الجهة السادسة - الجهة السابعة 

الكتاب : محاضرات في اُصول الفقه - الجزء الثالث   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 4759


السادسة: قد سبق أنّ مسألتنا هذه من المسائل العقلية باعتبار أنّ الحاكم باستحالة اجتماع الأمر والنهي أو إمكانه إنّما هو العقل ولا صلة لها بعالم اللفظ أبداً.
ومن هنا يظهر أنّ النزاع في المسألة لا يختص بما إذا كان الايجاب والتحريم مدلولين لدليل لفظي من كتاب أو سنّة، بل يعمّ الجميع ـ أي سواء أكانا مدلولين لدليل لفظي أم لم يكونا ـ وإن كان عنوان المسألة يوهم اختصاص النزاع بما إذا كانا مستفادين من اللفظ، إلاّ أ نّه من ناحية الغلبة، حيث إنّ الدليل عليهما في الغالب هو اللفظ دون غيره.

ــ[380]ــ

وعلى ضوء ذلك قد تبيّن أ نّه لا معنى لأن يقال إنّ القول بالامتناع في المسألة يرتكز على نظر العرف والقول بالجواز فيها يرتكز على نظر العقل، والوجه فيه هو ما ذكرناه غير مرّة من أنّ نظر العرف إنّما يكون متبعاً في مقام تعيين مفاهيم الألفاظ سعةً وضيقاً، لا في مثل مسألتنا هذه حيث إنّه لا صلة لها بعالم اللفظ أبداً، وليس البحث فيها عن تعيين مفهوم الأمر ومفهوم النهي، والبحث فيها إنّما هو عن سراية النهي من متعلقه إلى ما تعلق به الأمر وعدم سرايته.
وقد تقدّم أ نّهما ترتكزان على وحدة المجمع في مورد التصادق والاجتماع وتعدده فيه، فإن كان واحداً بحسب الواقع والحقيقة فلا مناص من القول بالامتناع والسراية، وإن كان متعدداً في الواقع، فعندئذ لو قلنا بأنّ الحكم الثابت لأحد المتلازمين يسري إلى الملازم الآخر، فأيضاً لا مناص من القول بالامتناع، ولكن هذا مجرد فرض لا واقع له أصلاً.
وأمّا إذا قلنا بأ نّه لا يسري إلى الملازم الآخر كما هو الصحيح، فلا بدّ من الالتزام بالقول بالجواز وعدم السراية، ومن الطبيعي أنّ الملاك في السراية وعدمها وهو وحدة المجمع وتعدده إنّما هو بنظر العقل، ضرورة أنّ اللفظ لا يدل على أ نّه واحد في مورد الاجتماع والتصادق أو متعدد، فانّ إدراك ذلك إنّما هو بنظر العقل، فإن أدرك أ نّه متعدد واقعاً كان المتعين هو القول بالجواز، فلا معنى لحكم العرف بالامتناع في هذا الفرض، وإن أدرك أ نّه واحد واقعاً لم يكن مناص من القول بالامتناع، لاستحالة أن يكون شيء واحد مصداقاً للمأمور به والمنهي عنه معاً، فإذن لايعقل الحكم بالجواز، وكيف كان فلا أصل لهذا التفصيل أصلاً.

 
 

ــ[381]ــ

وقد يوجّه ذلك: بأنّ نظر العرف حيث كان يبتني على المسامحة، فيرون المجمع في مورد الاجتماع والتصادق واحداً ويحكمون بامتناع الاجتماع، وأمّا نظر العقل حيث إنّه كان مبنياً على الدقّة فيرى المجمع متعدداً، ولذا يحكم بالجواز بناءً على ما هو الصحيح من عدم سراية الحكم من أحد المتلازمين إلى الملازم الآخر.
ويردّه: ما ذكرناه غير مرّة من أنّ نظر العرف لا يكون حجّة في موارد تطبيق المفاهيم على مصاديقها، بداهة أنّ المجمع إذا كان متعدداً في الواقع فلا أثر لنظر العرف بكونه واحداً أصلاً، ولا سيّما نظره المسامحي، فالعبرة إنّما هي بوحدة المجمع وتعدده بحسب الواقع والحقيقة عند العقل، كما هو ظاهر.
وقد يوجّه بتوجيه ثان وملخّصه: هو دعوى أنّ العرف لا يفهم من قوله تعالى مثلاً: (أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ)(1) إلاّ وجوب حصة منها ـ وهي الحصة التي لا تكون في الأرض المغصوبة ـ فلا تنطبق على الصلاة فيها، وعليه فلا ينطبق المأمور به على المنهي عنه أصلاً، وهذا معنى امتناع اجتماعهما في شيء واحد عرفاً.
وبتعبير آخر: أنّ المتفاهم العرفي من الأدلة الدالة على وجوب الصلاة أو نحوها بعد ملاحظة النهي عن التصرف في مال الغير، هو وجوب حصة خاصة منها، وهي الحصة التي لا تقع في مال الغير، وعليه فالحصة الواقعة فيه ليست مصداقاً للصلاة المأمور بها، بل هي منهي عنها فحسب، فإذن يستحيل اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد، ومردّ هذا إلى تخصيص أدلة وجوب الصلاة مثلاً
ـــــــــــــــــــــ
(1) الإسراء 17: 78.

ــ[382]ــ

بغير موارد النهي عن التصرف في أرض الغير، وهذا معنى امتناع اجتماعهما على شيء واحد.
ولنأخذ بالمناقشة عليه، أمّا أوّلاً: فلأ نّه لا صلة لهذا الفرض بمحل البحث أبداً، وذلك لأنّ محل البحث في المسألة إنّما هو فيما إذا كان لكل من متعلقي الأمر والنهي إطلاق يشمل مورد التصادق والاجتماع، بأن يكون المجمع فيه مصداقاً للمأمور به من ناحية، وللمنهي عنه من ناحية اُخرى، غاية الأمر إذا فرض أنّ المجمع واحد بالذات والحقيقة، فيقع التعارض بين دليلي الوجوب والحرمة، فعندئذ لا بدّ من الرجوع إلى قواعده وإجراء أحكامه، وإذا فرض أ نّه متعدد واقعاً وخارجاً، فيقع التزاحم بينهما، فلا بدّ عندئذ من الرجوع إلى قواعده وإجراء أحكامه.
وأمّا إذا فرض أنّ الأمر من الأوّل تعلق بحصة خاصة من الصلاة، وهي الحصة التي لا تكون في الأرض المغصوبة، فلا موضوع وقتئذ للنزاع في المسألة عن جواز الاجتماع وعدم جوازه، وسراية النهي من متعلقه إلى ما تعلق به الأمر وعدم سرايته أصلاً، إذ على هذا لا يعقل توهّم اجتماعهما في مورد واحد، لفرض تقييد دليل الوجوب من الأوّل بغير موارد الحرمة، ومن الواضح جداً أ نّه لو كان المتفاهم العرفي من أدلة وجوب الصلاة أو نحوها ذلك لم يكن مجال وموضوع لهذه المسألة أصلاً كما لا يخفى.
وأمّا ثانياً: فلأنّ أصل هذه الدعوى فاسدة، وذلك لأنّ المتفاهم العرفي من الأمر المتعلق بطبيعة الصلاة ليس ذلك التقييد والتضييق، ضرورة أنّ التقييد بحصة خاصة يحتاج إلى دليل يدل عليه، وحيث إنّه لا دليل عليه فلا يمكن الحكم بالتقييد.

ــ[383]ــ

ومن ناحية اُخرى: أنّ ما دلّ على حرمة التصرف في أرض الغير لا يصلح أن يكون مقيداً له، ضرورة أنّ نسبته إليه ليست كنسبة الخاص إلى العام والمقيد إلى المطلق ليكون المتفاهم العرفي منه ذلك التقييد، بل المتفاهم عرفاً من كل منهما هو الاطلاق أو العموم بنحو يكون مورد الاجتماع داخلاً فيهما معاً، ولا يصلح شيء منهما لأن يكون مقيداً للآخر فيه كما هو واضح، وعليه فلا محالة تقع المعارضة بينهما في ذلك المورد إذا كان المجمع فيه واحداً بالذات والحقيقة. وأمّا إذا كان متعدداً ذاتاً وحقيقةً، فعندئذ لو قلنا بسراية الحكم من أحد المتلازمين إلى الملازم الآخر أيضاً تقع المعارضة بينهما، وأمّا إذا لم نقل بها كما هو كذلك فتقع المزاحمة بينهما إذا لم تكن مندوحة في البين.
ومن هنا يكون مردّ البحث في هذه المسألة إلى البحث عن نقطتين:
الاُولى: هل المجمع في مورد التصادق والاجتماع واحد بالذات والحقيقة أو أ نّه متعدد كذلك؟
الثانية: أ نّه على تقدير كونه متعدداً هل يسري الحكم من أحدهما إلى الآخر أم لا؟ وسيأتي البحث عن هاتين النقطتين فيما بعد إن شاء الله تعالى (1) بصورة واضحة.
فالنتيجة هي أ نّه لا أصل لهذا التفصيل أبداً.
السابعة: قد حققنا فيما تقدّم أنّ القول بالامتناع يرتكز على أحد أمرين:
الأوّل: أن يكون المجمع لمتعلقي الأمر والنهي في مورد الاجتماع واحداً.
الثاني: أن يلتزم بسراية الحكم من أحد المتلازمين بحسب الوجود إلى الملازم
ـــــــــــــــــــــ
(1) في ص 396، 453.

ــ[384]ــ

الآخر.
والقول بالجواز يرتكز على أمرين:
الأوّل: أن يكون المجمع لهما في مورد التصادق والاجتماع متعدداً.
الثاني: أن لا يسري الحكم من أحد المتلازمين إلى الملازم الآخر.
وعلى ضوء هذا فيدخل في محل النزاع جميع أنواع الايجاب والتحريم ما عدا الايجاب والتحريم التخييريين، فلنا دعويان:
الاُولى: جريان النزاع في جميع أنواعهما ما عدا التخييريين منهما، سواء أكانا نفسيين أم غيريين أم تعيينيين أم عينيين أم كفائيين.
الثانية: عدم جريانه في خصوص التخيريين منهما.
أمّا الدعوى الاُولى: فلضرورة استحالة اجتماع اثنين منها في شيء واحد، سواء أكانا من نوع واحد أو من نوعين، لوضوح أ نّه إذا فرض كون المجمع واحداً، فكما أ نّه لا يمكن اجتماع الوجوب والتحريم النفسيين فيه ـ كما عرفت ـ فكذلك لا يمكن اجتماع الوجوب والتحريم الغيريين، بداهة أ نّه لا يعقل أن يكون شيء واحد واجباً غيرياً وحراماً كذلك على القول بهما، فانّ مردّ الأوّل إلى أمر الشارع باتيانه مقدّمة لواجب نفسي، ومردّ الثاني إلى نهي الشارع عن فعله مقدّمة للاجتناب عن فعل حرام كذلك، ومن الواضح جداً أ نّه لا يمكن اجتماعهما في شيء واحد، ضرورة استحالة أن يكون شيء واحد مصداقاً للمأمور به والمنهي عنه معاً ولو كانا غيريين.
وإن شئت فقل: إنّ اجتماع الوجوب والحرمة الغيريين كما أ نّه مستحيل من ناحية المنتهى مستحيل من ناحية المبدأ أيضاً، فانّ كون شيء مقدّمة لواجب يقتضي محبوبيته، كما أنّ كونه مقدّمة لحرام يقتضي مبغوضيته، ومن المعلوم

ــ[385]ــ

أ نّه لا يمكن تأثير كل منهما في مقتضاه، كما أ نّه لا يمكن تأثير المصلحة والمفسدة في تحريم شيء واحد ووجوبه معاً.
وكذا لا يمكن اجتماع الوجوب والتحريم الكفائيين، لوضوح أ نّه لا يمكن أن يكون في فعل واحد ما يقتضي وجوبه وما يقتضي تحريمه ويؤثر كل منهما في مقتضاه من دون فرق بين أن يكون المكلف بهما آحاد المكلفين كما في التكاليف العينية، أو الطبيعي الجامع للأفراد كما في التكاليف الكفائية.
وأمّا الدعوى الثانية: فلعدم إمكان اجتماع الوجوب والحرمة التخييريين في شيء واحد ليقع التنافي بينهما، والوجه فيه: هو أنّ الحرمة التخييرية تمتاز عن الوجوب التخييري في نقطة واحدة، وتلك النقطة تمنع عن اجتماعهما في شيء واحد، وهي: أنّ مردّ الحرمة التخييرية إلى حرمة الجمع بين فعلين باعتبار قيام مفسدة ملزمة بالمجموع، لا بالجامع بينهما، وإلاّ لكان كل من الفعلين محرّماً تعييناً، لفرض أنّ النهي المتعلق بالجامع ينحل بانحلال أفراده، فيثبت لكل فرد منه نهي مستقل. وفي المقام إذا فرض أنّ المفسدة قائمة بالطبيعي الجامع فلا محالة تسري إلى أفراده وتثبت لكل فرد منها، هذا من ناحية. ومن ناحية اُخرى: قد تقدّم أنّ المتفاهم العرفي من الاطلاق الثابت بمقدّمات الحكمة في طرف النهي هو الانحـلال وتعلق النهي بكل فرد من أفراد متعلقه العرضية والطولية.
فالنتيجة على ضـوئهما: هي أنّ النهي لو تعلق بالجامع بينهما لا بالمجموع لكان كل منهما حراماً تعييناً لاتخييراً كما هو ظاهر، فإذن مرجع النهي التخييري إلى النهي عن الجمع بين الفعلين، ومردّ الوجوب التخييري إلى إيجاب الجامع بين شيئين أو أشياء، لا إلى إيجاب كل منهما بخصوصه كما تقدّم بيان ذلك في بحث الواجب التخييري بشكل واضح.

ــ[386]ــ

وبعد ذلك نقول: إنّه لا تنافي بين إيجاب الجامع بين شيئين وحرمة الجمع بينهما، لا بحسب المبدأ ولا بحسب المنتهى. أمّا بحسب المبدأ فلأ نّه لا مانع من قيام مصلحة ملزمة بالجامع بينهما وقيام مفسدة ملزمة بالمجموع منهما، ضرورة أنّ المانع إنّما هو قيام كلتيهما في شيء واحد، لا قيام إحداهما بشيء والاُخرى بشيء آخر وهذا واضح. وأمّا بحسب المنتهى فلفرض أنّ المكلف قادر على امتثال كلا التكليفين معاً، لأ نّه إذا أتى بأحدهما وترك الآخر فامتثل كليهما. وعليه فلا تنافي بينهما أصلاً، أي لا في المبدأ ولا في المنتهى. هذا بناءً على ما حققناه في بحث الواجب التخييري من أنّ الواجب هو الجامع بين فعلين أو أفعال.
وأمّا بناءً على أن يكون الواجب هو كل واحد منهما بخصوصه، غاية الأمر عند الاتيان بأحدهما يسقط الآخر، فأيضاً لا تنافي بينهما، أعني بين الواجب التخييري كذلك والحرام التخييري. أمّا بحسب المنتهى فواضح، وأمّا بحسب المبدأ فلأ نّه لا منافاة بين قيام مصلحة في كل واحد منهما خاصة بحيث مع استيفاء تلك المصلحة في ضمن الاتيان بأحدهما لا يمكن استيفاء الاُخرى في ضمن الاتيان بالآخر، وقيام مفسدة بالجمع بينهما في الخارج كما هو ظاهر.
ونتيجة ما ذكرناه: هي أنّ ملاك النزاع في المسألة يعم جميع أنواع الايجاب والتحريم ما عدا الايجاب والتحريم التخييريين.




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net