العبادة مع الاضطرار إلى الحرام المتحد معها - تبعية الدلالة الالتزامية للدلالة المطابقية في الحجية 

الكتاب : محاضرات في اُصول الفقه - الجزء الرابع   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 4557

وأمّا المقام الثاني: فلا ينبغي الشك في صحة العبادة في مورد الاجتماع هنا، والوجه في ذلك ما ذكرناه هناك من أنّ من ثمرة المسألة ـ أعني مسألة الاجتماع ـ هي صحة العبادة على القول بالجواز مطلقاً، وقد تقدّم أنّ القول بالجواز يرتكز على ركيزتين:
الاُولى: أن يكون المجمع في مورد الاجتماع متعدداً وجوداً وماهيةً.
الثانية: أن لا يسري الحكم من متعلق النهي إلى متعلق الأمر، وعلى هذا فإذا كانت العبادة صحيحة في مورد الاجتماع مع بقاء الحرمة وفعليتها، وأ نّها لا تكون مانعة عن صحتها، فما ظنك فيما إذا سقطت تلك الحرمة من ناحية الاضطرار أو الاكراه أو نحوهما، كما هو المفروض في مقامنا هذا. وعلى الجملة: فقد ذكرنا أنّ العبادة كالصلاة مثلاً صحيحة على القول بالجواز مطلقاً، ومجرد ملازمة الحرام معها وجوداً لا يمنع عن صحتها بعد ما كان وجود أحدهما في الخارج مبايناً لوجود الآخر، فيكون نظير ما إذا استلزم الصلاة في مكان النظر إلى الأجنبية فكما أ نّه غير مانع عن صحة الصلاة في ذلك المكان فكذلك في المقام، هذا حال ما إذا لم يكن المكلف مضطراً إلى ارتكاب المحرّم وصلّى باختياره في أرض مغصوبة.
وأمّا إذا كان مضطراً إلى ارتكابه والتصرف فيها، فلا إشكال في صحة صلاته، بل لو قلنا بالفسـاد هناك ـ إمّا من ناحية سراية الحكم من أحد المتلازمين إلى الملازم الآخر، أو من ناحية أنّ مجرد ملازمة الحرام معها وجوداً في الخارج مانع عن صحتها، بدعوى اعتبار الحسن الفاعلي في صحة العبادة،

ــ[42]ــ

ومع ملازمة وجود الحرام معها خارجاً لا يكون صدورها حسناً ـ فلا نقول به في المقـام، وذلك لأنّ المانع عن الحكم بالصحة إنّما هو الحرمة الواقعية من جهة أحد هذين الأمرين، والمفروض أ نّها قد سقطت من ناحية الاضطرار أو نحوه واقعاً، لفرض أ نّه رافع للتكليف واقعاً لا ظاهراً، فإذن لا مانع من الصحة أصلاً.
ومن هنا قلنا بصحة العبادة على القول بالامتناع في صورة النسيان أو نحوه بعين هذا الملاك، وهو أ نّه رافع للتكليف واقعاً، فإذا كانت الحرمة مرفوعة واقعاً من جهة النسيان أو نحوه لا مانع عندئذ من الحكم بالصحة أصلاً. وكيف كان، فلا إشكال في صحة العبادة في المقام ولو قلنا بفسادها على القول بالجواز في المسألة، وسيأتي بيان ذلك(1) بشكل واضح إن شاء الله تعالى.
وأمّا المقام الثالث: وهو ما إذا كان المأمور به متحداً مع المنهي عنه في الخارج، فهل يصحّ الاتيان بالعبادة المضطر إليها المتحدة مع الحرام خارجاً أم لا؟
وجهان بل قولان، المعروف والمشهور بين الأصحاب هو القول الأوّل، ولكن اختار جماعة منهم شيخنا الاُستاذ (قدس سره) (2) القول الثاني.
وقد استدلّ للمشهور: بأنّ الموجب لتقييد إطلاق المأمور به بغير الحصة المنهي عنها إنّما هو حرمة تلك الحصة، وإلاّ فلا مقتضي لتقييده أصلاً، والمفروض في المقام أنّ حرمتها قد سقطت من ناحية الاضطرار أو نحوه واقعاً، فلا حرمة بحسب الواقع ونفس الأمر، ومن المعلوم أ نّه مع سقوطها كذلك
ـــــــــــــــــــــ
(1) في ص 54 وتقدّم أيضاً في المجلد الثالث من هذا الكتاب ص 441، 499.
(2) أجود التقريرات 2: 181 وما بعدها.

ــ[43]ــ

لا مانع من التمسك باطلاق دليل الأمر لاثبات كون هذه الحصة من مصاديق المأمور به وأفراده.
لتوضيح ذلك نأخذ مثالاً: وهو ما إذا اضطرّ المكلف إلى الوضوء أو الغسل بالماء المغصوب فتوضأ أو اغتسل به، ففي أمثال هذا لا مانع من الحكم بصحة الوضوء أو الغسل، فانّ المانع عن صحتهما إنّما هو حرمة التصرف في هذا الماء، حيث إنّها لا محالة توجب تقييد إطلاق دليليهما بغير هذه الحصة ـ أعني التوضؤ أو الاغتسال بالماء المغصوب ـ فهذه الحصة خارجة عن دائرة الأمر ومبغوضة للشارع فلا يعقل انطباق المأمور به عليها، لاستحالة كون المحرّم والمبغوض مصداقاً للواجب والمحبوب، ولازم ذلك لا محالة تقييد المأمور به بغيرها. فإذن النتيجة هي أنّ ما دلّ على حرمة التصرف في هذا الماء بالمطابقة، فلا محالة يدل على تقييد الوضوء أو الغسل بغيره بالالتزام، لفرض أنّ هذا التقييد لازم حرمة التصرف فيه ومتفرع عليها، هذا من ناحية. ومن ناحية اُخرى: أنّ الدلالة الالتزامية تابعة للدلالة المطابقية في الحدوث والبقاء والوجود والحجية، فلا يعقل بقاء الدلالة الالتزامية مع سقوط الدلالة المطابقية، فالدلالة الالتزامية كما أ نّها تابعة للدلالة المطابقية في الوجود فلا يعقل وجودها بدون وجود تلك الدلالة، كذلك تابعة لها في الحجية فلا يمكن بقاؤها على صفة الحجية مع فرض سقوط الدلالة المطابقية عنها.
فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين: هي أنّ في المقام بما أنّ الدلالة المطابقية ـ وهي دلالة النهي على حرمة التصرف في هذا الماء ـ قد سقطت من ناحية الاضطرار أو نحوه، فلا محالة تسقط دلالته الالتزامية أيضاً، وهي الدلالة على تقييد الوضوء أو الغسل بغير الوضوء أو الغسل بهذا الماء، فإذن لا مانع من التمسك باطلاق دليل وجوب الوضوء أو الغسل لاثبات كون هذا

ــ[44]ــ

الفرد مأموراً به.
وبكلمة اُخرى: أ نّه لا شبهة في أنّ المانع عن صحة الوضوء أو الغسل ليس هو التصرف في مال الغير بما هو تصرف في مال الغير، ضرورة أ نّه لو أذن في التصرف فيه فلا إشكال في صحة الوضوء أو الغسل به، بل المانع عنها إنّما هو حرمة التصرف فيه، لوضوح أ نّه إذا كان محرّماً يستحيل أن يكون مصداقاً للواجب، وأمّا إذا سقطت تلك الحرمة من جهة الاضطرار أو نحوه واقعاً كما هو المفروض في المقام، فلا مانع عندئذ من كون الوضوء أو الغسل به مصداقاً للمأمور به، لفـرض أنّ التصرف فيه وقتئذ جائز واقعـاً كالتصرف في الماء المملوك أو المباح، فإذا كان جائزاً كذلك فلا مانع من انطباق المأمور به عليه.
ومن هنا قوّينا صحة الوضوء أو الغسل في الماء المغصوب في صورة النسيان إذا كان عن قصـور لا عن تقصـير، والوجـه فيه ما تقدّم من أنّ النسيان كالاضطرار رافع للتكليف واقعاً لا ظاهراً فحسب، ومن المعلوم أ نّه إذا ارتفعت الحرمة واقعاً ارتفع ما هو معلول لها أيضاً، لاستحالة بقاء المعلول من دون علّته، وهو تقييد المأمور به بغير هذا الفرد المنهي عنه، وما نحن فيه من هذا القبيل.
وعلى ضوء ذلك قد تبين أ نّه لا فرق في صحة الوضوء أو الغسل بهذا الماء بين أن يكون للمكلف مندوحة، بأن يتمكن من أن يتوضأ أو يغتسل بماء آخر مباح أو مملوك له، أو لا يكون له مندوحة.
والوجه في ذلك واضح، وهو أنّ حرمة التصرف في هذا الماء على الفرض قد سقطت من جهة الاضطرار أو نحوه، ومن المعلوم أ نّه مع سقوط الحرمة عنه لا فرق بين أن يصرفه في الوضوء أو الغسل وأن يصرفه في أمر آخر، وعليه فتمكن المكلف من استعمال هذا الماء في شيء آخر والتوضؤ أو الاغتسال بماء

ــ[45]ــ

مباح أو مملوك له لا يوجب لزوم صرفه في هذا الشيء والتوضؤ أو الاغتسال بماء آخر، لفرض أنّ التصرف فيه جائز واقعاً، ومن الطبيعي أ نّه لا فرق فيه بين أنحاء التصرف.
نعم، يمكن ذلك فيما لو أذن المالك في التصرف في ماله من جهة خاصة دون جهة اُخرى، فانّه على هذا وجب الاقتصار في التصرف فيه على تلك الجهة فحسب، إلاّ أنّ ذلك أجنبي عن المقام بالكلّية، لفرض أنّ الاضطرار في المقام تعلق بطبيعي التصرف في هذا الماء لا بالتصرف فيه بجهة خاصة كما هو واضح.
تتلخص نتيجة استدلال المشهور في نقطتين رئيسيتين:
الاُولى: أنّ الدلالة الالتزامية تابعة للدلالة المطابقية حدوثاً وبقاءً وجوداً وحجيةً.
الثانية: أنّ الاضطرار رافع للتكليف واقعاً لا ظاهراً فقط كما هو الحال في الجهل فانّه رافع للتكليف ظاهراً ولا ينافي ثبوته واقعاً.




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net