4 ـ حديث السعة \ 5 ـ حديث كل شيء مطلق 

الكتاب : مصباح الاُصول - الجزء الاول   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 6042


 ومن جملة الروايات التي استدلّ بها على البراءة قوله (صلّى الله عليه وآله): «الناس في سعة ما لا يعلمـون» (1) والاستدلال به مبني على أنّ كلمـة «ما» موصولة وقد اُضيفت إليها كلمة «سعة»، فيكون المعنى أنّ الناس في سعة من الحكم المجهول، فمفاده هو مفاد حديث الرفع، ويكون حينئذ معارضاً لأدلة وجوب الاحتياط على تقدير تماميتها. وأمّا إن كانت كلمة «ما» مصدرية زمانية، فلا يصحّ الاستدلال به على المقام، إذ المعنى حينئذ أنّ الناس في سعة ما داموا لم يعلموا، فمفاد الحديث هو مفاد قاعدة قبح العقاب بلا بيان، وتكون أدلة وجوب الاحتياط حاكمة عليه، لأ نّها بيان.

 والظاهر هو الاحتمال الأوّل، لأنّ كلمة «ما» الزمانية ـ حسب الاستقراء ـ لا تدخل على الفعل المضارع، وإنّما تدخل على الفعل الماضي لفظاً ومعنىً أو معنىً فقط. ولو سلّم دخولها على المضارع أحياناً لا ريب في شذوذه فلا تحمل عليه إلاّ مع القرينة. نعم، لو كان المضارع مدخولاً لكلمة
«لم»(2)، لكان للاحتمال المذكور وجه، باعتبار كون الفعل ماضياً بحسب المعنى، فالصحيح دلالة الحديث على البراءة. وباطلاقه يشمل الشبهات الحكمية والموضوعية.

 وظهر بما ذكرناه: أنّ ما أفاده المحقق النائيني (قدس سره) ـ من ترجيح الاحتمال الثاني وعدم دلالة الحديث على البراءة (3) ـ خلاف التحقيق. ولكنّ

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) المستدرك 18: 20 / أبواب مقدّمات الحدود ب 12 ح 4.

(2) المذكور في المصدر: «الناس في سعة ما لم يعلموا».

(3) أجود التقريرات 3: 316.

ــ[323]ــ

الذي يسهّل الأمر أنّ الحديث مرسل لا يصحّ الاعتماد عليه، بل لم يوجد في كتب الأخبار أصلاً. نعم، في حديث السفرة المطروحة في الفلاة وفيها اللحم أمر الإمام (عليه السلام) بأن يقوّم اللحم ويؤكل، فقال الراوي إنّه لا يدري أمالكه مسلم أو كافر، ولعلّ اللحم من غير مذكى، قال (عليه السلام): «هم في سعة حتّى يعلموا»(1) ومورد هذه الرواية خصوص اللحم، وحكمه (عليه السلام) بالاباحة إنّما هو من جهة كونه في أرض المسلمين فهي أمارة على التذكية، وإلاّ كان مقتضى أصالة عدم التذكية حرمة أكله. وبالجملة: مورد هذه الرواية هي الشبهة الموضوعية القائمة فيها الأمارة على الحلية، فهي أجنبية عن المقام.

 ومن جملة الروايات التي استدلّ بها للمقام قوله (عليه السلام): «كل شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي» (2) وهذه الرواية وإن كانت مختصّة بالشبهة التحريمية، إلاّ أ نّه لابأس بالاستدلال بها من هذه الجهة، فانّ عمدة الخلاف بين الاُصوليين والأخباريين إنّما هي في الشبهة التحريمية. وأمّا الشبهة الوجوبية فوافق الأخباريون الاُصوليين في  عدم  وجوب الاحتياط فيها، إلاّ القليل منهم كالمحدِّث الاسترابادي(3)، فانّه المتفرد من بين الأخباريين بوجوب الاحتياط فيها أيضاً، بل اختصاص هذه الرواية بالشبهة التحريمية موجب لرجحانها على سـائر روايات البراءة، باعتبار أ نّها أخص من أخبار الاحتياط، فلا ينبغي الشك في تقدّمها عليها. ولذا ذكر شيخنا الأنصاري (قدس سره) (4) أ نّها أظهر روايات الباب.

 ولكن صاحب الكفاية (قدس سره) والمحقق النائيني (قدس سره) لم يرتضيا

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 3: 493 / أبواب النجاسات ب 50 ح 11.

(2) الوسائل 27: 173 / أبواب صفات القاضي ب 12 ح 67 (في الطبعة القديمة ح 60).

(3) الفوائد المدنية: 138.

(4) فرائد الاُصول 1: 369.

ــ[324]ــ

الاسـتدلال بها للمقام، وذكر كل منهما وجهاً لذلك غير ما ذكره الآخر. أمّا صاحب الكفاية (قدس سره) (1) فذكر أ نّه يحتمل أن يكون المراد من الورود الذي جعل غاية للاطلاق هو صدور الحكم من المولى وجعله، لا وصوله إلى المكلف، فيكون مفاد الرواية أنّ كل شيء لم يصدر فيه نهي ولم تجعل فيه الحرمة فهو مطلق. وهذا خارج عن محل الكلام، فانّ الكلام فيما إذا شكّ في صدور النهي من المولى وعدمه، فيكون التمسك فيه بالرواية من قبيل التمسك بالعام في الشبهة المصداقية.

 وفيه: أنّ الورود وإن صحّ استعماله في الصدور، إلاّ أنّ المراد به في الرواية هو الوصول، إذ على تقدير أن يكون المراد منه الصدور لا مناص من أن يكون المراد من الاطلاق في قوله (عليه السلام): «كل شيء مطلق» هو الاباحـة الواقعية، فيكون المعنى أنّ كل شيء مباح واقعاً ما لم يصدر النهي عنه من المولى، ولا يصح أن يكون المراد من الاطلاق هي الاباحة الظاهرية، إذ لايصح جعل صدور النهي من الشارع غايةً للاباحة الظاهرية، فانّ موضوع الحكم الظاهري هو الشك وعدم وصول الحكم الواقعي إلى المكلف، فلا تكون الاباحة الظاهرية مرتفعة بمجرد صدور النهي من الشـارع ولو مع عدم الوصول إلى المكلف، بل هي مرتفعة بوصوله إلى المكلف، فلا مناص من أن يكون المراد هي الاباحة الواقعية، وحينئذ فامّا أن يراد من الاطلاق الاباحة في جميع الأزمنة أو الاباحة في خصوص عصر النبي (صلّى الله عليه وآله) لا سبيل إلى الأوّل، إذ مفاد الرواية على هذا أنّ كل شيء مباح واقعاً حتّى يصدر النهي عنه من الشارع. وهذا المعنى من الوضوح بمكان كان بيانه لغواً لا يصدر من الإمام (عليه السلام) فانّه من جعل أحد الضدّين غايةً للآخر، ويكون من قبيل أن

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) كفاية الاُصول: 342.

ــ[325]ــ

يقال: كل جسم ساكن حتّى يتحرك. وكذا المعنى الثاني، فانّه وإن كان صحيحاً في نفسه، إذ مفاد الرواية حينئذ: أنّ الناس غير مكلفين بالسؤال عن حرمة شيء ووجوبه في زمانه (صلّى الله عليه وآله) بل هو (صلّى الله عليه وآله) يبيّن الحرام والواجب لهم، والناس في سعة ما لم يصدر النهي منه (صلّى الله عليه وآله) ولذا ورد في عدّة من الروايات المنع عن السؤال:

 منها: ما ورد في الحج من أ نّه (صلّى الله عليه وآله) سئل عن وجوبه في كل سنة وعدمه فقال (صلّى الله عليه وآله): «ما يؤمنك أن أقول نعم، فإذا قلت نعم يجب... » (1).

 وفي بعضها: «أنّ بني إسرائيل هلكوا من كثرة سؤالهم» (2)، فمفاد الرواية أنّ الناس ليس عليهم السؤال عن الحرام في عصر النبي (صلّى الله عليه وآله) بل كل شيء مطلق ومباح ما لم يصدر النهي عنه من الشارع، بخلاف غيره من الأزمنة، فانّ الأحكام قد صدرت منه (صلّى الله عليه وآله) فيجب على المكلفين السؤال والتعلم، كما ورد في عدّة من الروايات (3) فاتّضح الفرق بين عصر النبي (صلّى الله عليه وآله) وغيره من العصور من هذه الجهة.

 إلاّ أنّ هذا المعنى خلاف ظاهر الرواية، فان ظاهر قوله (عليه السلام): «كل شيء مطلق» هو الاطلاق الفعلي والاباحة الفعلية، بلا تقييد بزمان دون زمان، لا الاخبار عن الاطلاق في زمان النبي (صلّى الله عليه وآله) وأنّ كل شيء كان مطلقاً في زمانه ما لم يرد النهي عنه، فتعيّن أن يكون المراد من الاطلاق هي

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) بحار الأنوار 22: 31.

(2) بحار الأنوار 1: 221 و 224 / كتاب العلم ب 7 ح 2 و 16 (باختلاف يسير).

(3) الوسائل 27: 64 و 65 / أبواب صفات القاضي ب 7 ح 8 و 9 وغيرهما.

ــ[326]ــ

الاباحة الظاهرية لا الواقعية. وعليه فلا مناص من أن يكون المراد من الورود هو الوصول، لأنّ صدور الحكم بالحرمة واقعاً لا يكون رافعاً للاباحة الظاهرية ما لم تصل إلى المكلف، كما هو ظاهر، فنفس كلمة «مطلق» في قوله (عليه السلام): «كل شيء مطلق» قرينة على أنّ المراد من الورود هو الوصول.

 وأمّا المحقق النائيني (قدس سره) (1) فذكر أنّ مفاد هذه الروايـة هو اللاّحرجية العقلية الأصلية قبل ورود الشرع والشريعة، فهي أجنبية عن محل الكلام وهو إثبات الاباحة الظاهرية لما شكّ في حرمته بعد ورود الشرع وقد حكم فيه بحرمة أشياء وحلية غيرها.

 هذا، وفيه من البعد ما لا يخفى، لأنّ بيان الاطلاق الثابت عقلاً قبل ورود الشرع لغو لا يصدر من الإمام (عليه السلام)، إذ لا تترتب عليه ثمرة وفائدة فلا يمكن حمل الرواية عليه، مضافاً إلى أنّ ظاهر الكلام الصادر من الشارع أو ممّن هو بمنزلته كالإمام (عليه السلام) المتصدي لبيان الأحكام الشرعية هو بيان الحكم الشرعي المولوي لا الحكم العقلي الارشادي.

 فتحصّل: أنّ الصحيح ما ذكره الشيخ (قدس سره) من دلالة الرواية على البراءة، وإطلاقها يشمل الشبهات الحكمية والموضوعية، باعتبار أنّ مفادها الحكم بحلية الشيء المشكوك في حرمته، سواء كان منشأ الشك عدم تمامية البيان من قبل المولى كما في الشبهات الحكمية، أو الاُمور الخارجية كما في الشبهات الموضوعية.
ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) أجود التقريرات 3: 317، فوائد الاُصول 3: 363.




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net