ظهور أدلة المانعية في الانحلال 

الكتاب : محاضرات في اُصول الفقه - الجزء الثالث   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 4696


أمّا الكلام في مقام الاثبات والدلالة: فلا بدّ من ملاحظة أدلة مانعية هذه الاُمور وما شاكلها، هل المستفاد منها مانعيتها على النحو الأوّل أو الثاني أو الثالث أو الرابع؟
أقول: ينبغي لنا أوّلاً ذكر جملة من الروايات الواردة في باب العبادات والمعاملات بالمعنى الأعم ثمّ نبحث عن أنّ المستفاد من تلك الروايات ما هو.
أمّا الروايات الواردة في باب العبادات فنكتفي بذكر خصوص الروايات الواردة في باب الصلاة فحسب وهي كثيرة:
منها: صحيحة محمّد بن مسلم قال: «سألته عن الجلد الميت أيلبس في الصلاة إذا دبغ؟ قال (عليه السلام): لا، ولو دبغ سبعين مرّة» (1).
ـــــــــــــــــــــ
(1) الوسائل 4: 343 / أبواب لباس المصلي ب 1 ح 1.

ــ[336]ــ

ومنها: صحيحة ابن أبي عمير عن غير واحد عن أبي عبدالله (عليه السلام) «في الميتة، قال (عليه السلام): لا تصلّ في شيء منه ولا في شسع» (1).
ومنها: موثقة سماعة قال: «سألته عن لحوم السباع وجلودها، فقال (عليه السلام): أمّا لحومها فمن الطير والدواب فأنا أكرهه، وأمّا الجلود فاركبوا عليها ولا تلبسوا منها شيئاً تصلّون فيه» (2).
ومنها: موثقة ابن بكير قال: «سأل زرارة أبا عبدالله (عليه السلام) عن الصلاة في الثعالب والفنك والسنجاب وغيره من الوبر، فأخرج كتاباً زعم أ نّه إملاء رسول الله (صلّى الله عليه وآله) إنّ الصلاة في وبر كل شيء حرام أكله فالصلاة في وبره وشعره وجلده وبوله وروثه وكل شيء منه فاسد، لا تقبل تلك الصلاة حتّى يصلي في غيره مما أحلّ الله أكله. ثمّ قال: يا زرارة، هذا عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فاحفظ ذلك يا زرارة، فإن كان مما يؤكل لحمه فالصلاة في وبره وبوله وشعره وروثه وألبانه وكل شيء منه جائز إذا علمت أ نّه ذكي وقد ذكّاه الذابح، وإن كان غير ذلك مما قد نهيت عن أكله وحرم عليك أكله، فالصلاة في كل شيء منه فاسد، ذكّاه الذابح أو لم يذكه» (3).
ومنها: قوله (عليه السلام) في صحيحة ابن مسكان «يغسلها ويعيد صلاته»(4).
ومنها: قوله (عليه السلام) في صحيحة محمّد بن مسلم «إذا كنت قد رأيته وهو أكثر من مقدار الدرهم فضيّعت غسله وصليت فيه صلاةً كثيرة فأعد ما
ـــــــــــــــــــــ
(1) الوسائل 4: 343 / أبواب لباس المصلي ب 1 ح 2.
(2) الوسائل 4: 353 / أبواب لباس المصلي ب 5 ح 3 (مع اختلاف يسير).
(3) الوسائل 4: 345 / أبواب لباس المصلي ب 2 ح 1.
(4) الوسائل 3: 429 / أبواب النجاسات ب 20 ح 3 لكن في سندها ابن سنان.

ــ[337]ــ

صليت فيه» (1).
ومنها: قوله (عليه السلام) في صحيحة علي بن جعفر «وإن اشتراه من نصراني فلا يصلّي فيه حتّى يغسله» (2).
ومنها: صحيحة اسـماعيل بن سعد الأحوص في حديث قال: «سألت أبا الحسن الرضا (عليه السلام) هل يصلي الرجل في ثوب إبريسم؟ فقال (عليه السلام): لا» (3).
ومنها: قوله (عليه السلام) في صحيحة محمّد بن عبدالجبار «لا تحلّ الصلاة في حرير
محض»(4).
ومنها: قوله (عليه السلام) في موثقة عمار بن موسى «لا يلبس الرجل الذهب ولا يصلي فيه» (5) ونحوها من الروايات الواردة في هذه الأبواب الدالة على مانعية هذه الاُمور عن الصلاة، وأنّ الصلاة المأمور بها هي الحصة الخاصة منها وهي الحصة المتقيدة بعدم إيقاعها فيها.
وأمّا الروايات الواردة في باب المعاملات فأيضاً كثيرة:
منها: صحيحة الحلبي عن أبي عبدالله (عليه السلام) «قال: ما كان من طعام سميت فيه كيلاً فلا يصلح بيعه مجازفة» (6).
ـــــــــــــــــــــ
(1) الوسائل 3: 431 / أبواب النجاسات ب 20 ح 6.
(2) الوسائل 3: 421 ـ 422 / أبواب النجاسات ب 14 ح 10.
(3) الوسائل 4: 367 / أبواب لباس المصلي ب 11 ح 1.
(4) الوسائل 4: 367 / أبواب لباس المصلي ب 11 ح 2.
(5) الوسائل 4: 413 / أبواب لباس المصلي ب 30 ح 4.
(6) الوسائل 17: 341 / أبواب عقد البيع ب 4 ح 1.

ــ[338]ــ

ومنها: توقيعه (عليه السلام) في مكاتبة الصفار «لا يجوز بيع ما ليس يملك» (1).
ومنها: قـوله (عليه السلام) في صحيحة محمّد بن مسلم «لا تشترها إلاّ برضا أهلها» (2).
ومنها: قوله (عليه السلام) في موثقة سماعة «لا يصلح إلاّ أن يشتري معه ـ العبد الآبق ـ شيئاً آخر» (3).
وغيرها من الروايات الدالة على المنع عن بيع الخمر، والبيع الربوي، والبيع الغرري، وبيع النقدين بدون التقابض في المجلس، وبيع المجهول، وبيع آلات القمار والغـناء، وبيع غير البالغ وما شاكل ذلك مما يعتبر عدمه في صحة المعاملة، سواء أكان من أوصاف العوضين أم كان من أوصاف المتعاملين أم كان من غيرهما.
والحري بنا أن نقول في هذا المقام: هو أنّ هذه النواهي جميعاً نواهي إرشادية فتكون إرشاداً إلى مانعية هذه الاُمور عن صحة العبادات والمعاملات ومبرزةً لاعتبار عدمها فيهما، وهذا معنى إرشادية تلك النواهي، ضرورة أنّ إرشاديتها ليست كارشادية الأوامر والنواهي الواردتين في باب الاطاعة والمعصية، فانّه لا أثر لهما ما عدا الارشاد إلى ما استقلّ به العقل، وهذا بخلاف تلك النواهي فانّها إرشاد إلى حكم مولوي ومبرزة له، وهو تقيد العبادة أو المعاملة بعدم هذا الشيء أو ذاك، فيكون مردّ ذلك إلى أنّ المطلوب هو حصة خاصة من العبادة
ـــــــــــــــــــــ
(1) الوسائل 17: 339 / أبواب عقد البيع ب 2 ح 1.
(2) الوسائل 17: 334 / أبواب عقد البيع ب 1 ح 3.
(3) الوسائل 17: 353 / أبواب عقد البيع ب 11 ح 2.

ــ[339]ــ

أو أنّ الممضاة من المعاملة هي الحصة المتقيدة بعدم ما تعلق به النهي، وتسمية هذه النواهي بالنواهي الارشادية إنّما هي من جهة أ نّها ليست بنواهي حقيقية، وهي اعتبار حرمان المكلف عن متعلقاتها، باعتبار اشتمالها على مفسدة ملزمة لينتزع منها الزجر عنها، ولتكون تلك النواهي عندئذ مصداقاً له، لفرض أ نّه لا مفسدة فيها فلا شأن لها ما عدا كونها مبرزةً لتقييد العبادة أو المعاملة بعدم شيء وإرشاداً إلى مانعيته.
كما أنّ الأوامر الواردة في هذه الأبواب سميت بأوامر إرشادية من ناحية أ نّها ليست بأوامر حقيقية، وأ نّها إرشاد إلى الجزئية أو الشرطية، ولا يترتب عليها ما عدا ذلك، هذا من ناحية.
ومن ناحية اُخرى: أ نّه لا شبهة في ظهور تلك النواهي في الانحلال، وأنّ مانعية هذه الاُمور تنحل بانحلال أفرادها ومصاديقها في الخارج، فيكون كل فرد منها مانعاً مستقلاً، بمعنى أنّ عدم كل منها مأخوذ في عبادة أو معاملة على نحو الاستقلال، والوجه في ذلك: هو أ نّه لا إشكال في أنّ مانعية هذه الاُمور على النحو الأوّل ـ بأن يكون المطلوب صرف تركها في الصلاة أو نحوها ولو آناً ما، ليكون لازمه هو كون المانع وجودها وتحققها في تمام آنات الاشتغال بها، فلا أثر لوجودها في بعض تلك الآنات دون بعضها الآخر ـ تحتاج إلى نصب قرينة تدل على إرادة مانعيتها على هذا الشكل وعناية زائدة، وإلاّ فاطلاقات الأدلة لا تتكفل لارادة المانعية على هذا النحو أصلاً، بل هي لا تخرج عن مجرد الفرض.
وكذا إرادة مانعية هذه الاُمور على النحو الثالث تحتاج إلى عناية زائدة، ضرورة أنّ الاطلاقات لا تتكفل لبيان تقييد الواجب بمجموع تروك هذه الطبائع على نحو العموم المجموعي، ليكون لازم ذلك هو كون المانع صرف

ــ[340]ــ

وجود هذه الطبائع في الخارج، كيف فانّ مقتضى الاطلاق عدم الفرق في المانعية بين الوجود الأوّل والثاني والثالث وهكذا...
وكذا إرادة الصورة الرابعة، ضرورة أ نّها خلاف ظواهر الأدلة، فانّ الظاهر منها هو كون تروك هذه الطبائع بنفسها قيداً، لا أ نّها مقدّمة لحصول القيد في الخارج، فانّ إرادة ذلك تحتاج إلى عناية اُخرى وبيان من المتكلم.
ومن ناحية ثالثة: المفروض أنّ المولى في مقام البيان ولم ينصب قرينةً على إرادة الصورة الاُولى، ولا على إرادة الصورة الثالثة، ولا على إرادة الصورة الرابعة، لما عرفت من أنّ إرادة كل واحدة من هذه الصور تحتاج إلى قرينة ومؤونة زائدة.
ومن ناحية رابعة: أ نّه لم يعقل أن يراد من هذه النواهي ترك هذه الطبائع في ضمن فرد ما من أفرادها العرضية والطولية حال الصلاة، ضرورة أ نّه حاصل قهراً، فلا يمكن إرادته، لأ نّها إرادة ما هو حاصل بالفعل، وهي مستحيلة من الحكيم، فإذن تنتج مقدّمات الحكمة الاطلاق.
ومن ناحية خامسة: قد ذكرنا سابقاً (1) أ نّه لا يترتب على مقدّمات الحكمة ما عدا الاطلاق وعدم التقييد بخصوصية من الخصوصيات، وأمّا كون الاطلاق بدلياً أو شمولياً أو غير ذلك، فهو خارج عن مقتضى المقدّمات، ضرورة أنّ كون المتكلم في مقام البيان وورود الحكم على المقسم، وعدم نصب قرينة على التقييد بصنف خاص دون آخر لا يقتضي إلاّ إطلاق الحكم وعدم تقييده بحصة خاصة، وأمّا اختلاف الاطلاق من حيث الشمول والبدل والتعيين وما شاكل ذلك، فهو من جهة القرائن الخارجية وخصوصيات المورد فانّها تقتضي كون
ـــــــــــــــــــــ
(1) في ص 296.

 
 

ــ[341]ــ

الاطلاق بدلياً في مورد، وشمولياً في مورد آخر، ومقتضياً للتعيين في مورد ثالث.
فالنتيجة على ضوء هذه النواحي: هي أنّ الاطلاق الثابت بمقدمات الحكمة في المقام شمولي لا بدلي، وذلك لقرينة خارجية وخصوصية المورد، وتلك القرينة الخارجية هي فهم العرف، ضرورة أنّ المرتكز في أذهانهم من مثل هذه النواهي هو الانحلال والشمول، ومنشأ فهم العرف ذلك وكون هذا من مرتكزاتهم هو ما ذكرنا من أنّ إرادة بقية الصور من تلك النواهي تحتاج إلى مؤونة اُخرى خارجة عن عهدة الاطلاق، هذا من جهة. ومن جهة اُخرى: أنّ إرادة ترك فرد ما من أفرادها العرضية أو الطولية غير ممكنة، كما عرفت. ومن جهة ثالثة: أنّ القرينة لم تنصب على إرادة حصة خاصة منها.
فالنتيجة على ضوئها: هي كون الاطلاق الثابت بمقدمات الحكمة في هذه الموارد شمولياً، وأنّ كل فرد من أفراد هذه الطبائع مانع مستقل، فلا تكون مانعية هذا مربوطة بمانعية ذاك، وعدم كل واحد منها مأخوذ في العبادة أو المعاملة على نحو الاستقلال والانحلال، وهذا هو المتفاهم العرفي من هذه الروايات، ضرورة أ نّه لا فرق في نظر العرف بين الفرد الأوّل من النجس والفرد الثاني والثالث... وهكذا في المانعية. وكذا لا فرق بين الفرد الأوّل من الميتة والفرد الثاني، والفرد الأوّل مما لا يؤكل أو الحرير والفرد الثاني... وهكذا.
وقد تحصّل من ذلك: أنّ المستفاد عرفاً من إطلاق قوله (عليه السلام) «لا تصلّ في شيء منه ولا في شسع» (1) وقوله (عليه السلام) «لا تحلّ الصلاة في
ـــــــــــــــــــــ
(1) الوسائل 4: 343 / أبواب لباس المصلي ب 1 ح 2.

ــ[342]ــ

حرير محض» (1) ونحوهما هو الانحلال، وأنّ لبس كل فرد من أفراد هذه الطبائع مانع عن الصلاة مستقلاً، وعدم الفرق بين الوجود الأوّل والثاني من هذه الناحية أصلاً، وهذا ظاهر.
وبكلمة اُخرى: أنّ حال هذه النواهي من هذه الجهة حال النواهي الحقيقية الاستقلالية، فكما أنّ المتفاهم عرفاً من إطلاق تلك النواهي هو العموم والشمول بالاضافة إلى الأفراد العرضية والطولية ما لم تنصب قرينة على الخلاف، فكذلك المتفاهم عرفاً من إطلاق هذه النواهي هو العموم والشمول.
والسر في ذلك واضح، وهو أنّ الأحكام المجعولة على نحو القضايا الحقيقية لا محالة تنحل بانحلال موضوعاتها في الخارج، ومن الواضح أ نّه لا فرق في ذلك بين الأحكام التحريمية والوجوبية، فكما أنّ الاُولى تنحل بانحلال موضوعها فيما إذا لم تنصب قرينة على خلافه، فكذلك الثانية،
مثلاً وجوب الحج المجعول للمستطيع في قوله تعالى: (وَللهِِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ ا لْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً)(2) على نحو القضية الحقيقية لا محالة ينحل بانحلال أفراد المستطيع في الخارج، فيثبت لكل منها حكم مستقل. وكذا وجوب الصلاة المجعول للمكلف البالغ العاقل القادر الداخل عليه الوقت على نحو القضية الحقيقية، فانّه لا محالة ينحل بانحلال أفراده. وكذا وجوب الزكاة المجعول لمن بلغ ماله حدّ النصاب على نحو القضية الحقيقية، وهكذا.
فلا فرق من هذه الناحية بين الأحكام التحريمية والأحكام الوجوبية أصلاً،
ـــــــــــــــــــــ
(1) الوسائل 4: 367 / أبواب لباس المصلي ب 11 ح 2.
(2) آل عمران 3: 97.

ــ[343]ــ

وإنّما الفرق بينهما في نقطة اُخرى: وهي أنّ الأحكام التحريمية كما تنحل بانحلال موضوعها في الخارج فيما إذا كان لها موضوع، كذلك تنحل بانحلال أفراد متعلقها فيه، فالنهي عن سبّ المؤمن مثلاً كما ينحل بتعدد أفراد المؤمن في الخارج، كذلك ينحل بانحلال أفراد السب، ويكون كل فرد منه محرّماً.
نعم، قد يكون انحلال النهي بانحلال متعلقه وتعدده من ناحية تعدد موضوعه وانحلاله في الخارج لا في نفسه، وذلك كشرب الخمر مثلاً أو شرب النجس أو ما شاكل ذلك، فانّه يتعدد بتعدد أفراد الخمر أو النجس خارجاً لا في ذاته، ضرورة أنّ فرداً واحداً منه غير قابل لأن يتعدد شربه، بل له شرب واحد، نعم يتعدد باعتبار تعدد الحالات والأزمنة لا في نفسه، والمكلف في اعتبار الشارع محروم عن جميع أفراد شربه في الخارج من العرضية والطولية.
وهذا بخلاف الأحكام الوجوبية، فانّها لا تنحل بانحلال أفراد متعلقها في الخارج أصلاً، إلاّ فيما إذا قامت قرينة من الخارج على الانحلال.
فالنتيجة: هي أنّ الأوامر تنحل بانحلال موضوعاتها في الخارج فحسب، ولا تنحل بانحلال متعلقاتها فيه، وهذا بخلاف النواهي فانّها تنحل بانحلال موضوعاتها ومتعلقاتها معاً، وفيما نحن فيه حيث إنّ مانعية لبس ما لا يؤكل والميتة والحرير والذهب والنجس وما شاكل ذلك في الصلاة جعلت لها على نحو القضية الحقيقية، فمن الطبيعي هو أ نّها تنحل بانحلال أفراد هذه الطبائع في الخارج، فيكون لبس كل فرد منها مانعاً مستقلاً، ولا تكون مانعيته مربوطة بمانعية الآخر... وهكذا، وهذا هو المتفاهم العرفي من كل قضية حقيقية من دون شبهة وخلاف.
وكذا لا شبهة في ظهور تلك النواهي في باب المعاملات ـ بالمعنى الأعم ـ في

ــ[344]ــ

الانحلال، ضرورة أنّ مانعية الغرر مثلاً تنحل بانحلال أفراد البيع في الخارج، وكذا الجهل بالعوضين أو بأحدهما وما شاكل ذلك بعين الملاك المتقدِّم.
وقد يتخيّل في المقام أنّ المفروض أنّ هذه النواهي ليست بنواه حقيقية، بل هي نواه بحسب الصورة والشكل، وفي الحقيقة أوامر غاية الأمر أنّ المولى أبرز تلك الأوامر بصورة النهي، وقد تقدّم أ نّه لا عبرة بالمبرز ـ بالكسر ـ أصلاً، والعبرة إنّما هي بالمبرز ـ بالفتح ـ هذا من ناحية. ومن ناحية اُخرى: قد سبق (1) أنّ نتيجة الاطلاق الثابت بمقدّمات الحكمة في طرف الأوامر هي العموم البدلي وصرف الوجود، لا العموم الشمولي ومطلق الوجود.
فالنتيجة على ضوئهما: هي أ نّه لا بدّ أن يكون المطلوب في أمثال هذه الموارد هو تقيّد العبادة أو المعاملة بصرف ترك هذه الاُمور في الخارج، وهو يتحقق بتركها آناً ما، فإذن المتعيّن في هذه الموارد وما شاكلها هو إرادة الصورة الاُولى من الصور المتقدمة لا غيرها، وهي ما كان المطلوب تقييد الواجب بصرف ترك تلك الاُمور خارجاً.
وعلى الجملة: فقد مرّ أنّ مقتضى الاطلاق الثابت بمقدّمات الحكمة في طرف الأمر هو العموم البدلي وصرف الوجود بمقتضى الفهم العرفي، ومن المعلوم أ نّه لا فرق في ذلك بين أن يكون الأمر متعلقاً بالفعل أو بالترك، فإذن مقتضى الاطلاق في أمثال تلك الموارد أيضاً ذلك.
ولكن هذا الخيال خاطئ جداً وغير مطابق للواقع قطعاً، والوجه في ذلك: ما تقدّم من أنّ نتيجة مقدّمات الحكمة ليست إلاّ ثبوت الاطلاق، وأمّا كونه
ـــــــــــــــــــــ
(1) في ص 295.

ــ[345]ــ

شمولياً أو بدلياً فلا تدل مقدّمات الحكمة على شيء من ذلك، فإذن إثبات كون الاطلاق في المقام على النحو الأوّل أو الثاني يحتاج إلى قرينة خارجية تدل عليه، هذا من جانب.
ومن جانب آخر: قد مرّ أنّ القرينة الخارجية قد دلّت على أنّ الاطلاق الثابت بمقدّمات الحكمة في موارد الأمر المتعلق بالفعل والوجود بدلي وفي موارد النهي شمولي.
ومن جانب ثالث: أنّ الأمر إذا تعلق بترك طبيعة في الخارج، فلا محالة لا يخلو بحسب مقام الثبوت والواقع من أنّ المولى إمّا أن يريد ترك جميع أفرادها في الخـارج من العرضية والطولية ـ سواء أكانت على نحو العموم المجموعي أو الاستغراقي ـ أو أن يريد ترك فرد ما منها، أو أن يريد ترك حصة خاصة منها دون اُخرى، أو أن يريد صرف تركها، ولا خامس في البين.
ومن جانب رابع: أ نّه لا شبهة في أ نّه لا يمكن أن يراد من ذلك الفرض الثاني وهو ترك فرد ما منها، لأ نّه حاصل وطلبه تحصيل للحاصل، فلا يمكن أن يصدر من الحكيم، وكذا لا يمكن أن يراد منه الفرض الثالث وهو ترك حصة خاصة منها، لأنّ إرادته تحتاج إلى قرينة تدل عليها، والمفروض أ نّه لا قرينة هنا، فإذن يدور الأمر بين أن يراد منه الفرض الأوّل، وهو أن يكون المطلوب ترك جميع أفرادها العرضية والطولية، وأن يراد منه الفرض الرابع وهو أن يكون المطلوب صرف تركها المتحقق بتركها آناً ما، ومن الواضح جداً أنّ إرادة الفرض الرابع خلاف المتفاهم العرفي المرتكز في أذهانهم، ضرورة أنّ المتفاهم العرفي من مثل قوله (عليه السلام): «لا تصلّ في شيء منه ولا في شسع» (1) هو
ـــــــــــــــــــــ
(1) الوسائل 4: 343 / أبواب لباس المصلي ب 1 ح 2.

ــ[346]ــ

تركه في جميع آنات الاشتغال بها، ولا يختلج في بالهم أن يكون المراد منه تركه حال الاشتغال بالصلاة آناً ما، ولا يلزم تركها في تمام آنات الاشتغال بها، ومن المعلوم أنّ إرادة مثل هذا المعنى البعيد عن أذهان العرف تحتاج إلى نصب قرينة تدل عليه، وإلاّ فلا يمكن إرادته من الاطلاق الثابت بمقدّمات الحكمة.
فالنتيجة على ضوء هذه الجوانب الأربعة: هي أنّ نتيجة مقدّمات الحكمة ـ وهي الاطلاق ـ يختلف مقتضاها باختلاف موارد الأمر، ففي موارد تعلقه بالفعل كان مقتضاها الاطلاق البدلي وصرف الوجود من جهة القرينة الخارجية ـ وهي فهم العرف من إطلاقه ذلك بعد ضميمة عدم إمكان إرادة إيجاد الطبيعة بجميع أفرادها العرضية والطولية في الخارج ـ وفي موارد تعلقه بالترك كان مقتضاها الاطلاق الشمولي ومطلق الترك من جهة الفهم العرفي والقرينة الخارجية.
وعلى الجملة: فقد عرفت أنّ نتيجة مقدّمات الحكمة هي ثبوت الاطلاق فحسب، وأنّ مراد المولى مطلق من ناحية تبعية مقام الاثبات لمقام الثبوت، ولكن المتفاهم العرفي من هذا الاطلاق في موارد تعلق الأمر بالفعل هو الاطلاق البدلي وصرف الوجود، لأجل خصوصية فيه، والمتفاهم العرفي من الاطلاق في موارد تعلقه بالترك هو الاطلاق الشمولي وعموم الترك كذلك أي من جهة خصوصية فيه، ولأجل ذلك تفترق موارد تعلق الأمر بالفعل عن موارد تعلقه بالترك.
ثمّ إنّه لا فرق في الأوامر المتعلقة بالفعل بين أن تكون أوامر استقلالية كالأمر بالصلاة والصوم وما شاكلهما، وأن تكون أوامر ضمنية كالأوامر المتعلقة بأجزاء العبادات والمعاملات وشرائطهما، مثل الأمر بالركوع والسجود والتكبيرة واستقبال القبلة والقيام والطهارة وما شاكلها، فكما أنّ المتفاهم العرفي من

ــ[347]ــ

الاطلاق في موارد الأوامر الاستقلالية هو الاطلاق البدلي وصرف الوجود، فكذلك المتفاهم العرفي منه في موارد الأوامر الضمنية هو ذلك، ضرورة أنّ المـتفاهم العرفي من إطـلاق قـوله (عليه السلام): «اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه» (1) هو كون المطلوب صرف وجود الغسل وتحققه في الخارج، واعتبار خصوصية اُخرى يحتاج إلى دليل خاص كاعتبار التعداد والمسح بالتراب ونحو ذلك، فإن كل هذا خارج عن الاطلاق، فلا يستفاد منه، فإن قام دليل من الخارج على اعتباره بالخصوص نأخذ به، وإلاّ فلا نقول به، وكذا الحال في مثل الأمر بالركوع والسجود ونحوهما، فانّ المتفاهم منه عرفاً هو كون المطلوب صرف الوجود لا مطلق الوجود وهذا واضح، كما أ نّه لا فرق في الأوامر المتعلقة بالترك بين أن تكون استقلالية أو ضمنية من هذه الناحية أصلاً.
وقد تحصّل من ذلك اُمور:
الأوّل: أنّ كون الاطلاق الثابت بمقدّمات الحكمة في مورد بدلياً وفي مورد آخر شمولياً ليس ما تقتضيه نفس المقدّمات، فانّ ما تقتضيه المقدّمات هو ثبوت الاطلاق في مقام الاثبات الكاشف عن الاطلاق في مقام الثبوت، وأمّا كونه بدلياً أو شـمولياً فخارج عما تقتضيه المقدّمات بالكلّية، بل هو تابع لخصوصيات الموارد ويختلف باختلافها.
الثاني: أنّ مقتضى الاطلاق في طرف الأمر ليس هو الاطلاق البدلي مطلقاً وفي تمام موارده، بل هو يختلف باختلاف تلك الموارد، ففي موارد تعلقه بالفعل كان مقتضاه بدلياً إلاّ إذا قامت قرينة من الخارج على خلافه، وفي موارد تعلقه بالترك كان شمولياً.
ـــــــــــــــــــــ
(1) الوسائل 3: 405 / أبواب النجاسات ب 8 ح 2.

ــ[348]ــ

الثالث: أ نّه لا فرق في ذلك بين أن يكون الأمر المتعلق بالترك أمراً ضمنياً، وأن يكون أمراً استقلالياً، فكما أنّ مقتضى الاطلاق في الأوّل من جهة الفهم العرفي هو العموم والشمول، فكذلك مقتضى الاطلاق في الثاني، فلا فرق بينهما من هذه الناحية أصلاً، كما أ نّه لا فرق في الأمر المتعلق بالفعل بين أن يكون أمراً استقلالياً كالأمر بالصلاة والصوم وما شابه ذلك، وأن يكون أمراً ضمنياً كالأوامر المتعلقة بالعبادات والمعاملات بالمعنى الأعم، فكما أنّ المتفاهم عرفاً من الاطلاق الثابت بمقدّمات الحكمة في الأوّل هو العموم البدلي وصرف الوجود، فكذلك المتفاهم عرفاً من الاطلاق الثابت بها في الثاني، فلا فرق بينهما من هذه الناحية أبداً.
الرابع: أنّ نتيجة الاطلاق عرفاً في هذه الموارد ـ أعني موارد النهي عن العبادات والمعاملات ـ هو العموم الانحلالي دون العموم المجموعي، لأنّ إرادته تحتاج إلى مؤونة زائدة فلا يتكفل الاطلاق لبيانه.
فالنتيجة قد أصبحت لحدّ الآن: أنّ مقتضى إطلاق هذه النواهي هو تقييد العبادات كالصلاة مثلاً والمعاملات بترك كل فرد من أفراد هذه الطبائع في الخارج من العرضية والطولية.
وعلى ضوء هذا البيان قد اتّضح أ نّه لا شبهة في وجوب التقليل في أفراد هذه الموانع والاقتصار على مقدار الضرورة.
نعم، لو كان المستفاد من تلك الأدلة هو الصورة الثالثة أو الرابعة لم يجب التقليل والاقتصار على قدر الضرورة كما مرّ، ولكن عرفت أنّ المستفاد منها عرفاً هو الصورة الثانية مطلقاً، أي في العبادات والمعاملات من دون فرق بينهما من هذه الناحية أصلاً، بل الحال في المعاملات أوضح، ضرورة أ نّه

ــ[349]ــ

لا يحتمل أن يكون الجهل مثلاً بأحد العوضين أو بهما معاً مانعاً عن صحة المعاملة في مورد واحد... وهكذا.
ومن هنا يظهر أنّ ما أفاده السيِّد العلاّمة الطباطبائي (قدس سره) في العروة(1) من وجوب التقليل بالمقدار الممكن والاقتصار على ما تقتضيه الضرورة هو الصحيح ولا مناص عنه، إلاّ أنّ ما أفاده (قدس سره) من لزوم التقليل حكماً فضلاً عن التقليل موضوعاً لا يتم صغرى وكبرى، كما تقدّم بشكل واضح فلا نعيد.
نعم، لو قلنا بالتزاحم في أمثال هذه الموارد دون التعارض من ناحية، وسلّمنا اتصاف النجاسة من هذه الجهة بالشدّة والضعف من ناحية اُخرى، فعندئذ لو دار الأمر بين إزالة الفرد الشديد وإزالة الفرد الضعيف، لكان اللاّزم هو تقديم إزالة الفرد الشديد على إزالة الفرد الضعيف، لأنّ إزالته أهم من إزالته، ولا أقل من احتمال كونها أهم منها، وهذا يكفي للتقديم في مقام المزاحمة.
وهذا بخلاف ما إذا قلنا بكون هذه الموارد داخلة في كبرى باب التعارض، فانّه عندئذ لا وجه لتقديم إزالة الفرد الشديد على إزالة الفرد الضعيف في مقام المعارضة أصلاً، وذلك لفرض أ نّه لا فرق بينهما في أصل المانعية بالنظر إلى الأدلة ولا تكون شدّته زيادة فيها، وعليه ففي مثل هذا الفرض نعلم إجمالاً بجعل الشارع أحدهما مانعاً، فإذن لا بدّ من الرجوع إلى قواعد باب المعارضة، فإن كان الدليل على أحدهما لفظياً والدليل على الآخر لبياً يتقدّم الأوّل على الثاني، لفرض أنّ المتيقن من الثاني هو غير هذا المورد، فلا يشمل مثله.
وإن كان كلاهما لفظياً، فإن كان التعارض بينهما بالاطلاق يسقطان معاً،
ـــــــــــــــــــــ
(1) تقدّم المصدر في ص 320.

ــ[350]ــ

فلا بدّ عندئذ من الرجوع في هذا المورد إلى الأصل فيه، إلاّ إذا كان إطلاق أحدهما من الكتاب أو السنّة، وإطلاق الآخر من غيرهما، فيتقدّم الأوّل على الثاني، وذلك لما استظهرناه من أنّ الروايات الدالة على طرح الأخبار المخالفة للكتاب أو السنّة تشمل المخالفة بالاطلاق أيضاً، فإذن لا يكون هذا الاطلاق حجّة في نفسه مع قطع النظر عن المعارضة في مقابل إطلاق الكتاب أو السنّة.
وإن كان التعارض بينهما بالعموم فعندئذ لا بدّ من الرجوع إلى قواعد ومرجّحات باب المعارضة، وإن كان أحد الدليلين مطلقاً والآخر عاماً فيتقدّم العام على المطلق، لأ نّه يصلح أن يكون بياناً للأوّل دون العكس. وإن كان كلاهما لبياً فلا بدّ وقتئذ من الرجوع إلى دليل آخر من أصل لفظي أو عملي، لفرض أنّ المتيقن منهما غير هذا الفرض، فلا إجماع فيه لا على مانعية هذا ولا على مانعية ذاك، كما هو ظاهر.
نتائج ما ذكرناه لحدّ الآن عدّة نقاط:
الاُولى: أنّ النهي عن فعل غالباً ينشأ عن قيام مفسدة ملزمة فيه، ولا ينشأ عن مصلحة إلزامية في تركه وإلاّ لكان تركه واجباً لا فعله محرّماً وهذا خلف. والأمر به ينشأ غالباً عن قيام مصلحة ملزمة في فعله، لا عن قيام مفسدة كذلك في تركه، وإلاّ لكان تركه محرّماً لا فعله واجباً.
الثانية: أنّ الأمر كما يتعلق بالفعل باعتبار وجود مصلحة إلزامية فيه فيكون ذلك الفعل واجباً سواء أكان وجوبه ضمنياً أم استقلالياً، قد يتعلق بالترك كذلك أي باعتبار وجود مصلحة ملزمة فيه فيكون ذلك الترك واجباً، سواء أكان وجوبه استقلالياً أم ضمنياً.
الثالثة: أنّ النواهي الواردة في أبواب العبادات جميعاً نواه إرشادية فتكون

ــ[351]ــ

إرشاداً إلى مانعية أشياء كالقهقهة والحدث والتكلم ولبس ما لا يؤكل والنجس والميتة والحرير والذهب وما شاكل ذلك، وليست تلك النواهي نواه حقيقية ناشئة عن قيام مفسدة ملزمة فيها، ضرورة أ نّه لا مفسدة فيها أبداً، بل مصلحة ملزمة في تقيد الصلاة بعدم هذه الاُمور.
ولعل النكتة في التعبير عن هذا التقييد بالنهي في مقام الاثبات لا بالأمر، إنّما هي اعتبار الشارع كون المكلف محروماً عن هذه الاُمور حال الصلاة ولأجل ذلك أبرزه بالنهي الدال على ذلك، ولكن بما أنّ هذا الاعتبار لم ينشأ عن قيام مفسدة ملزمة فيها، بل هو ناشئ عن قيام مصلحة ملزمة في هذا التقييد ومن ثمّ يكون مردّه إلى اعتبار حصة خاصة من الصلاة، وهي الحصة المقيدة بعدم هذه الاُمور في ذمّة المكلف، فلأجل ذلك يكون هذا نهياً بحسب الصورة والشكل، لا بحسب الواقع والحقيقة.
ومما يدل على كون هذه النواهي إرشادية لا حقيقية وجود هذه النواهي في المعاملات بالمعنى الأعم، ولا شبهة في كون تلك النواهي هناك نواهي إرشادية إلى مانعية ما تعلق به النهي كالغرر ونحوه، وليست هي بنواه حقيقية، ضرورة أنّ بيع الغرر وما شاكل ذلك ليس من المحرّمات في الشريعة المقدّسة، فالنهي عنه إرشاد إلى فساده.
نعم، قد تكون المعاملة محرّمةً بنفسها كالمعاملة الربوية، ولكن من المعلوم أنّ حرمتها ليست من ناحية هذا النهي، بل هي من جهة دليل آخر يدل عليها، ولذا قلنا إنّ حرمتها لا تستلزم فسادها، ففسادها إنّما هو من ناحية هذا النهي، لا من ناحية النهي الدال على حرمتها. ونظير ذلك في العبادات أيضاً موجود وهو لبس الحرير، فانّه حرام على الرجال مطلقاً ـ أي سواء أكان في حال الصلاة أم كان في غيره ـ ومانع عن الصلاة أيضاً، ولكن من الواضح جداً أنّ

ــ[352]ــ

حرمته الذاتية غير مستفادة من النهي عن لبسه حال الصلاة، ضرورة أنّ هذا النهي لا يكون إلاّ إرشاداً إلى مانعيته عنها، ولا يدل على حرمته أصلاً، وحاله من هذه الناحـية حال النهي عن بقية المـوانع حال الصلاة، بل لا بدّ من استفادتها من دليل آخر أو من قرينة خارجية، كما هو ظاهر.
ومن ذلك يظهر حال الأوامر الواردة في أبواب العبادات بشتّى أشكالها، أ نّها أوامر إرشادية، فتكون إرشاداً إلى الجزئية أو الشرطية، كالأمر بالركوع والسجود والقيام واستقبال القبلة والطهور وما شاكلها، فانّها إرشاد إلى جزئية الركوع والسجود للصلاة، وشرطية القيام والاستقبال والطهور لها.
ومما يؤكّد ذلك: وجود هذه الأوامر في أبواب المعاملات، فانّه لا إشكال في كون تلك الأوامر هناك إرشـادية، ضرورة أنّ مثل قوله (عليه السلام): «اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل» (1) أو نحوه، لا يحتمل فيه غير الارشاد إلى نجاسة الأبوال، وأنّ المطهر للثوب المتنجس بها هو الغسل، وهكذا الحال في بقية الأوامر الواردة فيها.
الرابعة: أنّ التروك المأخوذة في متعلق الأمر مرّةً تكون مأخوذة على نحو الاستقلال بأن تكون تلك التروك واجبة بوجوب استقلالي، ومرّة اُخرى تكون مأخوذة على نحو القيدية بأن تكون واجبة بوجوب ضمني، فالقسم الأوّل وقوعه في الشريعة في غاية القلّة، وأمّا القسم الثاني فهو في غاية الكثرة في باب العبادات والمعاملات، كما أنّ الوجودات المأخوذة في متعلق الأمر مرّةً تكون على نحو الاستقلال، واُخرى على نحو القيدية والجزئية، والأوّل كالصلاة والصوم وما شاكلها، والثاني كالركوع والسجود والقيام والطهور ونحوها، وكلا
ـــــــــــــــــــــ
(1) الوسائل 3: 405 / أبواب النجاسات ب 8 ح 2.

ــ[353]ــ

هذين القسمين كثير في الشريعة في باب العبادات والمعاملات، كما هو واضح.
الخامسة: أنّ هذا الترك مأمور به سواء أكان مبرزه في الخارج صيغة الأمر أم صيغة النهي، لما عرفت من أ نّه لا شأن للمبرز ـ بالكسر ـ أصلاً، وإنّما العبرة بالمبرز ـ بالفتح ـ.
السادسة: أنّ التروك المأخوذة في متعلق الأمر بكلا قسميها من الاستقلالي والضمني تتصور في مقام الثبوت والواقع على صور أربع، وقد تقدّم أنّ الثمرة تظهر بين هذه الصور في موردين: أحدهما في مورد الاضطرار والاكراه. الثاني في مورد الشك كما سبق.
السابعة: أنّ وجوب التقليل في أفراد المانع بالمقدار الممكن والاقتصار على قدر الضرورة يرتكز على القول بالانحلال في المسألة دون بقية الأقوال، كما أ نّه على هذا القول إنّما يجب التقليل فيها بحسب الكم دون الكيف على تقدير تسليم اختلافها فيه، كما تقدّم.
الثامنة: أنّ الرجوع إلى أصالة البراءة أو الاشتغال في موارد التروك المتعلقة للأمر الضمني عند الشك، يبتني على أن لايكون هناك أصل موضوعي، مثلاً جريان أصالة البراءة أو الاشتغال في مسألة اللباس المشكوك كونه مما لا يؤكل أو الحرير أو الذهب، يبتني على عدم جريان استصحاب العدم الأزلي أو العدم النعتي بالتقريب المتقدِّم، وإلاّ فلا موضوع له.
التاسعة: أنّ جواز الصلاة في اللباس المشكوك فيه مع قطع النظر عن جريان استصحاب العدم الأزلي أو النعتي يرتكز على القول بجريان أصالة البراءة في مسألة الأقل والأكثر الارتباطيين، لا على انحلال المانعية أو عدم انحلالها.
العاشرة: أنّ المستفاد من الأدلة في مقام الاثبات في باب العبادات

ــ[354]ــ

والمعاملات هو الصورة الثانية وهي انحلال مانعية هذه الطبائع بانحلال أفرادها في الخارج، وأنّ تلك الأدلة إرشاد إلى مانعية كل فرد من أفرادها العرضية والطولية، فانّ إرادة بقية الصور منها تحتاج إلى بيان زائد من المتكلم وقرينة اُخرى، وفي فرض عدمها كانت إرادة هذه الصورة متعيّنة.




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net