اختصاص النزاع بعدم تعنون العام بعنوان وجودي - إنكار النائيني استصحاب العدم الأزلي نتيجة مقدمات 

الكتاب : محاضرات في اُصول الفقه - الجزء الرابع   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 5123

فالنتيجة: أنّ في كل مورد يكون المخصص موجباً لتعنون العام بعنوان وجودي وتقيده به فهو خارج عن محل الكلام ولا يمكن إثباته بالأصل. فمحل الكلام إنّما هو فيما إذا كان المخصص موجباً لتقيد العام بعنوان عدمي من دون فرق في ذلك بين المخصص المتصل والمنفصل، كتقييد ما دل على انفعال الماء مطلقاً بالملاقاة بما دل على أنّ الماء الكر لا ينفعل بها، فيكون موضوع الانفعال بالملاقاة هو الماء الذي لا يكون كراً، وعليه فاذا شك في ماء أ نّه كر أو ليس بكر، فالصحيح أ نّه لا مانع من الرجوع إلى الأصل لاثبات عدم كريته يعني عدمها الأزلي، فانّ الموضوع على هذا مركب من أمرين: أحدهما عنوان وجودي. والآخر عنوان عدمي، والأوّل محرز بالوجدان والثاني بالأصل، فبضم الوجدان إلى الأصل يتحقق الموضوع المركب فيترتب عليه أثره، ففي المثال المزبور يكون الموضوع أي موضوع الانفعال مركباً من الماء وعدم اتصافه بالكرية، والأوّل محرز بالوجدان والثاني بالأصل، حيث إنّه في زمان لم يكن ماء ولا اتصافه بالكرية ثمّ وجد الماء في الخارج فنشك في اتصافه بالكرية وأ نّه هل وجد أم لا، فنستصحب عدمه أي عدم اتصافه بها.

ــ[362]ــ

وكذا الحال في المثال الذي جاء به صاحب الكفاية (قدس سره)(1) وهو ما إذا شك في المرأة أ نّها قرشية أو لا، فلا مانع من الرجوع إلى استصحاب عدم اتصافها بالقرشية وعدم انتسابها بها، حيث إنّ في زمان لم تكن هذه المرأة ولا اتصافها بالقرشية ثمّ وجدت المرأة فنشك في انتسابها إلى قريش فلا مانع من استصحاب عدم انتسابها إليه، وبضم هذا الاستصحاب إلى الوجدان. يثبت أنّ هذه مرأة لم تكن قرشية، والأوّل بالوجدان والثاني بالأصل، فتدخل في موضوع العام.
ولكن أنكر ذلك شيخنا الاُستاذ (قدس سره)(2) وقال بأنّ الاستصحاب لا يجري في العدم الأزلي، واستدل على ذلك بعدّة مقدّمات:
الاُولى: أنّ التخصيص سواء أكان بالمتصل أو بالمنفصل وسواء أكان استثناءً أو غـيره إنّما يوجب تقييد موضـوع العام بغير عنوان المخـصص، فاذا كان المخصص أمراً وجودياً كان الباقي تحت العام معنوناً بعنوان عدمي. وإن كان المخصص أمراً عدمياً كان الباقي تحته معنوناً بعنوان وجودي، والوجه فيه هو ما تقدم من أنّ موضوع كل حكم أو متعلقه بالنسبة إلى كل خصوصية يمكن أن ينقسم باعتبار وجودها وعدمها إلى قسمين مع قطع النظر عن ثبوت الحكم له، ولا بدّ من أن يؤخذ في مقام الحكم عليه إمّا مطلقاً بالاضافة إلى وجودها وعدمها فيكون من الماهية اللا بشرط القسمي، أو مقيداً بوجودها فيكون من الماهية بشرط شيء، أو مقيداً بعدمها فيكون من الماهية بشرط لا، لأنّ الاهمال في الواقع في موارد التقسيمات الأوّلية مستحيل.
مثلاً العالم في نفسه ينقسم إلى العادل والفاسق مع قطع النظر عن ثبوت
ـــــــــــــــــــــ
(1) كفاية الاُصول: 223.
(2) أجود التقريرات 2: 329 ـ 337.

ــ[363]ــ

الحكم له، وعليه فاذا جعل المولى الملتفت إلى ذلك وجوب الاكرام له فهو لا يخلو من أن يجعل له مطلقاً وغير مقيد بوجود العدالة أو بعدمها، أو يجعل له مقيداً باحدى الخصوصيتين، ضرورة أ نّه لا يعقل جهل الحاكم بموضوع حكمه وأ نّه غير ملاحظ له لا على نحو الاطلاق ولا على نحو التقييد، ولا فرق في ذلك بين أنواع الخصوصيات وأصنافها، وعليه فاذا افترضنا خروج قسم من الأقسام عن حكم العام فلا يخلو من أن يكون الباقي تحته بعد التخصيص مقيداً بنقيض الخارج فيكون دليل المخصص مقيداً لاطلاقه ورافعاً له، أو يبقى على إطلاقه بعد التخصيص أيضاً، ولا ثالث لهما، وبما أنّ الثاني باطل جزماً لاستلزامه التناقض والتهافت بين مدلولي دليل العام ودليل الخاص فيتعيّن الأوّل.
نعم، إذا كان المخصص متصلاً فهو مانع من انعقاد ظهور العام في العموم من الأوّل، فاطلاق التقييد والتخصيص عليه مبني على ضرب من المسامحة، حيث إنّه لا تقييد ولا تخصيص في العموم، فانّ الظهور من الأوّل قد انعقد في الخاص، وإنّما التقييد والتخصيص فيه بحسب المراد الواقعي الجدي فهو من هذه الناحية كالمخصص المنفصل فلا فرق بينهما في ذلك اصلاً، وإن كان فرق بينهما من ناحية اُخرى كما لا يخفى.
ثمّ إنّه لا فرق فيما ذكرناه بين كون التخصيص نوعياً أو صنفياً أو فردياً أصلاً، فالكل يوجب تعنون العام بعنوان عدمي.
وقد ناقش في هذه المقدمة بعض الأعاظم (قدس الله أسرارهم)(1) بما ملخّصه: أنّ التخصيص لايوجب تعنون العام بأيّ عنوان، حيث إنّه ليس إلاّ كموت أحد أفراد العام، فكما أ نّه لا يوجب تعنون العام بأيّ عنوان فكذلك التخصيص، غاية الأمر أنّ الأوّل موت تكويني والثاني موت تشريعي.
ـــــــــــــــــــــ
(1) مقالات الاُصول 1: 440، 445 وراجع أيضاً نهاية الأفكار 1 ـ 2: 519.

ــ[364]ــ

ويردّه: أنّ هذا القياس خاطئ جداً ولا واقع موضوعي له أصلاً، والسبب فيه: أنّ الموت التكويني يوجب انتفاء الحكم بانتفاء موضوعه في مرحلة التطبيق، لما ذكرناه غير مرّة من أنّ الأحكام الشرعية مجعولة على نحو القضايا الحقيقية التي مردّها إلى قضايا شرطية مقدّمها وجود الموضوع وتاليها ثبوت المحمول له، مثلاً قولنا: الخمر حرام يرجع إلى قولنا: إذا وجد مائع في الخارج وصدق عليه أ نّه خمر فهو حرام، وإذا لم يوجد مائع كذلك فلا حرمة، فالحرمة تنتفي في مرحلة التطبيق بانتفاء موضوعها، وهذا ليس تقييداً للحكم في مرحلة الجعل، ضرورة أ نّه مجعول في هذه المرحلة للموضوع المفروض وجوده في الخارج فمتى وجد تحقق حكمه وإلاّ فلا حكم في هذه المرحلة، أي مرحلة التطبيق والفعلية، وهذا بخلاف التخصيص فانّه يوجب تقييد الحكم في مرحلة الجعل في مقام الثبوت، يعني أنّ دليل المخصص يكشف عن أنّ الحكم من الأوّل خاص، وفي مقام الاثبات يدل على انتفاء الحكم مع بقاء الموضوع يعني عن الموضوع الموجود، فيكون من السالبة بانتفاء المحمول لا الموضوع كما هو الحال في الموت التكويني.
الثانية: أنّ الوجود والعدم مرةً يضافان إلى الماهية، يعني أ نّها إمّا موجودة أو معدومة. وبكلمة اُخرى: أنّ الماهية سواء أكانت من الماهيات المتأصلة كالجواهر والأعراض أو كانت من غيرها، فبطبيعة الحال لا تخلو من أن تكون موجودةً أو معـدومةً ولا ثالث لهما، ضرورة أ نّه لا يعقل خلوّ الماهيـة عن أحدهما وإلاّ لزم ارتفاع النقيضين، فكما يقال إنّ الجسم الطبيعي إمّا موجود أو معدوم، فكذلك يقال: إنّ البياض إمّا موجود أو معدوم، ولا فرق بينهما من هذه الناحية، ويسمى هذا الوجود والعدم بالوجود والعدم المحموليين، نظراً إلى أ نّهما محمولان على الماهية وبمفادي كان وليس التامتين.

ــ[365]ــ

واُخرى يلاحظ وجود العرض بالاضافة إلى معروضه لا ماهيته، أو عدمه بالاضافة إليه، ويعبّر عن هذا الوجود والعدم بالوجود والعدم النعتيين تارةً، وبمفاد كان الناقصة وليس الناقصة تارة اُخرى، وهذا الوجود والعدم يحتاجان في تحققهما إلى وجود موضوع محقق في الخارج ويستحيل تحققهما بدونه، فهما من هذه الناحية كالعدم والملكة، يعني أنّ التقابل بينهما يحتاج إلى وجود موضوع محقق في الخارج، ويستحيل التقابل بدونه، أمّا احتياج الملكة إليه فظاهر حيث لا يعقل وجودها إلاّ في موضوع موجود، وأمّا احتياج العدم فلأنّ المراد منه ليس العدم المطلق، بل المراد منه عدم خاص وهو العدم المضاف إلى محل قابل للاتصاف بالملكة. مثلاً العمى ليس عبارة عن عدم البصر على الاطلاق، ولذا لا يصح سلبه عمّا لا يكون قابلاً للاتصاف به فلا يقال للجدار مثلاً إنّه أعمى يعني ليس ببصير، ومن هنا يصح ارتفاعهما معاً عن موضوع غير موجود من دون لزوم ارتفاع النقيضين، فانّ زيداً غير الموجود لا بصير ولا أعمى.
وقد تحصّل من ذلك: أنّ اتصاف شيء بكل منهما يحتاج إلى وجوده وتحققه في الخارج، بداهة استحالة وجود الصفة بدون وجود موصوفها، لأنّ ثبوت شيء لشيء فرع ثبوت المثبت له، وما نحن فيه كذلك، فانّ الوجود والعدم النعتيين يستحيل ثبوتهما بدون وجود منعوت وموصوف في الخارج، ومن هنا يمكن ارتفاعهما بارتفاع موضوعهما من دون لزوم ارتفاع النقيضين، فانّ الفرد الخارجي من العالم إمّا أن يكون عادلاً أو فاسقاً، وأمّا المعدوم فلا يعقل اتصافه بشيء منهما، وهذا بخلاف الوجود والعدم المحموليين حيث لا يمكن ارتفاعهما معاً، فانّه من ارتفاع النقيضين، لما عرفت من أنّ الماهية إذا قيست إلى الخارج فلا تخلو من أن تكون موجودةً أو معدومةً ولا ثالث لهما.

ــ[366]ــ

فالنتيجة في نهاية الشوط: هي أنّ الوجود والعدم إذا كانا نعتيين أمكن ارتفاعهما بارتفاع موضوعهما، حيث إنّ الشيء قبل وجوده لا يكون متصفاً بوجود الصفة ولا بعدمها، ضرورة أنّ الاتصاف فرع وجود المتصف، وأمّا إذا كانا محموليين فلا يمكن ارتفاعهما عن موضوع، ضرورة أ نّه من ارتفاع النقيضين المستحيل ذاتاً.
الثالثة: أنّ الموضوع المركب من شيئين لا يخلو من أن يكون مركباً من جوهرين أو عرضين أو جوهر وعرض فلا رابع لها.
أمّا إذا كان من قبيل الأوّل كأن يكون مركباً من وجودي زيد وعمرو مثلاً، فتارةً يكون كلاهما محرزاً بالوجدان، واُخرى يكون كلاهما محرزاً بالأصل، وثالثة يكون أحدهما محرزاً بالوجدان والآخر بالأصل، فبضم الوجدان إلى الأصل يلتئم الموضوع المركب فيترتب عليه أثره، كما إذا كان وجود زيد محرزاً بالوجدان وشك في وجود عمرو وأ نّه باق أو مات، فلا مانع من استصحاب بقائه وعدم موته، وبذلك يحرز كلا فردي الموضوع، حيث إنّ الموضوع ليس إلاّ ذات وجودي زيد وعمرو من دون دخل عنوان انتزاعي آخر فيه وإلاّ لخرج عن محل الكلام، فانّ محل الكلام في الموضوعات المركبة دون البسيطة. على أ نّه لا يمكن إحراز ذلك العنوان الانتزاعي البسيط بالأصل.
وأمّا إذا كان من قبيل الثاني فتارةً يكونان عرضين لموضوع واحد كعدالة زيد مثلاً وعلمه، حيث إنّهما قد اُخذا في موضوع جواز التقليد يعني ذات وجودي العدالة والعلم، ومعنى أخذهما في الموضوع كذلك هو أ نّه إذا وجد العلم له في زمان كان عادلاً في ذلك الزمان، فقد تحقق الموضوع بكلا جزأيه، حيث لم يؤخذ في موضوعه ما عدا ثبوتهما وتحققهما في زمان واحد من دون

ــ[367]ــ

أخذ عنوان آخر فيه من التقارن وغيره، والمفروض أنّ أحدهما لا يتوقف على الآخر ولا يكون نعتاً له. وإن كان كل واحد منهما نعتاً لموضوعه ومحتاجاً إليه، فحالهما حال الجوهرين المأخوذين في الموضوع فلا فرق بينهما وبين هذين العرضين من هذه الناحية أصلاً، وعليه فمرةً يكون كل منهما محرزاً بالوجدان كما إذا ثبت كل من علمه وعدالته بالعلم الوجداني، ومرةً اُخرى يكون كل منهما محرزاً بالتعبد كما إذا ثبت كل منهما بالبيّنة مثلاً أو بالأصل أو أحدهما بالبيّنة والآخر بالأصل. ومرةً ثالثةً يكون أحدهما محرزاً بالوجدان والآخر محرزاً بالتعبد كما إذا كان علمه ثابتاً بالوجدان وعدالته بالبيّنة أو بالأصل، وبضم الوجدان إلى الأصل يلتئم الموضوع المركب فيترتب عليه أثره وهو جواز التقليد أو نحوه.
واُخرى يكونان عرضين لمعروضين في الخارج كاسلام الوارث مثلاً وموت المورّث حيث إنّ كلاً منهما وإن كان نعتاً لموضوعه إلاّ أنّ أحدهما ليس نعتاً للآخر ومتوقفاً عليه، نظير الممكن فانّه في وجوده يحتاج إلى وجود الواجب بالذات ولا يحتاج إلى وجود ممكن آخر.
أو فقل: إنّ الموضوع مركب من وجوديهما العارضين لموضوعين خارجاً من دون أخذ خصوصية فيه كالتقارن أو نحوه، وعليه فحالهما حال الجوهرين وحال العرضين لموضوع واحد، فكما أ نّه يمكن إحراز كليهما بالوجدان أو التعبد أو أحدهما بالوجدان والآخر بالتعبد، فكذلك في المقام. ومن هذا القبيل ركوع الإمام وركوع المأموم في زمان واحد إذا قلنا إنّ الموضوع مركب من ذاتي ركوع الإمام وركوع المأموم، يعني ركوع المأموم تحقق في زمان كان الإمام فيه راكعاً، وعليه فاذا شك المأموم حينما ركع أ نّه هل أدرك الإمام في ركوعه أو لا، فلا مانع من استصحاب بقاء الإمام فيه وبضمه إلى الوجدان

ــ[368]ــ

ـ وهو ركوع المأموم ـ يلتئم الموضوع فيترتب عليه أثره وهو صحة الاقتداء. وأمّا إذا قلنا إنّ المستفاد من الأدلة أنّ الموضوع لها عنوان آخر كعنوان الحال أو التقارن أو ما شاكل ذلك لا وجود ركوع الإمام ووجود ركوع المأموم في زمان واحد، فلا يمكن إثباته إلاّ على القول بالأصل المثبت الذي لا نقول به.
وعلى الجملة: فإن كان المستفاد من الأدلة هو أنّ الموضوع ذاتا الركوعين في زمان واحد من دون أخذ خصوصية اُخرى فيه، فلا مانع من جريان الأصل وإثبات الموضوع به، وأمّا إن كان المستفاد منها أ نّه قد اُخذ فيه خصوصية اُخرى كالتقارن أو نحوه فلا أصل في المقام ليتمسك به إلاّ إذا قلنا بالأصل المثبت ولا نقول به.
وأمّا إذا كان من قبيل الثالث وهو ما إذا كان الموضوع مركباً من جوهر وعرض، فانّه تارةً يكون مركباً من جوهر وعرض لموضوع آخر كما إذا افترضنا أنّ الموضوع مركب من وجود زيد مثلاً وعدالة عمرو أو وجود بكر وقيام خالد وهكذا، فحال هذا الشق حال القسم الأوّل والثاني فلا مانع من إثباته بالأصل. وتارةً اُخرى يكون مركباً من عرض وموضوعه كزيد وعدالته وعمرو وقيامه وهكذا، ففي مثل هذا الشق لا محالة يكون المأخوذ في الموضوع هو وجود العرض بوجوده النعتي، حيث إنّ العرض نعت لموضوعه وصفة له، فعندئذ إن كان لاتصاف الموضوع به وجوداً أو عدماً حالة سابقة جرى استصحاب بقائه وإلاّ فلا. مثلاً إذا كان لاتصاف الماء بالكرية أو بعدمها حالة سابقة فلا مانع من استصحاب بقائه، وأمّا إذا لم تكن له حالة سابقة فلا يجري الاستصحاب، فانّ استصحاب عدم الكرية بنحو العدم المحمولي أو استصحاب وجودها بنحو الوجود المحمولي وإن كان لا مانع منه في نفسه، نظراً إلى أنّ له حالة سابقة، إلاّ أ نّه لا يجدي في المقام، حيث إنّه لا يثبت الاتصاف المزبور

ــ[369]ــ

ـ وهو مفاد كان أوليس الناقصة ـ إلاّ على القول بالأصل المثبت.
وقد تحصّل من ذلك: أ نّه لايمكن إثبات الوجود أو العدم النعتي باستصحاب الوجود المحمولي أو العدم كذلك، وهذا معنى قولنا: إنّ الوجود والعدم المحموليين مغايران للوجود والعدم النعتيين، لا بمعنى أنّ في الخارج عدمين ووجودين أحدهما محمولي والآخر نعتي، ضرورة أنّ في الخارج ليس إلاّ عدم واحد ووجود كذلك، ولكنّهما يختلفان باختلاف اللحاظ والاعتبار فتارةً يلحظ وجود العرض أو عدمه في نفسه ويعبّر عنه بالوجود أو العدم المحمولي، واُخرى يلحظ وجوده أو عدمه مضافاً إلى موضوعه ويعبّر عنه بالوجود أو العدم النعتي، فاستصحاب الوجود أو العدم المحمولي لا يثبت الموضوع. مثلاً استصحاب وجود الكر في الخارج لا يثبت اتصاف هذا الماء بالكر فيما إذا علم باستلزام وجوده فيه اتصافه به إلاّ على القول باعتبار الأصل المثبت.
وبعد هذه المقدمات أفاد (قدس سره) أنّ ما خرج عن تحت العام من العنوان لا محالة يستلزم تقييد الباقي بنقيض هذا العنوان بمقتضى المقدمة الاُولى، وأنّ هذا التقييد لا بدّ أن يكون على نحو مفاد ليس الناقصة بمقتضى المقدمة الثالثة، وأنّ هذا العنوان المأخوذ في الموضوع يستحيل تحققه قبل وجود موضوعه بمقتضى المقدمة الثانية، وعليه فلا يمكن إحراز قيد موضوع العام بأصالة العدم الأزلي، ببيان أنّ المستصحب لا يخلو من أن يكون هو العدم النعتي المأخوذ في موضوع العام، أو يكون هو العدم المحمولي الملازم للعدم النعتي بقاءً، فعلى الأوّل لا حالة سابقة له، فانّه من الأوّل مشكوك فيه، وعلى الثاني وإن كان له حالة سابقة إلاّ أ نّه لا يمكن باستصحابه إحراز العدم النعتي المأخوذ في الموضوع إلاّ على القول بالأصل المثبت.

ــ[370]ــ

وبكلمة اُخرى: أنّ المأخوذ في موضوع حكم العام بعد التخصيص بما أ نّه العدم النعتي فلا يمكن إحرازه بالأصل، لعدم حالة سابقة له، والعدم المحمولي وإن كان له حالة سابقة إلاّ أ نّه لا يمكن باستصحابه إثباته إلاّ بناءً على الأصل المثبت، وعلى ذلك فرّع (قدس سره) منع جريان أصالة العدم في المشكوك فيه من اللباس بناءً على كون المانعية المجعولة معتبرة في نفس الصلاة ومن قيودها، فانّ الصلاة من أوّل وجودها لا تخلو من أن تكون مقترنةً بالمانع أو بعدمه، فلا حالة سابقة حتى يتمسك باستصحابها ويحرز به متعلق التكليف بضم الوجدان إلى الأصل. وأمّا العدم الأزلي فهو وإن كان متحققاً سابقاً إلاّ أ نّك عرفت أنّ استصحابه لا يجدي إلاّ إذا قلنا باعتبار الأصل المثبت.
وأمّا إذا كانت المانعية المجعولة معتبرةً في ناحية اللباس وكانت من قيوده، فمرةً يكون الشك في وجود المانع لأجل الشك في كون نفس اللباس من أجزاء غير المأكول، واُخرى لأجل الشك في عروض أجزاء غير المأكول على اللباس المأخوذ من غير ما لا يؤكل لحمه، أمّا الأوّل فلا يجري فيه الأصل، لما عرفت من أنّ العدم النعتي لا حالة سابقة له، والعدم الأزلي وإن كان له حالة سابقة إلاّ أنّ استصحابه لا يجدي لاثبات العدم النعتي بناءً على ما هو الصحيح من عدم اعتبار الأصل المثبت، وأمّا الثاني فلا مانع من جريان الأصل فيه وبضمه إلى الوجدان يحرز متعلق التكليف في الخارج.
فالنتيجة: أ نّه لا يمكن إحراز دخول الفرد المشتبه في أفراد العام باجراء الأصل في العدم الأزلي، فاذن لا بدّ من الرجوع إلى الأصل الحكمي في المقام من البراءة أو نحوها.
ولنأخذ بالمناقشة فيما أفاده (قدس سره) بيان ذلك: أنّ ما أفاده (قدس سره)

ــ[371]ــ

في المقدمة الاُولى من أنّ التخصيص الوارد على العام سواء أكان متصلاً أو منفصلاً وسواء أكان نوعياً أو صنفياً أو فردياً لا محالة يوجب تعنون موضوع العام بعدم عنون المخصص وتقيده به، في غاية الصحة والمتانة ضرورة أنّ الاهمال في الواقع غير معقول فلا بدّ إمّا من الاطلاق أو التقييد، وحيث إنّ الاطلاق غير معقول لاستلزامه التهافت والتناقض بين مدلولي العام والخاص، فلا مناص من التقييد، فهذه المقدمة لا تقتضي كون العدم أي عدم عنوان المخصص المأخوذ في موضوع العام عدماً نعتياً أصلاً.
وأمّا ما أفاده (قدس سره) في المقدمة الثانية من أنّ وجود العرض قد يضاف إلى ماهيته ويعبّر عنه بالوجود المحمولي ومفاد كان التامة، ويعبّر عن عدمه البديل له بالعدم المحمولي ومفاد ليس التامة، وقد يضاف إلى موضوعه المحقق في الخارج ويعبّر عنه بالوجود النعتي ومفاد كان الناقصة، ويعبّر عن عدمه البديل له بالعدم النعتي ومفاد ليس الناقصة، فهو في غاية الصحة والمتانة. كما أنّ ما أفاده (قدس سره) من أنّ الوجود والعدم إذا كانا محموليين لم يمكن ارتفاعهما عن الماهية، ضرورة أ نّها لا تخلو من أن تكون موجودةً أو معدومةً فلا ثالث لهما، فيلزم من ارتفاعهما ارتفاع النقيضين وهو مستحيل، وأمّا إذا كانا نعتيين فلا مانع من ارتفاعهما بارتفاع موضوعهما، حيث إنّ الاتصاف بكل منهما فرع وجود المتصف في الخارج فاذا لم يكن متصف فيه فلا موضوع للاتصاف بالوجود أو العدم، وهذا معنى ارتفاعهما بارتفاع موضوعهما من دون لزوم محذور ارتفاع النقيضين، في غاية الصحة والمتانة. وغير خفي أنّ هذه المقدمة أيضاً لا تقتضي كون المأخوذ في موضوع حكم العام هو العدم النعتي.
وأمّا ما أفاده (قدس سره) في المقدمة الثالثة من أنّ الموضوع المركب لا يخلو من أن يكون مركباً من جوهرين أو عرضين أو أحد جزأيه جوهر والآخر

ــ[372]ــ

عرض ولا رابع لها. أمّا القسم الأوّل والثاني فقد عرفت فيهما أنّ إحراز كلا جزأي الموضوع أو أحدهما بالأصل إذا كان الآخر محرزاً بالوجدان بمكان من الامكان. وأمّا القسم الثالث فكذلك إذا كان الموضوع مركباً من جوهر وعرض مضاف إلى جوهر آخر، وأمّا إذا كان مركباً من جوهر وعرض مضاف إلى ذلك الجوهر فقد عرفت أ نّه لا يمكن إحرازه بالأصل، فانّ المأخوذ في الموضوع عندئذ هو العرض بوجوده النعتي، حيث إنّ العرض نعت لموضوعه وصفة له، وحينئذ فإن كان له حالة سابقة فهو وإلاّ فلا يمكن إحرازه بالأصل. وكذا الحال إذا كان المأخوذ في الموضوع هو العدم النعتي، فانّه إن كانت له حالة سابقة فهو، وإلاّ لم يجر الأصل فيه، وأمّا العدم المحمولي فهو وإن كانت له حالة سابقة إلاّ أ نّه لا يمكن إثبات العدم النعتي باستصحابه إلاّ على القول بالأصل المثبت، فهو متين جداً ولا مناص عنه، إلاّ أ نّه لا يقتضي كون العدم ـ أي عدم عنوان المخصص المأخوذ في موضوع حكم العام ـ هو العدم النعتي دون العدم المحمولي.
فالنتيجة في نهاية المطاف: أنّ هذه المقدمات الثلاث التي ذكرها (قدس سره) لاتقتضي الالتزام بما أفاده (قدس سره) من عدم جريان الاستصحاب في المقام، فأساس النزاع بيننا وبين شيخنا الاُستاذ (قدس سره) ليس في هذه المقدمات وإنّما هو في العام المخصص بدليل، وأنّ موضوعه بعد التخصيص هل قيّد بالعدم النعتي أو بالعدم المحـمولي، فعلى الأوّل لا مناص من الالتزام بما أفاده (قدس سره) من عدم جريان الاستصحاب في الأعدام الأزلية، وعلى الثاني فلا مانع من جريانه فيها. مثلاً ما دلّ على أنّ الماء الكر لا ينفعل بالملاقاة يكون مخصصاً للعمومات الدالة على انفعال الماء بالملاقاة مطلقاً ولو كان كراً، وبعد هذا التخصيص وتقييد موضوع حكم العام ـ وهو الانفعال ـ بعدم عنوان المخصص ـ وهو الكر ـ هل يكون المأخوذ فيه هو الاتصاف بعدم كونه كراً أو المأخوذ

ــ[373]ــ

فيه هو عدم الاتصاف بكونه كراً؟ فعلى الأوّل إن كانت له حالة سابقة فلا مانع من جريان الاستصحاب فيه وإلاّ لم يجر. واستصحاب العدم الأزلي لا يثبت العدم النعتي إلاّ على القول باعتبار الأصل المثبت ولا نقول به، وعلى الثاني فلا مانع من جريانه وبه يحرز تمام الموضوع، غاية الأمر أنّ أحد جزأيه ـ وهو الماء ـ كان محرزاً بالوجدان، وجزأه الآخر ـ وهو العدم المحمولي ـ قد اُحرز بالأصل. وكذا إذا شك في امرأة أ نّها قرشية أو لا، فإن قلنا إنّ المأخوذ في موضوع العام بعد ورود التخصيص عليه إن كان الاتصاف بعدم القرشية لم يجر الاستصحاب فيه لعدم حالة سابقة له، وإن كان عدم الاتصاف بها لا مانع منه.




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net