استصحاب البراءة الثابتة قبل البلوغ - الاشكالات على استصحاب البراءة 

الكتاب : مصباح الاُصول - الجزء الاول   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 4122


 قلت أوّلاً: إنّ الأحكام المجعولة بنحو القضايا الحقيقية تنحل إلى أحكام متعددة بحسب تعدّد أفراد موضوعاتها، كما هو مبنى جريان البراءة في الشبهات الموضوعية، إذ بدونه لا يكون هناك حكم مجهول ليرفع بالبراءة. وعليه فيكون الشك في خمرية مائع مستلزماً للشك في جعل الحرمة له، فيرجع إلى استصحاب عدم الجعل كما في الشبهة الحكمية.

 وثانياً: أ نّه لو سلّم عدم جريان استصحاب عدم الجعل في الشبهة الموضوعية لا مانع من الرجوع إلى الاستصحاب الموضوعي إمّا محمولياً كما في كثير من الموارد، وإمّا أزلياً كما في بعضها. وقد ذكرنا في محلّه (1) جريان الاستصحاب في الأعدام الأزلية.

 وأمّا تقريب الاستدلال بالاستصحاب باعتبار المرتبة الثانية للحكم وهي المرتبة الفعلية، فهو استصحاب عدم التكليف الفعلي المتيقن قبل البلوغ، وقد اُورد على هذا التقريب بوجوه:

 الوجه الأوّل: أ نّه يعتبر في الاستصحاب أن يكون المستصحب بنفسه أو بأثره مجعولاً شرعياً، ويكون وضعه ورفعه بيد الشارع، وعدم التكليف أزلي غير قابل للجعل، وليس له أثر شرعي، فانّ عدم العقاب من لوازمه العقلية، فلا يجري فيه الاستصحاب. ونسب صاحب الكفاية (قدس سره)(2) في التنبيه

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) محاضرات في اُصول الفقه 4: 360.

(2) كفاية الاُصول: 417.

ــ[338]ــ

الثامن من تنبيهات الاستصحاب هذا الايراد إلى الشيخ (قدس سره).

 أقول: أمّا نسبة هذا الايراد إلى الشيخ (قدس سره) فالظاهر أ نّها غير مطابقة للواقع، لأنّ الشيخ (قدس سره) قائل بجريان الاستصحاب في الأعدام الأزلية، كما صرّح بذلك في عدّة موارد من الرسائل والمكاسب (1)، وذكر (2)أيضاً في جملة التفصيلات في جريان الاستصحاب التفصيل بين الوجود والعدم، وردّه بأ نّه لا فرق في جريان الاستصحاب بين الوجود والعدم. وبالجملة: الشيخ وإن كان قائلاً بعدم صحّة الاستدلال على البراءة بالاستصحاب، إلاّ أ نّه ليس لأجل هذا الايراد الذي ذكره صاحب الكفاية (قدس سره) ونسبه إليه. وسيجيء بيان إيراد الشيخ (قدس سره) على الاستصحاب المذكور قريباً إن شاء الله تعالى.

 وأمّا أصل الايراد المذكور فيردّه: أنّ اعتبار كون المستصحب أمراً مجعولاً بنفسـه أو بأثره ممّا لم يدل عليه دليل من آية ولا رواية، إنّما المعتبر في الاستصحاب أن يكون المستصحب قابلاً للتعبد الشرعي، ولا خفاء في أنّ عدم التكليف كوجوده قابل للتعبد. وتوهم أ نّه لا بدّ من أن يكون المستصحب قابلاً للتعبد حدوثاً والعدم الأزلي لا يكون حادثاً، مدفوع بأنّ المعتبر كونه قابلاً للتعبد عند جريان الاستصحاب وفي ظرف الشك، فيكفي كون المستصحب قابلاً للتعبد بقاءً وإن لم يكن قابلاً له حدوثاً. وسيأتي الكلام في ذلك مفصلاً في بحث الاستصحاب(3) إن شاء الله تعالى.

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) صرّح بذلك في مطارح الأنظار: 194 السطر 32.

(2) فرائد الاُصول 2: 549 و 588.

(3) راجع الجزء الثالث من هذا الكتاب ص 211.

ــ[339]ــ

 الوجه الثاني: ما أفاده شيخنا الأنصاري (قدس سره) (1) وملخّصـه: أنّ استصحاب البراءة لو كان موجباً للقطع بعدم العقاب صحّ التمسك به وإلاّ فلا، إذ مع بقاء احتمال العقاب بعد جريان الاستصحاب لا مناص من الرجوع إلى قاعدة قبح العقاب بلابيان، لسدّ باب هذا الاحتمال، ومعه كان التمسّك بالاستصحاب لغواً محضاً، لأنّ التمسك بقاعدة قبح العقاب بلا بيان كاف في سدّ باب احتمال العقاب من أوّل الأمر، بلا حاجة إلى التمسك بالاستصحاب. وعليه فإن بنينا على كون الاستصحاب من الأمارات أو قلنا بحجّية مثبتات الاُصول، حصل منه القطع بعدم العقاب وصحّ التمسّك به، إذ عدم المنع من الفعل الثابت بالاستصحاب مستلزم للرخصة في الفعل، فإذا فرض ثبوت الرخصة من قبل الشارع بالتعبد الاستصحابي باعتبار كونها من لوازم عدم المنع المستصحب لم يحتمل العقاب، فانّ العقاب على الفعل مع الترخيص فيه غير محتمل قطعاً. وأمّا لو لم نقل بكون الاستصحاب من الأمارات ولا بحجية مثبتات الاُصول كما هو الصحيح، فلا يصحّ التمسك بالاستصحاب في المقام، إذ لا يثبت به الترخيص الموجب للقطع بعدم العقاب، ويبقى احتمال العقاب، فنحتاج إلى قاعدة قبح العقاب بلا بيان، ومعه كان التمسك بالاستصحاب لغواً كما تقدّم.

 وفيه أوّلاً: أنّ استصحاب عدم المنع كاف في القطع بعدم العقاب، إذ العقاب من لوازم المنع عن الفعل وتحريمه، فمع إحراز عدم المنع عن الفعل بالاستصحاب نقطع بعدم العقاب، بلا حاجة إلى إحراز الرخصة التي هي من لوازم عدم المنع ليكون مثبتاً.

 وثانياً: أ نّه يمكن جريان الاستصحاب في نفس الترخيص الشرعي المتيقن ثبوته قبل البلوغ، لحديث رفع القلم وأمثاله، فيحصل منه القطع بعدم العقاب

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) فرائد الاُصول 1: 378.

ــ[340]ــ

بلا واسطة شيء آخر.

 الوجه الثالث: ما ذكره المحقق النائيني (قدس سره) (1) وهو أنّ المتيقن الثابت قبل البلوغ إنّما هو عدم التكليف في مورد غير قابل له كما في الحيوانات، ومثل ذلك لا يحتمل بقاؤه بعد البلوغ، وإنّما المحتمل فيه عدم التكليف في المورد القابل له، فلا معنى للتمسك بالاستصحاب. وبعبارة اُخرى: العدم الثابت قبل البلوغ عدم محمولي وغير منتسب إلى الشارع، والعدم بعد البلوغ عدم نعتي منتسب إلى الشارع، وإثبات العدم النعتي باستصحاب العدم المحمولي مبني على القول بالأصل المثبت ولا نقول به.

 وفيه أوّلاً: أنّ عدم التكليف في الصبي غير المميز وإن كان كما ذكره، إلاّ أ نّه ليس كذلك في المميز، بل هو عدم التكليف في مورد قابل له، وإنّما رفعه الشارع عنه امتناناً.

 وثانياً: أنّ العدم المتيقن وإن كان أزلياً غير منتسب إلى الشارع، إلاّ أ نّه يثبت انتسابه إليه بنفس الاستصحاب، فانّ الانتساب من الآثار المترتبة على نفس الاستصحاب، لا من آثار المستصحب ليكون إثباته بالاستصحاب مبنياً على القول بالأصل المثبت. وسنذكر في بحث الاستصحاب(2) أنّ اللوازم التي لا تثبت بالاستصحاب إنّما هي اللوازم العقلية أو العادية للمستصحب. وأمّا اللوازم العقلية لنفس الاستصحاب فهي تترتب عليه، إذ الاستصحاب بعد جريانه محرز بالوجدان، فتترتب آثاره ولوازمه عليه عقلية كانت أو شرعية.

 الوجه الرابع: ما أفاده أيضاً المحقق النائيني (قدس سره) (3) وهو أ نّه يعتبر

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) أجود التقريرات 3: 331.

(2) راجع الجزء الثالث من هذا الكتاب ص 210.

(3) أجود التقريرات 3: 331 و 332.

 
 

ــ[341]ــ

في جريان الاستصحاب أن يكون الأثر المطلوب مترتباً على واقع المستصحب، وأمّا إن كان مترتباً على مجرد الشك في الواقع أو على الأعم منه ومن الواقع، فلا مجال لجريان الاستصحاب. مثلاً لو كان التشريع المحرّم عبارة عن إدخال ما لم يعلم أ نّه من الدين في الدين، أو الأعم منه ومن إدخال ما ليس من الدين في الدين، فمجرد الشك في كون شيء من الدين كاف في الحكم بحرمة إسناده إلى الشارع فاجراء استصحاب عدم كونه من الدين لاثبات حرمة الاسناد تحصيل للحاصل، بل من أردأ أنحائه، فانّه من قبيل إحراز ما هو مُحرَز بالوجدان بالتعبد. والمقام من هذا القبيل بعينه، إذ الأثر المرغوب من استصحاب عدم التكليف قبل البلوغ ليس إلاّ عدم العقاب، وهذا مترتب على نفس الشك في التكليف، لقاعـدة قبح العقاب بلا بيان، فلا نحتاج إلى إحراز عدم التكليف بالاستصحاب.

 وفيه: أنّ ما ذكر إنّما يتمّ لو كان الأثر مترتباً على خصوص الشك. وأمّا إن كان الأثر أثراً للجامع بينه وبين الواقع، فلا مانع من جريان الاستصحاب، إذ بجريانه يصل الواقع إلى المكلف ويرفع الشك تعبداً، فلم يبق معه شك ليلزم تحصيل الحاصل أو أردأ أنواعه. نعم، لو لم يجر الاستصحاب كان الشك موجوداً فيترتب عليه الأثر.

 وبالجملة: ترتب الأثر على الشك فرع عدم جريان الاستصحاب، فكيف يكون مانعاً عن جريانه، ولذا لا إشكال في جعل الأمارة ونصبها على عدم حرمة شيء مع أنّ أصالة الحل كافية لاثباته. وكذا لا إشكال في التمسك باسـتصحاب الطهارة المتيقنة، مع أنّ قاعدة الطهارة بنفسها كافية لاثباتها. والمقام من هذا القبيل بعينه. وبعبارة اُخرى واضحة: قاعدة قبح العقاب بلا بيان متوقفة على تحقق موضوعها أعني عدم البيان، فكما أ نّها لا تجري مع بيان

ــ[342]ــ

التكليف لا تجري مع بيان عدم التكليف، والاستصحاب بيان لعدمه فلا يبقى معه موضوع لها.

 الوجه الخامس: ما يظهر من كلام الشيخ (قدس سره) (1) وهو أ نّه يعتبر في جريان الاستصحاب اتحاد القضيّة المتيقنة والمشكوكة، ليصدق نقض اليقين بالشك عند عدم ترتيب الأثر حين الشك، فانّه مع عدمه كان إثبات حكم المتيقن للمشكوك من إسراء الحكم من موضوع إلى موضوع آخر، وذلك داخل في القياس لا في الاستصحاب، وفي المقام لا اتحاد للقضيّة المتيقنة والمشكوكة من حيث الموضوع، إذ الترخيص المتيقن ثابت لعنوان الصبي على ما هو ظاهر قوله (عليه السلام): «رفع القلم عن الصبي حتّى يحتلم» (2)، وهو مرتفع بارتفاع موضوعه، والمشكوك فيه هو الترخيص لموضوع آخر، وهو البالغ، فلا مجال لجريان الاستصحاب.

 والانصاف: أنّ هذا الاشكال وارد على الاستدلال بالاستصحاب في المقام، وتوضيحه: أنّ العناوين المأخوذة في موضوعات الأحكام على ثلاثة أقسام:

 الأوّل: أن يكون العنوان مقوّماً للموضوع بنظر العرف، بحيث لو ثبت الحكم مع انتفاء العنوان عدّ حكماً جديداً لموضوع آخر، لا بقاء الحكم للموضوع الأوّل، كما في جواز التقليد فانّ موضوعه العالم، ولو زال عنه العلم وصار جاهلاً يكون موضوعاً آخر، إذ العلم مقوّم لموضوع جواز التقليد في نظر العرف، وفي مثل ذلك لا مجال لجريان الاستصحاب، لعدم صدق نقض اليقين بالشك على عدم ترتيب الأثر السابق حين الشك، فلايكون مشمولاً لأدلّة الاستصحاب.

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) فرائد الاُصول 1: 378.

(2) الوسائل 1: 45 / أبواب مقدّمة العبادات ب 4 ح 11 (باختلاف يسير).

ــ[343]ــ

 الثاني: أن يكون العنوان من الحالات وغير دخيل في قوام الموضوع في نظر العرف، كما إذا قال المولى: أكرم هذا القائم مثلاً، فانّ العرف يرى القيام والقعود من الحالات، بحيث لو ثبت وجوب الاكرام حال جلوسه كان بقاءً للحكم الأوّل، لا حدوث حكم جديد لموضوع آخر. ولا إشكال في جريان الاستصحاب في هذا القسم لو فرض الشك في بقاء الحكم.

 الثالث: أن يشك في كون العنوان مقوّماً للموضوع وعدمه، كعنوان التغير المأخوذ في نجاسة الماء المتغير، فبعد زوال التغير يشك في بقاء النجاسة، لعدم العلم بأنّ التغير مقوّم لموضوع الحكم بالنجاسة أو من قبيل الحالات. وبعبارة اُخرى: يشك في أنّ حدوث التغير هل هو علّة لحدوث النجاسة للماء وبقائها، بحيث لايكون بقاؤها منوطاً ببقائه، أو علّة لحدوث النجاسة فقط بحيث تكون النجاسـة دائرة مدار التغير حدوثاً وبقاءً، أي وجوداً وعدماً. ولا يجري الاستصحاب في هذا القسم كما في القسم الأوّل، إذ مع الشك في بقاء الموضوع لم يحرز اتحاد القضيّتين، فلم يحرز صدق نقض اليقين بالشك على رفع اليد عن الحكم السابق، فيكون التمسك بأدلة الاستصحاب من قبيل التمسك بالعام في الشبهة المصداقية.

 إذا عرفت ذلك، ظهر لك عدم صحّة التمسك بالاستصحاب في المقام، لأنّ عنوان الصبي المأخوذ في الحكم بالترخيص في قوله (عليه السلام): «رفع القلم عن الصبي حتّى يحتلم»، مقوّم للموضوع في نظر العرف، ولا أقل من احتمال ذلك، ومعه لا مجال لجريان الاستصحاب بعد زواله بعروض البلوغ.




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net