مناقشة المشهور في المبنى والبناء - المختار في الفرق بين الأمر والنهي 

الكتاب : محاضرات في اُصول الفقه - الجزء الثالث   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 10402


ــ[272]ــ

وقد تحصّل مما ذكرناه أنّ النقطة الرئيسية لنظريتهم أمران:
الأوّل: أنّ النهي يشترك مع الأمر في الدلالة على الطلب، فكما أنّ الأمر يدل عليه بهيئته فكذلك النهي. نعم، يمتاز النهي عن الأمر في أنّ متعلق الطلب في النهي صرف ترك الطبيعة، وفي الأمر صِرف وجودها.
الثاني: أنّ قضية النهي عقلاً من ناحية متعلقه تختلف عن قضية الأمر كذلك، باعتبار أنّ متعلق النهي حيث إنّه صِرف الترك فلا يمكن تحققه إلاّ باعدام جميع أفراد تلك الطبيعة في الخارج عرضاً وطولاً، ضرورة أ نّه مع الاتيان بواحد منها لا يتحقق صِرف تركها خارجاً، ومتعلق الأمر حيث إنّه صِرف الوجود فيتحقق بايجاد فرد منها، وبعده لا يبقى مقتض لايجاد فرد آخر وهكذا.
ولنأخذ بالمناقشة في كلا هذين الأمرين معاً، أعني المبنى والبناء.
أمّا الأوّل: فيردّه أنّ النهي بما له من المعنى مادةً وهيئة يباين الأمر كذلك، فلا اشتراك بينهما في شيء أصلاً. وهذا لا من ناحية ما ذكره جماعة من المحققين من أنّ النهي موضوع للدلالة على الزجر والمنع عن الفعل باعتبار اشتمال متعلقه على مفسدة إلزامية، والأمر موضوع للدلالة على البعث والتحريك نحو الفعل باعتبار اشتماله على مصلحة إلزامية، وذكروا في وجه ذلك هو أنّ النهي لا ينشأ من مصلحة لزومية في الترك ليقال إنّ مفاده طلبه، بل هو ناشئ من مفسدة لزومية في الفعل، وعليه فلا محالة يكون مفاده الزجر والمنع عنه، فإذن لا وجه للقول بأنّ مفاده طلب الترك أصلاً.
فما ذكرناه من أنّ النهي بما له من المعنى يباين الأمر كذلك ليس من هذه الناحية، بل من ناحية اُخرى.
فلنا دعويان:

ــ[273]ــ

الاُولى: أنّ التباين بين الأمر والنهي في المعنى ليس من هذه الناحية.
الثانية: أ نّه من ناحية اُخرى.
أمّا الدعوى الاُولى: فلما ذكرناه غير مرّة من أنّ تفسير الأمر مرّةً بالطلب ومرّة اُخرى بالبعث والتحريك، ومرّة ثالثة بالارادة، وكذا تفسير النهي تارةً بالطلب، وتارة اُخرى بالزجر والمنع، وتارة ثالثة بالكراهة لا يرجع بالتحليل العلمي إلى معنىً محصّل، ضرورة أنّ هذه مجرد ألفاظ لا تتعدى عن مرحلة التعبير وليس لها واقع موضوعي أبداً.
نعم، إنّ صيغة الأمر مصداق للبعث والتحريك لا أ نّهما معناها، كما أ نّها مصداق للطلب والتصدي، وكذلك صيغة النهي مصداق للزجر والمنع، وليس الزجر والمنع معناها، وأمّا الارادة والكراهة فليستا معنى الأمر والنهي بالضرورة، لاستحالة تعلق الارادة بمعنى الاختيار، وكذلك ما يقابلها من الكراهة بفعل الغير. نعم، يتعلق الشوق ومقابله بفعل الغير، ولا يحتمل أن يكونا معنى الأمر والنهي، هذا من ناحية.
ومن ناحية اُخرى: أ نّا قد ذكرنا في محلّه أ نّه لا معنى للارادة أو الكراهة التشريعية في مقابل التكوينية، ولا نعقل لها معنىً محصّلاً ما عدا الأمر أو النهي.
فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين: هي أ نّه لا معنى لتفسير الأمر بالارادة والنهي بالكراهة.
وخلاصة الكلام: كما أ نّه لا أصل لما هو المشهور من تفسير الأمر بطلب الفعل وتفسير النهي بطلب الترك، كذلك لا أصل لما عن جماعة من تفسير الأوّل بالبعث والتحريك، والثاني بالزجر والمنع.
وأمّا الدعوى الثانية: فيقع الكلام فيها مرّةً في معنى الأمر، ومرّةً اُخرى في

ــ[274]ــ

معنى النهي.
أمّا الكلام في الأوّل: فقد تقدّم في بحث الأوامر بشكل واضح أ نّه إذا حلّلنا الأمر المتعلق بشيء تحليلاً موضوعياً فلا نعقل فيه ما عدا شيئين:
أحدهما: اعتبار الشارع ذلك الشيء في ذمّة المكلف من جهة اشتماله على مصلحة ملزمة.
وثانيهما: إبراز ذلك الأمر الاعتباري في الخارج بمبرز كصيغة الأمر أو ما يشبهها، فالصيغة أو ما شاكلها وضعت للدلالة على إبراز ذلك الأمر الاعتباري النفساني، لا للبعث والتحريك ولا للطلب. نعم، قد عرفت أنّ الصيغة مصداق للبعث والطلب ونحو تصدٍّ إلى الفعل، فانّ البعث والطلب قد يكونان خارجيين وقد يكونان اعتباريين، فصيغة الأمر أو ما شاكلها مصداق للبعث والطلب الاعتباري لا الخارجي، ضرورة أ نّها تصدٍّ في اعتبار الشارع إلى إيجاد المادة في الخارج وبعث نحوه، لا تكويناً وخارجاً كما هو واضح.
ونتيجة ما ذكرناه أمران:
الأوّل: أنّ صيغة الأمر وما شاكلها موضوعة للدلالة على إبراز الأمر الاعتباري النفساني، وهو اعتبار الشارع الفعل على ذمّة المكلف، ولا تدل على أمر آخر ما عدا ذلك.
الثاني: أ نّها مصداق للبعث والطلب لا أ نّهما معناها.
وأمّا الكلام في الثاني: فالأمر أيضاً كذلك عند النقد والتحليل، وذلك ضرورة أ نّا إذا حلّلنا النهي المتعلق بشيء تحليلاً علمياً لا نعقل له معنىً محصّلاً ما عدا شيئين:
أحدهما: اعتبار الشارع كون المكلف محروماً عن ذلك الشيء باعتبار

ــ[275]ــ

اشتماله على مفسدة ملزمة وبعده عنه.
ثانيهما: إبراز ذلك الأمر الاعتباري في الخارج بمبرز كصيغة النهي أو ما يضاهيها، وعليه فالصيغة أو ما يشاكلها موضوعة للدلالة على إبراز ذلك الأمر الاعتباري النفساني، لا للزجر والمنع، نعم هي مصداق لهما.
ومن هنا يصح تفسير النهي بالحرمة باعتبار دلالته على حرمان المكلف عن الفعل في الخارج، كما أ نّه يصح تفسير الأمر بالوجوب بمعنى الثبوت باعتبار دلالته على ثبوت الفعل على ذمّة المكلف، بل هما معناهما لغةً وعرفاً، غاية الأمر الحرمة مرّة حرمة تكوينية خارجية كقولك: الجنّة مثلاً محرّمة على الكفار ونحو ذلك، فانّ استعمالها في هذا المعنى كثير عند العرف، بل هو أمر متعارف بينهم، ومرّة اُخرى حرمة تشريعية كاعتبار المولى الفعل محرّماً على المكلف في عالم التشريع وإبراز ذلك بقوله: لا تفعل أو ما يشابه ذلك، فيكون قوله هذا مبرزاً لذلك ودالاًّ عليه، وكذا الثبوت مرّة ثبوت تكويني خارجي، ومرّة اُخرى ثبوت تشريعي، فصيغة الأمر أو ما شاكلها تدل على الثبوت التشريعي وتبرزه.
وعلى الجملة: فالأمر والنهي لايدلاّن إلاّ على ما ذكرناه لا على الزجر والمنع والبعث والتحريك. نعم، المولى في مقام الزجر عن فعل باعتبار اشتماله على مفسدة لزومية يزجر عنه بنفس قوله: لا تفعل أو ما شاكله، غاية الأمر الزجر قد يكون خارجياً، كما إذا منع أحد آخر عن فعل في الخارج، وقد يكون بقوله: لا تفعل أو ما يشبه ذلك، فيكون قوله لا تفعل عندئذ مصداقاً للزجر والمنع، لا أ نّه وضع بازائه، كما أنّ الطلب قد يكون طلباً خارجياً وتصدياً نحو الفعل في الخارج كطالب ضالة أو طالب العلم أو نحو ذلك، وقد يكون طلباً وتصدياً في عالم الاعتبار نحو الفعل فيه بقوله: افعل أو ما يشبه ذلك، فيكون قوله: افعل وقتئذ مصداقاً للطلب والتصدي، لا أ نّه وضع بازائه.

ــ[276]ــ

وعلى ضوء بياننا هذا قد ظهر أنّ الأمر والنهي مختلفان بحسب المعنى، فانّ الأمر معناه الدلالة على ثبوت شيء في ذمّة المكلف، والنهي معناه الدلالة على حرمانه عنه، ومتحدان بحسب المتعلق، فانّ ما تعلق به الأمر بعينه هو متعلق النهي، فلا فرق بينهما من هذه الناحية أصلاً.
والوجه في ذلك واضح، وهو أ نّه بناءً على وجهة نظر العدلية من أنّ الأحكام الشرعية تابعة للمصالح والمفاسد في متعلقاتها، فلا محالة يكون النهي كالأمر متعلقاً بالفعل، ضرورة أنّ النهي عن شيء ينشأ عن مفسدة لزومية فيه وهي الداعي إلى تحريمه والنهي عنه، ولم ينشأ عن مصلحة كذلك في تركه، لتدعو إلى طلبه، وهذا واضح. فإذن لا مجال للقول بأنّ المطلوب في النواهي هو ترك الفعل ونفس أن لا تفعل، إلاّ أن يدّعى أنّ غرضهم من ذلك هو أ نّه مطلوب بالعرض وقد اُخذ مكان ما بالذات، ولكن من الواضح أنّ إثبات هذه الدعوى في غاية الاشكال.
وقد تحصّل من ذلك: أ نّه لا شبهة في أنّ متعلق الأمر بعينه هو ما تعلق به النهي، فلا فرق بينهما من ناحية المتعلق أبداً، والفرق بينهما إنّما هو من ناحية المعنى الموضوع له، كما مضى.
عدّة نقاط فيما ذكرناه:
الاُولى: أنّ كلاً من الأمر والنهي اسم لمجموع المركب من الأمر الاعتباري النفساني وإبرازه في الخارج، فلا يصدق على كل منهما، ضرورة أ نّه لا يصدق على مجرد اعتبار المولى الفعل على ذمّة المكلف بدون إبرازه في الخارج، كما أ نّه لا يصدق على مجرّد إبرازه بدون اعتباره شيئاً كذلك، وكذا الحال في النهي، وهذا ظاهر. ونظير ذلك ما ذكرناه في بحث الانشاء والاخبار من أنّ العقود والايقاعات كالبيع والاجارة والطلاق والنكاح وما شاكل ذلك أسام لمجموع

ــ[277]ــ

المركب من الأمر الاعتباري النفساني وإبراز ذلك في الخارج بمبرز، فلا يصدق البيع مثلاً على مجرّد ذلك الأمر الاعتباري، أو على مجرد ذلك الابراز الخارجي، كما تقدّم هناك بشكل واضح.
الثانية: أنّ النزاع المعروف بين الأصحاب من أنّ متعلق النهي هل هو ترك الفعل ونفس أن لا تفعل، أو الكف عنه، باطل من أصله، ولا أساس له أبداً.
الثالثة: أنّ نقطتي الاشتراك والامتياز بين الأمر والنهي على وجهة نظرنا ونقطتي الاشتراك والامتياز بينهما على وجهة نظر المشهور متعاكستان، فانّ الأمر والنهي على وجهة نظر المشهور كما عرفت مختلفان بحسب المعنى ومتفقان في المتعلق. وعلى وجهة نظرنا مختلفان في المعنى، ومتفقان في المتعلق، كما مرّ.
الرابعة: أنّ الأمر والنهي مصداق للبعث والتحريك والزجر والمنع، لا أ نّهما موضوعان بازائهما، كما سبق.




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net