دوران الأمر بين تطهير البدن أو اللِّباس - بيان الفارق بين التعارض والتزاحم 

الكتاب : التنقيح في شرح العروة الوثقى-الجزء الثالث:الطهارة   ||   القسم : الفقه   ||   القرّاء : 6161


ــ[372]ــ

   [ 283 ] مسألة 7 : إذا كان أطراف الشبهة ثلاثة يكفي تكرار الصلاة في اثنين سواء علم بنجاسة واحد وبطهارة الاثنين ، أو علم بنجاسة واحد وشك في نجاسة الآخرين ، أو في نجاسة أحدهما ، لأن الزائد على المعلوم محكوم بالطهارة ، وإن لم يكن مميزاً ، وإن علم في الفرض بنجاسة الاثنين يجب التكرار باتيان الثلاث ، وإن علم بنجاسة الاثنين في أربع يكفي الثلاث والمعيار ـ  كما تقدّم سابقاً  ـ التكرار إلى حد يعلم وقوع أحدها في الطاهر (1) .

   [ 284 ] مسألة 8 : إذا كان كل من بدنه وثوبه نجساً ، ولم يكن له من الماء إلاّ ما يكفي أحدهما فلا يبعد التخيير والأحوط تطهير البدن (2)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أ كان اختياره الامتثال الاجمالي أو التفصيلي بداع عقلائي أم لم يكن . وعلى الجملة لا  يعتبر في صحة الصلاة في الثوبين المشتبهين أن يكون اختيار هذا النوع من الامتثال مستنداً إلى داع عقلائي ، بل اللاّزم أن يكون أصل العبادة بداع إلهي والخصوصيات الفردية موكولة إلى اختيار المكلفين .

   (1) والضابط أن يزيد عدد المأتي به على عدد المعلوم بالاجمال بواحد ، فانه بذلك يقطع باتيان الصلاة في الثوب الطاهر أو بغيره مما يعتبر في صحتها من أجزاء الصلاة وشرائطها .

   (2) لعلّ الوجه في احتياطه (قدس سره) بتطهير البدن والصلاة في الثوب المتنجس أن الثوب خارج عن المصلي ومغاير معه ، وهذا بخلاف بدنه لأنه عضوه بل هو هو بعينه لتركبه منه ومن غيره من أعضائه ، ومع هذه الخصوصية يحتمل وجوب إزالة النجاسة عن البدن بخصوصه فالأحوط اختيارها ، هذا من جهة الحكم التكليفي . وأما من جهة الحكم الوضعي فمع عدم التمكن من التكرار كان الأحوط أن يغسل الثوب إذ معه يقطع بصحة الصلاة ، وأما إذا غسل البدن فمعه يحتمل الصلاة عارياً ـ  بحسب الواقع وإن كان الأقوى عدم وجوبها كما مرّ  ـ فلا يحصل الجزم بصحة الصلاة في الثوب المتنجس .

ــ[373]ــ

   ثم إنّ هذه المسألة وغيرها مما يذكره الماتن في المقام وما يتعرض له في بحث الصلاة من دوران الأمر بين الاتيان بجزء أو جزء آخر أو بين شرط وشرط آخر أو عدم مانع وعدم مانع آخر أو بين شرط وجزء وهكذا ، كلها من واد واحد وهي عند المشهور بأجمعها من باب التزاحم ، لوجوب كل واحد من الأمرين في نفسه وعدم تمكن المكلف من امتثالهما معاً بحيث لو قدر عليهما وجبا في حقه وللعجز عن امتثالهما وقعت المزاحمة بينهما ، ومن هنا رجعوا في تمييز ما هو المتعين منهما إلى مرجحات باب التزاحم كالترجيح بالأهمية واحتمالها وبالأسبقية بالوجود .

   إلاّ أنّ الصحيح أنّ الموارد المذكورة خارجة عن كبرى التزاحم ومندرجة في التعارض . بيان ذلك : أنّ الميزان في تعارض الدليلين تكاذبهما وتنافيهما في مقام الجعل والتشريع مع قطع النظـر عن مرحلة الفعـلية والامتثـال ، بأن يسـتحيل جعـلهما وتشريعهما لاستلزامه التعبد بالضدين أو النقيضين في مورد واحد كما دلّ على وجوب القصر في من سافر أربعة فراسخ ولم يرد الرجوع ليومه وما دلّ على وجوب التمام فيه ، وذلك للقطع بعدم وجوب صلاة واحدة في يوم واحد قصراً وإتماماً ، وكما دلّ على إباحة شيء وما دلّ على وجوبه أو على عدم إباحته ، فان تشريع مثلهما مستلزم للجمع بين الضدين أو النقيضين والتعبد بهما أمر غير معقول ، فصدق كل منهما يدل على كذب الآخر ولو بالالتزام . وهذا هو الميزان الكلي في تعارض الدليلين بلا فرق في ذلك بين القول بتبعيّة الأحـكام الشرعية للمصالح والمفاسد في متعلقاتها أو في جعلها ـ  كما التزم به العدلية  ـ والقول بعدم تبعيتها لهما ، لأ نّا قلنا بذلك أم لم نقل يستحيل الجمع بين الضدّين أو النقيضين بحسب الجعل والتشريع ، فما عن صاحب الكفاية (قدس سره) من أن ميزان التعارض أن لا يكون لكلا الحكمين مقتض وملاك بل كان المقتضي لأحدهما (1) فما لا وجه له ، لما مر من أن القول بوجود الملاك في الأحكام وعدمه أجنبيان عن بابي المعارضة والمزاحمة ، بل المدار في التعارض عدم إمكان الجمع بين الحكمين في مرحلة الجعل والتشريع كما مرّ ، هذا .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) كفاية الاُصول : 155 .

ــ[374]ــ

   على أنّ العلم بالملاك وأنه واحد أو متعدد يحتاج إلى علم الغيب المختص بأهله وليس لنا إلى إحرازه سبيل ، إلاّ أن يستكشف وجوده من الأحكام نفسها ، ومعه كيف يمكن إحراز أنه واحد أو متعدد مع الكلام في تعدد الحكم ووحدته .

   أما المتزاحمان فلا مانع من جعل كل منهما على نحو القضية الحقيقية ، فان الأحكام الشرعية مشروطة بالقدرة عقلاً أو من جهة اقتضاء نفس الخطاب ذلك من غير أن يكون للقضية نظر إلى ثبوت موضوعها ـ  وهو القادر  ـ وعدمه ، فأي مانع معه من أن يجعل على ذمّة المكلّف وجوب الصلاة في وقت معين إذا قدر عليها ويجعل على ذمته أيضاً وجوب الازالة أو غيرها على تقدير القدرة عليها ، حيث لا تكاذب بين الجعلين بوجه ولا ينفي أحدهما الآخر أبداً ، بل لا مانع من أن تتكفلهما آيتان صريحتان من الكتاب أو غيره من الأدلة مقطوعة الدلالة والسند ، ولا يقال حينئذ إن الكتاب اشتمل على حكمين متكاذبين .

   نعم التنافي بين المتزاحمين إنما هو في مقام الفعلية والامتثال ، لعجز المكلف عن امتثال كلا التكليفين في زمان واحد ، حيث إنّ له قدرة واحدة فأمّا أن يعملها في هذا أو يعملها في ذاك ، فالأخذ بأحد الحكمين في المتزاحمين يقتضي ارتفاع موضوع الحكم الآخر وشرطه ، لأنه إذا صرف قدرته في أحدهما فلا قدرة له لامتثال التكليف الآخر ، وهذا بخلاف الأخذ بأحد المتعارضين لأن الأخذ بأحدهما يقتضي عدم ثبوت الحكم الآخر ، حيث يدل على عدم صدوره لتكاذبهما بحسب مرحلة الجعل والتشريع مع بقاء موضوعه بحاله .

   إذا عرفت ما هو الميزان في كل من التعارض والتزاحم فنقول : التزاحم على ما بيّناه في بحث الترتب وغيره إنما يتحقق بين تكليفين استقلاليين لا يتمكن المكلف من الجمع بينهما في الامتثال ، ومقتضى القاعدة حينئذ عدم وجوب امتثالهما معاً ، وأما امتثال أحدهما فحيث إنه متمكن منه فيجب عليه ، إذ لا موجب لسقوط التكليف عن كليهما . نعم ، لا بدّ في تشخيص أن ما يجب امتثاله أيّ من المتزاحمين من مراجعة المرجحات المقرّرة في محلِّها ، بلا فرق في ذلك بين كونهما وجوبيين أو تحريميين أو

ــ[375]ــ

بالاختلاف . وأما إذا كان التكليف واحداً متعلقاً بعمل ذي أجزاء وشروط وجودية أو عدمية ، ودار الأمر فيه بين ترك جزء أو جزء آخر أو بين شرط وشرط آخر أو الاتيان بمانع أو بمانع آخر ، فلا تأتي فيه كبرى التزاحم بل هو في مثله أمر غير معقول وذلك فان المركب من جزء وشرط فعل واحد ارتباطي ، بمعنى أن ما دلّ على وجوب كل واحد من الأجزاء والشرائط إرشاد إلى جزئية الجزء أو شرطية الشرط ومعناهما أنّ الركوع مثلاً واجب مقيداً بما إذا تعقبه السجود وهما واجبان مقيدان بتعقب الجزء الثالث ، وجمعها واجب مقيد بتعقبه بالجزء الرابع وهكذا إلى آخر الأجزاء والشرائط ومعه إذا لم يتمكّن المكلّف من جزئين أو شرطين منها معاً سقط عنه الأمر المتعلق بالمركّب لتعذر جزئه أو شرطه ، فان التكليف ارتباطي ووجوب كل من الأجزاء والشرائط مقيد بوجود الآخر كما مرّ .

   نعم الدليل القطعي قام في خصوص الصلاة على وجوب الاتيان بما تمكن المكلف من أجزائها وشرائطها ، وأنه إذا تعذرت منها مرتبة تعينت مرتبة اُخرى من مراتبها وذلك للاجماع القطعي والقاعدة المتصيدة من أن الصلاة لا تسقط بحال المستفادة مما ورد في المستحاضة من أنها لا تدع الصلاة على حال (1) للقطع بعدم خصوصية للمستحاضة في ذلك ، إلاّ أنه تكليف جديد وهذا الأمر الجديد إما أنه تعلق بالأجزاء المقيّدة بالاستقبال مثلاً أو بالمقيّدة بالاستقرار والطمأنينة ، فيما إذا دار أمر المكلف بين الصلاة إلى القبلة فاقدة للاستقرار وبين الصلاة معه إلى غير القبلة ، للقطع بعدم وجوبهما معاً فوجوب كل منهما يكذّب وجوب الآخر ، وهذا هو التعارض كما عرفت فلا بد حينئذ من ملاحظة أدلّة ذينك الجزئين أو الشرطين فان كان دليل أحدهما لفظياً دون الآخر فيتقدّم ما كان دليله كذلك على غيره باطلاقه ، فانّ الأدلّة اللبية يقتصر فيها على المقدار المتيقن .

   وإذا كان كلاهما لفظياً وكانت دلالة أحدهما بالعموم ودلالة الآخر بالاطلاق فما كانت دلالته بالعموم يتقدّم على ما دلالته بالاطلاق ، لأنّ العمـوم يصلح أن يكون

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 2 : 373 / أبواب الاستحاضة ب 1 ح 5 .

ــ[376]ــ

قرينة وبياناً للمطلق دون العكس . وإذا كانا متساويين من تلك الجهة فيتساقطان ويتخيّر المكلّف بينهما بمقتضى العلم الاجمالي بوجوب أحدهما ، واندفاع احتمال التعين في أحدهما بالبراءة كما هو الحال في موارد دوران الأمر بين التعيين والتخيير . ولا مساغ حينئذ للترجيح بالأهمية إذ  الشك فيما هو المجعول الواقعي سواء أ كان هو الأهم أم غيره ، ومن هنا ربما تتعارض الاباحة مع الوجوب مع أنه أهم من الاباحة يقيناً .

   ثم إنّا لو أغمضنا عن ذلك وبنينا على أن المدار في التعارض وحدة الملاك والمقتضي وعدم اشتمال كلا المتعارضين عليهما ، أيضاً لا تندرج المسألة في كبرى التزاحم وذلك لأن الصور المحتملة في مقام الثبوت ثلاث لا رابع لها ، إذ الجزءان أو الشرطان اللذان دار الأمر بينهما إما أن لا يكون في شيء منهما الملاك ، وإما أن يكون الملاك لكل منهما بحيث لو أتى بالصلاة فاقدة لشيء منهما بطلت ، وإما أن يكون الملاك لأحدهما دون الآخر .

   أما الصورة الاُولى فلازمها الحكم بصحة الصلاة الفاقدة لذينك الجزأين أو الشرطين معاً ، إذ لا ملاك ولا مدخلية لهما في الصلاة وهذا خلاف علمنا الاجمالي بوجوبها مقيّدة بهذا أو بذاك . وأما الصورة الثانية فلازمها سقوط الأمر بالصلاة لمدخلية كل من الجزأين أو الشرطين في صحتها بحيث إذا وقعت فاقدة لأحدهما بطلت ، وبما أن المكلف عاجز عن إتيانهما معاً فيسقط عنه الأمر بالصلاة . وهذا أيضاً على خلاف العلم الاجمالي بوجوبها مقيدة بأحدهما ، ومع بطلان القسمين السابقين تتعين الصورة الثالثة وهي أن يكون المقتضي لأحدهما دون الآخر وهو الميزان في تعارض الدليلين عند صاحب الكفاية (1) (قدس سره) فعلى مسلكنا ومسلكه لا بد من اندراج المسألة تحت كبرى التعارض . وهذا بخلاف التزاحم بين التكليفين الاستقلاليين ، إذ لا مانع من اشتمال كل منهما على الملاك وبما أن المكلف غير متمكن من امتثالهما فيسقط التكليف عن أحدهما ويبقى الآخر بحاله .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) كفاية الاُصول : 155 .

ــ[377]ــ

   والمتحصل أن في تلك المسـائل لا سبيل للرجـوع إلى مرجحـات باب التزاحـم . والعجب كلّه عن شـيخنا الاُستاذ (قدس سره) حيث ذهب في تلك المسـائل إلى الترجيح بتلك المرجحات ولم يدرجها في كبرى التعارض(1) مع أنه (قدس الله سره) هو الذي أوضح الفرق بين الكبريين معترضاً على القول بأن الأصل عند الشك في الدليلين المتنافيين هو التعارض أو التزاحم بأنه يشبه القول بأن الأصل في الأشياء هل هي الطهارة أو البطلان في البيع الفضولي(2) ، فكما لا ربط ولا جامع بين أصالة الطهارة وبطلان البيع الفضولي كذلك لا جامع بين كبرى التعارض والتزاحم . وله (قدس سره) حاشيتان في مسألة ما إذا دار أمر المكلف بين مكانين في أحدهما قادر على القيام ولكن لا يتمكن من الركوع والسجود إلاّ مومئاً ، وفي الآخر لا يتمكّن من القيام إلاّ أنه يتمكن منهما جالساً ولم يسع الوقت للجمع بينهما بالتكرار ، قدّم في إحدى الحاشيتين الركوع والسجود جالساً على القيام مومئاً فيهما (3) ، وعكس الأمر في الحاشية الثانية فقدّم الصلاة مع القيام مومئاً في ركوعها وسجودها على الصلاة مع الركوع والسجود جالساً حيث قال : «الأحوط أن يختار الأول» (4) وقد نظر في إحداهما إلى الترجيح بالأهمية لوضوح أهمية الركوع والسجود من القيام ، ونظر في الثانية إلى الترجيح بالأسبقية في الزمان والوجود . ولم يكن شيء من ذلك مترقباً منه (قدس سره) . وتعرض الماتن (قدس سره) للمسألة في بابي القيام والمكان من بحث الصلاة وذهب في كلا الموردين إلى التخيير بينهما (5) .

   وعلى الجملة أن ادراج تلك المسائل تحت كبرى المتزاحمين انحراف عن جادّة الصّواب ، بل الصحيح أنها من كبرى التعارض ولا بد فيها من الترجيح بما مر . وما ذكرناه في المقام باب تنفتح منه الأبواب فاغتنمه .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) كتاب الصلاة 2 : 70 .

(2) أجود التقريرات 2 : 505 .

(3) العروة الوثقى مع حاشية المحقق النائيني 1 : 278 السادس .

(4) العروة الوثقى مع حاشية المحقق النائيني 1 : 309 .

(5) في المسألة [ 1477 ]  ، [ 1345 ] .

ــ[378]ــ

وإن كانت نجاسة أحدهما أكثر (1)

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

   (1) النهي عن الطبيعة يتصور على وجهين : فان المفسدة قد تكون قائمة بصرف الوجود ـ  كما أن المصلحة قد تكون كذلك  ـ بحيث لو وجد فرد من الطبيعة عصياناً أو اضطراراً ونحوهما تحققت المفسدة في الخارج وفات الغرض الداعي إلى النهي ـ  ويعبّر عنه بارادة خلو صفحة الوجود عن المنهي عنه  ـ وفي مثله إذا وجد فرد من أفراد الطبيعة سقط عنها النهي ، ولا يكون في الفرد الثاني والثالث وغيرهما أيّ مفسدة ولا يكون مورداً للنهي ، كما إذا نهى السيد عبيده عن أن يدخل عليه أحد لغرض له في ذلك لا يتحصل إلاّ بخلو داره عن الغير فانه إذا ورد عليه أحد عصياناً أو غفلة ونحوهما فات غرضه وحصلت المفسدة في الدخول ، فلا مانع من أن يدخل عليه شخص آخر بعد ذلك إذ لا نهي ولا مفسدة .

   وقد تكون المفسدة قائمة بمطلق الوجود فيكون النهي حينئذ انحلالياً لا محالة ، وهو وإن كان في مقام الجعل والانشاء نهياً واحداً إلاّ أنه في الحقيقة ينحل إلى نواهي متعددة لقيام المفسدة بكل واحد واحد من الوجودات والأفراد ، فاذا وجد فرد من الطبيعة لعصيان أو اضطرار فلا يترتب عليه إلاّ سقوط نهيه وتحقق المفسدة القائمة بوجوده ، ولا يحصل به الترخيص في بقية الأفراد لأنها باقية على مبغوضيتها واشتمالها على المفسدة الداعية إلى النهي عن إيجادها ، لأنّ المفسدة القائمة بكل فرد من أفراد الطبيعة تغاير المفسدة القائمة بالفرد الآخر ، وهذا كما في الكذب فان المفسدة فيه قائمة بمطلق الوجود فاذا ارتكبه في مورد لا يرتفع به النهي عن بقية أفراد الكذب وهذا ظاهر .

   وهذا القسم الأخير هو الذي يستفاد من النهي بحسب المتفاهم العرفي فحمله على القسم الأول يحتاج إلى قرينة تقتضيه . فاذا كان هذا حال النواهي النفسية الاستقلالية فلتكن النواهي الضمنية الارشادية أيضاً كذلك ، فقد يتعلّق النهي فيها بالطبيعة على نحو صرف الوجود ، وإذا وجد فرد من أفرادها سقطت المانعية والحرمة عن الجميع فلا مانع من إيجـاد غيره من الأفـراد ، وقد يتعلق بالطبيعة على نحو مطلق الوجود

ــ[379]ــ

أو أشدّ (1) لا يبعد ترجيحه ((1)) .

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

فيكون النهي انحلالياً ولا يسقط النهي والمانعية بايجاد فرد من أفرادها بالعصيان أو الاضطرار ، وقد مرّ أن الثاني هو الذي يقتضيه المتفاهم العرفي من النهي والقسم الأول يحتاج إلى دلالة الدليل عليه .

   فاذا اضطر المكلف إلى لبس الثوب المتنجس في صلاته فليس له لبس ثوب متنجس آخر بدعوى أن مانعية النجس سقطت بالاضطرار ، وذلك لأن المانعية قائمة بكل فرد من أفراد النجس ولا تسقط عن بقية الأفراد بسقوطها عن فرد للاضطرار إليه ، فلو أتى بفرد آخر زائداً على ما اضطر إليه بطلت صلاته ، وكذلك الحال فيما إذا كان كل من ثوبه وبدنه متنجساً فانه مع تمكنه من تطهير أحدهما لا يجوز له الصلاة فيهما بل تجب إزالة النجاسة عما يمكنه تطهيره . وكذا إذا كانت نجاسة أحدهما أكثر من نجاسة الآخر يتعين عليه إزالة الأكثر ، لأن الاضطرار إنما هو إلى الصلاة في المتنجس الجامع بين ثوبه وبدنه ولا اضطرار له إلى الصلاة في خصوص ما كانت نجاسته أكثر فان له أن يكتفي بما كانت نجاسته أقل ، فلو اختار الصلاة فيما نجاسته أكثر بطلت لعدم ارتفاع المانعية عن النجاسة الكثيرة بالاضطرار إلى ما هو الجامع بين القليلة والكثيرة . نعم إذا تمكّن من إزالة النجاسة بمقدار معيّن عن أحدهما كالدرهمين ، يتخيّر بين إزالة النجاسة بمقدارهما عن ثوبه أو بدنه أو بالاختلاف بأن يزيل مقدار درهم من بدنه ومقدار درهم من ثوبه ولعلّه ظاهر .

   (1) كما إذا تنجس أحدهما بالدم والآخر بشيء من المتنجسات ، أو تنجس أحدهما بالبول والآخر بالدم ، والبول أشد نجاسة من الدم ، وهل يتعين عليه إزالة الأشد والصلاة في غيره أو يتخير بينهما ؟

   الثاني هو الصحيح لأنه لا أثر لأشدية النجاسة في المنع عن الصلاة ، لأن المانعية مترتبة على طبيعي النجس ، فخفيفه كشديده وهما في المانعية على حد سواء وإن كان

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) بل هو الأظهر عند كون أحدهما أكثر .

ــ[380]ــ

   [ 285 ] مسألة 9 : إذا تنجس موضعان من بدنه أو لباسه ، ولم يمكن إزالتهما فلا يسقط الوجوب ويتخيّر(1) إلاّ مع الدوران بين الأقل والأكثر(2) أو بين الأخفّ والأشدّ(3) أو بين متّحد العنوان ومُتعدِّده(4) فيتعيّن الثاني في الجمـيع ((1))

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أحدهما أشدّ وجوداً من غيره ، وهذا نظير ما إذا دار أمر المصلِّي بين أن يتكلّم في صلاته قوياً أو يتكلّم ضعيفاً ، حيث يتخيّر بينهما لأنّ قوّة الصوت وضعفه مما لا أثر له من حيث مانعية التكلم أو قاطعيته ، هذا بناء على أن المورد من باب التعارض ـ  كما هو الصحيح  ـ وأما بناء على أنه من كبرى التزاحم فلا إشكال في أن الأشدية مرجحة، حيث لا يمكننا دعوى الجزم بتساوي الشديد والخفيف في المانعية عن الصلاة بل نحتمل أن يكون الشديد متعين الازالة ، واحتمال الأهمية من مرجحات باب التزاحم .

   (1) ظهر الوجه في ذلك مما بيّناه آنفاً وقلنا إنّ النهي انحلالي ، والاضطرار إلى فرد من الطبيعة المنهي عنها لا يستتبع سقوط النهي عن بقية الأفراد ، وعليه فيتخيّر بين إزالة هذا الفرد وإزالة الفرد الآخر .

   (2) لما مرّ من أن الاضطرار إلى الصلاة في النجس الجامع بين القليل والكثير غير مسوغ لاختيار الفرد الكثير لعدم اضطراره إليه ، فلو صلّى فيه مع الاختيار بطلت صلاته .

   (3) في تعيّن الأشدّ إشكال ومنع ، لأنّ الأشدّ كالأخفّ من حيث المانعية في الصلاة وهما من تلك الجهة على حد سواء إلاّ بناء على إدراج المسألة في كبرى التزاحم ، فان احتمال الأهمية في الأشدّ من المرجحات حينئذ .

   (4) لاتحاد العنوان وتعدّده موردان : أحدهما : تعدّد العنوان واتحاده من حيث المانعية في الصلاة ، كما إذا أصاب موضعاً من بدنه دم الآدمي أو دم الحيوان المحلل وأصاب موضعاً آخر دم الهرّة أو غيرها مما لا يؤكل لحمه ، فانّ في الأوّل عنواناً واحداً من المانعية وهو عنوان النجاسة ، وفي الثاني عنوانين : أحدهما عنوان النجاسة

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) على الأحوط الأولى في الدوران بين الأخفّ والأشدّ .

 
 

ــ[381]ــ

بل إذا كان موضع النجس واحداً وأمكن تطهير بعضه لا يسقط الميسور (1) بل إذا لم يمكن التطهير لكن أمكن إزالة العين وجبت ((1)) (2)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وثانيهما عنوان كونه من أجزاء ما لايؤكل لحمه ، فان كل واحد منهما عنوان مستقل في المنع عن الصلاة حتى لو فرضنا طهارة دم الهرّة أو غيرها مما لا يؤكل لحمه ، كما إذا ذبحت وقلنا بطهارة الدم المتخلِّف فيما لا يؤكل لحمه على خلاف في ذلك مرّ في محلِّه(2) .

   وثانيهما : تعدد العنوان واتحاده من حيث النجاسة فحسب ، كما إذا أصاب موضعاً من بدنه دم وأصاب موضعاً آخر دم وبول ، فان الأول متنجس بعنوان واحد والثاني بعنوانين . فان كان نظر الماتن (قدس سره) إلى الاتحاد والتعدّد بالمعنى الأوّل فما أفاده متين ، لأنّ الاضطرار إلى الصلاة في النجس الجامع بين ما له عنوان واحد وما له عنوانان لا يستلزمه سقوط النهي والمانعية عن الآخر لعدم الاضطرار إليه ، فلو صلّى فيه مع الاختيار بطلت صلاته . وأما إذا كان نظره إلى الاتحاد والتعدد بالمعنى الأخير فالصحيح هو التخيير فيه بناء على ما قدّمناه من أن المورد من صغريات باب التعارض ، لأنّ المانعية لم تترتب على عنوان الدم أو البول ونحوهما وإنما ترتبت على عنوان النجس ، والنجس نجس استند إلى أمر واحد أو إلى اُمور متعددة فلا فرق بين متحد العنوان ومتعدِّده من هذه الجهة . نعم ، بناء على أن المقام من صغريات التزاحم كان متعدد العنوان متعين الازالة لاحتمال كونها أهم .

   (1) اتضح الوجه في ذلك مما بيّناه في الحواشي المتقدمة ، فان المانعية انحلالية والمكلف غير مضطر إلى الصلاة فيما لم يطهر بعضه لتمكنه من غسل نصف الموضع النجس مثلاً ، فيتعين غسل المقدار المتمكن منه بحيث لو صلّى فيه من دون تطهير بعضه بطلت صلاته .

   (2) فان قلنا إنّ حمل النجس مانع مستقل في الصلاة كما أن نجاسة البدن والثوب

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) على الأحوط الأولى .

(2) في ص 13 .

ــ[382]ــ

بل إذا كانت محتاجة إلى تعدّد الغسل وتمكّن من غسلة واحدة فالأحوط عدم تركها ((1)) (1) لأنها توجب خفة النجاسة إلاّ أن يستلزم خلاف الاحتياط من جهة اُخرى ، بأن استلزم وصول الغسالة إلى المحل الطاهر (2)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مانعة فلا ينبغي الشك في وجوب إزالة العين حينئذ ، لأنه مضطر إلى الصلاة في النجس ، وبه سقطت مانعية النجاسة في حقه ولا اضطرار له إلى حمل النجس حتى ترتفع مانعية الحمل أيضاً . وأما إذا قلنا بعدم مانعية حمل النجس في الصلاة ـ  كما هو غير بعيد  ـ فعلى ما سلكناه من إدراج المورد تحت كبرى التعارض لا يفرق في الحكم بصحة الصلاة حينئذ بين إزالة العين وعدمها لأنه مضطر إلى الصلاة في النجس ، وحمل النجاسة لا أثر له على الفرض ، وأما بناء على درج المسألة في كبرى التزاحم فبما أ نّا نحتمل أن تكون الصلاة في النجس من دون عين النجاسة أهم منها معها ، فلا محالة يتعيّن إزالة العين لاحتمال الأهمية .

   (1) فعلى ما سلكناه من أن هذه المسائل بأجمعها من صغريات كبرى التعارض لا يفرق في الحكم بصحة الصلاة حينئذ بين غسل المتنجس مرّة وعدمه ، لأنّ المانعية مترتبة على عنوان النجس ولا فرق في المانعية بين الشديدة والخفيفة . وأما بناء على أنها من باب التزاحم فحيث يحتمل أن تكون الصلاة في النجس الأخف أهم منها في الأشد ، فلا مناص من غسل المتنجس مرة واحدة ليحصل بذلك تخفيف في نجاسته .

   (2) لما ذكرناه في محلِّه(2) من أنّ غير الغسالة التي يتعقبها طهارة المحل ماء قليل محكوم بالنجاسة لملاقاته المحل ، كما أنه منجّس لكل ما لاقاه سواء انفصل عن المحل أم لم ينفصل ، فاذا استلزم الغسل مرّة ـ  في النجاسة المحتاجة إلى تعدد الغسل  ـ وصول الغسالة إلى شيء من المواضع الطاهرة لم يجز غسله لعدم جواز تكثير النجاسة وإضافتها . ودعوى أنّ الغسالة إنما يحكم بنجاستها بعد الانفصال ، وأما ما دامت في المحل فهي طاهرة ولا يوجب مرورها على المواضع الطاهرة ازدياد النجاسة وتكثيرها

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) لا بأس بتركه .

(2) شرح العروة 2 : 310  .




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net