الاشكال على الواجب المضيّق وجوابه - تبعيّة القضاء للأداء 

الكتاب : محاضرات في اُصول الفقه - الجزء الثالث   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 5032


وأمّا في الثاني: وهو الاشكال في إمكان وجود المضيّق، فبدعوى أنّ الانبعاث لا بدّ وأن يتأخّر عن البعث ولو آناً ما، وعليه فلا بدّ من فرض زمان يسع البعث والانبعاث معاً، أعني الوجوب وفعل الواجب، ولازم ذلك هو زيادة زمان الوجوب على زمان الواجب، مثلاً إذا فرض تحقق وجوب الصوم حين الفجر فلا بدّ وأن يتأخر الانبعاث عنه آناً ما وهو خلاف المطلوب، ضرورة أنّ لازم ذلك هو خلوّ بعض الآنات من الواجب، وإذا فرض تحقق وجوب الصوم قبل الفجر يلزم تقدّم المشروط على الشرط وهو محال، وعليه فلا بدّ من الالتزام بعدم اشتراطه بدخول الفجر لئلاّ يلزم تقدّم المعلول على علّته، ولازم ذلك هو عدم إمكان وجود الواجب المضيّق.
ويرد على ذلك أوّلاً: أنّ الملاك في كون الواجب مضيّقاً هو ما كان الزمان

ــ[247]ــ

المحدد له وقتاً مساوياً لزمان الاتيان بالواجب، بحيث يقع كل جزء منه في جزء من ذلك الزمان بلا زيادة ونقيصة، وأمّا كون زمان الوجوب أوسع من زمان الواجب أو مساوياً له فهو أجنبي عمّا هو الملاك في كون الواجب مضيّقاً، ومن هنا لا شبهة في تصوير الواجب المضيّق والموسّع على القول بالواجب المعلق، مع أنّ زمان الوجوب فيه أوسع من زمان الواجب، ولم يتوهّم أحد ولا يتوهّم أ نّه لا يتصور المضيّق على هذه النظرية كما هو واضح.
وثانياً: أنّ تأخّر الانبعاث عن البعث ليس بالزمان ليلزم المحذور المزبور، بل هو بالرتبة كما لايخفى. نعم، العلم بالحكم وإن كان غالباً متقدماً على حدوثه، أي حدوث الحكم زماناً، إلاّ أ نّه ليس مما لا بدّ منه، بداهة أنّ توقف الانبعاث عند تحـقق موضوع البعث كالفجر في المثال المزبور مثلاً على العلم به ـ أي بالبعث ـ رتبي، وليس زمانياً كما هو واضح، كتقدّم العلم بالموضوع على العلم بالحكم.
 

[ هل القضاء تابع للأداء ]

ثمّ إنّ مقتضي القاعدة هل هو وجوب الاتيان بالموقّت في خارج الوقت إذا فات في الوقت اختياراً أو لعذر أم لا، مع قطع النظر عن الدليل الخاص الدال على ذلك كما في الصلاة والصوم ؟ هذه هي المسألة المعروفة بين الأصحاب قديماً وحديثاً في أنّ القضاء تابع للأداء أو هو بأمر جديد ؟ فيها وجوه بل أقوال:
الأوّل: وجوب الاتيان به مطلقاً. الثاني: عدم وجوبه كذلك. الثالث: التفصيل بين ما إذا كانت القرينة على التقيد متصلة وما إذا كانت منفصلة، فعلى الأوّل إن كانت القرينة بصورة قضية شرطية فتدل على عدم وجوب إتيانه في خارج الوقت، بناءً على ما هو المشهور من دلالة القضية الشرطية على المفهوم، وأمّا

ــ[248]ــ

إذا كانت بصورة قضية وصفية فدلالتها على ذلك تبتنيان على دلالة القضية الوصفية على المفهوم وعدم دلالتها عليه. وعلى الثاني ـ وهو كون القرينة منفصلة ـ فلا تمنع عن إطلاق الدليل الأوّل الدال على وجوبه مطلقاً في الوقت وفي خارجه، ضرورة أنّ القرينة المنفصلة لا توجب انقلاب ظهور الدليل الأوّل في الاطلاق إلى التقييد، بل غاية ما في الباب أ نّها تدل على كونه مطلوباً في الوقت أيضاً. فإذن النتيجة في المقام هي تعدد المطلوب، بمعنى كون الفعل مطلوباً في الوقت لأجل دلالة هذه القرينة المنفصلة، ومطلوباً في خارجه لأجل إطلاق الدليل الأوّل، وعليه فإذا لم يأت المكلف به في الوقت، فعليه أن يأتي به في خارج الوقت، وهذا معنى تبعية القضاء للأداء.
ولنأخذ بالنقد على هذا التفصيل وملخّصه: هو أ نّه لا فرق فيما نحن فيه بين القرينة المتصلة والمنفصلة، بيان ذلك: أنّ القرينة المتصلة كما هي تدل على التقييد وعلى كون مراد المولى هو المقيد بهذا الزمان، كذلك القرينة المنفصلة فانّها تدل على تقييد إطلاق دليل المأمور به وكون المراد هو المقيد من الأوّل، فلا فرق بينهما من هذه الناحية أصلاً. نعم، فرق بينهما من ناحية اُخرى، وهي أنّ القرينة المتصلة مانعة عن ظهور الدليل في الاطلاق، ومعها لاينعقد له ظهور، والقرينة المنفصلة مانعة عن حجّية ظهوره في الاطلاق دون أصله، ولكن من المعلوم أنّ مجرد هذا لا يوجب التفاوت بينهما في مفروض الكلام، ضرورة أ نّه لايجوز التمسك بالاطلاق بعد سقوطه عن الحجّية والاعتبار، سواء أكان سقوطه عنها بسقوط موضوعها وهو الظهور، كما إذا كانت القرينة متصلة، أم كان سقوطه عنها فحسب من دون سقوط موضوعها، كما إذا كانت القرينة منفصلة، فالجامع بينهما هو أ نّه لا يجوز التمسك بهذا الاطلاق.
وعلى الجملة: فالقرينة المنفصلة وإن لم تضر بظهور المطلق في الاطلاق،

ــ[249]ــ

إلاّ أ نّها مضرّة بحجّيته، فلا يكون هذا الظهور حجةً معها، لفرض أ نّها تكشف عن أنّ مراد المولى هو المقيد من الأوّل، فإذن لا أثر لهذا الاطلاق أصلاً، هذا من ناحية. ومن ناحية اُخرى: أ نّها لا تدل على أ نّه مطلوب في الوقت بنحو كمال المطلوب، ليكون من قبيل الواجب في الواجب، وإلاّ لانسدّ باب حمل المطلق على المقيد في تمام موارد القيود الثابتة بقرينة منفصلة، سواء أكانت زماناً أو زمانيةً، إذ على هذا لا بدّ من الالتزام بتعدد التكليف وأنّ التكليف المتعلق بالمقيد غير التكليف المتعلق بالمطلق، غاية الأمر أنّ المقيد أكمل الأفراد.
مثلاً الأمر المتعلق بالصلاة مع الطهارة المائية أو مع طهارة البدن أو اللباس أو مستقبلاً إلى القبلة أو ما شاكل ذلك غير الأمر المتعلق بها على إطلاقها، وعليه فلو أتى بالصلاة مثلاً فاقدةً لهذه القيود، فقد أتى بالواجب وإن ترك واجباً آخر وهو الصلاة المقيدة بهذه القيود، ومن المعلوم أنّ فساد هذا من الواضحات الأوّلية عند الفقهاء، ولن يتوهّم ذلك في تلك القيود، ومن الطبيعي أ نّه لا فرق بين كون القيد زماناً أو زمانياً من هذه الناحية أصلاً، ولذا لو ورد: اعتق رقبةً مطلقاً وورد في دليل آخر اعتق رقبةً مؤمنةً، لا يتأمل أحد في حمل الأوّل على الثاني، وأنّ مراد المولى هو المقيد دون المطلق، ولأجل ذلك لا يجزئ الاتيان به. وكيف كان، فلا شبهة في أنّ ما دلّ على تقييد الواجب بوقت خاص كالصلاة أو نحوها لا محالة يوجب تقييد إطلاق الدليل الأوّل ويكشف عن أنّ مراد المولى هو المقيد بهذا الوقت دون المطلق، ولا فرق في ذلك بين كون الدليل الدال على التوقيت متصلاً أو منفصلاً، وهذا واضح.
فالنتيجة: أ نّه لا فرق بين القرينة المتصلة والقرينة المنفصلة، فكما أنّ الاُولى تدل على تقييد الأمر الأوّل، وأنّ مراد المولى هو الأمر بالصلاة مثلاً في هذا الوقت لا مطلقاً، فكذلك الثانية تدل على ذلك، فإذن ليس هنا أمر آخر متعلق

ــ[250]ــ

بالصلاة على إطلاقها ليكون باقياً بعد عدم الاتيان بها في الوقت على الفرض.
ولصاحب الكفاية (قدس سره) في المقام تفصيل آخر وإليك نص كلامه: ثمّ إنّه لا دلالة للأمر بالموقت بوجه على الأمر به في خارج الوقت بعد فوته في الوقت، لو لم نقل بدلالته على عدم الأمر به. نعم، لو كان التوقيت بدليل منفصل لم يكن له إطلاق على التقييد بالوقت، وكان لدليل الواجب إطلاق، لكان قضية إطلاقه ثبوت وجوب القضاء بعد انقضاء الوقت، وكون التقييد به بحسب تمام المطلوب لا أصله.
وبالجملة: التقييد بالوقت كما يكون بنحو وحدة المطلوب، كذلك ربّما يكون بنحو تعدد المطلوب بحيث كان أصل الفعل ولو في خارج الوقت مطلوباً في الجملة وإن لم يكن بتمام المطلوب، إلاّ أ نّه لا بدّ في إثبات أ نّه بهذا النحو من دلالة، ولا يكفي الدليل على الوقت إلاّ فيما عرفت، ومع عدم الدلالة فقضية أصالة البراءة عدم وجوبها في خارج الوقت، ولا مجال لاستصحاب وجوب الموقّت بعد انقضاء الوقت، فتدبّر جيّداً (1).
توضيح ما أفاده (قدس سره) هو أنّ التقييد بالوقت لا يخلو من أن يكون بدليل متصل أو منفصل ولا ثالث لهما.
أمّا على الأوّل ـ وهو ما إذا كان التقـييد بدليل متصل ـ فلا يدل الأمر بالموقّت على وجوب الاتيان به في خارج الوقت، إذ على هذا يكون الواجب هو حصة خاصة من طبيعي الفعل وهي الحصة الواقعة في هذا الوقت الخاص، وعليه فإذا لم يأت به المكلف في ذلك الوقت فلا دليل على وجوب الاتيان به في خارجه، وهذا واضح.
ـــــــــــــــــــــ
(1) كفاية الاُصول: 144.

ــ[251]ــ

وأمّا على الثاني ـ وهو ما إذا كان التقييد بدليل منفصل ـ فلا يخلو من أن يكون له إطلاق بالاضافة إلى حالتي الاختيار وعدمه، أو لا إطلاق له.
فعلى الأوّل لا يدل على وجوب الاتيان به في خارج الوقت، لفرض أنّ ما دلّ على تقييده بزمان خاص ووقت مخصوص مطلق، وباطلاقه يشمل حال تمكن المكلف من الاتيان به في الوقت وعدم تمكنه منه، ولازم هذا لا محالة سقوط الواجب عنه عند مضي الوقت، وعدم ما يدل على وجوبه في خارج الوقت، ولا فرق في ذلك بين أن يكون للدليل الأوّل إطلاق بالاضافة إلى الوقت وخارجه أم لم يكن له إطلاق، كما لو كان الدليل الدال عليه لبياً من إجماع أو نحوه أو كان لفظياً، ولكنّه لا يكون في مقام البيان من هذه الناحية، والوجه في ذلك واضح على كلا التقديرين، أمّا على تقدير عدم الاطلاق له فالأمر ظاهر، إذ لا إطلاق له ليتمسك به، فإذن المحكّم هو إطلاق الدليل المقيّد، وأمّا على تقدير أن يكون له إطلاق فلما ذكرناه غير مرّة من أنّ ظهور القرينة في الاطلاق يتقدّم على ظهور ذي القرينة فيه فلا تعارض بينهما بنظر العرف أصلاً.
وعلى الثاني ـ وهو ما إذا لم يكن له إطلاق بالاضافة إلى كلتا الحالتين ـ فالمقدار المتيقن من دلالته هو تقييد الأمر الأوّل بخصوص حال الاختيار والتمكن لا مطلقاً، بداهة أ نّه لا يدل على أزيد من ذلك، لفرض عدم الاطلاق له، وعليه فلا بدّ من النظر إلى الدليل الأوّل هل يكون له إطلاق أم لا، فإن كان له إطلاق فلا مانع من الأخذ به لاثبات وجوب الاتيان به في خارج الوقت.
وبكلمة اُخرى: أنّ مقتضى إطلاق الدليل الأوّل هو وجوب الاتيان بهذا الفعل كالصلاة مثلاً أو نحوها مطلقاً ـ أي في الوقت وخارجه ـ ولكن الدليل قد دلّ على تقييده بالوقت في خصوص حال الاختيار، ومن الطبيعي أ نّه لا بدّ من الأخذ بمقدار دلالة الدليل، وبما أنّ مقدار دلالته هو تقييده بخصوص حال

ــ[252]ــ

الاختيار والتمكن من الاتيان به في الوقت، فلا مانع من التمسك باطلاقه عند عدم التمكن من ذلك لاثبات وجوبه في خارج الوقت، ضرورة أ نّه لا وجه لرفع اليد عن إطلاقه من هذه الناحية أصلاً، كما هو واضح.
ثمّ إنّ هذا الكلام لا يختص بالتقييد بالوقت خاصة، بل يعم جميع القيود المأخوذة في الواجب بدليل منفصل، فانّ ما دلّ على اعتبار تلك القيود لا يخلو من أن يكون له إطلاق بالاضافة إلى حالتي الاختيار وعدمه أو لا يكون له إطلاق كذلك.
والأوّل كالطهارة مثلاً، فانّ ما دلّ على اعتبارها في الصلاة واشتراطها بها كقوله (عليه السلام): «لا صلاة إلاّ بطهور»(1) ونحوه مطلق، وباطلاقه يشمل صورة تمكن المكلف من الاتيان بالصلاة معها وعدم تمكنه من ذلك، وعلى هذا فمقتضى القاعدة سقوط الأمر بالصلاة عند عدم تمكن المكلف من الاتيان بها معها، بل قد ذكرنا أنّ الطهارة من الحدث مقوّمة لها، ولذا ورد في بعض الروايات أ نّها ثلث الصلاة (2) ومن هنا قوّينا سقوط الصلاة عن فاقد الطهورين وعدم وجوبها عليه. ولا يفرق في ذلك بين أن يكون للدليل الأوّل أيضاً إطلاق أو لا، وذلك لأنّ إطلاق دليل المقيد حاكم على إطلاق دليل المطلق فيقدّم عليه كما هو واضح.
والثاني كالطمأنينة مثلاً وما شاكل ذلك، فانّ ما دلّ على اعتبارها في الصلاة لا إطلاق له بالاضافة إلى حالة عدم تمكن المكلف من الاتيان بها معها، وذلك لأنّ الدليل على اعتبارها هو الاجماع، ومن المعلوم أنّ القدر المتيقن منه هو
ـــــــــــــــــــــ
(1) الوسائل 1: 365 / أبواب الوضوء ب 1 ح 1.
(2) الوسائل 1: 366 / أبواب الوضوء ب 1 ح 8.

ــ[253]ــ

تحققه وثبوته في حال تمكن المكلف من ذلك لا مطلقاً كما هو ظاهر. وعليه فلا بدّ من أن ننظر إلى دليل الواجب، فإن كان له إطلاق فنأخذ به ونقتصر في تقييده بالمقدار المتيقن وهو صورة تمكن المكلف من الاتيان به لا مطلقاً، ولازم هذا هو لزوم الاتيان به فاقداً لهذا القيد، لعدم الدليل على تقييده به في هذا الحال، ومعه لا مانع من التمسك باطلاقه لاثبات وجوبه فاقداً له. وهذا الذي ذكرناه لا يختص بباب دون باب، بل يعم جميع أبواب الواجبات من العبادات ونحوها. وخلاصة ما ذكرناه هي أ نّه لا فرق بين كون القيد زماناً وزمانياً من هذه الناحية أصلاً كما هو واضح، هذا ما أفاده (قدس سره) مع توضيح منّي.
والانصاف أ نّه في غاية الصحة والمتانة ولا مناص من الالتزام به. نعم، بعض عباراته لا يخلو عن مناقشة وهو قوله (قدس سره): وبالجملة التقييد بالوقت كما يكون بنحو وحدة المطلوب كذلك يكون بنحو تعدد المطلوب... إلخ، وذلك لما عرفت من أنّ الدليل الدال على التقييد ظاهر في تقييد الواجب من الأوّل، سواء أكان الدليل الدال عليه متصلاً أم كان منفصلاً، فلا فرق بين المتصل والمنفصل من هذه الناحية أصلاً، وأمّا دلالته على كمال المطلوب في الوقت فهو يحتاج إلى عناية زائدة، وإلاّ فهو في نفسه ظاهر في تقييد أصل المطلوب لا كماله، ومن هنا لم يتوهّم أحد ولا يتوهّم ذلك في بقية القيود، بأن يكون أصل الصلاة مثلاً مطلوباً على الاطلاق وتقييدها بهذه القيود مطلوباً آخر على نحو كمال المطلوب، كيف فانّ لازم ذلك هو جواز الاتيان بالصلاة فاقدة لتلك القيود اختياراً، وهذا كما ترى.
وقد تحصّل من مجموع ما ذكرناه: أنّ الدليل المقيد ظاهر في تقييد دليل الواجب من الابتداء، ويدل على أنّ مراد المولى بحسب اللب والواقع هو المقيد دون المطلق، ولا يفرق في ذلك بين كون الدليل الدال على التقييد متصلاً أو

ــ[254]ــ

منفصلاً، وكون القيد زماناً أو زمانياً، غاية الأمر إذا كان منفصلاً ولم يكن له إطلاق وكان لدليل الواجب إطلاق، فيدل على تقييده بحال دون آخر وبزمان دون زمان آخر، وهكذا.
فالنتيجة في المقام هي: أنّ مقتضى القاعدة سقوط الأمر عن الموقّت بانقضاء وقته، وعدم وجوب الاتيان به في خارج الوقت إلاّ فيما قامت قرينة على ذلك.
ثمّ إنّ فيما ثبت فيه القضاء لو ترك المكلف الواجب في الوقت، فإن أحرزنا ذلك وجداناً أو تعبداً بأصل أو أمارة فلا إشكال في وجوب قضائه والاتيان به في خارج الوقت، بلا فرق في ذلك بين القول بكون القضاء تابعاً للأداء والقول بكونه بأمر جديد، وهذا واضح ولا كلام فيه، والكلام إنّما هو فيما إذا لم يحرز ذلك لا وجداناً ولا تعبداً، هذا من ناحية.
ومن ناحية اُخرى: أ نّه لا بدّ من فرض الكلام فيما إذا لم تجر قاعدة الحيلولة المقتضية لعدم الاعتبار بالشك بعد خروج الوقت، فان مقتضاها عدم وجوب الاتيان به في خارج الوقت، أو قاعدة الفراغ فيما إذا فرض كون الشك في صحة العمل وفساده بعد الفراغ عن أصل وجوده وتحقّقه في الوقت، فانّ في مثله يحكم بصحته من ناحية تلك القاعدة، وإلاّ فلا يجب الاتيان به في خارج الوقت.
فإذن لا بدّ من فرض الكلام فيما نحن فيه إمّا مع قطع النظر عن جريانهما، أو فيما إذا لم تجريا، كما إذا فرض أنّ شخصاً توضّأ بمائع معيّن فصلّى، ثمّ بعد مضي الوقت حصل له الشك في أنّ هذا المائع الذي توضّأ به هل كان ماءً ليكون وضوءه صحيحاً، أو لم يكن ماءً ليكون وضوءه فاسداً، أو فرض أ نّه صلّى إلى جهة ثمّ بعد خروج الوقت شكّ في أنّ القبلة هي الجهة التي صلّى إليها، أو جهة اُخرى وهكذا، ففي أمثال ذلك لا يجري شيء منهما.
أمّا قاعدة الحيلولة، فلأنّ موردها الشك في أصل وجود العمل في الخارج

ــ[255]ــ

وتحققه، لا فيما إذا كان الشك في صحته وفساده بعد الفراغ عن أصل وجوده، فإذن لا يكون مثل هذين المثالين من موارد تلك القاعدة.
وأمّا قاعدة الفراغ، فلما حققناه في محلّه(1) من أنّ قاعدة الفراغ إنّما تجري فيما إذا لم تكن صورة العمل محفوظة، كما إذا شكّ في صحة الصلاة مثلاً بعد الفراغ عنها من ناحية الشك في ترك جزء أو شرط منها، ففي مثل ذلك تجري القاعدة، لأنّ صورة العمل غير محفوظة، بمعنى أنّ المكلف لا يعلم أ نّه أتى بالصلاة مع القراءة مثلاً أو بدونها أو مع الطمأنينة أو بدونها وهكذا، وهذا هو مرادنا من أنّ صورة العمل غير محفوظة.
وأمّا إذا كانت محفوظة وكان الشك في مطابقة العمل للواقع وعدم مطابقته له، كما في مثل هذين المثالين فلا تجري القاعدة، لفرض أنّ المكلف يعلم أ نّه أتى بالصلاة إلى هذه الجهة المعيّنة أو مع الوضوء من هذا المائع ولا يشك في ذلك أصلاً، والشك إنّما هو في أمر آخر وهو أنّ هذه الجهة التي صلّى إليها قبلة أو ليست بقبلة، وهذا المائع الذي توضأ به ماء أو ليس بماء، ومن المعلوم أنّ قاعدة الفراغ لا تثبت أنّ هذه الجهة قبلة وأنّ ما أتى به وقع إلى القبلة ومطابق للواقع، لما عرفت من اختصاص القاعدة بما إذا لم تكن صورة العمل محفوظة، وأمّا إذا كانت كذلك وإنّما الشك كان في مصادفته للواقع وعدم مصادفته، فلا يكون مشمولاً لتلك القاعدة، وبما أنّ صورة العمل في هذين المثالين محفوظة كما عرفت، وأنّ ما أتى به المكلف في الخارج معلوم كمّاً وكيفاً ولا يشك فيه أصلاً، والشك إنّما هو في مصادفته للواقع وعدم مصادفته له، وقاعدة الفراغ لا تثبت المصادفة، فعندئذ يقع الكلام في هذين المثالين وما شاكلهما، وأ نّه هل يجب
ـــــــــــــــــــــ
(1) مصباح الاُصول 3: 370 ـ 371.

ــ[256]ــ

قضاء تلك الصلوات خارج الوقت أم لا، فإذن تظهر الثمرة بين القولين.
وذلك لأ نّه لو قلنا بكون القضاء تابعاً للأداء ومطابقاً للقاعدة فيجب قضاء تلك الصلوات، والوجه في ذلك واضح، وهو أنّ التكليف المتعلق بها معلوم ولا يشك في ذلك أصلاً، والشك إنّما هو في سقوطه وفراغ ذمّة المكلف عنه، ومعه لا مناص من الالتزام بقاعدة الاشتغال، لحكم العقل بأنّ الشغل اليقيني يقتضي الفراغ اليقيني. نعم، المعلوم سقوطه إنّما هو التكليف عن المقيد لاستحالة بقائه بعد خروج الوقت من ناحية استلزامه التكليف بالمحال، وأمّا سقوط التكليف عن المطلق فغير معلوم، لفرض أنّ ما أتى به المكلف لا نعلم بصحته ليكون مسقطاً له، فإذن يدخل المقام في كبرى موارد الشك في فراغ الذمّة بعد العلم باشتغالها بالتكليف، ومن المعلوم أنّ المرجع في تلك الكبرى هو قاعدة الاشتغال.
وأمّا إذا قلنا بأنّ القضاء بأمر جديد كما هو الصحيح، لما ذكرناه من أنّ القرينة على التقييد سواء أكانت متصلة أم كانت منفصلة توجب تقييد الواجب من الأوّل، فلا يمكن عندئذ التمسك باطلاقه إلاّ في صورة واحدة، كما تقدّمت(1) بشكل واضح، وعلى هذا فلا يجب الاتيان بها في خارج الوقت، وذلك لأنّ المكلف شاك عندئذ في أصل حدوث التكليف بعد خروج الوقت، لفرض أنّ التكليف بالموقت قد سقط يقيناً، إمّا من ناحية امتثاله في وقته وحصول غرضه، وإمّا من ناحية عدم القدرة عليه فعلاً، فإذن لا مانع من الرجوع إلى أصالة البراءة عنه.
فالنتيجة: أنّ الثمرة تظهر بين القولين في المثالين المزبورين وما شاكلهما، فانّه على القول الأوّل ـ أي القول بكون القضاء تابعاً للأداء ـ فالمرجع فيهما وفي ما
ـــــــــــــــــــــ
(1) في ص 253.

ــ[257]ــ

شاكلهما قاعدة الاشتغال، كما تقدّم بشكل واضح، وعلى القول الثاني ـ أي القول بكونه أمر جديد ـ فالمرجع في أمثالهما قاعدة البراءة، كما عرفت الآن.




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net