخيير بين المتساويين عقلي أو شرعي ؟ 

الكتاب : محاضرات في اُصول الفقه - الجزء الثالث   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 4920

وقد اختار شيخنا الاُستاذ (قدس سره) (2) في المقام أنّ التخيير عقلي على
ـــــــــــ
(2) أجود التقريرات 2: 45.

ــ[89]ــ

عكس ما اختاره في المسألة المتقدمة، وهي ما إذا كان كل من الواجبين المتزاحمين مشروطاً بالقدرة شرعاً.
وغير خفي أنّ كون التخيير في المقام عقلياً أو شرعياً يرتكز على القول بامكان الترتب واستحالته.
فعلى الفرض الأوّل لا بدّ من القول بكون التخيير عقلياً، والوجه في ذلك واضح، وهو أنّ لازم هذا الفرض ثبوت كل من التكليفين المتزاحمين على نحو الترتب والاشـتراط، بمعنى أنّ فعلية كل منهما مشروطة بترك امتثال الآخر وعدم الاتيان بمتعلقه خارجاً، فانّ معنى الترتب من الجانبين يرجع إلى تقييد إطلاق كل من التكليفين بعدم امتثال الآخر، ومن المعلوم أنّ هذا التقييد ليس أمراً حادثاً بحكم العقل فعلاً، بل هو نتيجة اشتراط التكاليف بالقدرة عقلاً من الأوّل، فانّ ذلك الاشتراط يقتضي هذا التقييد من الجانبين إذا كانا متساويين، ومن جانب واحد إذا كان أحدهما واجداً للترجيح، وليس معنى التخيير هنا تبديل الوجوب التعييني بالتخييري ليقال إنّه غير معقول، ضرورة أ نّه باق على حاله، غاية الأمر أنّ المزاحمة تقتضي رفع اليد عن إطلاقه لا عن أصله، فانّ الضرورة تتقدر بقدرها، بل معناه هو تخيير المكلف في إعمال قدرته في امتثال هذا أو ذاك، وهذا نتيجة عدم قدرته على امتثال كليهما معاً من جانب، وعدم الترجيح لأحدهما على الآخر من جانب ثان، وعدم جواز رفع اليد عنهما معاً من جانب ثالث.
وعلى الفرض الثاني لا مناص من الحكم بكون التخيير شرعياً، والوجه فيه هو أنّ لازم هذا الفرض سقوط كلا التكليفين المتزاحمين معاً، فلا هذا ثابت ولا ذاك، ولكن حيث إنّا نعلم من الخارج أنّ الشارع لم يرفع اليد عن كليهما

ــ[90]ــ

معاً، لأنّ الموجب لذلك ليس إلاّ عدم قدرة المكلف على الجمع بينهما في مقام الامتثال، ومن الواضح جداً أنّ هذا لا يوجب ذلك، فانّ الضرورة تتقدر بقدرها، وهي لا تقتضي إلاّ رفع اليد عن أحدهما دون الآخر، لكونه مقدوراً له عقلاً وشرعاً، وبذلك نستكشف أنّ الشارع قد أوجب أحدهما لا محالة، وإلاّ لزم أن يفوت غرضه، وهو قبيح من الحكيم، وهذا معنى كون التخيير شرعياً.
إلى هنا قد تبيّن أنّ التكليفين المتزاحمين اللذين يكون كل منهما مشروطاً بالقدرة عقلاً، فإن كانا عرضيين وكان أحدهما أهم من الآخر أو محتمل الأهمّية فلا إشكال في تقديمه عليه، وأمّا إذا كانا متساويين من جميع الجهات فلا إشكال في التخيير كما مرّ. وأمّا إن كانا طوليين، فإن كان أحدهما أهم من الآخر أو محتمل الأهمّية فأيضاً يتقدّم عليه على تفصيل قد تقدّم فلاحظ. هذا كلّه فيما إذا كانت القدرة المعتبرة في الواجب المتأخر قدرة مطلقة كما هو المفروض لا قدرة خاصة.
وأمّا إذا كانت القدرة المعتبرة فيه قدرة خاصة وهي القدرة في ظرف العمل لا مطلقاً، كما لو نذر أحد صوم يومي الخميس والجمعة، ثمّ علم بأ نّه لا يقدر على صوم كلا اليومين معاً، ففي مثل ذلك لا إشكال في لزوم تقديم ما هو أسبق زماناً على الآخر، فيقدّم في المثال صوم يوم الخميس على صوم يوم الجمعة، لكونه مقدّماً عليه زماناً، وكذا الحال فيما إذا دار الأمر بين ترك القيام في صلاة الظهر وتركه في صلاة العصر، أو بين ترك القيام في صلاة المغرب وتركه في صلاة العشاء، بأن لا يقدر المكلف على الاتيان بكلتا الصلاتين مع القيام، فيقدّم ما هو أسبق زماناً على الآخر.
والوجه في ذلك واضح، وهو أنّ المكلف حيث إنّه كان قادراً على الصوم

ــ[91]ــ

يوم الخميس، والقيام في صلاة الظهر أو المغرب، فلا عذر له في تركه أصلاً، لفرض أنّ وجوبهما فعلي، ولا مانع من فعليته أصلاً، ضرورة أنّ المانع هنا ليس إلاّ التكليف بالصوم أو القيام في ظرف متأخر، ومن المعلوم أ نّه لا يصلح أن يكون مانعاً، لفرض عدم وجوب احتفاظ القدرة على امتثاله في ظرفه، لما عرفت من أنّ القدرة المعتبرة فيه إنّما هي القدرة في ظرف العمل لا مطلقاً، فإذن كما لا يجب حفظ القدرة قبل مجيء وقته، كذلك لا يجب تحصيلها.
فعلى هذا لا مناص من الالتزام بلزوم تقديم المتقدم زماناً على الآخر، ولا عذر له في ترك امتثاله باحتفاظ القدرة على امتثال الواجب المتأخر أبداً، لعدم المقتضي لذلك أصلاً، ففي الأمثلة المزبورة لا بدّ من الاتيان بالصوم يوم الخميس، وبالقيام في صلاة الظهر أو المغرب، ولا يجوز الاحتفاظ بالقـدرة بتركهما على الصوم يوم الجمعة، والقيام في صلاة العصر أو العشاء، ومن المعلوم أ نّه بعد الاتيان بالواجب المتقدم يعجز المكلف عن امتثال الواجب المتأخر، فينتفي عندئذ بانتفاء موضوعه وهو القدرة في ظرفه.
ومن هذا القبيل ما إذا دار الأمر بين ترك الصوم في العشرة الاُولى من شهر رمضان وتركه في العشرة الثانية، كما إذا فرضنا أنّ شخصاً لا يتمكن من الصوم في كلتا العشرتين معاً، ولكنّه قادر عليه في إحداهما دون الاُخرى، فانّه لا بدّ من تقديم الصوم في العشرة الاُولى على الصوم في العشرة الثانية، فانّ وجوب الصوم في العشرة الاُولى فعلي بفعلية موضوعه، ولا حالة منتظرة له أبداً، وهذا بخلاف وجوبه في العشرة الثانية، فانّه غير فعلي من جهة عدم فعلية موضوعه، وعليه فلا عذر له في تركه في الاُولى باحتفاظ القدرة عليه في الثانية، ضرورة أنّ القدرة المعتبرة على الصوم في كل يوم القدرة في ظرفه، فإن كان المكلف قادراً على الصوم في اليوم الأوّل أو الثاني فهو مكلف به، وإلاّ فلا تكليف به أصلاً،

ــ[92]ــ

ولا يجوز له الاحتفاظ بالقدرة بترك الصوم في اليوم الأوّل على الصوم في اليوم الثاني، بل لا بدّ له من الاتيان به في اليوم الأوّل، فان تمكن منه بعده في اليوم الثاني أيضاً فهو، وإلاّ فينتفي بانتفاء موضوعه وهو القدرة، وكذا الحال في المثال المزبور، فانّه لا بدّ من الاتيـان بالصوم في العشرة الاُولى، فإن تمكن بعده من الاتيان به في العشرة الثانية أيضاً فهو، وإلاّ فينتفي التكليف به بانتفاء موضوعه ـ وهو القدرة في ظرفه ـ ولا يجوز له حفظ القدرة على الصوم في الثانية بتركه في الاُولى، ولو فعل ذلك كان معاقباً عليه، لأ نّه ترك التكليف الفعلي من دون عذر، وحينئذ ـ أي حين تركه في الاُولى ـ وجب عليه في الثانية لا محالة، لقدرته عليه فعلاً، ولا عذر له في تركه أصلاً، فلو تركه كان معاقباً عليه أيضاً.
فالنتيجة: أ نّه لو ترك الصوم في العشرة الاُولى والثانية معاً يستحق عقابين، وهذا ليس عقاباً على ما هو خارج عن الاختيار والقدرة ليكون قبيحاً من الحكيم، فانّ استحقاقهما إنّما هو على الجمع بين تركه في الاُولى وتركه في الثانية، وهو مقـدور له بالوجدان، ولا يكون العقاب عليه من العقاب على ما ليس بالاختيار.
نظير ما ذكرناه في بحث الترتب من أنّ المكلف عند ترك الأهم والمهم معاً يستحق عقابين، وقلنا هناك إنّ هذا لا يكون عقاباً على ما ليس بالاختيار، لأ نّه على الجمع بين التركين، وهو مقدور له بالبداهة، لا على ترك الجمع بينهما ليكون غير مقدور كما تقدّم. وفيما نحن فيه تعدد العقاب عند ترك كلا الواجبين من جهة الجمع بين التركين، لا من جهة ترك الجمع بينهما ليكون عقاباً على غير مقدور، وهذا واضح.
وقد تحصّل مما ذكرناه: أ نّه لا مسوّغ للمكلف في أن يترك الصوم في العشرة الاُولى، ويحفظ قدرته عليه في العشرة الثانية أو الأخيرة، بل لا بدّ له من

ــ[93]ــ

الاتيان به في الاُولى، ومعه يعجز عن الاتيان به في الثانية.
ومن ذلك يظهر الحال فيما إذا دار الأمر بين ترك الطهارة المائية في الظهرين، وتركها في العشاءين، كما إذا كان عنده مقدار من الماء لا يكفي لكلتيهما معاً، فلو صرفه في الوضوء أو الغسل للظهرين فلا يبقى للعشاءين، وإن احتفظ به للعشاءين، فلا يتمكن من الاتيان بالظهرين مع الوضوء أو الغسل.
والوجه فيه واضح، وهو أنّ المكلف واجد للماء فعلاً بالاضافة إلى صلاتي الظهرين، وقد ذكرنا أنّ المراد من وجدان الماء في الآية المباركة هو الوجدان بالاضافة إلى الصلاة المكلف بها فعلاً لا مطلقاً، كما أنّ المراد من عدم الوجدان فيها ذلك، والمفروض هنا أنّ المكلف واجد للماء بالاضافة إلى صلاتي الظهرين المكلف بهما فعلاً، فيكون مشمولاً لقوله تعالى: (إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ)(1) إلى آخر الآية، هذا من جانب.
ومن جانب آخر: أنّ الوجدان المعـتبر في توجه التكليف بالصلاة هو الوجدان في وقتها، فلا أثر للوجدان قبله، ولا يكون الوجدان قبل الوقت موجباً لتوجه التكليف بالصلاة إليه فعلاً، ضرورة أ نّه لا وجوب لها قبل دخول وقتها.
فالنتيجة على ضوء هذين الجانبين: هي أ نّه مكلف بصلاتي الظهرين مع الطهارة المائية لكونه واجداً للماء، ووظيفة الواجد هي الطهارة المائية لا غيرها، ولايكون مكلفاً بالعشاءين فعلاً، لعدم دخول وقتهما، فانّه لا أثر لوجدانه الماء بالاضافة إليهما، والمفروض أ نّه بعد الاتيان بالظهرين يصير فاقداً للماء، ووظيفة الفاقد هي الطهارة الترابية دون غيرها. وعلى هذا فلا مسوّغ لترك صلاتي
ـــــــــــــــــــــ
(1) المائدة 5: 6.

ــ[94]ــ

الظهرين مع الطهارة المائية والاتيان بهما مع الطهارة الترابية، ليحتفظ بالماء لصلاتي العشاءين، لما عرفت من عدم المقتضي للحفظ أصلاً، بل المقتضي لصرفه في الوضوء أو الغسل للظهرين موجود، وهو فعلية التكليف بهما مع الطهارة المائية.
وكذا الحال في بقية الأجزاء والشرائط، فلو دار الأمر بين ترك جزء أو شرط كالقيام أو نحوه في صلاة الظهر مثلاً، وتركه في صلاة المغرب فالأمر كما تقدّم، بمعنى أنّ وظيفته الفعلية تقتضي الاتيان بصلاة الظهر قائماً، ولا يجوز له ترك القيام فيها بحفظ القدرة عليه لصلاة المغرب، بل في الحقيقة لا مزاحمة في البين، ضرورة أنّ المزاحمة إنّما تعقل بين التكليفين الفعليين، ليكون لكل منهما اقتضاء للاتيان بمتعلقه في الخارج، وأمّا إذا كان أحدهما فعلياً دون الآخر فلا اقتضاء لما لا يكون فعلياً، ومن المعلوم أنّ ما لا اقتضاء فيه لا يعقل أن يزاحم ما فيه الاقتضاء، هذا كلّه فيما إذا كان أحد الواجبين المزبورين فعلياً دون الواجب الآخر.
وأمّا إذا كان وجوب كليهما فعلياً كصلاتي الظهرين مثلاً أو العشاءين بعد دخول وقتهما، فهل الأمر أيضاً كذلك أم لا ؟ وجهان.
الصحيح هو الوجه الأوّل، بيان ذلك: هو أ نّا إذا فرضنا أنّ الأمر يدور بين الطهارة المائية مثلاً في صلاة الظهر، والطهارة المائية في صلاة العصر، أو بين الطهارة المائية في صلاة المغرب، والطهارة المائية في صلاة العشاء، بأن لايتمكن المكلف من الجمع بين هاتين الصلاتين مع الطهارة المائية، ففي مثل ذلك لا مناص من الالتزام بتقديم صلاة الظهر مع الطهارة المائية على صلاة العصر، أو المغرب على العشاء، ولا تجوز المحافظة عليها لصلاة العصر أو العشاء بتركها في صلاة الظهر أو المغرب.

ــ[95]ــ

والوجه فيه هو أنّ وظيفة المكلف فعلاً هي الاتيان بصلاة الظهر فحسب، لفرض أ نّه ليس مأموراً باتيان صلاة العصر قبل الاتيان بالظهر لاعتبار الترتيب بينهما، هذا من ناحية. ومن ناحية اُخرى: المفروض أ نّه في هذا الحال واجد للماء ومتمكن من استعماله عقلاً وشرعاً، ومن الواضح أنّ وظيفته عندئذ بمقتضى الآية المباركة هي الوضوء أو الغسل، ولا يشرع في حقّه التيمم.
فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين: هي أ نّه لا أثر لكون المكلف واجداً للماء فعلاً بالإضافة إلى صلاة العصر، لما ذكرناه من أنّ المستفاد من الآية المباركة بضميمة الروايات أنّ المراد بوجدان الماء هو وجدانه بالاضافة إلى الصلاة المأمور بها فعلاً، والمفروض أنّ فيما نحن فيه المأمور به فعلاً هو صلاة الظهر دون العصر، ضرورة أ نّه لا يجب الاتيان به قبل الظهر، فإذن هو واجد للماء بالإضافة إلى الظهر، ومن المعلوم أنّ وظيفة الواجد هي الوضوء أو الغسل دون التيمم، وقد ذكرنا أنّ تقسيم المكلف إلى الواجد والفاقد في الآية المباركة قاطع للشركة، فلا يكون الواجد شريكاً مع الفاقد في شيء، وبالعكس. وعليه فيجب صرف الماء في الوضوء أو الغسل لصلاة الظهر، ومعه لا محالة يكون فاقداً له بالاضافة إلى العصر، ومن الواضح أنّ وظيفة الفاقد هي التيمم لا غيره.
بل لا مزاحمة في الحقيقة بين الأمر بصلاة الظهر مع الطهارة المائية والأمر بصلاة العصر معها، ضرورة أ نّه لا مقتضي من قبل الأمر بصلاة العصر حتّى يستدعي احتفاظ الماء لها في ظرفها، ليزاحم استدعاء الأمر بصلاة الظهر صرف هذا الماء فعلاً في الوضوء أو الغسل، ومن الواضح جداً أ نّه لا مزاحمة بين ما فيه الاقتضاء وما لا اقتضاء فيه.
وعلى الجملة: فلا يخلو الأمر من أنّ المكلف إمّا أن يصلي الظهر مع الطهارة المائية، أو يصلي مع الطهارة الترابية، أو لا يصلي أصلاً، ولا رابع لها. فعلى

ــ[96]ــ

الأوّل لا محالة يكون المكلف فاقداً للماء بالاضافة إلى صلاة العصر، فوظيفته التيمم. وعلى الثاني بما أنّ صلاته باطلة، لأنّ وظيفته كانت الطهارة المائية، لكونه واجداً للماء على الفرض، فلا تكون الطهارة الترابية مشروعة له، فلا يجوز له الاتيان بالعصر مع الطهارة المائية، لعدم جواز الاتيان به قبل الاتيان بالظهر، والمفروض أنّ الأمر بالظهر باق على حاله، وعليه بما أ نّه لا يكون مكلفاً فعلاً بالعصر، فلا يكون مانع من قبله من صرف الماء في الوضوء أو الغسل لصلاة الظهر، ومن هنا يظهر حال الصورة الأخيرة كما هو واضح، وكذا حال بقية الأجزاء والشرائط.
وقد تحصّل مما ذكرناه: أ نّه لا مزاحمة حقيقة في أمثال هذه الموارد أصلاً، هذا كلّه فيما إذا كانت القدرة المأخوذة في الواجب المتأخر القدرة الخاصة، وهي القدرة في ظرف العمل.
وأمّا إذا كانت القدرة المأخوذة فيه القدرة المطلقة، بأن استكشفنا من القرائن الداخلية أو الخارجية أ نّه واجد للملاك الملزم في ظرفه بمجرد القدرة عليه ولو آناً ما، ففي مثل ذلك قد عرفت أ نّه لا وجه لتقديم ما هو أسبق زماناً على الآخر، بل لا بدّ من ملاحظة الأهمّية في البين.
والوجه في ذلك هو أنّ العقل كما يحكم بصرف القدرة في امتثال الواجب المتقدم، كذلك يحكم باحتفاظها للواجب المتأخر، ضرورة أ نّه لا فرق في نظر العقل بين تفويت الواجب الفعلي وتفويت الملاك الملزم في ظرفه، فكما أ نّه يحكم بقبح الأوّل فكذلك يحكم بقبح الثاني، وعليه فلا أثر للسبق الزماني هنا أصلاً. فاذن إن كان أحدهما أهم من الآخر أو محتمل الأهمّية فيقدّم عليه، بلا فرق بين كونه متقدماً عليه زماناً أو متأخراً عنه، وبلا فرق بين القول بامكان الترتب والقول باستحالته، وإلاّ فيحكم العقل بالتخيير بينهما، كما تقدّم بشكل واضح.

ــ[97]ــ

ولكن لشيخنا الاُستاذ (قدس سره) (1) في المقام كلام، وهو أنّ التزاحم إذا كان بين واجبين طوليين متساويين في الملاك، كما إذا دار الأمر بين القيام في الركعة الاُولى من الصلاة والقيام في الركعة الثانية، أو بين ترك واجب متوقف على ارتكاب محرّم مساو معه في الملاك، فلا مناص من الالتزام بتقديم ما هو أسبق زماناً على الآخر.
وقد أفاد في وجه ذلك ما توضيحه: هو أنّ الواجبين المتزاحمين إذا كانا عرضيين، ففي صورة التساوي وعدم كون أحدهما أهم من الآخر لا مناص من الالتزام بالتخيير، ضرورة أ نّه لا وجه في هذا الفرض لتقديم أحدهما على الآخر أصلاً. وأمّا إذا كانا طوليين، فإن كانا متساويين فلا بدّ من تقديم الواجب المتقدم على المتأخر زماناً، وذلك لأنّ التكليف بالمتقدم فعلي ولا موجب لسقوطه أصلاً، لأنّ سقوط كل من التكليفين المتزاحمين إنّما هو بصرف القدرة في امتثال الآخر، كما أنّ ثبوت كل منهما إنّما هو عند ترك امتثال الآخر وعدم صرف القدرة فيه، بناءً على ما هو الصحيح من إمكان الترتب وجوازه، وعدم الفرق فيه بين أن يكون من طرف أو من طرفين، وبما أنّ التكليف بالواجب المتأخر متأخر خارجاً، لفرض أنّ متعلقه متأخر عن متعلق التكليف بالمتقدم، فلا يكون له مسقط في عرضه، ضرورة أنّ امتثاله في ظرفه لا يكون مسقطاً له، كما أنّ ترك امتثاله فيه لايعقل أن يكون شرطاً لثبوته له، إلاّ بناءً على إمكان الشرط المتأخر والمفروض أ نّه (قدس سره) يرى استحالته وعدم إمكانه.
وعلى الجملة: ففي زمان الواجب المتقدم لا مانع من صرف القدرة في امتثاله أصلاً، لفرض عدم إمكان صرف القدرة في امتثال الواجب المتأخر
ـــــــــــــــــــــ
(1) أجود التقريرات 2: 47.

ــ[98]ــ

فعلاً، والمفروض أنّ المسقط لوجوبه ليس إلاّ امتثاله خارجاً كما عرفت، وحيث إنّه لا يمكن بالفعل فلا مسقط له أصلاً إلاّ أن يكون امتثاله في ظرفه شرطاً لسقوطه على نحو الشرط المتأخر، ولكنّك عرفت أ نّه يرى استحالة ذلك، فاذن يتعين امتثال المتقدم بحكم العقل.
ومن هنا يظهر أ نّه لا يمكن الالتزام بالترتب من الطرفين في مثل الفرض، وذلك لأنّ معنى الترتب من الطرفين هو أنّ ثبوت التكليف بكل منهما مشروط بترك امتثال الآخر خارجاً وعدم الاتيان بمتعلقه، وهذا لا يعقل في مثل المقام، ضرورة أنّ ثبوت التكليف بالمتقدم لا يعقل أن يكون مشروطاً بترك امتثال التكليف بالمتأخر في ظرفه إلاّ على نحو الشرط المتأخر، وهو محال على وجهة نظره (قدس سره).
نعم، إذا كان المتأخر أقوى ملاكاً من المتقدم فلا بدّ من تقديمه عليه، والوجه في ذلك هو أنّ التزاحم في الحقيقة عندئذ إنّما هو بين التكليف بالمتقدم ووجوب حفظ القدرة فعلاً على امتثال التكليف بالمتأخر، وبما أنّ ملاك المتأخر أهم من ملاك الواجب الفعلي، فلا محالة يكون وجـوب حفظ القدرة عليه أهم من وجوب الواجب الفعلي، فيتقدّم عليه في مقام المزاحمة.
فالنتيجة المستفادة من مجموع ما أفاده (قدس سره) هنا هي أنّ التزاحم لا يعقل بين تكليفين طوليين، إلاّ إذا كان المتأخر أهم من المتقدم لتقع المزاحمة بين وجوب حفظ القدرة عليه فعلاً، ووجوب الواجب المتقدم، وأمّا إذا كانا متساويين، أو كان المتقدم أهم من المتأخر، فلا تزاحم بينهما أبداً، بل يتعين امتثال الواجب المتقدم بحكم العقل، دون الواجب المتأخر، ولأجل ذلك لا يجري الترتب بينهما كما عرفت.

ــ[99]ــ

ولنأخذ بالمناقشة فيما أفاده (قدس سره) وهي أ نّا قد حققنا سابقاً أنّ كون أحد الخطابين مشروطاً بترك امتثال الآخر وعدم الاتيان بمتعلقه لم يرد في لسان دليل من الأدلة، لنقتصر على مقدار مدلوله ونأخذ بظاهره، بل هو من ناحية حكم العقل بعدم إمكان تعلق الخطاب الفعلي بأمرين متضادين إلاّ على هذا الفرض والتقدير، ضرورة استحالة تعلقه بكل منهما فعلاً وفي عرض الآخر.
والوجه في ذلك: هو أنّ العقل مستقل بلزوم حفظ خطاب المولى بالمقدار الممكن، وعدم جواز رفع اليد لا عن أصله ولا عن اطلاقه ما لم تقتضه الضرورة، وهذا ظاهر.
وعلى أساس ذلك بما أنّ في مقام المزاحمة بين التكليفين لا يتمكن المكلف من التحفظ على كليهما معاً، فلا مناص من الالتزام برفع اليد عن أحدهما والأخذ بالآخر إذا كان ذلك الآخر واجداً للترجيح، فانّ هذا غاية ما يمكنه. وأمّا إذا لم يكن واجداً له فلا مناص من الالتزام بالتخيير بناءً على ما حققناه من إمكان الترتب وجوازه، هذا من ناحية.
ومن ناحية اُخرى: قد تقدّم منّا غير مرّة أ نّه لا فرق في نظر العقل بين تفويت الواجب الفعلي وتفويت الملاك الملزم في ظرفه، فكما أ نّه يحكم بقبح الأوّل، فكذلك يحكم بقبح الثاني.
ومن ناحية ثالثة: قد حققنا في بحث الواجب المطلق والمشروط(1) أ نّه لا مانع من الالتزام بالشرط المتأخر، بل لا مناص عنه في المركبات التدريجية كالصلاة وما شاكلها، كما تقدّم هناك.
فالنتيجة على ضوء هذه النواحي الثلاث: هي أنّ في صورة كون التكليفين
ـــــــــــــــــــــ
(1) في المجلد الثاني من هذا الكتاب ص 135 مبحث الشرط المتأخر.

ــ[100]ــ

المتزاحمين متساويين لا مناص من القول بالتخيير ـ مطلقاً ـ من دون فرق بين أن يكونا عرضيين أو طوليين.
والسر في ذلك ما عرفت من أنّ القول بالتخيير هنا عقلاً يرتكز على القول بالترتب، وقد ذكرنا أ نّه لا فرق فيه بين أن يكون من طرف واحد، كما إذا كان أحدهما أهم من الآخر، وأن يكون من طرفين، كما إذا كانا متساويين، وقد سبق أنّ معنى الترتب عند التحليل عبارة عن تقييد إطلاق التكليف بأحدهما بترك امتثال التكليف بالآخر، وعدم الاتيان بمتعلقه خارجاً في فرض كون أحدهما أهم من الآخر، وتقييد اطلاق التكليف بكل منهما بترك امتثال الآخر وعدم الاتيان بمتعلقه في فرض كونهما متساويين.
ومن المعلوم أنّ هذا التقييد والاشتراط ليس ناشئاً فعلاً بحكم الشرع أو العقل، بل هو نتيجة اشتراط التكاليف من الأوّل بالقدرة، ومن هنا قلنا إنّ هذا التخيير ليس معناه تبديل الوجوب التعييني بالتخييري، بل كل منهما باق على وجوبه التعييني، غاية الأمر نرفع اليد عن إطلاق وجوب كل منهما بتقييده بعدم الاتيان بمتعلق الآخر، بل معناه اختيار المكلف في إعمال قدرته في امتثال هذا أو ذاك، باعتبار أنّ القدرة الواحدة لا تفي بامتثال كليهما معاً، ولا يفرق في ذلك بين كونهما عرضيين أو طوليين، غاية الأمر على الثاني لا بدّ من الالتزام بجواز الشرط المتأخر، حيث إنّ شرطية عدم الاتيان بالواجب المتأخر في ظرفه لفعلية وجوب المتقدم لا تعقل إلاّ على هذا القول، ولكن قد تقدّم أنّ الصحيح هو جوازه، وأ نّه لا مانع منه أصلاً، بل لا مناص من الالتزام به في بعض الموارد، كما مرّ بشكل واضح، وعليه فلا فرق بين كونهما عرضيين أو طوليين، فعلى كلا التقديرين لا بدّ من الالتزام بالترتب، وبثبوت كلا التكليفين على شكل اشتراط ثبوت كل منهما بعدم الاتيان بمتعلق الآخر في ظرفه.

 
 

ــ[101]ــ

وقد تحصّل مما ذكرناه: أ نّه لا مانع من الالتزام بالترتب في المتزاحمين الطوليين، لا من ناحية الالتزام بالترتب من الطرفين، ولا من ناحية ابتنائه على جواز الشرط المتأخر، ولا من ناحية حكم العقل.
أمّا الأوّل، فقد ذكرنا أ نّه لا فرق في إمكان الترتب بين أن يكون من طرف واحد كما في الأهم والمهم، أو من طرفين كما في المتساويين.
وأمّا الثاني، فقد حققنا جواز الشرط المتأخر وامكانه.
وأمّا الثالث، فقد عرفت أ نّه لا فرق عند العقل بين تفويت الملاك الملزم في ظرفه، وتفويت الواجب الفعلي.
فما عن شيخنا الاُستاذ (قدس سره) من عدم جريان الترتب بينهما، لا يرجع إلى معنىً صحيح أصلاً.
كما أنّ ما أفاده (قدس سره) من المانع، وهو أنّ سقوط كل من التكليفين المتزاحمين حيث إنّه كان بامتثال الآخر فلا يعقل أن يكون امتثال التكليف بالمتأخر ـ من جهة تأخره خارجاً ـ مسقطاً للتكليف بالمتقدم، فأيضاً لا يرجع إلى معنىً محصّل، والوجه فيه:
أمّا أوّلاً: فلأ نّه لا مانع من أن يكون امتثال التكليف بالمتأخر في ظرفه شرطاً لسقوطه على نحو الشرط المتأخر، بناءً على ما حققناه من إمكانه وجوازه. وأمّا ثانياً: فلأنّ المسقط له ليس هو امتثال الآخر بما هو، لما قدّمناه سابقاً من أنّ المسقط للتكليف أحد أمرين لا ثالث لهما:
الأوّل: امتثاله في الخارج الموجب لحصول غرضه، فانّه بعد حصول الغرض الداعي له خارجاً لا يعقل بقاؤه، ولذا قلنا إنّ المسقط في الحقيقة إنّما هو حصول الغرض وتحققه في الخارج، لا الامتثال نفسه كما تقدّم.

ــ[102]ــ

الثاني: انتفاء القدرة وعجز المكلف عن امتثاله، ومعه لا محالة يسقط التكليف، بداهة استحالة توجيهه نحو العاجز، ومن المعلوم أنّ المسقط فيما نحن فيه ليس هو الأوّل على الفرض، بل المسقط له إنّما هو الثاني كما هو المفروض، باعتبار أنّ المكلف إن أعمل قدرته في امتثال الواجب الفعلي عجز عن امتثال الواجب المتأخر في ظرفه، فينتفي بانتفاء موضوعه ـ وهو القدرة ـ وإن حفظ قدرته على امتثال المتأخر عجز عن امتثال المتقدم لا محالة، ضرورة أنّ القدرة الواحدة لا تفي لامتثال كليهما معاً، ومثال ذلك: ما إذا توقف امتثال واجب على ارتكاب محرّم كالتصرّف في مال الغير مثلاً، فانّه إن صرف قدرته في ترك الحرام عجز عن امتثال الواجب في ظرفه كانقاذ الغريق مثلاً أو نحوه، وإن حفظ قدرته لامتثاله في ظرفه بارتكاب الحرام عجز عن تركه، ومن الواضح أنّ مع العجز عنه تسقط حرمته لا محالة، ولا يفرق في سقوط حرمته بين أن يمتثل المكلف الواجب المتأخر خارجاً أم لا، ضرورة أنّ المسقط للتكليف بالمتقدم ليس هو امتثال المتأخر في الخارج، بل المسقط له في الحقيقة ـ كما عرفت ـ عدم تمكن المكلف من امتثاله.
وعليه فما أفاده شيخنا الاُستاذ (قدس سره) ـ من أنّ سقوط كل من التكليفين المتزاحمين لايكون إلاّ بامتثال الآخر، وحيث إنّ امتثال التكليف بالمتأخر متأخر خارجاً فلا يعقل أن يكون مسقطاً للتكليف بالمتقدم ـ لا يرجع إلى معنىً صحيح، لما عرفت من أنّ المسقط له ليس هو امتثال التكليف بالمتأخر ليقال إنّه حيث لا يكون في عرضه فلا يكون مسقطاً له، بل المسقط له ما مرّ وهو عدم تمكن المكلف من امتثاله.
فالنتيجة لحدّ الآن قد أصبحت: أ نّه لا فرق في نظر العقل بين أن يكون المتزاحمان المتساويان عرضيين أو طوليين، إذ أ نّه على كلا التقديرين يستقل

ــ[103]ــ

العقل بالتخيير بينهما على بيان تقدّم بصورة واضحة.




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net