ما يمكن أن يستدل به لجواز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية 

الكتاب : محاضرات في اُصول الفقه - الجزء الرابع   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 8259

فالنتيجة: أنّ النسبة سواء أكانت مطابقة للواقع أم لم تكن فالصحيح في المقام أن يقال: إنّ التمسك بالعام في الشبهات المصداقية غير جائز، والسبب فيه: أنّ غاية ما يمكن أن يستدل على جواز التمسك به فيها هو ما أشرنا إليه من أنّ ظهور العام في العموم قد انعقد، والمخصص المنفصل لا يكون مانعاً عن انعقاد ظهوره، وهذا الظهور متبع فيما لم يعلم خلافه، مثلاً لو أمر المولى بقوله: أكرم كل عالم ثمّ نهى عن إكرام العالم الفاسق، فالدليل الأوّل وهو العام قد وصل إلينا صغرى وكبرى. أمّا الصغرى فهي محرزة بالوجدان أو بالتعبد. وأمّا الكبرى وهي وجوب إكرام كل عالم قد وصلت إلينا على الفرض، وقد تقدم

ــ[344]ــ

أ نّها لا تتكفل لبيان حال الأفراد في الخارج، وإنّما هي متكفلة لبيان الحكم على الموضوع المفروض الوجود فيه، فاذا أحرزنا صغرى هذه الكبرى كما هو المفروض فلا حالة منتظرة للعمل به، وأمّا الدليل الثاني وهو الخاص ففي كل مورد أحرزنا صغراه ـ وهو العالم الفاسق ـ نحكم بحرمة إكرامه ونقيّد عموم العام بغيره، وفيما لم نحرزها لا نحكم بحرمة إكرامه، لما عرفت من أنّ العمل بالدليل متوقف على إحراز الصغرى والكبرى معاً وبدونه فلا موضوع للعمل به، وعليه فلا يمكن التمسك بالخاص فيما لم نحرز أنّ زيداً العالم مثلاً فاسق أو ليس بفاسق، ولكن لا مانع من العمل بالعام فيه لاحراز الصغرى والكبرى معاً بالاضافة إليه.
وعلى الجملة: فلا يمكن التمسك بأيّ دليل ما لم يحرز صغراه، ولا يكون حجةً بدون ذلك، ومن هنا قلنا في مسألة البراءة إنّا إذا شككنا في مائع أ نّه خمر أو ليس بخمر لم يمكن التمسك بعموم ما دلّ على حرمة شرب الخمر، ضرورة أ نّه لا يكون متكفلاً لبيان صغراه، وإنّما هو متكفل لثبوت الحكم لمائع على تقدير أ نّه خمر، كما هو الحال في جميع القضايا الحقيقية التي لا تتعرض لبيان صغرياتها أصلاً، لا وجوداً ولا عدماً، وإنّما هي ناظرة إلى ثبوت الأحكام لموضوعاتها المقدّر وجودها في الخارج، وأمّا أ نّها موجودة أو غير موجودة فلا نظر لها في ذلك أبداً، فالتمسك بالعام في الشبهة المصداقية كالتمسك به في الشبهة المفهومية فيما إذا دار أمر المخصص بين الأقل والأكثر، نظراً إلى أنّ المخصص هناك لا يكون حجة إلاّ في الأقل دون الزائد عليه، ومن المعلوم أ نّه لا مانع من الرجوع إلى عموم العام في الزائد، لعدم قصور فيه عن الشمول له.
وكذا الحال في المقام حيث إنّ المخصص كقولنا: لا تكرم فسّاقهم لا يكون حجةً إلاّ فيما إذا اُحرز صغراه فيه، فاذا علم بفسق عالم فالصغرى له محرزة فلا

ــ[345]ــ

مانع من التمسك به، وإذا شك في فسقه فالصغرى له غير محرزة فلا يكون حجةً، وعليه فلا مانع من كون العام حجةً فيه، هذا غاية ما يمكن أن يقال في وجه التمسك بالعام في الشبهات المصداقية.
وقبل أن نأخذ بالنقد على ذلك حريّ بنا أن نقدّم نقطةً: وهي أنّ الحجة قد فسّرت بتفسيرين: أحدهما أن يراد بها ما يحتج به المولى على عبده وبالعكس وهو معناها اللغوي والعرفي. وثانيهما أن يراد بها الكاشفية والطريقية، يعني أنّ المولى جعله كاشفاً وطريقاً إلى مراده الواقعي الجدي فيحتج على عبده بجعله كاشفاً ومبرزاً عنه، هذا من ناحية.
ومن ناحية اُخرى: أنّ الحجة بالتفسير الأوّل تتوقف على إحراز الصغرى والكبرى معاً وإلاّ فلا أثر لها أصلاً، ومن هنا قلنا في مسألة البراءة أ نّه يجوز ارتكاب المشتبه بالخمر أو البول أو نحوه، فانّ ما دلّ على حرمة شرب الخمر أو نجاسة البول لا يكون حجةً في المشتبه، لعدم إحراز صغراه. وأمّا الحجة بالتفسير الثاني فلا تتوقف على إحراز الصغرى، ضرورة أ نّها كاشفة عن مراد المولى واقعاً وطريق إليه، سواء أكان لها موضوع في الخارج أم لم يكن. وإن شئت قلت: انّ الحجة بهذا التفسير تتوقف على إحراز الكبرى فحسب.
ومن ناحية ثالثة: أنّ الحجة بالتفسير الثاني هي المرجع للفقهاء في مقام الفتيا، دونها بالتفسير الأوّل، ولذا لو سئل المجتهد عن مدرك فتواه أجاب بالكتاب أو السنّة أو ما شاكلهما، ومن هنا أفتى الفقيه بوجوب الحج على المستطيع سواء أكان المستطيع موجوداً في الخارج أم لم يكن، فاحراز الكبرى فحسب كاف من دون لزوم إحراز الصغرى.
ومن ناحية رابعة: أنّ القائل بجواز التمسك بالعام في الشبهات المصداقية

ــ[346]ــ

توهم أنّ المراد من الحجة في كل من طرفي العام والخاص هو الحجة بالتفسير الأوّل دون التفسير الثاني، وعلى هذا فحجية كل منهما تتوقف على إحراز الصغرى والكبرى معاً، وبما أنّ الكبرى في كليهما محرزة فبطبيعة الحال تتوقف حجيتهما على إحراز الصغرى فحسب، فان اُحرز أ نّه عالم فاسق فهو من صغريات الخاص حيث قد قيد موضوع العام بغيره، وإن شك في فسقه فلا يحرز أ نّه من صغرياته وبدونه لا يكون الخاص حجةً فيه، وأمّا كونه من صغريات العام فالظاهر أ نّه من صغرياته لفرض أنّ العالم بجميع أقسامه وأصنافه ـ أي سواء أكان معلوم العدل أو معلوم الفسق أو مشكوكه ـ من صغريات العام، ولكن قد خرج عنه خصوص معلوم الفسق، وأمّا القسمان الآخران فهما باقيان تحته.
والحاصل: أنّ موضوع العام قد قيّد بغير معلوم الفسق بدليل المخصص نظراً إلى أ نّه حجة فيه دون غيره، وأمّا مشكوك الفسق فهو باق تحت العام فلا مانع من التمسك به بالاضافة إليه.
وبعد ذلك نقول: إنّ المراد من الحجة في المقام هو الحجة بالتفسير الثاني يعني الطريقية والكاشفية، والوجه فيه واضح وهو أنّ معنى حجية العام في عمومه وحجية الخاص في مدلوله هو الكاشفية والطريقية إلى الواقع، حيث إنّ حجية كل منهما من باب حجية الظهور، وقد حقق في محلّه أنّ حجيته من باب الكاشفية والطريقية إلى الواقع. ثمّ إنّ الحجة بهذا المعنى تلازم الحجة بالمعنى الأوّل أيضاً، يعني أنّ المولى كما يحتج على عبده بجعل ظهور العام مثلاً حجةً عليه وكاشفاً عن مراده واقعاً وجداً، كذلك يحتج بجعل ظهور الخاص حجةً عليه وكاشفاً عن مراده في الواقع.
وعليه فاذا ورد عام كقولنا: أكرم كل عالم فهو كاشف عن أنّ مراد المولى

ــ[347]ــ

إكرام جميع العلماء بشتى أنواعهم وأفرادهم كالعدول والفسّاق ونحوهما، ثمّ إذا ورد خاص كقولنا: لا تكرم فسّاقهم فهو يكشف عن أنّ مراده الجدي هو الخاص دون العام بعمومه، ضرورة أنّ الاهمال في الواقع غير معقول، وعليه فبطبيعة الحال يكون مراده فيه إمّا مطلقاً أو مقيداً، ولا ثالث لهما، وحيث إنّه لا يمكن أن يكون هو المطلق، لفرض وجود المقيد والمخصص في البين، فلا محالة يكون هو المقيد، يعني أنّ موضوع العام يكون مقيداً بقيد عدمي، ففي المثال المتقدم يكون موضوع وجوب الاكرام هو العالم الذي لا يكون فاسقاً، لا مطلق العالم ولو كان فاسقاً، وعلى ضوء هذا البيان فاذا شك في عالم أ نّه فاسق أو ليس بفاسق فكما أنّ صدق عنوان المخصص عليه غير معلوم فكذلك صدق موضوع العام، فالصغرى في كليهما غير محرزة. فاذن لا محالة يكون التمسك بالعام بالاضافة إليه من التمسك به في الشبهات المصداقية، كما أنّ التمسك بالخاص بالاضافة إليه كذلك.
وإن شئت فقل: إنّ التمسك بالعام إنّما هو من ناحية أ نّه حجة وكاشف عن المراد الجدي، لا من ناحية أ نّه مستعمل في العموم، إذ لا أثر له ما لم يكن المعنى المستعمل فيه مراداً جدّاً وواقعاً، والمفروض أنّ المراد الجدي هنا غير المراد الاستعمالي، حيث إنّ المراد الجدي مقيّد بعدم الفسق في المثال دون المراد الاستعمالي، وعليه فاذا شك في عالم أ نّه فاسق أو لا فبطبيعة الحال شك في انطباق موضوع العام عليه وعدم انطباقه كما هو الحال بالاضافة إلى الخاص، يعني أنّ نسبة هذا الفرد المشكوك بالاضافة إلى كل من العام بما هو حجة والخاص نسبة واحدة فلا فرق بينهما من هذه الناحية أصلاً، فكما لا يمكن التمسك بالخاص بالاضافة إلى هذا الفرد، فكذلك لايمكن التمسك بالعام بالاضافة إليه، ومن هنا يظهر أنّ قياس المقام بالمسألة المتقدمة ـ وهي ما إذا كان

ــ[348]ــ

المخصص مجملاً ودار أمره بين الأقل والأكثر ـ [ خاطئ جدّاً ] ووجه الظهور هو أنّ تقييد العام هناك بالمقدار المتيقن معلوم، وأمّا بالاضافة إلى الزائد فهو مشكوك فيه فندفعه بأصالة العموم.
وعلى الجملة: فالشك هناك ليس من ناحية الشبهة المصداقية، بل من ناحية الشبهة المفهومية فيكون الشك شكاً في التخصيص الزائد بعد العلم بأنّ المشكوك فيه ليس من مصاديق المخصص، دون المقام فانّ الشك فيه ليس شكاً في التخصيص الزائد، وإنّما هو شك في أ نّه من مصاديق العام بما هو حجة أو لا، وفي مثل ذلك لا يجوز التمسك بالعام لاحراز أ نّه من مصاديقه، هذا.
مضافاً إلى أنّ ما ذكره القائل بجواز التمسك بالعام في الشبهات المصداقية ليس في الحقيقة من التمسك بالعام فيها، بل هو من التمسك بالعام في الشبهات الحكمية، حيث إنّ الشك إنّما هو في التخصيص الزائد بالاضافة إلى الفرد المشكوك كونه من مصاديق الخاص، نظراً إلى أنّ الخاص لا يكون حجةً بالاضافة إليه، وعليه فبطبيعة الحال يكون الشك في تخصيص العام بغيره من الشك في التخصيص الزائد.
إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بعدّة نتائج:
الاُولى: أنّ التمسك بالعام في الشبهات المصداقية غير ممكن.
الثانية: أنّ ما ذكر في وجه جواز التمسك بالعام في الشبهات المصداقية ناشئ من الخلط بين التفسيرين المزبورين للحجة.
الثالثة: أ نّه على ضوء هذا الخلط يخرج التمسك بالعام في الموارد المشكوك كونها من مصاديق الخاص من التمسك به في الشبهات المصداقية.




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net