4 ـ إذا تعدد الشرط واتحد الجزاء \ الاشارة إلى قاعدة الواحد لا يصدر إلاّ من واحد 

الكتاب : محاضرات في اُصول الفقه - الجزء الرابع   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 5268

 

[ تعدد الشرط واتحاد الجزاء ]

الرابع: إذا تعدد الشرط واتحد الجزاء كما في قضيتي: إذا خفي الأذان فقصّر، وإذا خفي الجدران فقصّر، فبناءً على ضوء دلالة القضية الشرطية على المفهوم لا محالة تقع المعارضة بين إطلاق مفهوم كل منهما ومنطوق الاُخرى، وعليه فيقع الكلام في طريق علاج هذه المعارضة وقد ذكر لذلك طرق أربعة:
الأوّل: أن يلتزم بعدم دلالتهما على المفهوم، نظراً إلى أنّ دلالة القضية

ــ[240]ــ

الشرطية على المفهوم تقوم على أساس دلالتها على العلية المنحصرة، وحيث إنّ العلة في مفروض المقام لم تكن منحصرةً، فلا مقتضي لدلالتها على المفهوم أصلاً. وقد اختار هذا الوجه المحقق صاحب الكفاية (قدس سره)(1) بدعوى أ نّه مما يساعد عليه العرف.
الثاني: أن يلتزم في هذه الموارد أنّ الشرط هو عنوان أحدهما الذي هو نتيجة العطف بكلمة «أو» وعليه فان كان لهما جامع ذاتي فذلك الجامع الذاتي هو الشرط في الحقيقة، وإن لم يكن لهما جامع كذلك فالجامع الانتزاعي هو الشرط فيها، ونتيجة ذلك: هي ترتب وجوب القصر على خفاء أحدهما وإن لم يخف الآخر.
الثالث: أن يلتزم بأنّ الشرط هو المركب من الأمرين الذي هو نتيجة العطف بكلمة «واو» لا كل واحد منهما مستقلاً، وعلى هذا فاذا خفيا معاً وجب القصر وإلاّ فلا وإن فرض خفاء أحدهما.
الرابع: أن يلتزم بتقييد إطلاق مفهوم كل منهما بمنطوق الآخر من دون تصرف في شيء من المنطوقين. فهذه هي الوجوه المتصورة في هذه الموارد.
نعم، ذكر المحقق النائيني (قدس سره)(2) وجهاً خامساً وهو أن يكون كل منهما شرطاً مستقلاً ثمّ قال: وعليه يترتب لزوم تقييد إطلاق كل من الشرطين المذكورين في القضيتين باثبات العدل له فيكون وجود أحدهما كافياً في ثبوت الجزاء.
ـــــــــــــــــــــ
(1) كفاية الاُصول: 201.
(2) أجود التقريرات 2: 259.

 
 

ــ[241]ــ

ولكن غير خفي أنّ هذا الوجه بعينه هو الوجه الثاني فليس وجهاً آخر في قباله كما هو ظاهر. وبعد ذلك نقول:
أمّا الوجه الرابع: فبظاهره غير معقول إلاّ أن يرجع إلى الوجه الثاني، والسبب في ذلك هو ما تقدم من أنّ المفهوم لازم عقلي للمنطوق باللزوم البيّن بالمعنى الأخص، وعليه فلا يعقل التصرف فيه بتقييد أو تخصيص من دون التصرف في المنطوق أصلاً، بداهة أنّ مردّ ذلك إلى انفكاك اللازم من الملزوم والمعلول عن العلة وهو مستحيل. وعلى الجملة: فقد عرفت أنّ دلالة القضية الشرطية على المفهوم إنّما هي بدلالة التزامية على نحو اللزوم البيّن بالمعنى الأخص، ومن الطبيعي أنّ هذه الدلالة بما أ نّها دلالة قهرية ضرورية لدلالة القضية على المنطوق، فلا يمكن رفع اليد عنها والتصرف فيها من دون رفع اليد والتصرف في تلك، فاذن لا بدّ من إرجاع هذا الوجه إلى الوجه الثاني. وعليه فالوجوه المعقولة في المسألة ثلاثة.
ولنأخذ بالنظر إلى هذه الوجوه:
أمّا الوجه الأوّل: وهو الالتزام برفع اليد عن المفهوم فيهما معاً فيردّه: أ نّه بلا مقتض وموجب، بداهة أنّ الضرورة تتقدر بقدرها، ومن الطبيعي أنّ الضرورة لا تقتضي رفع اليد عن مفهوم كلتا القضيتين معاً والالتزام بعدم دلالتهما عليه أصلاً، بل غاية ما تقتضي هو رفع اليد عن إطلاق كل منهما بتقييده بالاُخرى بمثل العطف بكلمة «أو» او بكلمة «واو» وبه تعالج المعارضة بينهما ويدفع التنافي بينهما رأساً، وعليه فكيف يساعد العرف على هذا الوجه. وسيأتي بيانه بشكل موسّع من دون موجب للالتزام بعدم المفهوم في ضمن البحوث التالية.

ــ[242]ــ

وأمّا الوجه الثاني: وهو أن يكون الشرط عنوان أحدهما في الحقيقة، فقد ذكر المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) (1) أنّ العقل يعيّن هذا الوجه وأفاد في وجه ذلك ما توضيحه هذا: أنّ الاُمور المتباينة المتعددة بما هي كذلك لا يعقل أن تؤثر أثراً واحداً، وذلك لاستحالة صدور الواحد عن الكثير بما هو كثير، لاستلزام ذلك اجتماع علل مستقلة على معلول واحد وهو محال، وقد تقدم بيان ذلك بشكل موسّع في ضمن بحوث الجبر والتفويض، وحيث إنّ المعلول في المقام واحد وهو وجوب القصر، فلا يعقل أن يكون المؤثر فيه الشرطين المذكورين في القضيتين على نحو الاستقلال، وإلاّ لزم تأثير الكثير في الواحد وهو مستحيل. فاذن بطبيعة الحال يكون الشرط هو الجامع بينهما بقانون أنّ وحدة الأثر تكشف عن وحدة المؤثر، وعليه فلا بدّ من الالتزام بهذا الوجه وإن كان مخالفاً لما هو المرتكز في أذهان العرف من أنّ كل واحد منهما بعنوانه الخاص وإطاره المخصوص شرط ومؤثر فيه، إلاّ أنّ هذا الارتكاز العرفي إنّما يكون متبعاً فيما أمكن الالتزام به، لا في مثل المقام حيث قد عرفت استحالة كون كل منهما بعنوانه الخاص شرطاً ومؤثراً. ثمّ بعد ذلك ذكر بقوله: وأمّا رفع اليد عن المفهوم في خصوص أحد الشرطين وبقاء الآخر على مفهومه فلا وجه لأن يصار إليه إلاّ بدليل آخر، إلاّ أن يكون ما اُبقي على المفهوم أظهر.
ولنأخذ بالنقد على ما أفاده (قدس سره).
أمّا ما أفاده من أنّ قاعدة الواحد لايصدر إلاّ من الواحد ويستحيل صدوره عن الكثير فيرد عليه:
أوّلاً: ما ذكرناه غير مرّة من أنّ هذه القاعدة إنّما تتم في الواحد الشخصي
ـــــــــــــــــــــ
(1) كفاية الاُصول: 201 لكن قوله: وأمّا رفع... لا توجد في طبعة المؤسّسة.

ــ[243]ــ

الحقيقي حتى يكشف عن جامع وحداني كذلك، ولا تتم فيما إذا كانت وحدة المعلول اعتبارية، فانّه لا يكشف إلاّ عن وحدة كذلك، ومن المعلوم أنّ وحدة الجزاء في المقام وحدة اعتبارية لا حقيقية، وعليه فلا يكشف عن جامع واحد ذاتي.
وثانياً: أ نّه لا شمول ولا عموم لتلك القاعدة بالاضافة إلى جميع الأشياء بشتى ألوانها وأشكالها، بل إنّ لها إطاراً خاصاً وموضعاً مخصوصاً وهو إطار سلسلة العلل والمعاليل الطبيعيتين، دون إطار سلسلة الأفعال الاختيارية، وقد تقدّم(1) الحجر الأساسي للفرق بين السلسلتين في ضمن نقد مذهب التفويض بشكل موسّع وقلنا هناك باختصاص القاعدة بالسلسلة الاُولى فحسب دون الثانية، وعليه فلا تنطبق على ما نحن فيه، وذلك لما ذكرناه غير مرّة من أنّ الأحكام الشرعية بأجمعها اُمور اعتبارية ولا واقع موضوعي لها ما عدا اعتبار المعتبر وليست باُمور تكوينية، وأ نّها فعل اختياري للشارع وصادرة منه باختياره وإعمال قدرته، وليس للاُمور الخارجية دخل وتأثير فيها أصلاً، وإلاّ لكانت اُموراً تكوينية بقانون التطابق والسنخية. نعم، لها موضوعات خاصة وقد استحال انفكاكها عنها في مرحلة الفعلية ولكن هذه الاستحالة إنّما هي من ناحية لزوم الخلف لا من ناحية انفكاك المعلول عن العلة التامة، لفرض أ نّه ليس لها أيّ تأثير في الأحكام أبداً.
فالنتيجة في نهاية الشوط: هي أنّ ما نحن فيه ليس من موارد تلك القاعدة في شيء ليتمسك بها لاثبات أنّ الشرط هو الجامع بين الأمرين، وعليه فكما يمكن أن يكون الشرط هو الجامع بينهما، يمكن أن يكون الشرط هو مجموعهما
ـــــــــــــــــــــ
(1) في المجلد الأوّل من هذا الكتاب ص 14.

ــ[244]ــ

من حيث المجموع.
وثالثاً: أ نّه قد لا يعقل الجامع الماهوي بينهما، وذلك كما إذا افترضنا كون أحد الشرطين من مقولة والشرط الآخر من مقولة اُخرى، فاذن لا يعقل أن يكون بينهما جامع حقيقي، لاستحالة وجود الجامع كذلك بين المقولتين.
وأمّا ما أفاده (قدس سره) بقوله: إلاّ أن يكون ما اُبقي على المفهوم أظهر، فلعله سهو من قلمه الشريف، وذلك لأن مجرد رفع اليد عن مفهوم أحدهما وبقاء الآخر على مفهومه لا يوجب علاج التعارض والتنافي بين القضيتين، وذلك لأنّ التنافي إنّما هو بين مفهوم كل واحدة منهما ومنطوق الاُخرى، ورفع اليد عن مفهوم إحداهما فحسب إنّما يرفع التنافي بين مفهومها ومنطوق الاُخرى، وأمّا التنافي بين مفهوم الاُخرى ومنطوق تلك باق على حاله، ومن هنا قال بعض أصحاب الحواشي أ نّه ضرب في النسخة المصححة خط المحو على هذه العبارة.
لحدّ الآن قد تبين أنّ ما تمسك به المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) لاثبات كون الشرط هو الجامع بين الأمرين غير تام، هذا.
وقد اختار شيخنا الاُستاذ (قدس سره) أنّ الشرط هو مجموع الأمرين لا كل واحد منهما، وقد أفاد في وجه ذلك ما إليك لفظه: التحقيق أنّ دلالة كل من الشرطيتين على ترتب الجزاء على الشرط المذكور فيهما باستقلاله من غير انضمام شيء آخر إليه إنّما هي بالاطلاق المقابل بالعطف بالواو، كما أنّ انحصار الشرط بما هو مذكور فيهما مستفاد من الاطلاق المقابل للعطف بأو، وبما أ نّه لا بدّ من رفع اليد عن أحد الاطلاقين ولا مرجح لأحدهما على الآخر، يسقط كلاهما عن الحجية، لكن ثبوت الجزاء كوجوب القصر في المثال يعلم بتحققه عند تحقق مجموع الشرطين على كل تقدير. وأمّا في فرض انفراد كل من

ــ[245]ــ

الشرطين بالوجود فثبوت الجزاء فيه يكون مشكوكاً فيه، ولا أصل لفظي في المقام على الفرض، لسقوط الاطلاقين بالتعارض فتصل النوبة إلى الأصل العملي، فتكون النتيجة موافقة لتقييد الاطلاق المقابل بالعطف بالواو.
وأمّا ما ربما يقال من لزوم رفع اليد عن خصوص الاطلاق المقابل بالعطف بأو، لكونه متاخراً في الرتبة عن الاطلاق المقابل بالعطف بالواو، ضرورة أنّ انحصار الشرط متأخر رتبة عن تعينه وتشخصه، فيدفعه: أنّ تقدم أحد الاطلاقين على الآخر في الرتبة لا يوجب صرف التقييد إلى المتأخر، لأنّ الموجب لرفع اليد عن الاطلاقين إنّما هو وجود العلم الاجمالي بعدم إرادة أحدهما، ومن الواضح أنّ نسبة العلم الاجمالي إلى كليهما على حد سواء فلا موجب لرفع اليد عن أحدهما بخصوصه دون الآخر(1).
ملخّص ما أفاده (قدس سره) هو أنّ الاطلاقين بما أ نّه لا يمكن الأخذ بكليهما معاً من ناحية العلم الاجمالي بعدم إرادة أحدهما فيسقطان معاً، فلا يكون في المسألة أصل لفظي من عموم أو إطلاق ليتمسك به لاثبات الجزاء، وهو وجوب القصر في المثال عند افتراض تحقق أحد الشرطين في الخارج. فاذن بطبيعة الحال تصل النوبة إلى الأصل العملي، وبما أنّ وجوب القصر في مفروض المقام عند انفراد كل من الشرطين بالوجود مشكوك فيه فالمرجع فيه لا محالة هو أصالة البراءة، هذا من ناحية.
ومن ناحية اُخرى: أ نّه لا مانع من الرجوع إلى استصحاب بقاء وجوب التمام، لفرض شك المكلف في هذا الحال في تبدل الوظيفة من التمام إلى القصر، ومعه لا قصور في أدلة الاستصحاب عن شمول المقام. وإن شئت قلت: إنّه
ـــــــــــــــــــــ
(1) أجود التقريرات 2: 261 ـ 262.

ــ[246]ــ

لا شبهة في وجوب التمام على المكلف قبل خفاء الأذان والجدران معاً، كما أ نّه لا إشكال في وجوب القصر عليه بعد خفائهما كذلك، فهاتان الصورتان خارجتان عن محل الكلام ولا إشكال فيهما، وإنّما الاشكال والكلام في الصورة الثالثة وهي ما إذا خفي أحدهما دون الآخر ففي هذه الصورة بما أنّ إطلاق كل منهما قد سقط عن الاعتبار من ناحية العلم الاجمالي بمخالفة أحدهما للواقع فبطبيعة الحال ينتهي الأمر إلى الأصل العملي وهو في المقام استصحاب بقاء وجوب التمام، للشك في بقائه وتبدله بالقصر. فاذن النتيجة هي نتيجة التقييد بالعطف بالواو.
ولنأخذ بالمناقشة على ما أفاده (قدس سره) صغرى وكبرى:
أمّا بحسب الصغرى: فلأنّ مورد الكلام ليس من صغريات ما أفاده (قدس سره) من الكبرى وهي الرجوع إلى الأصل العملي، بل هو من صغريات كبرى اُخرى وهي الرجوع إلى الأصل اللفظي من عموم أو إطلاق، فلنا دعويان: الاُولى أنّ المقام ليس من موارد الرجوع إلى الأصل العملي. الثانية: أ نّه من موارد الرجوع إلى الأصل اللفظي.
أمّا الدعوى الاُولى: فلأنّ وجوب القصر وجواز الافطار في حال السفر قد ثبتا في الشريعة المقدسة بالكتاب والسنّة، هذا من ناحية. ومن ناحية اُخرى: أنّ السفر المأخوذ في موضوعهما أمر عرفي وهو بهذا المعنى العرفي مأخوذ فيه على الفرض. ومن ناحية ثالثة: أ نّه لا شبهة في صدق عنوان المسافر على من خرج من البلد قاصداً السفر ولا يتوقف هذا الصدق على وصوله إلى حدّ الترخص.
فالنتيجة على ضوء هذه النواحي: أنّ مقتضى إطلاق الكتاب والسنّة وجوب القصر وجواز الافطار مطلقاً ولو قبل وصوله إلى حدّ الترخص أي

ــ[247]ــ

بمجرد صدق عنوان المسافر عليه، ولكن قد قيّد هذا المطلق في عدّة من النصوص به، يعني حدّد وجوب القصر وجواز الافطار فيها بخفاء الأذان والتواري عن الجدران الذي عبّر عنه في كلمات الفقهاء بخفاء الجدران، نظراً إلى أ نّه لا طريق للمسافر إلى تواريه عن الجدران إلاّ بخفائها وإلاّ فهذه الكلمة لم ترد في نصوص الباب.
فالنتيجة: أنّ هذه الروايات توجب تقييده بما ذكر، وعليه فما لم يصل المسافر إلى حدّ الترخص لم يجب عليه التقصير. وعلى ضوء هذا البيان فاذا خفي أحدهما دون الآخر فالمكلف وإن شكّ في وجوب القصر وجواز الافطار إلاّ أنّ المرجع فيه ليس أصالة البراءة عنه واستصحاب بقاء التمام، بل المرجع الأصل اللفظي وهو الاطلاق المتقدم ومقتضاه وجوب القصر في هذا الفرض دون التمام.
وأمّا الدعوى الثانية: وهي أنّ المورد داخل في كبرى الرجوع إلى الأصل اللفظي دون العملي فيظهر حالها مما بيّناه في الدعوى الاُولى، وتوضيحه: هو أنّ القدر الثابت من تقييد هذه المطلقات الدالة على وجوب القصر وجواز الافطار مطلقاً هو ما إذا لم يخف الأذان والجدران معاً، حيث إنّ الواجب عليه في هذا الفرض هو التمام وعدم جواز الافطار، وأمّا إذا خفي أحدهما دون الآخر فلا نعلم بتقييدها، ومعه لا مناص من الرجوع إليها لاثبات وجوب القصر وجواز الافـطار، لفرض عدم الدليل على التقـييد في هذه الصورة بعد سقوط كلا الاطلاقين من ناحية المعارضة، فتكون النتيجة هي نتيجة العطف بأو على عكس ما أفاده شيخنا الاُستاذ (قدس سره).
وقد تحصّل من ذلك: أنّ ما أفاده شيخنا الاُستاذ (قدس سره) من الكبرى لا ينطبق على المقام.

ــ[248]ــ

نعم، إذا افترضنا قضيتين شرطيتين في مورد كانتا واردتين لبيان الحكم الابتدائي تمّ ما أفاده (قدس سره)، وذلك كما إذا ورد في دليل: إذا خفي الأذان فتصدق، وورد في دليل آخر: إذا خفي الجدران فتصدق، وبما أ نّه لا يمكن الجمع بين الاطلاقين معاً للعلم الاجمالي بمخالفة أحدهما للواقع فيسقطان، فالمرجع عندئذ بطبيعة الحال هو الأصل العملي، وهو أصالة البراءة عن وجوب التصدق عند خفاء أحدهما دون الآخر، لا في مثل المقام حيث إنّهما واردتان لبيان تقييد الحكم الثابت بالعموم والاطلاق، فحينئذ لا محالة يكون المرجع في مورد الشك في التقييد والتخصيص هو ذاك العموم والاطلاق كما عرفت.
وأمّا بحسب الكبرى: فالصحيح أنّ القاعدة تقتضي تقييد الاطلاق المقابل للعطف بأو دون العطف بالواو كما اختاره شيخنا الاُستاذ (قدس سره) والسبب في ذلك: هو أ نّه لا منافاة بين منطوقي القضيتين الشرطيتين المتقدمتين، ضرورة أنّ وجوب القصر عند خفاء الأذان لا ينافي وجوبه عند خفاء الجدران أيضاً، لفرض أنّ ثبوت حكم لشيء لا يدل على نفيه عن غيره، وكذا لا منافاة بين مفهوميهما، لوضوح أنّ عدم وجوب القصر عند عدم خفاء الأذان لا ينافي عدم وجوبه عند عدم خفاء الجدران، إذ عدم ثبوت حكم عند عدم شيء لا يقتضي ثبوته عند عدم شيء آخر ليكون بينهما تناف.
فالنتيجة: أنّ المنافاة إنّما هي بين إطلاق مفهوم إحداهما ومنطوق الاُخرى مع قطع النظر عن دلالتها على المفهوم، ولذا لو كان الوارد في الدليلين: إذا خفي الأذان فقصّر، ويجب تقصير الصلاة عند خفاء الجدران، كان بين ظهور القضية الاُولى في المفهوم وظهور القضية الثانية في ثبوت وجوب التقصير عند خفاء الجدران تعارض لا محالة، فانّ مقتضى إطلاق مفهوم الاُولى عدم وجوب القصر عند عدم خفاء الأذان وإن فرض خفاء الجدران، ومقتضى القضية

ــ[249]ــ

الثانية وجوب القصر في هذا الفرض.
وقد تحصّل من ذلك: أنّ المعارضة في مورد الكلام إنّما هي بين مفهوم كل من القضيتين ومنطوق الاُخرى الدال على ثبوت الجزاء عند تحقق شرطه، فاذن لا بدّ لنا من علاج هذه المعارضة وقد ذكروا في مقام علاجها وجوهاً:
الأوّل: ما تقدم من المحقق صاحب الكفاية (قدس سره) (1) وهو رفع اليد عن مفهوم إحداهما دون الاُخرى.
وفيه: ما عرفت من أ نّه لا تعارض بين المفهومين حتى يعالج بذلك، ومن هنا قلنا إنّ هذا سهو من قلمه (قدس سره).
الثاني: ما تقدم من شيخنا الاُستاذ (قدس سره) وهو رفع اليد عن كلا الاطلاقين معاً والرجوع إلى الأصل العملي.
أقول: إنّ ما أفاده (قدس سره) وإن أمكن علاج المعارضة به، إلاّ أنّ الأخذ به بلا موجب بعد إمكان الجمع العرفي بين الدليلين، والسبب في ذلك هو أ نّه إذا أمكن في مورد علاج المعارضة بين الدليلين على ضوء الجمع العرفي وما هو المرتكز عندهم لم تصل النوبة إلى علاجها بطريق آخر خارج عنه ليس معهوداً ومرتكزاً بينهم، وبما أنّ ما أفاده من الجمع هنا خارج عن المتفاهم العرفي فلا يمكن المساعدة عليه، ولتوضيح ذلك نضرب مثالاً وهو ما إذا ورد الأمر باكرام العلماء الظاهر في وجوب إكرامهم، ثمّ ورد في دليل آخر أ نّه لا يجب إكرام زيد العالم، فانّ التنافي بينهما وإن كان يرتفع بحمل الأمر في الدليل العام على الاستحباب إلاّ أ نّه بلا مقتض، حيث إنّ العرف لا يساعد على ذلك، فانّ الموجب للتنافي في المقام ليس إلاّ ظهور الدليل الأوّل في العموم، ومن
ـــــــــــــــــــــ
(1) في ص 242.

ــ[250]ــ

المعلوم أنّ المرتكز العرفي في أمثال ذلك هو رفع اليد عن العموم وتخصيصه بالدليل الثاني، لا حمل الأمر في الدليل الأوّل على الاستحباب فانّه خارج عن المرتكز العرفي.
وعلى الجملة: فالتنافي في المثال المزبور إنّما هو بين ظهور العام في العموم وظهور الخاص في التخصيص به وعدم كون العام بعمومه مراداً، ولا تنافي بين ظهور الخاص في التخصيص به وبين ظهور الأمر في طرف العام في الوجوب مع قطع النظر عن ظهوره في العموم، وعليه فبطبيعة الحال يحمل العام على الخاص نظراً إلى أنّ ظهوره أقوى منه فيكون قرينةً عليه عرفاً، كما هو الحال في جميع موارد تعارض الظهورات بعضها مع بعضها الآخر. وأمّا التصرف في ظهور الأمر في طرف العام وحمله على الاستحباب فهو بلا ضرورة تستدعيه وإن كان يرتفع به التعارض كما هو يرتفع بحمل أحدهما على التقية، مع أ نّه لم يقل به أحد فيما نعلم، أو بحمل الخاص على أفضل أفراد الواجب أو ما شاكل ذلك.
فالنتيجة في نهاية الشوط: هي أنّ كل ما يمكن به دفع التنافي والتعارض بين الدليلين لا يمكن الأخذ به ما لم يساعد عليه العرف. وعلى ضوء هذا البيان يظهر أنّ ما أفاده شيخنا الاُستاذ (قدس سره) في المقام من رفع اليد عن كلا الاطلاقين والرجوع إلى الأصل العملي لا يمكن المساعدة عليه بوجه، وذلك لأنّ التعارض وإن كان يُدفع بما ذكره (قدس سره) إلاّ أ نّك عرفت أنّ كل ما يمكن به دفع التعارض والتنافي بين الدليلين لا يمكن الأخذ به إلاّ فيما إذا ساعد عليه العرف، يعني يكون الجمع بينهما جمعاً عرفياً، ومن الطبيعي أنّ رفع اليد عن كلا الاطلاقين فيما نحن فيه والرجوع إلى دليل آخر ليس من الجمع العرفي في شيء.

ــ[251]ــ

والسبب في ذلك: هو ما تقدم من أنّ التعارض بينهما إنّما هو بين إطلاق مفهوم كل منهما ومنطوق الاُخرى وإن افترض عدم دلالتها على المفهوم، فلو كان الوارد في الدليلين إذا خفي الأذان فقصّر، ويجب التقصير عند خفاء الجدران، لكان بين ظهور القضية الاُولى في المفهوم وظهور القضية الثانية في ثبوت وجوب التقصير عند خفاء الجدران تعارض لا محالة، وحيث إنّ نسبة المنطوق إلى المفهوم نسبة الخاص إلى العام، فبطبيعة الحال يقيّد إطلاقه به، وبما أنّ التصرف في المفهوم بدون التصرف في المنطوق لا يمكن، لما عرفت من أ نّه لازم عقلي له، فيدور مداره سعةً وضيقاً، فلا يمكن انفكاكه عنه ولو بالاطلاق والتقييد، فلا محالة يستلزم التصرف فيه التصرف في المنطوق، هذا من ناحية.
ومن ناحية اُخرى: أنّ التصرف في إطلاق مفهوم كل من القضيتين بهذا الشكل لا محالة يستدعي التصرف في إطلاق منطوق كل منهما بنتيجة العطف بكلمة «أو» ولازم ذلك هو أنّ الشرط أحدهما، والسر فيه: هو أ نّنا إذا قيّدنا إطلاق مفهوم قوله (عليه السلام): «إذا خفي الأذان فقصّر» بمنطوق قوله (عليه السلام): «إذا خفى الجدران فقصّر»(1) وبالعكس، أي تقييد إطلاق مفهوم القضية الثانية بمنطوق القضية الاُولى، فالنتيجة هي عدم وجوب التقصير إلاّ إذا خفي أحدهما، وهذا معنى أنّ ذلك نتيجة تقييد إطلاق كل من القضيتين بالعطف بكلمة «أو» وأمّا التقييد بالعطف بكلمة «واو» فلا مقتضي له أصلاً وإن كان يرتفع به التعارض.
وقد تحصّل من ذلك عدة اُمور:
الأوّل: أنّ ما أفاده شيخنا الاُستاذ (قدس سره) في المقام خاطئ صغرى وكبرى فلا واقع موضوعي له.
ـــــــــــــــــــــ
(1) الوسائل 8: 470 / أبواب صلاة المسافر ب 6 (نقل بالمضمون).

ــ[252]ــ

الثاني: أنّ ما ذكرناه من الجمع هنا هو المطابق للارتكاز العرفي في أمثال المقام دون غيره.
الثالث: أنّ الجمع بين ظواهر الأدلة لا بدّ أن يكون في إطار مساعدة العرف عليه وإلاّ فهو غير مقبول.
الرابع: أنّ التعارض في محل الكـلام إنّما هو بين إطلاق مفهوم كل من القضيتين ومنطوق الاُخرى.
الخامس: أنّ نسبة مفهوم كل منهما إلى منطوق الاُخرى نسبة العموم المطلق.
السادس: أنّ التصرف في المفهوم لا يمكن بدون التصرف في المنطوق.
 




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net