فروع توهِم المنع عن العمل بالقطع 

الكتاب : مصباح الاُصول - الجزء الاول   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 4533

 بقي الكلام في فروع توهم فيها المنع عن العمل بالقطع. وحيث إنّ القطع ممّا لا يمكن المنع عن العمل به ـ على ما تقدّم الكلام فيه ـ فلا بدّ من التعرّض لتلك الفروع ودفع التوهم المذكور:


ــ[66]ــ

 الفرع الأوّل: ما إذا كان لأحد درهم عند الودعي، وللآخر درهمان عنده، فسرق أحد الدراهم، فقد ورد النص أ نّه يعطى لصاحب الدرهمين درهم ونصف، ولصاحب الدرهم نصف(1). فقد يقال: إنّ الحكم بالتنصيف مخالف للعلم الاجمالي بأنّ تمام هذا الدرهم لأحدهما، فالتنصيف موجب لاعطاء النصف لغير مالكه، ثمّ لو انتقل النصفان إلى ثالث بهبة ونحوها، فاشترى بمجموعهما جارية، يعلم تفصـيلاً بعدم دخولها في ملكه، لكون بعض الثمن ملك الغير، فالحكم بجواز وطئها مخالف للعلم التفصيلي.

 وربّما يقال في دفع الاشكال: إنّ الحكم المذكور في النص موافق للقاعدة، لأنّ الامتزاج موجب للشركة القهرية، فيكون كل منهما شريكاً في كل جزء جزء من الدراهم الثلاثة، فما سرق يكون لهما لا لأحدهما.

 وفيه أوّلاً: أنّ المقام أجنبي عن باب الامتزاج، إذ الامتزاج الموجب للشركة القهرية إنّما هو فيما إذا كان الامتزاج موجباً لوحدة المالين في نظر العرف فصار الممتزجان واحداً في نظر العرف، بلا فرق في ذلك بين أن يكونا مختلفين في الجنس ـ كما إذا امتزج الماء والحليب مثلاً ـ أو متحدين في الجنس، كما إذا امتزج الحليب بالحليب. والمقام ليس من هذا القبيل، كما هو ظاهر.

 وثانياً: أنّ لازم ذلك هو الحكم باعطاء ثلث الدرهمين وهو ثلثا درهم لصاحب الدرهم، واعطاء ثلثي الدرهمين وهو درهم وثلث لصاحب الدرهمين، والمفروض أنّ الحكم المنصـوص على خلاف ذلك، وهو الحكم باعطاء ربع الدرهمين ـ وهو النصف ـ لصاحب الدرهم وإعطاء ثلاثة أرباع الدرهمين ـ أي درهم ونصف ـ لصاحب الدرهمين.

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 18: 452 / كتاب الصلح ب 12 ح 1 وفيه بدل الدرهم «الدينار».

ــ[67]ــ

 والتحقيق أن يقال: إنّ الحكم بتنصيف الدرهم في الفرع المذكور ليس مخالفاً للقطع بالحكم الشرعي، غاية الأمر أنّ الشارع قد حكم بالتصرف في مال الغير، والشارع له الولاية على الأموال والأنفس، بل هو المالك الحقيقي، وقد حكم بجواز التصرف في بعض الموارد مع العلم التفصيلي بكونه مال الغير، كما في حقّ المارّة، وحكم الشارع بتنصيف الدرهم إمّا أن يكون من باب الصلح القهري، بمعنى أنّ الشارع ملّك نصف الدرهم لغير مالكه حسماً لمادّة النزاع بمقتضى ولايته على الأموال والأنفس، فيدخل أحد النصفين في ملك الغير بالتعبد الشرعي، فلا مخالفة للعلم الاجمالي، ولا للعلم التفصيلي. ولا بأس بتصرف شخص ثالث في مجموع النصفين باشتراء الجارية بهما، إذ قد انتقل إليه كل من النصفين من مالكه الواقعي، فلا تكون هناك مخالفة للعلم التفصيلي.

 وإمّا أن يكون من باب قاعـدة العدل والانصـاف التي هي من القواعد العقلائية، وقد أمضاها الشارع في جملة من الموارد، كما إذا تداعى شخصان في مال، وكان تحت يدهما، أو أقام كل واحد منهما البيّنة، أو لم يتمكنا من البيّنة وحلفا أو نكلا، فيحكم بتنصيف المال بينهما في جميع هذه الصور، وهذه القاعدة مبنية على تقديم الموافقة القطعية ـ في الجملة مع المخالفة القطعية كذلك ـ على الموافقة الاحتمالية في تمام المال، فانّه لو اُعطي تمام المال في هذه الموارد لأحدهما للقرعة مثلاً، احتمل وصول تمام المال إلى مالكه، ويحتمل عدم وصول شيء منه إليه، بخلاف التنصيف، فانّه عليه يعلم وصول بعض المال إلى مالكه جزماً، ولا يصل إليه بعضه الآخر كذلك، فيكون التنصيف مقدمة لوصول بعض المال إلى مالكه، ويكون من قبيل صرف مقدار من المال مقدمةً لايصاله إلى مالكه الغائب حسبة، إلاّ أ نّه من باب المقدمة الوجودية، والمقام من باب المقدمة العلمية.

ــ[68]ــ

 وعلى هذا يكون أحدهما مالكاً للنصف واقعاً، والآخر مالكاً للنصف الآخر ظاهراً، فان قلنا بكفاية الملكية الظاهرية في جواز تصرف الغير ممّن انتقل إليه مجموع النصفين، فلا بأس بالتصرف في المجموع واشتراء الجارية به، وإن لم نقل بها ـ كما هو الظاهر ـ فنلتزم بعدم جواز التصرف في مجموع النصفين لشخص ثالث، وبعدم صحّة اشتراء الجارية به. وليس في ذلك مخالفة للنص، إذ النص مشتمل على التنصيف، ولم يتعرض لجواز التصرف فيهما لشخص ثالث.

 الفرع الثاني: ما لو اختلف المتبايعان في المثمن أو الثمن بعد الاتفاق على وقوع البيع، وليفرض الاختلاف في المتباينين لا في الأقل والأكثر، إذ على تقدير الاختلاف في الأقل والأكثر كما لو ادّعى البائع أنّ الثمن عشرة دنانير وادّعى المشتري كونه خمسة دنانير، فقد ورد النص على أ نّه مع بقاء العين يقدّم قول البائع، ومع تلفها يقدّم قدم المشتري (1).

 وهذا الفرض خارج عن محل البحث، فانّ الكلام فيما إذا كان الأمر دائراً بين المتباينين، كما لو ادّعى البائع أنّ الثمن خمسة دنانير، وادّعى المشتري كونه عشرة دراهم، أو ادّعى البائع أنّ المبيع عبد، وادّعى المشتري كونه جارية، ففي مثل ذلك إن أقام أحدهما البيّنة يحكم له، وإلاّ فإن حلف أحدهما ونكل الآخر، يقدّم قوله، وإن تحالفا يحكم بالانفساخ ورجوع كل من الثمن والمثمن إلى مالكه الأوّل، فيقال: إنّ الحكم بردّ المثمن إلى البائع في المثال الأوّل مخالف للعلم التفصيلي بأ نّه ملك للمشتري سواء كان ثمنه خمسة دنانير أو عشرة دراهم، وكذا الحكم بردّ الثمـن إلى المشتري في المثال الثاني مخالف للعلم بكونه ملكاً للبائع، سواء كان ثمناً للعبد أو الجارية، ثمّ لو انتقل العبد والجارية معاً إلى ثالث

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 18: 59 / أبواب أحكام العقود ب 11 ح 1.

ــ[69]ــ

أفتوا بجواز تصرّفه فيهما، مع أ نّه يعلم بعدم انتقـال أحدهما إليه من مالكـه الواقعي، وهو المشتري.

 والجواب: أ نّه إن قلنا بأنّ التحالف موجب للانفساخ واقعاً بالتعـبد الشرعي كما هو ليس ببعيد، فينفسخ البيع واقعاً، ويرجع كل من العوضين إلى ملك مالكه الأوّل، ويكون التحالف نظير تلف العين قبل القبض. وعليه فلا مخالفة للعلم الاجمالي أو التفصيلي ولا مانع من التصرف في الثمن والمثمن، ولا في العبد والجارية لشخص ثالث.

 وإن قلنا بأنّ التحالف لا يوجب الانفساخ واقعاً، بل الانفساخ ظاهري لرفع الخصومة وقطع المنازعة، فليس هناك إلاّ العلم بكون المال ملك الغير، فإن دلّ دليل على جواز التصرف فيه لثالث، كان المورد ممّا رخّص الشارع في تصرّف مال الغير فيه، ولا إشكال فيه كما تقدّم (1)، وإن لم يدل عليه دليل نلتزم بعدم جواز التصرف فيه.

 الفرع الثالث: ما لو اختلف المتداعيان في سبب الانتقال بعد الاتفاق على أصله، كما لو قال أحدهما: بعتك الجارية، وقال الآخر: وهبتني إيّاها، فتردّ الجارية بعد التحالف إلى مالكها الأوّل، مع العلم التفصيلي بخروجها عن ملكه.

 والجواب: أ نّه إن كانت الهبة جائزة كان ادعاء البيع وإنكار الهبة من الواهب رجوعاً عنها، لأنّ إنكار الهبة يدل بالالتزام على الرجوع عنها، نظير إنكار الوكالة، فانّه أيضاً يعدّ فسخاً لها. وعليه فتصير الجارية بمجرد إنكار الهبة ملكاً لمالكها الأوّل، فليس هناك علم بالمخالفة. وأمّا لو كانت الهبة لازمة، كما إذا كانت لذي رحم يجري في المقام ما ذكرناه في الفرع السابق: من أ نّه إن

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) في الفرع الأوّل.

ــ[70]ــ

قلنا بأنّ التحالف يوجب انفساخ العقد واقعاً، سواء كان في الواقع بيعاً أو هبة، فينفسخ العقد، وترجع الجـارية إلى ملك مالكها الأوّل، فلا مخالفة للعلم الاجمالي أو التفصيلي.

 وإن لم نقل بذلك وقلنا إنّ الانفساخ ظاهري لرفع الخصومة، فجواز التصرف فيها تابع للدليل، فان دلّ عليه دليل كان ممّا رخّص فيه الشارع في التصرف في مال الغير، وإلاّ نلتزم بعدم جواز التصرف. وعلى كلا التقديرين لا مخالفة للعلم الاجمالي أو التفصيلي.

 الفرع الرابع: ما لو وجد المني في ثوب مشترك بين شخصين، فذكروا أ نّه يجوز اقتداء أحدهما بالآخر، مع أ نّه يعلم ببطلان صلاته إمّا لجنابة نفسه أو لجنابة إمامه، وذكروا أيضاً أ نّه يجوز لثالث الاقتداء بهما في صلاة واحدة مع أ نّه يعلم ببطلان صلاته إمّا لجنابة الإمام الأوّل أو الإمام الثاني، وكذا يجوز له الاقتداء بهما في صلاتين مترتبتين، كما إذا اقتدى بأحدهما في صلاة الظهر وبالآخر في صلاة العصر، مع أ نّه يعلم تفصيلاً ببطلان صلاة العصر إمّا لجنابة الإمام أو لفوات الترتيب، وكذا يجوز الاقتداء بهما في صلاتين غير مترتبتين، مع أ نّه يعلم إجمالاً ببطلان إحدى الصلاتين، فالحكم بجواز الاقتداء في جميع هذه الفروع مخالف للعلم الاجمالي أو التفصيلي.

 والجواب: أنّ الحكم بجواز الائتمام في هذه الفروض ليس ممّا ورد فيه نص، فلا بدّ من البحث فيه من حيث القاعدة، ومحلّه الفقه بحث صلاة الجماعة (1). فإن قلنا بأنّ صحّة صلاة الإمام بنظره كافية لجواز الائتمام ولو لم تكن صحيحة في نظر المأموم، جاز الاقتداء في جميع هذه الفروض، ولا علم للمأموم ببطلان

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) شرح العروة 17: 298.

ــ[71]ــ

صلاته ولو مع علمه تفصيلاً ببطلان صلاة الإمام، كما لو علم المأموم بأنّ الإمام محدث ولكن الإمام لم يعلم بذلك فصلّى عالماً بالطهارة أو مستصحباً لها، فيجوز له الاقتداء به وصحّت صلاته مع العلم التفصيلي ببطلان صلاة الإمام، فكيف الحال في موارد العلم الاجمالي. وإن لم نقل بذلك واعتبرنا في جواز الاقتداء صحّة صلاة الإمام بنظر المأموم أيضاً، فنلتزم بعدم جواز الاقتداء في جميع هذه الفروض عملاً بالقاعدة مع عدم ورود نص على جواز الاقتداء كما تقدّم.

 الفرع الخامس: ما لو أقرّ أحد بعين لشخص، ثمّ أقرّبها لشخص آخر، فيحكم باعطاء العين للمقرّ له الأوّل، وإعطاء بدلها من المثل أو القيمة للثاني، وقد يجتمع العين والبدل عند شخص آخر، فهو يعلم إجمالاً بحرمة التصرف في أحدهما، ولو اشترى بهما شيئاً يعلم تفصيلاً بعدم جواز التصرف فيه، لكون بعض ثمنه ملكاً للغير، فلم يدخل المثمن في ملكه.

 ويظهر الجواب في هذا الفرع ممّا ذكرناه في الفروع السابقة، فانّ الحكم المذكور ممّا لم يرد فيه نص خاص، وإنّما هو بمقتضى القاعدة، باعتبار أنّ الاقرار الأوّل يوجب إعطاء العين للمقر له الأوّل بمقتضى قاعدة الاقرار، فيحكم بكونها له ظاهراً، وبمقتضى الاقرار الثاني يحكم بأنّ العين كانت ملكاً للمقر له الثاني، وحيث إنّه أتلفها باقراره الأوّل فيحكم عليه بالضمان، لقاعدة الاتلاف، فيجوز التصرف لكل منهما في العـين والبدل، لأ نّه قد ثبتت ملكية كل منهما بالأمارة الشرعية وهي الاقرار.

 وأمّا من اجتمع عنده العين والبدل، فان قلنا بأنّ الملكية الظاهرية لأحد موضوع لجواز تصرف الآخر واقعاً، فلا إشكال في جواز تصرّفه فيهما، إذ ليس له علم إجمالي بحرمة التصرف في أحدهما، وكذا المال المشترى بهما لعدم العلم بالحرمة أيضاً. وإن لم نقل بذلك كما هو الصحيح، لعدم الدليل على أنّ

ــ[72]ــ

الملكية الظاهرية لأحد موضوع لجواز التصرف لغيره واقعاً، فنلتزم بعدم جواز التصرف في كلا المالين، للعلم الاجمالي بحرمة التصرف في أحدهما، وكذا فيما اشترى بهما عملاً بالقاعدة، مع عدم ورود دليل خاص يدل على الجواز من آية أو رواية.

 الفرع السادس: حكم بعض بجواز الارتكاب في الشبهة المحصـورة، فانّه مخالف للعلم الاجمالي بوجود الحرام في بعض الأطراف.

 والجواب: أنّ عنوان المحصـور ممّا لم يرد في الأدلة الشرعية، وإنّما هو اصطلاح المتأخرين من الفقهاء، والحكم دائر مدار تنجيز العلم الاجمالي، فان قلنا بأنّ العلم الاجمالي منجّز بالنسبة إلى حرمة المخالفة القطعية فقط، نلتزم بجواز الارتكاب في بعض الأطراف دون الجميع، حتّى لا ينتهي الأمر إلى المخالفة القطعية، وإن قلنا بأنّ العلم الاجمالي منجّز حتّى بالنسبة إلى الموافقة القطعية، نلتزم بعدم جواز الارتكاب في شيء من الأطراف تحصيلاً للموافقة القطعية، إلاّ أن يطرأ عنوان رافع للحكم الواقعي، كما إذا كان الاجتناب عن الجميع غير مقدور أو حرجياً.

 وبالجملة: الحكم في المقـام يدور مدار القاعدة، ولم يرد فيه نص خاص ليكون مفاده مخالفاً للعلم الاجمالي أو التفصيلي.

 هذا تمام الكلام في هذه الفروع، وملخّص القول: أ نّه بعد ما ثبتت استحالة المنع عن العمل بالقطع على ما تقدّم بيانه (1) لا يمكن الالتزام بحكم مخالف للقطع في مورد من الموارد.

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) في أوائل هذا البحث.




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net