الأمر بالأمر بفعل - الكلام في مشروعية عبادات الصبي 

الكتاب : محاضرات في اُصول الفقه - الجزء الثالث   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 5338


ــ[261]ــ
 

الأمر بالأمر بفعل
أمر بذلك الفعل أم لا

توضيح ذلك أ نّه بحسب مقام الثبوت والواقع يتصوّر على وجوه:
الأوّل: أن يكون غرض المولى قائماً بخصوص الأمر الثاني باعتبار أ نّه فعل اختياري للمكلف، فلا مانع من أن يقوم غرض المولى به وكونه متعلقاً لأمره كسائر أفعاله الاختيارية مثل الصلاة والصوم والحج وما شاكل ذلك. وعلى الجملة فلا مانع من أن يأمر الشارع بايجاد أمر بشيء أو إيجاد نهي عن آخر كما هو الحال في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الثاني: أن يكون قائماً بالفعل الصادر من المأمور الثاني، فيكون الأمر الثاني ملحوظاً على نحو الطريقية، من دون أن يكون له دخل في غرض المولى أصلاً، ولذا لو صدر الفعل من المأمور الثاني من دون توسط أمر من المأمور الأوّل لحصل الغرض ولا يتوقف حصوله على صدور الأمر منه. فإذن ليس له شأن ما عدا كونه واقعاً في طريق إيصال أمر المولى إلى هذا الشخص، فهذا القسم في طرفي النقيض مع القسم الأوّل، فانّ غرض المولى في القسم الأوّل متعلق بالأمر الصادر من المأمور الأوّل دون الفعل الصادر من الثاني، فيكون المأمور به هو الأمر فقط، وفي هذا القسم متعلق بالفعل دون الأمر، بمعنى أنّ المأمور به هو

ــ[262]ــ

الفعل، والأمر طريق إلى إيصال أمر المولى إلى المكلف بهذا الفعل، وهذا القسم هو الغالب والمتعارف من الأمر بالأمر بشيء لا القسم الأوّل.
الثالث: أن يكون الغرض قائماً بهما معاً، بمعنى أنّ الفعل مطلوب من المأمور الثاني بالأمر من المأمور الأوّل لا مطلقاً، بحيث لو اطّلع المكلف من طريق آخر على أمر المولى من دون واسطة أمره لم يجب عليه إتيانه، فوجوب إتيانه عليه منوط بأن يكون اطلاعه على أمر المولى بواسطة أمره لا مطلقاً، فإذن هذا القسم يكون واسطةً بين القسم الأوّل والثاني.
ونقطة الفرق بين هذه الوجوه: هي أ نّه على الوجه الأوّل لا يجب الفعل على الثاني، لفرض أنّ غرض المولى يحصل من صدور الأمر من الأوّل، سواء صدر الفعل من الثاني أيضاً أم لا، فإذا صدر الأمر منه فقد حصل الغرض. وعلى الوجه الثاني يجب الفعل عليه ولو فرض أ نّه اطّلع على أمر المولى به من طريق آخر غير الأمر من المأمور الأوّل. وعلى الوجه الثالث يجب عليه الاتيان به إذا أمر به المأمور الأوّل لا مطلقاً، هذا من ناحية. ومن ناحية اُخرى: أنّ الظاهر من الأمر بالأمر بشيء هو القسم الثاني دون القسم الأوّل والثالث، ضرورة أ نّه المتفاهم من ذلك عرفاً، فلو أمر المولى أحداً بأن يأمر زيداً مثلاً بفعل كذا، الظاهر منه هو هذا القسم دون غيره.
ومن هنا يظهر أنّ ما أفاده المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) (1) من أ نّه لا دلالة بمجرد الأمر بالأمر بشيء على كونه أمراً به، بل لا بدّ للدلالة عليه من قرينة، لا يمكن المساعدة عليه بوجه، لما عرفت من أ نّه دال على ذلك بمقتضى الفهم العرفي، ولا حاجة في الدلالة عليه من نصب قرينة.
ـــــــــــــــــــــ
(1) كفاية الاُصول: 144.

ــ[263]ــ

ثمّ إنّ الثمرة المترتبة على هذا النزاع هي شرعية عبادة الصبي بمجرد ما ورد في الروايات من قوله (عليه السلام): «مروهم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين»(1) ونحوه مما ورد في أمر الولي للصبي، فانّه بناءً على ما ذكرناه من أنّ الأمر بالأمر بشيء ظاهر عرفاً في كونه أمراً بذلك الشيء، تدل تلك الروايات على شرعية عبادة الصبي، لفرض عدم قصور فيها، لا من حيث الدلالة كما عرفت، ولا من حيث السند، لفرض أنّ فيها روايات معتبرة.
قد يقال كما قيل: إنّه يمكن إثبات شرعية عبادة الصبي بعموم أدلة التشريع كقوله تعالى: (وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ)(2) وقوله تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ا لَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ)(3) وما شاكلهما، ببيان أنّ تلك الأدلة باطلاقها تعمّ البالغ وغيره، فانّها كما تدل على تشريع هذه الأحكام للبالغين، كذلك تدل على تشريعها لغيرهم، فلا فرق بينهما من هذه الناحية. وحديث «رفع القلم عن الصبي حتّى يحتلم» (4) لا يقتضي أزيد من رفع الالزام، لفرض أنّ هذا الحديث ورد في مورد الامتنان، ومن المعلوم أنّ المنّة إنّما هي في رفع الحكم الالزامي، وأمّا رفع الحكم غير الالزامي فلا منة فيه أبداً. فإذن هذا الحديث يرفع الالزام عن عبادة الصبي فحسب لا أصل المحبوبية عنها، وعلى هذا فتكون عباداته مشروعة لا محالة. فالنتيجة أ نّه مع قطع النظر عن تلك الروايات يمكن إثبات مشروعية عباداته(5).
ـــــــــــــــــــــ
(1) الوسائل 4: 18 / أبواب أعداد الفرائض ب 3 ح 5 (مع اختلاف يسير).
(2) البقرة 2: 43.
(3) البقرة 2: 183.
(4) الوسائل 1: 42 / أبواب مقدّمة العبادات ب 4.
(5) حقائق الاُصول 1: 342.

ــ[264]ــ

ولنأخذ بالمناقشة على هذه النظرية وملخصها: أ نّا قد ذكرنا غير مرّة أنّ الوجوب عبارة عن اعتبار المولى الفعل على ذمّة المكلف وإبرازه في الخارج بمبرز من لفظ أو نحوه، ولا نعقل له معنىً ما عدا ذلك، وعلى هذا فليس في مورد تلك العمومات إلاّ اعتبار الشارع الصلاة والصوم والحج وما شاكلها على ذمّة المكلف وإبرازه في الخارج بها، أي بتلك العمومات، غاية الأمر إن قامت قرينة من الخارج على الترخيص فينتزع منه الاستحباب وإلاّ فينتزع منه الوجوب، وحيث إنّه لا قرينة على الترخيص في موارد هذه العمومات، فلا محالة ينتزع منه الوجوب، وقد عرفت أ نّه لا شأن له ما عدا ذلك.
وعلى هذا الضوء فحديث الرفع وهو قوله (عليه السلام): «رفع القلم عن الصبي حتّى يحتلم» يكون رافعاً لذاك الاعتـبار ـ أي اعتبار الشارع هذه الأفعال على ذمّة المكلف ـ فيدل على أنّ الشارع لم يعتبر تلك الأفعال على ذمّة الصبي، وعليه فكيف يمكن إثبات مشروعية عباداته بهذه العمومات، لفرض أنّ مفاده هو أنّ قلم الاعتبار والتشريع مرفوع عنه في مقابل وضعه واعتباره في ذمّته. فإذن تلك العمومات أجنبية عن الدلالة على مشروعية عباداته بالكلّية.
وبكلمة اُخرى: أنّ الأمر سواء أكان عبارة عن الارادة أو عن الطلب أو عن الوجوب أو عن الاعتبار النفساني المبرز في الخارج بمبرز ما، بسيط في غاية البساطة، وعلى هذا فمدلول هذه العمومات سواء أكان طلب هذه الأفعال أو وجوبها أو إرادتها أو اعتبارها في ذمّة المكلف، لا محالة يقيّد بغير الصبي والمجنون وما شاكلهما بمقتضى حديث الرفع، لفرض أنّ مفاد الحديث هو عدم تشريع مدلول تلك العمومات للصبي ونحوه، فإذن كيف تكون هذه العمومات دالة على مشروعية عبادته من الصوم والصلاة وما شاكلهما.

ــ[265]ــ

وتوهّم أنّ الوجوب مركّب من طلب الفعل مع المنع من الترك، والمرفوع بحديث الرفع هو المنع من الترك لا أصل الطلب بل هو باق، وعليه فتدلّ العمومات على مشروعيتها خاطئ جداً وغير مطابق للواقع قطعاً، والوجه في ذلك:
أمّا أوّلاً: فلأ نّه على تقدير تسليم كون الوجوب هو المجعول في موارد هذه العمومات، إلاّ أ نّه لا شبهة في أ نّه أمر بسيط، وليس هو بمركب من طلب الفعل مع المنع من الترك، وإلاّ لكان تركه محرّماً وممنوعاً شرعاً، مع أنّ الأمر ليس كذلك، ضرورة أنّ تركه ليس بمحرّم، بل فعله واجب، والعقاب إنّما هو على تركه لا على ارتكاب محرّم. أو فقل: إنّ لازم ذلك هو انحلال وجوب كل واجب إلى حكمين: أحدهما متعلق بفعله والآخر متعلق بتركه، وهذا باطل جزماً، كما ذكرناه غير مرّة.
ونتيجة ما ذكرناه هي أنّ الوجوب أمر بسيط لا تركيب فيه أصلاً، هذا من ناحية. ومن ناحية اُخرى: أنّ هذا مرفوع عن الصبي بمقتضى حديث الرفع، ومن المعلوم أ نّه بعد رفعه لا دلالة لتلك العمومات على مشروعية عباداته كما هو واضح.
وأمّا ثانياً: فلأ نّه على فرض تسليم أنّ الوجوب مركب من طلب الفعل مع المنع من الترك، مع ذلك لا تتم هذه النظرية، وذلك لأ نّها ترتكز على أن يبقى الجنس بعد ارتفاع الفصل وهو خلاف التحقيق، بل لا يعقل بقاؤه بعد ارتفاعه، كيف فانّ الفصل مقوّم له، وعلى هذا فلا محالة يرتفع طلب الفعل بارتفاع المنع من الترك المقوّم له، وأمّا إثبات الطلب الآخر فهو يحتاج إلى دليل، فالعمومات لا تدل على ذلك كما هو ظاهر، ومن هنا قد ذكرنا (1) أنّ نسخ الوجوب لا يدل
ـــــــــــــــــــــ
(1) في ص 203.

ــ[266]ــ

على بقاء الجواز أو الرجحان.
وقد تحصّل من ذلك: أنّ هذه النظرية إنّما تتم فيما إذا كان الدليل على مشروعية هذه العبادات على نحو الاطلاق شيء، والدليل على وجوبها ولزومها شيء آخر، ليكون حديث الرفع ناظراً إلى الدليل الثاني ومقيّداً لمدلوله دون الدليل الأوّل، ولكن الأمر هنا ليس كذلك كما هو واضح. لحدّ الآن قد تبيّن أ نّه لا يمكن إثبات مشروعية عبادات الصبي بتلك العمومات أصلاً.
فالصحيح أنّ الدليل على مشروعيتها إنّما هو تلك الروايات فحسب، ومع قطع النظر عنها أو مع المناقشة فيها كما عن بعض، فلا يمكن إثبات مشروعيتها أصلاً كما عرفت.
ونتائج هذا البحث عدّة نقاط:
الاُولى: أنّ الأمر بالأمر بشيء يتصوّر بحسب مقام الثبوت على وجوه ثلاثة كما تقدّم.
الثانية: أنّ الظاهر من هذه الوجوه بحسب مقام الاثبات الوجه الثاني، وهو ما كان الغرض قائماً بالفعل لا بالأمر الصادر من المأمور الأوّل.
الثالثة: أنّ الثمرة المترتبة على هذا البحث هي مشروعية عبادات الصبيان على تقدير ظهور تلك الروايات في الوجه الثاني أو الثالث كما عرفت.
الرابعة: أنّ ما توهّم من إمكان إثبات شرعية عباداتهم بالعمومات الأوّلية خاطئ جداً، لما عرفت من أنّ تلك العمومات أجنبية عن الدلالة على ذلك بالكلّية بعد تقييدها بحديث الرفع بالبالغين.
الخامسة: أنّ الدليل على شرعية عبادات الصبي إنّما هو الروايات المتقدمة أعني قوله (عليه السلام): «مروهم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين» ونحوه.




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net