أقسام النهي المتعلق بالعبادة في كلام النائيني (قدس سره) - تفرع دلالة النهي على التقييد على الدلالة على الحرمة 

الكتاب : محاضرات في اُصول الفقه - الجزء الرابع   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 5229

وقد أورد شيخنا الاُستاذ (قدس سره) (1) على النقطة الاُولى بما حاصله: هو أنّ النهي المتعلق بالعبادة يتصور على أنواع:
الأوّل: أن يكون إرشاداً إلى مانعية شيء واعتبار عدمه في المأمور به، وذلك كالنهي عن الصلاة فيما لا يؤكل وفي النجس والميتة والحرير وما شاكل ذلك، فاعتبار عدم هذه الاُمور في المأمور به كالصلاة مثلاً، يكون مدلولاً مطابقياً لهذا النهي وليس مدلولاً إلتزامياً كما هو ظاهر.
الثاني: أن يكون نهياً نفسياً تحريمياً، ولكن استفادة اعتبار قيد عدمي فيه
ـــــــــــــــــــــ
(1) أجود التقريرات 2: 181 وما بعدها.

ــ[46]ــ

ـ أي في المأمور به ـ من ناحية مزاحمته مع المنهي عنه، بمعنى أنّ المكلف لا يتمكن من امتثال كليهما في الخارج فلا محالة تقع المزاحمة بينهما، وعلى هذا فبناءً على تقديم جانب النهي على جانب الأمر لا محالة يقيد إطلاق المأمور به بغير هذا الفرد.
الثالث: هذه الصورة بعينها، ولكن استفادة التقييد ليست من ناحية مزاحمة المأمور به مع المنهي عنه، بل هو من ناحية الدلالة الالتزامية، بمعنى أنّ النهي يدل على الحرمة بالمطابقة وعلى التقييد بالالتزام.
أمّا النوع الأوّل، فلا إشكال في دلالته على الفساد، وذلك لأنّ مقتضى إطلاق هذا النهي هو اعتبار هذا القيد العدمي في المأمور به مطلقاً وفي جميع أحوال المكلف، ولازم ذلك سقوط الأمر عنه عند انحصار الامتثال بالفرد الفاقد لهذا القيد، كما لو اضطرّ المكلف إلى لبس الحرير أو الذهب أو الميتة في الصلاة، هذا ما تقتضيه القاعدة، ولكن في خصوص باب الصلاة قد دلّ الدليل على عدم سقوطها بحال، ومردّ هذا الدليل إلى إلغاء هذه القيود عند العجز وعدم التمكن من إتيانها.
وأمّا النوع الثاني، وهو ما كان التقييد ناشئاً عن مزاحمة المأمور به مع المنهي عنه، فلا يدل على الفساد حتى فيما إذا تمكن المكلف من ترك الحرام بناءً على إمكان الترتب وصحته، أو بناءً على إمكان تصحيح العبادة بالملاك فضلاً عما إذا سقطت الحرمة من ناحية الاضطرار، كما في المقام، وذلك لأنّ سقوط الحرمة يستلزم سقوط التقييد لا محالة، لفرض أنّ منشأه ليس دليلاً لفظياً له عموم أو إطلاق ليتمسك بعمومه أو إطلاقه لاثبات أ نّه باق ولم يسقط، بل منشؤه مزاحمة الحرمة مع الوجوب، فإذا سقطت الحرمة من ناحية الاضطرار ارتفعت المزاحمة ومع ارتفاعها لا يعقل بقاؤه، بداهة أ نّه لا يعقل بقاء المعلول مع

ــ[47]ــ

سقوط علته وارتفاعها، وكذا الحال فيما إذا كانت الحرمة ثابتة في الواقع ولكنّها غير منجّزة، لوضوح أ نّها ما لم تكن منجّزة فلا تزاحم الوجوب ولا تكون معجّزاً للمكلف عن الاتيان بالمأمور به ومعذّراً له في تركه لتكون موجبة لتقييده بغير هذا الفرد.
فالنتيجة: أنّ الحرمة إذا سقطت من جهة الاضطرار أو نحوه ـ كما فيما نحن فيه، أو فرض أ نّها وإن لم تسقط في الواقع بل هي باقية إلاّ أ نّها غير منجّزة ـ فلا تمنع عن انطباق الطبيعي المأمور به على هذا الفرد الملازم وجوداً مع الحرام، لأنّ المانع عنه إنّما هو الحرمة المنجّزة الموجبة لتقييده بغيره بناءً على تقديمها على الوجوب كما هو المفروض، وأمّا إذا سقطت فلا مانع أصلاً.
وأمّا النوع الثالث، وهو ما كان التقييد ناشئاً عن الدلالة الالتزامية، فقد أفاد (قدس سره) بما هو توضيحه: أنّ التقييد والحرمة معلولين للنهي في مرتبة واحدة، فلا سبق للحرمة على التقييد ليكون التقييد معلولاً لها، وعليه فمقتضى القاعدة الأوّلية هو سقوط الأمر عند تعذر قيده، ضرورة استحالة بقاء الأمر بحاله مع تعذره، وإلاّ لزم التكليف بالمحال، ومقتضى القاعدة الثانوية هو سقوط التقييد ولزوم الاتيان بالباقي من أجزاء الصلاة وشرائطها، والوجه في ذلك: هو أنّ الحرمة والوجوب متضادان، وقد تقدّم في بحث الضد(1) بشكل واضح أنّ وجود الضد ليس مقدمةً لعدم الضد الآخر، ضرورة أنّ المقدمية تقتضي تقدم المقدمة على ذيها بالرتبة، والمفروض أ نّه لا تقدم ولا تأخر بين وجود ضد وعدم الآخر، كما أ نّه لا تقدم ولا تأخر بين وجوديهما، لأنّ تقدم شيء على آخر بالرتبة يحتاج إلى ملاك مصحح له ولا يكون جزافاً، والمفروض أ نّه
ـــــــــــــــــــــ
(1) راجع المجلد الثاني من هذا الكتاب ص 290 وما بعدها.

ــ[48]ــ

لا ملاك له في المقام. فالنتيجة: أنّ عدم الضد ووجود ضد آخر في رتبة واحدة من دون سبق ولحوق بينهما أبداً، فإذا كان الأمر كذلك يستحيل أن يكون أحدهما متفرعاً على الآخر وفي مرتبة متأخرة عنه.
وعلى ضوء ذلك قد تبين أ نّه لا يمكن أن يكون النهي دالاً على الحرمة في مرتبة وعلى التقييد وعدم الوجوب في مرتبة اُخرى متفرعةً عليها، لما عرفت من عدم الاختلاف بينهما في الرتبة أصلاً، وعليه فلا محالة تكون دلالة النهي على كليهما في رتبة واحدة.
ونتيجة ذلك: هي أنّ مقتضى القاعدة الأوّلية سقوط الأمر عن المركب عند تعذر قيد من قيوده دون سقوط التقييد، لفرض أنّ دلالة النهي عليه لم تكن متفرعة على دلالته على الحرمة، بل دلالته عليه كانت في عرض دلالته عليها.
ويترتب على ذلك: أ نّه إذا سقطت دلالته على الحرمة لضرورة فلا مقتضي لسقوط دلالته على التقييد أصلاً، لفرض أ نّها غير متفرعة عليها لتنتفي بانتفائها، بل هي في عرضها، فإذن مقتضى القاعدة الأوّلية هو عدم سقوط التقييد وأ نّه باق بحاله، والاضطرار إنّما يوجب سقوط الحرمة فحسب، فانّ بقاءها معه غير معقول، لاستلزام بقائها في هذا الحال التكليف بالمحال، وأمّا التقييد فلا موجب لسقوطه. ومن المعلوم أ نّه لا منافاة بين سقوط الحرمة وبقاء التقييد أصلاً، بل هو مقتضى إطلاق دليله كما لا يخفى.
نعم، قد دلّ الدليل على سقوطه في خصوص باب الصلاة، ولازم ذلك هو وجوب الاتيان بالباقي من أجزائها وشرائطها.
ولنأخذ بالنظر على ما أفاده (قدس سره).
أمّا ما أفاده في النوع الأوّل من تلك النواهي، فهو في غاية الاستقامة، كما

ــ[49]ــ

تقدم ذلك غير مرّة فلا نعيد.
وأمّا ما أفاده في النوع الثاني منها، فأيضاً الأمر كذلك، فانّه لا إشكال في سقوط التقييد عندئذ ـ أي عند سقوط النهي واقعاً من ناحية الاضطرار أو نحوه ـ ومعه لا شبهة في صحة العبادة، بل قد ذكرنا سابقاً أنّ العبادة صحيحة في فرض بقاء الحرمة وعدم سقوطها بناءً على ما حققناه من إمكان الترتب وجوازه، فضلاً عما إذا سقطت الحرمة.
وأمّا ما أفاده في النوع الثالث، فلا يمكن تصديقه بوجه، والصحيح فيه هو ما ذكره المشهور من أنّ دلالة النهي على التقييد متفرعة على دلالته على الحرمة فتنتفي بانتفائها، والوجه في ذلك: هو أنّ ما ذكره شيخنا الاُستاذ (قدس سره) من أ نّه لا تقدم ولا تأخر بين عدم ضد ووجود ضد آخر وأ نّهما في مرتبة واحدة، وإن كان في غاية المتانة والصحة بحسب مقام الواقع والثبوت، وذلك لما ذكرناه غير مرّة من أنّ تقدم شيء على آخر في الرتبة بعد ما كان مقارناً معه زماناً لا يكون جزافاً، وإلاّ لأمكن تقدم كل شيء على آخر بالرتبة، بل كان بملاك كتقدم العلة على المعلول رتبةً بعد ما كانت مقارناً معه زماناً، فانّه قضية حق علّيتها عليه، وتقدم الشرط على المشروط كذلك، فانّه قضاء لحق الشرطية... وهكذا، ولا ملاك لتقدم عدم ضد على وجود ضد آخر رتبة أو بالعكس، كما بيّنا ذلك في بحث الضد بشكل واضح فلاحظ(1).
ولكنّه لا يتم بحسب مقام الاثبات والدلالة، بيان ذلك: هو أ نّه لا شبهة في أنّ الأدلة الدالة على حرمة التصرف في مال الغير كقوله (عليه السلام) «لا يحل
ـــــــــــــــــــــ
(1) راجع المجلد الثاني من هذا الكتاب ص 290 وما بعدها.

ــ[50]ــ

مال امرئ مسلم إلاّ بطيب نفسه»(1) ونحوه لا تدل على التقييد المزبور وعدم الوجوب إلاّ بالدلالة الالتزامية، ضرورة أنّ مدلولها المطابقي هو حرمة التصرف في مال الغير بدون رضاه لا ذلك التقييد وعدم الوجوب، ولكن بما أنّ الحرمة تنافي الوجوب ولا تجتمع معه فلا محالة ما دلّ على الحرمة بالمطابقة يدل على عدم الوجوب بالالتزام، نظير ما إذا أخبر أحد عن قيام زيد مثلاً، فانّ إخباره هذا يدل على قصد الحكاية عن قيامه بالمطابقة وعلى عدم قعوده بالالتزام، فانّ كل دليل يدل على ثبوت شيء لشيء بالمطابقة ـ سواء أكان إخباراً أو إنشاءً ـ يدل على عدم ثبوت ضدّه له بالالتزام، فلو دلّ دليل على حرمة شيء فلا محالة يدل بالالتزام على عدم وجوبه، وهذا من الواضحات الأوّلية.
ويترتب على ذلك: أنّ عدم التقدم بين عدم ضد ووجود ضد آخر أو بالعكس وعدم تفرّع أحدهما على الآخر بحسب مقام الواقع والثبوت، لا ينافي الترتب والتفرع بينهما بحسب مقام الاثبات والدلالة، بل قد عرفت أنّ ذلك من الواضحات، بداهة أنّ الدلالة الالتزامية متفرّعة على الدلالة المطابقية وفي مرتبة متأخرة عنها وإن لم يكن بين ذاتي المدلولين ـ أعني المدلول الالتزامي والمدلول المطابقي ـ تقدم وتأخر في مقام الثبوت والواقع أصلاً، فان ذلك لا يمنع عن كون دلالة الدليل على أحـدهما في مرتبة سـابقة على دلالته على الآخر، بل الأمر طبعاً كذلك في جميع الاُمور المتلازمة في الوجود خارجاً، فكلّما دلّ الدليل على وجود أحد المتلازمين بالمطابقة دلّ على وجـود الآخر بالالتزام،
ـــــــــــــــــــــ
(1) الوسائل 5: 120 / أبواب مكان المصلي ب 3 ح 1، 29: 10 / أبواب القصاص في النفس ب 1 ح 3 (مع اختلاف يسير).

ــ[51]ــ

فتكون دلالته على وجود أحـدهما في مرتبة متقدمة على دلالته على وجود الآخر، مع أ نّه لا تقدم ولا تأخر بينهما بحسب الواقع.
وكذا ما دلّ على وجود المعلول بالمطابقة، لا محالة يدل على وجود العلة بالالتزام، فتكون دلالته على وجود المعلول في مرتبة سابقة على دلالته على وجود العلة، مع أنّ وجوده متأخر رتبة عن وجودها، ولذا قسّموا الدليل إلى دليل إنّي ودليل لمّي، والمراد بالأوّل هو ما كان المعلول واقعاً في طريق إثبات العلة، ويكون العلم بها معلولاً للعلم به، أو كان أحد المعلولين واقعاً في طريق إثبات المعلول الآخر، والمراد بالثاني هو ما كانت العلة واقعة في طريق إثبات المعلول.
فالنتيجة من ذلك: هي أنّ عدم التقدم والتأخر بين شيئين رتبةً بحسب مقام الواقع والثبوت لا يوجب عدم التقدم والتأخر بينهما بحسب مقام الاثبات والكشف أيضاً، لوضوح أ نّه لا مانع من أن يكون كشف أحدهما والعلم به متقدّماً رتبةً على كشف الآخر والعلم به، بل لا مانع من أن يكون كشف المتأخر رتبةً متقدماً على كشف المتقدم كذلك، كما هو الحال في الدليل الإنّي، بل هذا من البديهيات الأوّلية، ضرورة أنّ كل دليل دلّ على وجود شيء لا محالة يدل على عدم ضدّه ووجود لازمه أو ملزومه بالالتزام.
نعم، المستحيل إنّما هو كون الشيء المتأخر رتبةً واسطة وعلة لوجود الشيء المتقدم كذلك، أو كون أحد المتساويين في الرتبة علةً لوجود المتساوي الآخر، فان هذا غير معقول، لاستلزام ذلك تقدم الشيء على نفسه، وأمّا كون الشيء المتأخر واسطةً للعلم بالمتقدم أو كون أحد المتساويين واسطةً للعلم بالمتساوي الآخر فلا محذور فيه أبداً. فما أفاده شيخنا الاُستاذ (قدس سره) من أنّ دلالة النهي على التقييد وعدم الوجوب ليست متفرعة على دلالته على الحرمة بل

ــ[52]ــ

هي في عرضها، لا يرجع بظاهره إلى معنىً معقول أصلاً.
لحدّ الآن قد تبيّن أنّ دلالة النهي على التقييد وعدم الوجوب متفرعة على دلالته على الحرمة، وليست في عرض دلالته عليها، هذا من ناحية. ومن ناحية اُخرى: أ نّا قد ذكرنا أنّ الدلالة الالتزامية تابعة للدلالة المطابقية حدوثاً وبقاءً وجوداً وحجيةً.
فالنتيجة على ضوئهما: هي أنّ الدلالة المطابقية لو سقطت عن الحجية لسقطت الدلالة الالتزامية أيضاً، وبما أنّ في المقام قد سقطت الدلالة المطابقية وهي دلالة النهي على الحرمة من ناحية الاضطرار أو نحوه، فلا محالة تسقط الدلالة الالتزامية أيضاً وهي دلالته على التقييد بمقتضى قانون التبعية. فإذن لا مانع من التمسك باطلاق دليل الوجوب لاثبات كون هذه الحصة مصداقاً للمأمور به، وفي المثال المتقدم لا مانع من التمسك باطلاق دليل وجوب الوضوء أو الغسل عندئذ لاثبات جوازه في هذا الماء، أعني الماء المغصوب، فيكون المقام نظير ما إذا ورد التخصيص على دليل النهي من أوّل الأمر، فانّه لا محالة يوجب اختصاص الحرمة بغير موارد تخصيصه، وعليه فلا مانع من التمسك باطلاق دليل الأمر بالاضافة إلى تلك الموارد أصلاً.
ومن ذلك يظهر فساد ما عن شيخنا الاُستاذ (قدس سره)(1) أيضاً من أنّ الدلالة الالتزامية ليست تابعة للدلالة المطابقية في الحجية، وإنّما هي تابعة لها في الحدوث، فإذن سقوط الدلالة المطابقية عن الحجية لا يستلزم سقوط الدلالة الالتزامية عنها، ووجه الظهور ما عرفت على نحو الاجمال من أنّ الدلالة الالتزامية تتبع الدلالة المطابقية في الحدوث والحجية، فلا يعقل بقاؤها على
ـــــــــــــــــــــ
(1) أجود التقريرات 2: 26.

ــ[53]ــ

صفة الحجية والاعتبار مع سقوط الدلالة المطابقية عنها، وقد تقدّم الكلام في بيان الجواب عن ذلك نقضاً وحلاً في بحث الضد(1) بصورة واضحة، فلا نعيد.
فالنتيجة قد أصبحت إلى الآن: أنّ الصحيح هو ما ذهب إليه المشهور من صحة العبادة بعد سقوط الحرمة من ناحية الاضطرار أو نحوه واقعاً.
ـــــــــــــــــــــ
(1) راجع المجلد الثاني من هذا الكتاب ص 362 وما بعدها.




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net