في تعيين نتيجة المقدمات وانّها الكشف أو الحكومة - في أنّ نتيجة المقدمات مطلقة أو مهملة 

الكتاب : مصباح الاُصول - الجزء الاول   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 4768


 أمّا الجهة الثانية: ففي تعيين النتيجة المترتبة على المقدّمات المذكورة على تقدير تماميتها، من حيث إنّها الكشف أو الحكومة. وليعلم أوّلاً: أنّ المراد من الكشف أ نّه يستكشف من المقدّمات المذكورة أنّ الشارع جعل الظن حجّة. والمراد من الحكومة أنّ العقل الحاكم بالاستقلال في باب الاطاعة والامتثال يلزم المكلف بعد تمامية المقدّمات بالامتثال الظنّي وعدم التنزل إلى الامتثال الشكّي والوهمي، بمعنى أنّ العقل يراه معذوراً غير مستحق للعقاب على مخالفة الواقع مع الأخذ بالظن، ويراه مستحقاً للعقاب على مخالفة الواقع على تقدير عدم الأخذ بالظن والاقتصار بالامتثال الشكّي والوهمي، فيحكم العقل بتبعيض الاحتياط في فرض عدم التمكن من الاحتياط التام، وهذا هو معنى الحكومة،

ــ[257]ــ

لا ما ذكره صاحب الكفاية (قدس سره) من أنّ العقل مستقل بحجّية الظن(1) فانّه غير معقول، إذ العقل ليس بمشرع ليجعل الظن حجّة، وإنّما شأنه الادراك ليس إلاّ، فالجعل والتشريع من وظائف المولى، والعقل يدرك ويرى المكلف معذوراً في مخالفة الواقع مع الاتيان بما يحصل معه الظن بالامتثال على تقدير تمامية المقدّمات، ويراه غير معذور في مخالفة الواقع على تقدير ترك الامتثال الظنّي والاقتصار بالامتثال الشكّي أو الوهمي، وهذا هو معنى الحكومة.

 ثمّ إنّه لا بدّ من بيان منشأ الاختلاف في أنّ نتيجة المقدّمات هو الكشف أو الحكومة، فانّ الاختلاف المذكور ليس جزافياً بدون منشأ، فنقول: إنّ المنشأ لهذا الاختلاف هو الاختلاف في تقرير المقدّمة الثالثـة، فانّها قد تقـرّر بأنّ الاحتياط التام غير واجب، لعدم إمكانه أو لكونه مستلزماً لاختلال النظام أو العسر والحرج، وعلى هذا التقرير تكون النتيجة هي الحكومة، لأنّ عدم جواز الاحتياط التام لاستلزامه اختلال النظام أو عدم وجوبه للزوم العسر والحرج لا ينافي حكم العقل بلزوم الاحتياط في بعض الأطراف وتركه في البعض الآخر ممّا يرفع معه محذور الاختلال أو العسر والحرج، فالعقل الحاكم بالاستقلال في باب الاطاعة والامتثال يلزم المكلف أوّلاً بتحصيل الامتثال العلمي تفصيلاً أو إجمالاً باتيان جميع المحتملات، فان تعذّر ذلك حكم بالتبعيض في الاحتياط والاكتفاء بالامتثال الظنّي، ومع تعذّره أيضاً يحكم بالامتثال الشكّي، ومع تعذّره يحكم بالامتثال الوهمي، ولا يراه معذوراً في مخالفة الواقع على تقدير التنزل إلى المرتبة السافلة مع التمكن من المرتبة العالية في جميع هذه المراتب. وبالجملة: تكون النتيجة على هذا التقرير هو التبعيض في الاحتياط.

 وقد تقرّر المقدّمة الثالثة: بأنّ الشارع لا يرضى بالاحتياط والامتثال

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) كفاية الاُصول: 280، ولاحظ ص 321.

ــ[258]ــ

الاجمالي، بدعوى الاجماع على ذلك، فانّ الاحتياط وإن كان حسناً في نفسه إلاّ أ نّه ليس كذلك فيما إذا استلزم انحصار الامتثال في أكثر الأحكام على الامتثال الاجمالي المنافي لقصد الوجه والجزم، وتكون النتيجة على هذا التقرير هو الكشف، إذ بعد فرض فعلية التكاليف وانسداد باب العلم والعلمي وعدم رضى الشارع بالامتثال الاجمالي، يستكشف أنّ الشارع جعل لنا حجّةً وطريقاً إلى أحكامه، فلا بدّ من السبر والتقسيم في تعيين ذلك الطريق، فهل هو فتوى الفقيه أو القرعة أو غير ذلك، والمفروض عدم حجّية كل ذلك، فيستكشف أنّ الظن هو الطريق المنصوب من قبل الشارع.

 وتوهّم عدم لزوم جعل الحجّة على الشارع لاحتمال إيكاله المكلف إلى ما يحكم به العقل، فلا يتم القول بالكشف، مدفوع بما ذكرناه من أنّ العقل شأنه الادراك فقط، وليس له جعل الحجّية لشيء، فعلى تقدير عدم جعل الشارع الظن حجّةً يحكم العقل بالتبعيض في الاحتياط على ما تقدّم، والمفروض قيام الاجماع على أنّ الشارع لا يرضى بهذا النحو من الاحتياط، وهو الاحتياط في أكثر الأحكام المنافي للجزم وقصد الوجه، فلا مناص من الالتزام بأنّ الشارع جعل الظن حجّةً على فرض تمامية المقدّمات بهذا التقرير.

 إذا عرفت معنى الكشف والحكومة وعرفت منشأ الاختلاف فيهما، ظهر لك أنّ الصحيح على تقدير تمامية المقدّمات هو الحكومة لا الكشف، إذ الكشف متوقف على قيام الاجماع على أنّ الشارع لا يرضى بالاحتـياط، وأنّى لنا باثبات هذا الاجماع، وأين هذا الاجماع. وعلى تقدير عدم ثبوت هذا الاجماع يحكم العقل بالتبعيض في الاحتياط على ما تقدّم بيانه، وقد ذكرنا أنّ هذا هو معنى الحكومة.

 الجهة الثالثة: في أنّ نتيجة المقدّمات على تقدير تماميتها مطلقة أو مهملة.

ــ[259]ــ

ولايخفى أنّ الاطلاق والاهمال قد يلاحظان بالنسبة إلى الأسباب، وقد يلاحظان بالنسبة إلى الموارد، وقد يلاحظان بالنسبة إلى المراتب، فنقول:

 أمّا على تقرير الكشف: فتكون النتيجة مطلقـة من حيث الأسباب إذ لا يكون هناك قدر متيقن، فلا يرى العقل فرقاً بين الأسباب التي يحصل منها الظـن، فلا فرق بين الظن الحاصل من الاجمـاع المنقول والظن الحاصـل من الشهرة والحاصل من فتوى الفقيه مثلاً، بل العقل يرى بعد تمامية المقدّمات بهذا التقرير أنّ الشارع جعل الظن حجّة من أيّ سبب حصل، إلاّ السبب الذي نهى الشارع عن العمل بالظن الحاصل منه، كالظن الحاصل من القياس الثابت عدم جواز العمل به بالأخبار المتواترة.

 وأمّا من حيث الموارد فتكون النتيجة مهملة، إذ العلم بعدم رضى الشارع بالاحتياط الكلّي لاينافي وجوب الاحتياط في خصوص الموارد المهمّة، كالدماء والأعراض بل الأموال الخطيرة، فلا بدّ من الاقتصار على القدر المتيقن وهو الظن في غير هذه الموارد. وأمّا هذه الموارد التي علم اهتمام الشارع بها فلا بدّ من الاحتياط فيها، وكذا الحال من حيث المراتب، إذ العقل لا يدرك بعد العلم بعدم رضى الشارع بالاحتياط الكلّي أ نّه جعل الظن حجّةً بتمام مراتبه، بل يحتمل أ نّه جعل خصوص الظن القوي حجّة. ومجرد احتمال عدم جعل الظن الضعيف حجّة كاف في الحكم بعدم الحجّية، فلابدّ من الاقتصار على القدر المتيقن والعمل بالظن القوي، وإن لم يكن وافياً بمعظم الفقه ـ بحيث يلزم من الرجوع إلى الاُصول في غير موارد العلم وهذا النوع من الظن محذور المخالفة القطعية ـ يعمل بالظن الأضعف منه الأقوى من غيره، وإن لم يكن هو أيضاً وافياً يتنزل إلى الأضعف منه، وهكذا. هذا كلّه على الكشف.

 وأمّا على الحكومة: فالأمر كذلك، فتكون النتيجة مطلقة بالنسبة إلى

ــ[260]ــ

الأسباب، إذ بعد عدم وجوب الاحتياط الكلّي، لعدم إمكانه أو لاستلزامه العسر والحرج وتنزّل العقل من الامتثال العلمي إلى الامتثال الظنّي، لا يرى فرقاً بين أسباب الظن، إذ لا يكون هناك قدر متيقن، فلا فرق بين الظنون من حيث الأسباب.

 وأمّا من حيث الموارد فتكون النتيجة مهملة، إذ عدم وجوب الاحتياط الكلّي ـ لعدم إمكانه أو لاستلزامه اختلال النظام أو العسر والحرج ـ لا يوجب رفع اليد عن الاحتياط في جميع الموارد، بل لابدّ من العمل بالاحتياط في الموارد التي علم اهتمام الشارع بها، والعمل بالظن في غـيرها، ولا يلزم من العمل بالاحتياط فيها محذور اختلال النظام أو العسر والحرج. وكذا الحال بالنسبة إلى المراتب، فانّ النتيجة بالنسبة إليها أيضاً مهملة لعين ما تقدّم، ولكنّ التبعيض في مراتب الظنون يكون بعكس الكشف، إذ على الكشف كان المتعيّن الاقتصار على الظن القوي، وعلى تقدير عدم الوفاء بمعظم الفقه على ما تقدّم بيانه يتنزل إلى الظن المتوسط، وعلى تقدير عدم الوفاء أيضاً يتنزّل إلى الظن الضعيف، فيكون التنزل من الظن العالي إلى السافل، وتكون دائرة العمل بالظن أضيق. وعلى تقدير عدم الكفاية يتوسع شيئاً فشيئاً على ما تقدّم.

 وهذا بخلاف الحكومة، إذ بعد بطلان الاحتياط الكلّي ـ لعدم إمكانه أو لاستلزامه اختلال النظام أو العسر والحرج، وتنزل العقل من الامتثال العلمي إلى الامتثال الظنّي ـ كان المتعيّن أوّلاً هو الاتيان بالمظنونات والمشكوكات والموهومات بالوهم القوي، ويطرح الموهوم بالوهم الضعيف فقط، وإن تعذر ذلك فيأتي بالمظنونات والمشكوكات، ويطرح جميع الموهومات. وفي الصورتين يحصل الامتثال الظنّي. وإن تعذّر ذلك أيضاً فيأتي بجميع المظنونات ويطرح المشكوكات أيضاً، وإن تعذّر ذلك أيضاً فيأتي بالمظنونات بالظن القوي فقط،

 
 

ــ[261]ــ

ويطرح المظنونات بالظن الضعيف أيضاً كالمشكوكات، وفي هاتين الصورتين يكون الامتثال شكّياً لطرح مشكوك التكليف على الفرض، فيكون التنزّل من الضعيف إلى القوي، وتكون دائرة العمل بالظن أوسع، وعلى تقدير التعذر يتضيّق شيئاً فشيئاً.




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net