الاستدلال على البراءة بحكم العقل من وجوه \ الوجه الأول 

الكتاب : مصباح الاُصول - الجزء الاول   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 4701


ــ[351]ــ

 الثالث ممّا استدلّ به على وجوب الاحتياط: حكم العقل وتقريبه بوجوه:

 الأوّل: أنّ كل مسلم يعلم إجمالاً في أوّل بلوغه بتكاليف إلزامية، وهذا العلم الاجمالي ينجّز التكاليف الواقعـية على تقدير ثبوتها، وليست الطرق والأمارات رافعة لتنجزها، إذ لا بدّ في انحلال العلم الاجمالي من ثبوت دليل يدل على نفي التكليف في بعض الأطراف إمّا مطابقة أو التزاماً، والطرق والأمارات إنّما تثبت أحـكاماً في مواردها، وليس لها تعرّض لنفي أحكام اُخر في غير مواردها، فالتنجز يبقى على حاله، فإذا علمنا إجمالاً بوجوب الصلاة مرددة بين الظهر والجمعة، كان قيام الأمارة على أحدهما نافياً لوجوب الآخر بالالتزام، فينحل به العلم الاجمالي لا محالة. وأمّا إن كان المعلوم بالاجمال أحكاماً كثيرة لا تعيّن لها، فقيام الدليل على ثبوت أحكام في موارد خاصّة لا ينفي ثبوت الحكم في غيرها فلا ينحل العلم الاجمالي.

 ولا يرد على هذا التقريب ما ذكره في الكفاية من أنّ قيام الأمارة على التكليف في بعض الأطراف يوجب صرف تنجّزه إلى ما إذا كان في ذاك الطرف، مثلاً إذا علم بحرمة إناء زيد وتردّد بين إناءين، ثمّ قامت البيّنة على أنّ أحدهما المعيّن إناؤه، كان كما إذا علم أ نّه إناؤه(1). وذلك لوجود الفرق الواضح بين مقامنا وبين المثال المذكور، إذ المعلوم بالاجمال في المثال أمر معيّن خاص، فقيام الأمارة على تعيينه في أحد الطرفين ينفي كونه في الطرف الآخر بالالتزام. وهذا بخلاف المقام، فانّ المعلوم بالاجمال فيه أحكام لا تعيّن لها بوجه، وليس لها عنوان وعلامة، فقيام الأمارة على ثبوت التكليف في بعض الموارد لا ينفي ثبوته في غيرها.

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) كفاية الاُصول: 347.

ــ[352]ــ

 هذا، ويمكن أن يجاب عن هذا الاستدلال أوّلاً: بالنقض بالشبهات الوجوبية والموضوعية، فانّ هذا العلم لو كان مانعاً عن الرجوع إلى البراءة في الشبهات الحكمية التحريمية، كان مانعاً عن الرجوع إليها فيها أيضاً، مع أنّ الأخباريين لا يقولون بوجوب الاحتياط فيها. وثانياً: بالحل وهو أنّ العلم الاجمالي بتكاليف واقعية ينحل بقيام الأمارات على تكاليف إلزامية بمقدار المعلوم بالاجمال.

 وتوضيحه: أنّ لنا هنا ثلاثة علوم إجمالية: الأوّل: العلم الكبير، وأطرافه جميع الشبهات ممّا يحتمل التكليف، ومنشؤه العلم بالشرع الأقدس، إذ لا معنى للشرع الخالي عن التكليف رأساً. الثاني: العلم الاجمالي المتوسط، وأطرافه موارد قيام الأمارات المعتبرة وغير المعتبرة، ومنشؤه كثرة الأمارات والقطع بمطابقـة بعضها للواقع، فانّا لا نحتمل مخالفة جميعها للواقع. الثالث: العلم الاجمالي الصغير، وأطرافه موارد قيام الأمارات المعتبرة، ومنشؤه القطع بمطابقة مقدار منها للواقع.

 وحيث إنّ العلم الاجمالي الأوّل ينحل بالعلم الاجمالي الثاني، والثاني بالثالث، فلا يتنجز التكليف في غير مؤديات الطرق والأمارات المعتبرة. والميزان في الانحلال أن لا يكون المعلوم بالاجمال في العلم الاجمالي الصغير أقل عدداً من المعلوم بالاجمال في العلم الاجمالي الكبير، بحيث لو أفرزنا من أطراف العلم الاجمالي الكبير مقدار المعلوم بالاجمال في العلم الاجمالي الصغير، لم يبق لنا علم إجمالي في بقية الأطراف. مثلاً إذا علمنا اجمالاً بوجود خمس شياه مغصوبة في قطيع من الغنم، وعلمنا أيضاً بوجود خمس شياه مغصوبة في جملة البيض من هذا القطيع، فلا محالة ينحل العلم الاجمالي الأوّل بالعلم الاجمالي الثاني، فانّا لو أفرزنا خمس شياه بيض لم يبق لنا علم إجمالي بمغصوبية البقية، لاحتمال

ــ[353]ــ

انطباق المعلوم بالاجمال في العلم الاجمالي الكبير على المعلوم بالاجمال في العلم الاجمالي الصغير. بخلاف ما لو علمنا إجمالاً بوجود ثلاث شياه محرّمة في جملة البيض من القطيع، فانّ العلم الاجمالي الأوّل لا ينحل بالعلم الثاني، إذ لو أفرزنا ثلاث شياه بيض، بقي علمنا الاجمالي بمغصوبية البعض الباقي بحاله، لأنّ انطباق الخمس على الثلاث غير معقول.

 وعليه فلاينبغي الشك في انحلال العلم الاجمالي الكبير بالعلم الاجمالي المتوسط، إذ المعلوم بالاجمال في الأوّل لا يزيد عدداً على المعلوم بالاجمال في الثاني، لأنّ منشأ العلم الاجمالي الكبير هو العلم باستلزام الشرع لوجود أحكام وتكاليف، ويكفيه المقدار المعلوم بالاجمال في موارد قيام الأمارات. وكذا العلم الاجمالي الثاني ينحل بالعلم الاجمالي الثالث، لأ نّا لو أفرزنا مقداراً من أطراف العلم الثالث، أي الأخبار المعتبرة في كل باب من أبواب الفقه، بحيث يكون المجموع بمقدار المعلوم بالاجمال في العلم الثالث، لم يبق لنا علم إجمالي بوجود التكاليف في غيره، ولو مع ضم سائر الأمارات، بل وجود التكاليف في غيره مجرّد احتمال، فيستكشف بذلك أنّ المعلوم بالاجمال في العلم الثاني لا يزيد عدداً على المعلوم بالاجمال في العلم الثالث، فينحل العلم الثاني بالعلم الثالث لا محالة.

 ثمّ إنّ ما ذكرناه من الانحلال مبني على العلم الوجداني بمطابقة الأمارات المعتبرة للواقع بمقدار ما علم إجمالاً ثبوته في الشريعة المقدّسة من التكاليف على ما تقدّم بيانه، وهذا الأمر وإن كان صحيحاً، إلاّ أ نّه لو منع منه القائل بوجوب الاحتياط، وادعى عدم العلم بمطابقة الأمارات للواقع بمقدار المعلوم بالاجمال في العلم الاجمالي الأوّل، فنحن ندّعي الانحلال حتّى مع عدم العلم الوجداني بمطابقة الأمارات المعتبرة للواقع.

 وتوضيح ذلك: أنّ العلم الاجمالي متقوّم دائماً بقضيّة منفصلة مانعة الخلو،

ــ[354]ــ

ففي العلم الاجمالي بنجاسة أحد الاناءين يصدق قولـنا: إمّا هذا الاناء نجس وإمّا ذاك، وقد يحتمل نجاستهما معاً، والمدار في تنجيز العلم الاجمالي على هذا الترديد حدوثاً وبقاءً، فإذا فرضنا أنّ القضـيّة المنفصلة انقلبت إلى قضيّـتين حمليتين إحداهما متيقنة ولو باليقين التعبّدي، والاُخرى مشكوكة بنحو الشك الساري، فلا محالة ينحل العلم الاجمالي ويسقط عن التنجيز، والسر في ذلك: أنّ تنجيز العلم الاجمالي ليس أمراً تعبدياً، وإنّما هو بحكم العقل لكاشفيته عن التكليف كالعلم التفصيلي، فإذا زالت كاشفيته بطروء الشك الساري، زال التنجيز لا محالة، كما هو الحال في العلم التفصيلي بعينه.

 ولا ينتقض ذلك بما إذا علم بحدوث تكليف جديد في أحد الأطراف معيّناً، ولا بطروء الاضطرار إلى بعض الأطراف أو تلفه أو امتثال التكليف فيه، فانّ العلم الاجمالي بالتكليف الفعلي في جميع هذه الفروض باق على حاله، غاية الأمر أ نّه بتحقق أحد هذه الاُمور يشك في سقوطه، فلابدّ من الاحتياط وتحصيل العلم بسقوطه، فانّ الاشتغال اليقيني يقتضي البراءة اليقينية، بخلاف ما إذا زال العلم الاجمالي بطروء الشك الساري، وانقلبت القضيّة المنفصلة إلى حمليتين: إحداهما متيقنة ولو باليقين التعبدي، والاُخرى مشكوكة بالشك الساري، فانّ التنجيز يسقط فيه بانحلال العلم الاجمالي لا محالة.

 أمّا على القول بأنّ المجعول في باب الأمارات هو نفس الطريقية والمحرزية فالأمر واضح، لأنّ قيام الأمارة يوجب العلم بالواقع تعبداً. وكما تنقلب القضيّة المنفصلة إلى حمليتين بالعلم الوجداني، كذلك تنقلب إليهما بالعلم التعبدي، فقيام الأمارة على ثبوت التكليف بمقدار المعلوم بالاجمال يوجب انحلال العلم الاجمالي لا محالة.

 وأمّا على القول بأنّ المجعول في باب الأمارات هي المنجّزية والمعذّرية، فقد

ــ[355]ــ

يستصعب الانحلال، وهو في محلّه لو قلنا باشتراط منجزية الأمارات بالوصول، بمعنى أنّ المنجّز هي الأمارات الواصلة إلى المكلف لا الأمارات بوجودها الواقعي، لأنّ العلم الاجمالي الموجـود في أوّل البلوغ قد أثّر أثره من تنجيز التكاليف الواقعية، وقيام منجّز آخر بعد ذلك على الحكم في بعض الأطراف لا يوجب سقوط المنجّز السابق. نعم، إن قلنا ـ وهو الصحيح ـ بأنّ مجرد كون الأمارة في معرض الوصول ـ بمعنى كون الأمارة بحيث لو تفحص عنها المكلف وصل إليها ـ كاف في التنجيز، انحلّ العلم الاجمالي، فانّ المكلف في أوّل بلوغه ـ حين يلتفت إلى وجود التكاليف في الشريعة المقدّسة ـ يحتمل وجود أمارات دالّة عليها، فيتنجز عليه مؤدياتها بمجرد ذلك الاحتمال، وحيث إنّ هذا الاحتمال مقارن لعلمه الاجمالي بالتكاليف، فلايكون علمه منجّزاً لجميع أطرافه، لتنجز التكليف في بعض أطرافه بمنجّز مقارن له، نظير ما لو علمنا بوقوع نجاسة في أحد الاناءين وعلمنا بنجاسة أحدهما المعيّن مقارناً لذلك العلم الاجمالي فانّه لاينجز حينئذ أصلاً، والسر فيه: أنّ تنجيز العلم الاجمالي إنّما هو بتساقط الاُصول في أطرافه للمعارضة، وفي مفروض المثال يجري الأصل في الطرف المشكوك فيه بلا معارض، ولذا ذكرنا في محلّه أ نّه لو كان الأصل الجاري في بعض الأطراف مثبتاً للتكليف وفي بعضها الآخر نافياً له لا يكون العلم الاجمالي منجّزاً (1).

 وممّا ذكرناه ظهر الحال، وصحّة الانحلال على القول بالسببية في باب الأمارات، وأنّ المجعول هي الأحكام الفعلية على طبقها، فانّ قيام الأمارة يكشف عن ثبوت الأحكام في مواردها من أوّل الأمر، فلا يبقى أثر للعلم الاجمالي بالتكاليف الواقعية مرددةً بينها وبين غيرها.

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) راجع ص 407 و 415 و 422.

ــ[356]ــ

 والمتحصّل ممّا ذكرناه في المقام: أ نّه على جميع الأقوال في باب الأمارات تكون أطراف العلم الاجمالي من غير مواردها مورداً لأصالة البراءة. أمّا على القول بالطريقية، فلأنّ العلم الاجمالي ينقلب بقاءً إلى الشك الساري والعلم التفصـيلي. وأمّا على القول بالمنجّزية، فلأنّ قيام الأمارة يكشف عن تنجز التكليف في بعض الأطراف من غير جهة العلم الاجمالي في أوّل الأمر. وأمّا على القول بالسببية، فلأنّ الأمارة تكشف عن اشتمال مؤدياتها على مصلحة أو مفسدة مستلزمة لثبوت الحكم على طبقها من أوّل الأمر.




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net