إرشادية النواهي الواردة في العبادات إلى المانعية - انقسام الأمر بالترك إلى الضمني والاستقلالي 

الكتاب : محاضرات في اُصول الفقه - الجزء الثالث   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 4899


وعلى ضوء هذا البيان يظهر حال النواهي الواردة في أبواب العبادات، منها ما ورد في خصوص باب الصلاة كموثقة سماعة قال: «سئل أبو عبدالله (عليه السلام) عن جلود السباع، فقال: اركبوها ولا تلبسوا شيئاً منها تصلّون فيه»(1) وما شـاكلها من الروايات الدالة على ذلك. وصحيحة محمّد بن مسلم قال: «سألته عن الجلد الميت أيلبس في الصلاة إذا دبغ ؟ قال (عليه السلام): لا ولو دبغ سـبعين مرّة»(2) وصحيحة محمّد بن أبي عمير عن غير واحد عن أبي عبدالله (عليه السلام): «في الميتة قال: لا تصلّ في شيء منه حتّى في شسع»(3) وقوله (عليه السلام): «لاتصلّ فيه حتّى تغسله»(4) وما شاكل ذلك من الروايات، فانّ هذه الروايات وإن كانت واردة بصورة النهي، إلاّ أ نّها في الحقيقة إرشاد إلى مانعية تلك الاُمور عن الصلاة وتقيد الصلاة بعدمها، لأجل مصلحة كانت في هذا التقييد، لا لأجل مفسدة في نفس تلك الاُمور حال الصلاة، ضرورة أ نّه ليس لبس ما لا يؤكل أو الميتة أو النجس في الصلاة من المحرّمات في الشريعة المقدّسة.
نعم، الاتيان بالصلاة عندئذ بقصد الأمر تشريع ومحرّم، وهذا خارج عن محل الكلام، فانّ الكلام في حرمة هذه القيود، لا في حرمة الصلاة. على أنّ
ـــــــــــــــــــــ
(1) الوسائل 4: 354 / أبواب لباس المصلي ب 5 ح 6.
(2) الوسائل 4: 343 / أبواب لباس المصلي ب 1 ح 1.
(3) الوسائل 4: 343 / أبواب لباس المصلي ب 1 ح 2 (مع اختلاف يسير).
(4) الوسائل 3: 450 / أبواب النجاسات ب 28 ح 7 (مع اختلاف يسير).

ــ[308]ــ

الكلام في الحرمة الذاتية لا في الحرمة التشريعية، والفرض أنّ هذه الحرمة حرمة تشريعية. فإذن لا يمكن أن تكون هذه النواهي ناشئة عن وجود مفسدة ملزمة فيها.
وعلى الجملة: ففي أمثال هذه الموارد ليس في الواقع وعند التحليل العلمي إلاّ اعتبار الشارع تقييد الصلاة بعدم تلك الاُمور، من جهة اشتمال هذا التقييد على مصلحة ملزمة وإبراز ذلك الاعتبار في الخارج بمبرز، كهذه النواهي أو غيرها. ومن هنا تدل تلك النواهي على مطلوبية هذا التقييد ومانعية تلك الاُمور عن الصلاة، ضرورة أ نّا لا نعني بالمانع إلاّ ما كان لعدمه دخل في المأمور به، وهذا معنى كون هذه النواهي إرشاداً إلى مانعية هذه الاُمور وتقيّد الصلاة بعدمها، هذا كلّه فيما إذا كان الترك مأموراً به بالأمر الضمني.
وقد يكون الترك مأموراً به بالأمر الاستقلالي، بأن يعتبره المولى على ذمّة المكلف باعتبار اشتماله على مصلحة ملزمة، ويبرزه في الخارج بمبرز، سواء أكان ذلك المبرز صيغة أمر أم نهي، لما عرفت من أ نّه لا شأن للمبرز ـ بالكسر ـ أصلاً ما عدا إبرازه ذلك الأمر الاعتباري في الخارج، والعبرة إنّما هي للمبرز ـ بالفتح ـ فانّه إذا كان ناشئاً عن مصلحة في متعلقه سواء أكان متعلقه فعلاً أم تركاً، فهو أمر حقيقة وإن كان مبرزه في الخارج صيغة النهي، وإذا كان ناشئاً عن مفسدة في متعلقه كذلك، فهو نهي حقيقة وإن كان مبرزه في الخارج صيغة الأمر أو ما يشبهها.
ونتيجة ما ذكرناه هي أنّ الأمر المتعلق بالترك على قسمين:
أحدهما: أ نّه أمر ضمني متعلق بعدم إيجاد شيء في العبادات أو المعاملات.
وثانيهما: أ نّه أمر استقلالي متعلق بعدم إيجاد شيء مستقلاً.

ــ[309]ــ

أمّا القسم الأوّل: فهو بمكان من الكثرة في أبواب العبادات والمعاملات.
وأمّا القسم الثاني: فهو قليل جداً. نعم، يمكن أن يكون الصوم من هذا القبيل، باعتبار أنّ حقيقته عبارة عن ترك عدّة اُمور كالأكل والشرب والجماع والارتماس في الماء ونحو ذلك، وليست عبارة عن عنوان وجودي بسيط متولد من هذه التروك في الخارج، فإذن الأمر بالصوم ناش عن قيام مصلحة ملزمة في هذه التروك، ولم ينشأ عن قيام مفسدة كذلك في فعل هذه الاُمور، ولذا يقال إنّ الصوم واجب، ولا يقال إنّ فعل المفطرات محرّم. وعليه فلا محالة يكون مردّ النهي عن كل من الأكل والشرب والجماع والارتماس في الماء في نهار شهر رمضان إلى اعتبار تروك هذه الاُمور على ذمّة المكلف باعتبار وجود مصلحة إلزامية فيها. فالنهي عن كل واحد منها إرشاد إلى دخل تركه في حقيقة الصوم، وأ نّه مأمور به بالأمر الضمني.
فالنتيجة هي أنّ مجموع هذه التروك مأمور به بالأمر الاستقلالي، وكل منها مأمور به بالأمر الضمني.
ومن هذا الباب أيضاً تروك الإحرام في الحج، فانّ كلاً منها واجب على المكلف وثابت في ذمته وليس بمحرّم، ضرورة أنّ النهي عنه غير ناش عن قيام مفسدة إلزامية في فعله، بل هو ناش عن قيام مصلحة ملزمة في نفسه، بمعنى أنّ الشارع قد اعتبر ترك كل من محرمات الإحرام على ذمّة المكلف، وأبرزه في الخارج بمبرز، كصيغة النهي أو ما شاكلها، ومن الواضح جداً أ نّه ليس هنا نهي حقيقةً، بل أمر في الحقيقة والواقع تعلق بترك عدّة من الأفعال في حال الإحرام، فيكون ترك كل منها واجباً مستقلاً على المكلف، وقد تقدّم ما هو ملاك افتراق الأمر والنهي وأ نّه ليس في المبرز ـ بالكسر ـ لما عرفت من أ نّه لا شأن له أصلاً

ــ[310]ــ

ما عدا إبرازه عن واقع الأمر وواقع النهي ـ وهما اعتبار الشارع فعل شيء أو تركه في ذمّة المكلف، واعتباره حرمانه عن فعل شيء أو تركه ـ فالأوّل أمر، سواء أكان مبرزه في الخارج صيغة أمر أم صيغة نهي، والثاني نهي كذلك، أي سواء أكان مبرزه فيه صيغة نهي أم أمر.
نعم، فيما إذا كان مبرز الأمر خارجاً صيغة النهي يصح أن يقال إنّه أمر واقعاً وحقيقةً، ونهي صورةً وشكلاً.
ومن هنا يظهر أنّ تعبير الفقهاء عن تلك الأفعال بمحرّمات الإحرام مبني على ضرب من المسامحة والعناية، وإلاّ فقد عرفت أ نّها ليست بمحرمة بل تركها واجب، وكيف كان فلا إشكال في أنّ هذا القسم قليل جداً في أبواب العبادات والمعاملات، دون القسم الأوّل وهو ما إذا كان الترك متعلقاً للأمر الضمني.
وبتعبير آخر: أنّ الواجبات الضمنية على ثلاثة أقسام:
الأوّل: ما يكون بنفسه متعلقاً للأمر.
الثاني: ما يكون التقيد بوجوده متعلقاً له.
الثالث: ما يكون التقيد بعدمه متعلقاً له، ولا رابع لها. والأوّل هو الأجزاء، لفرض أنّ الأمر متعلق بأنفسها. والثاني هو الشرائط، فانّ الأمر متعلق بتقيد تلك الأجزاء بها لا بنفسها، خلافاً لشيخنا الاُستاذ (قدس سره) حيث إنّه قد ذهب إلى أنّ الشرائط كالأجزاء متعلقة للأوامر الضمنية بنفسها، ولكن قد ذكرنا بطلان ذلك في بحث الواجب المطلق والمشروط (1) فلا نعيد. والثالث هو الموانع،
ـــــــــــــــــــــ
(1) [ بل ذكره في بحث تقسيمات المقدّمة، راجع المجلد الثاني من هذا الكتاب ص116، 129].

ــ[311]ــ

فانّ الأمر متعلق بتقيد هذه الأجزاء بعدمها.




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net