التنبيه الثالث - التنبيه الرابع 

الكتاب : مصباح الاُصول - الجزء الاول   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 3967


 الأمر الثالث: أ نّه لا اختصاص لحديث الرفع بالأحكام التكليفية بل يعمّ الأحكام الوضعية، كما لا اختصاص له بمتعلقات الأحكام، بل يشمل الموضوعات أيضاً، فانّ فعل المكلف كما يقع متعلقاً للتكليف قد يقع موضوعاً له كالافطار في نهار شهر رمضان، فانّه متعلق للحرمة وموضوع لوجوب الكفارة أيضاً، فإذا اضطرّ المكلف إليه أو اُكره عليه، لايترتّب عليه وجوب الكفّارة كما لاتتعلّق به الحرمة، لكونه مرفوعاً في عالم التشريع.

 نعم، في طروء الاضطرار أو غيره من العناوين المذكورة في الحـديث على متعلق التكليف تفصيل لا بدّ من التعرّض له، وهو أنّ متعلق التكليف إن كان هو الكلّي الساري كما في المحرّمات المنحلة إلى أحكام عديدة بتعدد الأفراد، فطروء أحد هذه العناوين على فرد من الطبيعة لا يوجب إلاّ سقوط التكليف المتعلق بهذا الفرد، فانّ الاضطرار إلى أكل حرام معيّن لا يوجب رفع الحرمة عن أكل غيره، وكذا الاكراه على ارتكاب فرد من الحرام لا يوجب إلاّ رفع الحرمة عنه دون غيره من أفراد الحرام، وهذا ظاهر.

 وأمّا إن كان متعلق التكليف هو الكلّي على نحو صرف الوجود كما في التكاليف الايجابية فطروء أحد هذه العناوين على فرد من ذلك الكلّي لا أثر له في ارتفاع الحكم أصلاً، إذ ما طرأ عليه العنوان وهو الفرد لا حكم له على الفرض، وما هو متعلق التكليف وهو الطبيعي لم يطرأ عليه العنوان، فإذا اضطرّ


ــ[309]ــ

المكلف إلى ترك الصلاة في جزء من الوقت، لايسقط عنه وجوب طبيعي الصلاة المأمور بها في مجموع الوقت. نعم، لو اضطرّ إلى ترك الصلاة في تمام الوقت أو في خصوص آخره فيما إذا لم يأت بها قبل ذلك، كان التكليف ساقطاً لا محالة.

 هذا كلّه في التكاليف الاستقلالية، وكذا الحال في التكاليف الضمنية، فلو اضطرّ المكلّف إلى ترك جزء أو شرط في فرد مع تمـكنه منه في فرد آخر لا يرتفع به التكليف الضمني المتعلق بهذا الجزء أو الشرط، لما تقدّم من أنّ متعلق التكليف ـ وهو الكلّي ـ لم يتعلق به الاضطرار، فالاتيان بالناقص ـ مع التمكن من الاتيان بفرد تام من حيث الأجزاء والشرائط ـ لا يكون مجزئاً. نعم، لو كان الاضطرار إلى ترك الجزء أو الشرط مستوعباً لتمام الوقت، سقط التكليف المتعلق بالمركب المشتمل على المضطر إلى تركه لا محالة.

 وهل يجب الاتيان بغير ما اضطرّ إلى تركه من الأجزاء والشرائط أم لا؟ ربّما يقال بالوجوب، نظراً إلى أنّ المرفوع بحديث الرفع إنّما هو خصوص الأمر الضمني المتعلق بالمضطر إليه فيبقى الأمر المتعلق بغيره على حاله. وبعبارة اُخرى: المرفوع إنّما هو خصـوص جزئية المضطر إليه أو شرطيته وأمّا غيره فباق بجزئيته أو شرطيته، فلا موجب لرفع اليد عن وجوبه.

 ولكن التحقيق عدم الوجوب إلاّ بدليل من الخارج، لأنّ الأمر الضمني تابع حدوثاً وبقاءً لأصل التكليف المتعلق بالمجموع، كما أنّ الحكم الوضعي المنتزع من الحكم التكليفي كالجزئية والشرطية تابع لمنشأ الانتزاع، وهو أصل التكليف المتعلق بالمجموع والمقيّد، فإذا ارتفع التكليف بالمجموع للاضطرار كان التكليف ببقية الأجزاء والشرائط محتاجاً إلى دليل آخر. فإذا اضطرّ المكلف إلى ترك القراءة مثلاً في تمام الوقت، كان التكليف بالصلاة مع القراءة ساقطاً لحديث الرفع، ووجوب الصلاة بغير القراءة يحتاج إلى دليل آخر. ولا يكفيه حديث

ــ[310]ــ

الرفع، إذ مفاده رفع التكليف المتعلق بالمجموع. وأمّا ثبوت التكليف لغيره الفاقد للقراءة، فحديث الرفع أجنبي عنه، فلا بدّ من التماس دليل آخر. نعم، يمكن دعوى وجود الدليل في خصوص باب الصلاة من جهة أنّ الصلاة لا تسقط بحال على ما هو مستفاد من الروايات (1)، دون غيرها من العبادات.

 إن قلت: إنّ من آثار الاخلال ببعض ما اعتبر في الواجب جزءاً أو شرطاً وجوب قضائه بعد الوقت، فإذا تحقق الاخلال اضطراراً كان وجوب القضاء مرفوعاً بحديث الرفع لا محالة، فيكون العمل معه صحيحاً، إذ لا نعني بالصحّة إلاّ إسقاط القضاء، فثبت كون العمل الفاقد للجزء أو الشرط اضطراراً صحيحاً وهو المدعى.

 قلت: وجوب القضاء إنّما هو من آثار الفوت، ولا يرتفع بالاضطرار أو الاكراه في الوقت على ما سيجيء الكلام فيه قريباً (2) إن شاء الله تعالى، ومن هنا لم يشك أحد في وجوب القضاء فيما إذا اضطرّ إلى ترك الواجب في الوقت رأساً أو اُكره عليه، فمع الاخلال بالجزء أو الشرط للاضطرار أو الاكراه لايكون القضاء ساقطاً ليستكشف بسقوطه صحّة الفاقد.

 إن قلت: إنّ ما ذكر من البيان جار بالنسبة إلى ما لا يعلمون أيضاً، فإذا لم يعلم المكلف بجزئيـة شيء أو شرطيته للصلاة مثلاً ارتفع التكليف المتعلق بالمجموع بحديث الرفع، والتكليف المتعلق بالفاقد يحتاج إلى دليل.

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) [ استدلّ (قدس سره) في الفقه على هذه القاعدة بما ورد في حقّ المستحاضة من أ نّها لا تدع الصلاة على حال. راجع الوسائل 2: 373 / أبواب الاستحاضة ب 1 ح 5 ولمزيد الاطّلاع راجع شرح العروة 10: 100 و 106 و 161 ].

(2) في الأمر الخامس ص 312.

ــ[311]ــ

 قلت: كلاّ، لأنّ المكلف يعلم إجمالاً بثبوت التكليف مردداً بين أن يكون متعلقاً بخصوص المتيقن من الأجزاء والشرائط، وأن يكون متعلقاً بالزائد عليه، فإذا ارتفع تعلّقه بالزائد تعبداً لحديث الرفع، بقي عليه امتثال التكليف بالمتيقن، ولا وجه لرفع اليد عن التكليف بالمعلوم برفع التكليف عن المشكوك فيه. وهذا بخلاف صورة الاضطرار إلى ترك الجزء أو الشرط أو الاكراه عليه، إذ يحتمل فيها عدم التكليف رأساً، وليس التكليف بالفاقد إلاّ مجرد احتمال.

 ثمّ إنّه لا يترتب على شمول حديث الرفع لمورد إلاّ رفع التكليف أو الوضع الثابت في هذا المورد في نفسه، فالاكراه على فعل محرّم في نفسه يرفع حرمته والاكراه على معاملة يرفع نفوذها وتأثيرها، فلو فرض أنّ المكره عليه ممّا لا أثر له في نفسه، فلا يشمله حديث الرفع ولا يترتب على شموله أثر، فإذا اُكره أحد على ترك بيع داره مثلاً، لا يمكن الحكم بحصول النقل والانتقال، إذ مفاد الحديث رفع الحكم التكليفي أو الوضعي عن المكره عليه، لا إثبات حكم له. وكذا الحال لو اُكره على إيقاع معاملة فاسدة في نفسها، فانّه لا يمكن الحكم بترتب الأثر على هذه المعاملة الفاسـدة لحديث الرفع، فانّه أيضاً يرجع إلى الاكراه على ترك المعاملة الصحيحة، ولا أثر لترك المعاملة الصحيحة ليرفع بحديث الرفع.

 وبعبارة اُخرى واضحة: كل ما كان صحيحاً ونافذاً في نفسه من المعاملات يرتفع عنه حكمه وأثره إذا وقع مكرهاً عليه. وأمّا ما كان فاسداً في نفسه، فلا يترتب عليه الحكم بالصحّة إذا وقع عن إكراه.

 الأمر الرابع: أ نّه لا يرفع بحديث الرفع الحكم الثابت للشيء بالعناوين المذكورة في نفس الحديث، كوجوب سجدتي السهو المترتب على نسيان السجدة في الصلاة، وكوجوب الدية المترتب على قتل الخطأ، والسر في ذلك: أنّ مفاد

ــ[312]ــ

الحديث كون طروء هذه العناوين موجباً لارتفاع الحكم الثابت للشيء في نفسه، فلا يشمل الحكم الثابت لنفس هذه العناوين، إذ ما يكون موجباً لثبوت حكم لا يعقل أن يكون موجباً لارتفاعه. ولعل هذا واضح.




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net