المقام الأوّل : دوران الأمر بين المتباينين 

الكتاب : مصباح الاُصول - الجزء الاول   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 4436

 

ــ[401]ــ
 

مباحث الشك الأُصول العملية

أصالة الاحتياط
 

ــ[402]ــ

ــ[403]ــ
 

الشك في المكلّف به

 إعلم أنّ التكليف المعلوم بالاجمال تارةً يتردّد بين المتباينين واُخرى بين الأقل والأكثر، فلا مناص من البحث في موردين:

 المورد الأوّل: في دوران الأمر بين المتباينين، وقبل الشروع في تحقيق الحال في هذا المورد، لا بدّ من ذكر مقدّمة، وهي أنّ احتمال التكليف الالزامي بنفسه مساوق لاحتمال العقاب على مخالفته، ومعه كان العقل مستقلاً بلزوم التحرز عنه وتحصيل المؤمّن، وهذا هو الملاك في حكم العقل بلزوم الاطاعة، حتّى في موارد العلم التفصيلي بالتكليف، أو قيام الحجّة عليه، فانّ مخالفة التكليف الواصل إلى المكلف ـ بالعلم الوجداني أو بقيام الحجّة المعتبرة ـ لاتستلزم القطع بالعقاب عليها، لاحتمال العفو منه سبحانه وتعالى، والشفاعة من النبي والأئمة (عليهم السلام) وإنّما المتحقق هو احتمال العقاب على المخالفة وهو كاف في حكم العقل بالتنجيز، فلا فرق بين موارد التكاليف المعلومة والتكاليف المحتملة في أنّ حكم العقل بلزوم الاطاعة ناشئ من احتمال العقاب، ففي كل مورد يحتمل فيه التكليف الالزامي يستقل العقل بلزوم التحرز عن المخالفة، إلاّ أن يثبت فيه مؤمّن من العقاب عقلاً، كقاعدة قبح العقاب بلا بيان، أو شرعاً كالأدلة الشرعية الدالة على البراءة من حديث الرفع ونحوه، وأمّا إذا لم يثبت المؤمّن عقلاً ولا شرعاً،

ــ[404]ــ

فنفس الاحتمال كاف في تنجيز التكليف الواقعي، ويتحصل من ذلك أنّ تنجيز العلم الاجمالي وعدمه يدور مدار جريان الاُصول في أطرافه وعدمه، فإن قلنا بجريانها في جميع الأطراف، سقط العلم الاجمالي عن التنجيز مطلقاً. وإن قلنا بعدم جريانها في شيء من الأطراف كان احتمال التكليف في كل طرف بنفسه منجّزاً، بلا حاجة إلى البحث عن منجّزية العلم الاجمالي، فتجب الموافقة القطعية كما تحرم المخالفة القطعية. وإن قلنا بجريانها في بعض الأطراف دون بعض لم تجب الموافقة القطعية وإن حرمت المخالفة القطعية. وهذا هو الوجه للتفصيل بين وجوب الموافقة القطعية وحرمة المخالفة القطعية.

 ثمّ إنّه لا فرق في جريان الاُصول في أطراف العلم الاجمالي وعدمه، بين كون العلم الاجمالي متعلقاً بأصل التكليف وكونه متعلقاً بالامتثال، فانّ الترديد في مورد العلم الاجمالي كما يمكن أن يكون في أصل التكليف أو متعلقه، كذلك يمكن أن يكون في مرحلة الامتثال بعد العلم التفصيلي بثبوت التكليف، كما إذا علمنا إجمالاً ببطلان إحدى الصلاتين بعد الاتيان بهما، فإن قلنا بجريان الاُصول النافية في جميع أطراف العلم الاجمالي أو في بعضها لم يكن مانع من جريان قاعدة الفراغ في كلتا الصلاتين أو في إحداهما، فلا وجه لتخصيص النزاع بالاُصول الجارية عند الشك في أصل التكليف، دون الجارية في مرحلة الامتثال.

 إذا عرفت ذلك، فتحقيق الحال في المقام يستدعي التكلم في مقامات أربعة:

 المقام الأوّل: في البحث عن إمكان جعل الحكم الظاهري وعدمه في تمام الأطراف بحسب مقام الثبوت، وما يتصور مانعاً عن ذلك أمران:

 أحدهما: أنّ جعل الحكم الظاهري في تمام الأطراف مستلزم للترخيص في المعصية ومخالفة التكليف الواصل صغرىً وكبرى وهو قبيح عقلاً، من غير فرق بين أن يكون الحكم الظاهري ثابتاً بالأمارة أو بالأصل التنزيلي أو بالأصل غير

ــ[405]ــ

التنزيلي، لأنّ التمييز غير مأخوذ في موضوعات التكاليف، ولا فرق في حكم العقل بقبح الترخيص في مخالفة التكليف الواصل بين أن يكون معلوماً تفصيلاً أو يكون معلوماً بالاجمال. وهذا الوجه وإن كان صحيحاً، إلاّ أ نّه مختص بموارد العلم الاجمالي بالتكليف مع كون الحكم الظاهري في جميع الأطراف نافياً، ففي مثل هذا الفرض يستحيل شمول أدلة الاُصول لجميع أطراف العلم الاجمالي.

 لا يقال: إنّ مورد جريان الأصل إنّما هو كل واحد من الأطراف بخصوصه، وثبوت التكليف فيه غير معلوم، فليس فيه ترخيص في المعصية.

 لأ نّا نقول: جريان الأصل في كل طرف بخصوصه منضمّاً إلى الترخيص في بقية الأطراف ـ كما هو محل الكلام فعلاً ـ يكون ترخيصاً في مخالفة التكليف الواصل. وأمّا جعل الحكم الظاهري في كل من الأطراف مقيّداً بعدم ارتكاب الطرف الآخر، فسيأتي الكلام فيه قريباً (1) إن شاء الله تعالى.

 ثانيهما: مناقضة الحكم الظاهري الناظر إلى الواقع مع العلم الوجداني، وهذا الوجه غير مختص بما إذا كان المعلوم بالاجمال إلزامياً. نعم، يختص بما إذا كان الحكم الظاهري ثابتاً بالأمارة أو بالأصل التنزيلي فيمتنع جعله في جميع الأطراف، لزم منه المخالفة العملية أم لم يلزم.

 هذا، والذي ينبغي أن يقال في المقام: هو أ نّه لو قامت الأمارة في كل من الأطراف على خلاف المعلوم بالاجمال كما إذا علمنا بنجاسة أحد المائعين وقامت البيّنة على طهارة أحدهما المعيّن، وقامت بيّنة اُخرى على طهارة الآخر، فلا ريب في عدم حجّية شيء من الأمارتين، فانّ ما دلّ على طهارة أحدهما المعيّن قد دلّ على نجاسة الآخر بالالتزام، بضميمة العلم الاجمالي بنجاسة أحدهما،

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) في ص 412 ـ 414.

ــ[406]ــ

فتقع المعارضة بينها وبين ما دلّ على طهارة الآخر، فتسقطان عن الحجّية على ما هو الأصل في التعارض، لعدم إمكان شمول دليل الحجّية للمتعارضين، وشموله لأحدهما ترجيح بلا مرجّح. ولا فرق في ذلك بين كون العمل بالأمارات مستلزماً للمخالفة العملية، كما إذا كان المعلوم بالاجمال حكماً إلزامياً ودلّت الأمارات على خلافه، وبين عدم كون العمل بها مستلزماً لذلك، كما إذا كان المعلوم بالاجمال حكماً ترخيصياً ودلّت الأمارات على خلافه.

 وأمّا إن كان الحكم الظاهري مستفاداً من الاُصول التنزيلية الجارية في جميع أطراف العلم الاجمالي فمنع المحقق النائيني(1) (قدس سره) جريانها في جميع الأطراف، سواء استلزام المخالفة القطعية أم لم يستلزم، وملخّص ما ذكره في وجه ذلك: أنّ المجعول في باب الاُصول التنزيلية هو البناء العملي والأخذ بأحد طرفي الشك على أ نّه هو الواقع، فيمتنع في جميع الأطراف، إذ لا يعقل البناء والتنزيل على خلاف العلم الوجداني.

 هذا، ولكن الصحيح أ نّه لا مانع من جريان الاُصول في الأطراف إذا لم يستلزم المخالفة العملية، بلا فرق بين التنزيلية وغيرها، إذ الأصل مطلقاً لايترتب عليه إلاّ ثبوت مؤداه ولا يؤخذ بلوازمه، فكل من الاُصول الجارية في الأطراف إنّما يثبت مؤداه بلا نظر إلى نفي غيره، وغاية ما يترتب على ضم بعض الاُصول إلى البعض هو العلم بمخالفة بعضها للواقع، ولا ضير فيه بناءً على ما هو التحقيق من عدم وجوب الموافقة الالتزامية.

 ونظير ذلك ما التزم به المحقق النائيني(2) نفسه وغيره من أ نّه إذا شكّ المصلّي المسبوق بالحدث في الطهارة بعد الفراغ من الصلاة، فتجري قاعدة الفراغ بالنسبة

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) أجود التقريرات 3: 414، فوائد الاُصول 4: 14 و 15.

(2) العروة الوثقى (المحشّاة) 1: 459 المسألة 53.

ــ[407]ــ

إلى الصلاة الماضية، ويجري استصحاب الحدث بالنسبة إلى الصلاة الآتية، مع أ نّه يعلم إجمالاً بعدم مطابقة أحد الأصلين التنزيليين للواقع، وليس ذلك إلاّ من جهة أ نّه لا يترتب على جريان الأصلين إلاّ المخالفة الالتزامية، وهي غير مانعة عن جريانهما.

 هذا فيما إذا كانت الاُصول مثبتة للتكليف على خلاف المعلوم بالاجمال. وأمّا إن كانت نافية له، كما إذا علمنا بطروء النجاسة على أحد المائعين المعلوم طهارتهما سابقاً، فعدم جريان الاستصحاب فيهما معاً إنّما هو للمانع المتقدم من استلزامه الترخيص في المعصية، وبذلك ظهر أنّ أدلة الاُصول لو فرض شمولها لأطراف العلم الاجمالي لزم تخصيصها عقلاً بغير ما استلزم الترخيص في المعصية.

 المقام الثاني: في إمكان جعل الحكم الظاهري في بعض الأطراف وعدمه. والمعروف بينهم إمكان ذلك في نفسه، وأ نّه لا مانع منه بحسب مقام الثبوت. ولذا قالوا إنّ العلم الاجمالي ليس علّةً تامّةً لوجوب الموافقة القطعية.

 وذهب صاحب الكفاية وبعض الأساطين من تلامذته إلى استحالة ذلك وذكرا في وجه ذلك أمرين:

 الأوّل: ما أفاده صاحب الكفاية (قدس سره) (1) وملخّصه ـ بعد دعوى الملازمة بين جعل الحكم الظاهري في بعض الأطراف وجعله في جميع الأطراف إمكاناً وامتناعاً ـ أ نّه لا فرق بين العلم الاجمالي والتفصيلي في انكشاف الواقع بهما، إنّما الفرق بينهما من ناحية المعلوم لا من ناحية العلم والانكشاف، فإن كان الحكم المعلوم بالاجمال فعلياً من جميع الجهات امتنع جعل الحكم الظاهري على خلافه في تمام الأطراف أو في بعضها، ضرورة استحالة الترخيص ولو

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) كفاية الاُصول: 358، راجع أيضاً الأمر السابع في مبحث القطع ص 272 و 273.

ــ[408]ــ

احتمالاً في مخالفة التكليف الفعلي المنجّز. وإن لم يكن الحكم الواقعي المعلوم بالاجمال فعلياً من تمام الجهات فلا مانع من جهل الحكم الظاهري على خلافه في بعض الأطراف أو في جميعها. فتلخّص: أ نّه فيما أمكن جعل الحكم الظاهري في بعض الأطراف لعدم فعليّة الحكم الواقعي من جميع الجهات أمكن جعل الحكم الظاهري في جميع الأطراف أيضاً. ومهما امتنع جعل الحكم الظاهري في تمام الأطراف لفعليّة التكليف الواقعي امتنع جعله في بعض الأطراف أيضاً، فإنّه كما لايعقل القطع بثبوت المتضادّين كذلك لايعقل احتمال ثبوتهما أيضاً. انتهى مُلخّص كلامه.

 وفيه: أنّ فعليّة الحكم إنّما هي بفعليّة موضوعه بما له من الأجزاء والقيود، فانّ نسبة الحكم إلى موضوعه أشبه شيء بنسبة المعلول إلى علّته التامّة، فيستحيل تخلّف الحكم عن موضوعه، وإلّا لم يكن ما فرض موضوعاً موضوعاً وهو خلف، وحينئذ فلو أراد من قوله: إنّ الحكم الواقعي قد لا يكون فعليّاً من جميع الجهات، أنّ العلم التفصيلي مأخوذ في موضوعه، كما يظهر من قوله (قدس سره): إن علم به المكلّف يكون فعليّاً (1)، فيردّه الإجماع والروايات الدالّة على اشتراك الأحكام بين العالم والجاهل(2)، مُضافاً إلى كونه خروجاً عن محلّ الكلام، فإنّ البحث عن تنجيز العلم الإجمالي إنّما هو بعد الفراغ عن عدم اختصاص الأحكام بالعالمين. وإن أراد أنّ العلم لم يؤخذ في موضوع الحكم الواقعي ومع ذلك لا يكون فعليّاً قبل العلم به، ففيه: أ نّه غير معقول، لاستلزامه

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) [ العبارة منقولة بالمعنى ].

(2) [ ذكر (قدس سره) في بحث الإجزاء أنّ الروايات الدالّة على الاشتراك هي الروايات الدالّة على ثبوت الأحـكام مُطلقاً، وروايات الاحتياط والبراءة وما شـاكلها الدالّة بالالتزام على الاشتراك. ولمزيد الاطِّلاع راجع محاضرات في اُصول الفقه 2: 87 ].

ــ[409]ــ

الخلف على ما تقدّم بيانه.

 الثاني: ما ذكره بعض الأساطين(1) من أنّ الحكم الواقعي قد وصل إلى المكلّف وتنجّز، فامتنع جعل الترخيص على خلافه ولو احتمالاً، فانّ نفس التكليف والإلزام واصل ومعلوم تفصيلاً، إنّما التردّد في متعلّقه، فلا يمكن الترخيص في مُخالفة هذا الإلزام ولو احتمالا.

 وفيه أوّلاً: النقض بما لو فرض كون الأصل الجاري في بعض الأطراف نافياً دون بعض آخر، كما لو علم اجمالاً بوقوع نجاسة في أحد الإناءين، وكان أحدهما متيقّن النجاسة سابقاً، فإنّ أصالة الطهارة تجري في غير مستصحب النجاسة بلا إشكال، مع أنّ العلم بوجود تكليف فعلي موجود بالوجدان. وتوهّم أنّ التكليف في مستصحب النجاسة ثابت قبل تحقّق العلم الإجمالي على الفرض، فالعلم بوقوع النجاسة فيه أو في غيره لا يوجب علماً بحدوث تكليف جديد، فلا يُقاس المقام بذلك، مدفوع بأنّ سبق النجاسـة في أحد الإناءين لا يضرّ بالعلم بالتكليف الفعلي المردّد بين كونه ثابتاً من الأوّل وحدوثه فعلاً، فلو أمكن جعل الحكم الظاهري والاكتفاء بالامتثال الاحتمالي في هذا الفرض أمكن في غيره أيضاً، لوحدة الملاك إمكاناً وامتناعاً. وإن شئت قلت: إنّ العلم الاجمالي لا يزيد على العلم التفصيلي، فكما يجوز أن يكتفي الشارع في مورد العلم التفصيلي بالتكليف بالامتثال الاحتمالي كما في موارد قاعدة الفراغ والتجاوز، كذلك يجوز له الاكتفاء بالامتثال الاحتمالي في موارد العلم الاجمالي بطريق أولى.

 وثانياً: الحلّ بأنّ موضوع الاُصول إنّما هو الشكّ في التكليف، وهو موجود في كل واحد من الأطراف بخصوصه، فإنّ احتمال انطباق التكليف المعلوم بالإجمال

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) نهاية الأفكار 3: 307 وما بعدها.

ــ[410]ــ

إنّما هو عين الشك في التكليف.

 فتحصل من جميع ما ذكرناه في المقام: أ نّه لا مانع من جعل الحكم الظاهري في بعض الأطراف بحسب مقام الثبوت.

 المقام الثالث: في البحث عن شمول دليل الحكم الظاهري لجميع الأطراف وعدمه. وليعلم أنّ الحكم الظاهري قد يكون مستفاداً من الأمارة، وقد يكون مستفاداً من الأصل التنزيلي أو الأصل غير التنزيلي. أمّا الأمارات فقد عرفت(1) اسـتحالة جعل الحجّية لها في جميع الأطراف، بلا فرق بين أن يكون مؤدّى الأمارات حكماً إلزامياً، والمعلوم بالاجمال حكماً غير إلزامي، وبين أن يكون عكس ذلك.

 وأمّا الأصل فاختار شـيخنا الأنصاري (قدس سره) (2) عدم شمول دليله للمقام، لاستلزامه التناقض بين الصدر والذيل، باعتبار أنّ مقتضى إطلاق الصدر في مثل قوله (عليه السلام): «كل شيء هو لك حلال حتّى تعرف أ نّه حرام»(3)، هو جريان الأصل في أطراف العلم الاجمالي، إذ كل واحد من الأطراف بخصوصه مشكوك فيه مع قطع النظر عن الآخر، ومقتضى إطلاق العلم في ذيله الذي جعل غايةً للحكم الظاهري هو عدم جريان الأصل، فتلزم المناقضة بين الصدر والذيل. وكذا الحال في دليل الاستصحاب، فانّ الشك المأخوذ في صدره يعم الشك البدوي والمقرون بالعلم الاجمالي، واليقين المجعول في ذيله ناقضاً يشمل العلم التفصيلي والاجمالي، ومن الظاهر أنّ الحكم بحرمة النقض في جميع الأطراف يناقض الحكم بالنقض في بعضها.

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) في ص 405 ـ 406.

(2) فرائد الاُصول 2: 404 و 405، 744 ـ 745.

(3) الوسائل 17: 89 / أبواب ما يكتسب به ب 4 ح 4 (باختلاف يسير).

ــ[411]ــ

 وفيه أوّلاً: أنّ أدلة الاُصول غير منحصرة بما هو مشتمل على تلك الغاية، فعلى تقدير تسليم إجمال هذه الروايات المذيّلة بذكر الغاية لا مانع من التمسّك بالروايات التي ليس فيها هذا الذيل، فانّ إجمـال دليل فيه الغاية المذكورة لا يسري إلى غيره ممّا ليس فيه الذيل المذكور.

 وثانياً: أنّ العلم المأخوذ في الغاية في هذه الأخبار ظاهر عرفاً في خصوص ما يكون منافياً للشك رافعاً له، بأن يكون متعلقاً بعين ما تعلّق به الشك، وكذا الحال في دليل الاستصحاب كقوله (عليه السلام): «ولكن انقضه بيقين آخر»(1) فانّ الظاهر منه تعلّق اليقين الآخر بعين ما تعلّق به الشك واليقين الأوّل، ليكون نقضاً له، ومن الواضح أنّ العلم الاجمالي لا يكون ناقضاً للشك في كل واحد من الأطراف لعدم تعلّقه بما تعلّق به الشك، بل بعنوان جامع بينها وهو عنوان أحدها. وعليه فلا مانع من شمول أدلة الاُصول لجميع الأطراف لولا المانع الثبوتي، ولذا نلتزم بجريانها فيما لم يلزم منه المخالفة العملية، كما إذا كان الحكم المعلوم بالاجمال غير إلزامي ومفاد الأصل حكماً إلزامياً على ما تقدّم بيانه (2).

 المقام الرابع: في البحث عن شمول أدلة الاُصول لبعض الأطراف وعدمه. والتحقيق عدم شمولها لشيء من الأطراف. أمّا البراءة العقلية فلأنّ ملاكها قاعدة قبح العقاب بلا بيان، ولا مجال لجريانها بعد تمامية البيان ووصول التكليف إلى المكلف بالعلم الاجمالي. وأمّا الاُصول الشرعية فلأنّ شمول أدلتها لبعض الأطراف معيّناً ترجيح بلا مرجح، وللبعض غير المعيّن غير صحيح، إذ الغالب حصول القطع باباحة البعض غير المعيّن من الأطراف، فالبعض غير المعيّن غير مشكوك فيه ليكون مشمولاً لأدلة الاُصول. وعلى تقدير احتمال ثبوت التكليف في جميع

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 1: 245 / أبواب نواقض الوضوء ب 1 ح 1 (باختلاف يسير).

(2) في ص 406.

ــ[412]ــ

الأطراف، لا أثر للحكم باباحة بعضها غير المعيّن، بعد وجوب الاجتناب عن جميع الأطراف بحكم العقل مقدّمةً للاجتناب عن الحرام المعلوم بالاجمال.

وبعبارة اُخرى: مورد جريان الأصل هو المشكوك فيه، وهو كل واحد من الأطراف بخصوصه. وأمّا عنوان أحدها فليس من المشكوك فيه بل الغالب هو القطع باباحته.

 وبعبارة ثالثة: كل واحد من أطراف العلم الاجمالي وإن كان بنفسه مشكوكاً فيه، إلاّ أنّ شمول دليل الأصل له مع شموله لغيره غير معقول كما تقدّم في المقام الأوّل (1)، ومن دون شموله لغيره ترجيح بلا مرجح. وأمّا عنوان أحدها غير المعيّن فلا شكّ فيه غالباً، إذ الغالب في موارد العلم الاجمالي بالالزام يعلم بعدمه في بعض الأطراف غير المعيّن، ولا يحتمل ثبوت التكليف في جميع الأطراف. وعلى تقدير الشك فيه والحكم باباحته الظاهرية للأصل فهو لا يزيد على القطع بها، فكما أنّ القطع الوجداني بها لا ينافي وجوب الاجتناب عن جميع الأطراف بحكم العقل دفعاً للعقاب المحتمل وتحصيلاً للأمن منه، كذلك التعبد بها لا ينافي ذلك بالأولوية. فتحصّل: أنّ أدلة الاُصول غير شاملة لبعض الأطراف أيضاً.

 بقي الكلام في احتمال شمولها لجميع الأطراف تخييراً، بأن يلتزم بجريان الأصل في كل منها على تقدير عدم ارتكاب الباقي، لتكون النتيجة اكتفاء المولى بالموافقة الاحتمالية، ولا بدّ قبل تحقيق الحال في ذلك من بيان أقسام التخيير وهي ثلاثة:

 القسم الأوّل: التخيير الشرعي الثابت بدليل خاص، كالتخيير بين الخبرين المتعارضين عند فقد المرجحات.

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) في ص 405.

ــ[413]ــ

 القسم الثاني: التخيير العقلي الثابت في مورد التزاحم كذلك.

 القسم الثالث: التخيير العقلي الثابت بضميمة الدليل الشرعي من جهة الاقتصار على القدر المتيقن في رفع اليد عن ظواهر الخطابات الشرعية، وذلك كما لو ورد عام له إطلاق أحوالي، كما لو قال: أكرم كل عالم، الظاهر في وجوب إكرام كل فرد من العلماء تعييناً من غير تقييد باكرام غيره وعدمه، ثمّ علمنا من الخارج بعدم وجوب إكرام فردين منه معاً كزيد وعمرو مثلاً، ودار الأمر بين خروجهما عن العموم رأساً بأن لايجب إكرامهما أصلاً، وخروجهما تقييداً بأن لا يجب إكرام كل منهما عند إكرام الآخر ويجب إكرام كلٍّ منهما عند عدم إكرام الآخر، ففي مثل ذلك لا بدّ من الاقتصار على القدر المتيقن في رفع اليد عن ظاهر الدليل، وهو الحكم بعدم إكرام كل منهما عند إكرام الآخر.

 وبعبارة اُخرى: الدليل العام كما دلّ على وجوب إكرام كل منهما دلّ باطلاقه على وجوب إكرامه حال اكرام الآخر وعدمه، وقد علمنا من الخارج بعدم إرادة الاطلاق بالنسبة إلى حال إكرام الفرد الآخر، فيرفع اليد عن هذا الاطلاق. وأمّا عدم وجوب الاكرام رأساً فهو غير معلـوم، فيؤخذ بظاهر الدليل في ثبوته، فتكون النتيجة هي التخيير بين إكرام زيد وترك إكرام عمرو وعكسه، وهذا البيان جار في كل ما إذا دلّ دليلان على وجوب أمرين وعلمنا من الخارج عدم وجوبهما تعييناً، واحتملنا ثبوت الوجوب لهما تخييراً، كما لو دلّ دليل على وجوب صلاة الجمعـة الظاهر في كونه تعييناً، ودلّ دليل آخر على وجوب صلاة الظهر كذلك، فمقتضى القاعدة رفع اليد عن الظهور في الوجوب التعييني المسـتفاد من الاطلاق، وحمل كل منهما على الوجوب التخـييري. وبالجملة: كلّما دار الأمر بين رفع اليد عن أصل الحكم ورفع اليد عن إطلاقه كان الثاني هو المتعيّن لأ نّه المتيقن.

 إذا عرفت ذلك فنقول: إنّ القسم الأوّل من التخيير غير جار في المقام،

ــ[414]ــ

لعدم الدليل عليه كما هو واضح، وكذا القسم الثاني، لأنّ المكلف في مورد العلم الاجمالي قادر على الامتثال القطعي بالاجتناب عن جميع الأطراف. نعم، التخيير في الخبرين المتعارضين على مسلك المعتزلة من باب التخيير في باب التزاحم، إلاّ أ نّه مع بطلانه في نفسه أجنبي عن التخيير في باب الاُصول العملية.

 وأمّا القسم الثالث فربّما يتوهّم جريانه في المقام، بدعوى أنّ مقتضى إطلاق أدلة الاُصول هو ثبوت الترخيص في كل واحد من أطراف العلم الاجمالي، وقد علمنا من الخارج استحالة هذا الجعل، لاستلزامه الترخيص في مخالفة التكليف الواصل، فيدور الأمر بين رفع اليد عن الترخيص في جميع الأطراف ورفع اليد عن إطلاقه بأن يقيد الترخيص في كل طرف بما إذا لم يرتكب الطرف الآخر، وقد عرفت أنّ المتعيّن هو الثاني، فتكون النتيجة هي التخيير في تطبيق الترخيص على أيّ طرف من الأطراف. وقد وقع نظير هذا التوهّم في تعارض الأمارتين، فتوهّم أنّ مقتضى القاعدة هو رفع اليد عن إطلاق دليل الحجّية بالنسبة إلى كل منهما، فتثبت الحجّية تخييراً.

 وردّه المحقق النائيني (قدس سره) (1) بأنّ التقابل بين الاطلاق والتقييد من تقابل العدم والملكة، فاستحالة الاطلاق تستدعي استحالة التقييد وبالعكس، وحيث إنّ الاطلاق في محل الكلام ممتنع ثبوتاً، فامتنع التقييد أيضاً.

 وفيه: أنّ استحالة الاطلاق يستلزم ضرورة التقييد، لما ذكرناه مراراً (2) من أنّ الاهمال بحسب مقام الثبوت غير متصور، فلا مناص من الاطلاق أو التقييد، وكون التقابل بينهما من تقابل العدم والملكة لا يقتضي استلزام استحالة الاطلاق

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) أجود التقريرات 3: 420 و 421.

(2) راجع على سبيل المثال محاضرات في اُصول الفقه 1: 534.

ــ[415]ــ

استحالة التقييد، ألا ترى أنّ استحالة الجهل له تعالى لا تستلزم استحالة العلم له سبحانه، بل تقتضي ضرورة العلم له تعالى، مع أنّ التقابل بين العلم والجهل من تقابل العدم والملكة، وكذا التقابل بين الفقر والغنى من تقابل العدم والملكة، واستحالة الغنى للممكن لا تقتضي استحالة الفقر له، بل تقتضي ضرورة الفقر له، وهكذا في بقية أمثلة الأعدام والملكات.

 والتحقيق في الجواب: أنّ لزوم رفع اليد عن إطلاق الحكم لا عن أصله فيما إذا دار الأمر بينهما وإن كان صحيحاً، إلاّ أ نّه لا ينطبق على المقام، لأنّ ذلك إنّما هو فيما إذا أمكن التقييد، كما في الأمثلة المذكورة، بخلاف المقام، فانّ التقييد فيه غير معقول في نفسه، فلا محالة يكون المانع عن الاطلاق مانعاً عن أصل الحكم، إذ المفروض وصـول الحكم الواقعي إلى المكلف، وإن كان متعلقه مردداً بين أمرين أو اُمور، فكيف يعقل الترخيص في مخالفته ولو مقيداً بترك الطرف الآخر، فانّ هذا التقييد لا يرفع قبح الترخيص في المعصية، فلو فرض أنّ الخمر موجود في الخارج وقد علم المكلف به وبحرمته، واشتبه بين مائعين مثلاً، فكيف يعقل الحكم باباحته والترخيص في شربه ولو مشروطاً بترك الطرف الآخر الذي هو مباح في الواقع.

 وبعبارة اُخرى: إذا علمنا بحرمة أحد المائعين وإباحة الآخر، فالحرمة المعلومة غير مقـيّدة بترك المباح يقيناً، كما أنّ الاباحة غير مقيّدة بترك الحرام قطعاً. فالحكم باباحة كل منهما مقيداً بترك الآخر غير مطابق للواقع، ومناف للعلم بالحرمة والاباحة المطلقتين. ومن الواضح أ نّه يعتبر في الحكم الظاهري احتمال المطابقة للواقع، فلا يعقل جعله في ظرف القطع بمخالفته للواقع.

 والمتحصّل ممّا ذكرناه: أنّ العلم الاجمالي إذا تعلّق بحكم إلزامي فلا تجري الاُصول النافية للتكليف في شيء من أطرافه. أمّا عدم جريانها في تمام الأطراف

ــ[416]ــ

فللمانع الثبوتي وهو قبح الترخيص في مخالفة التكليف الواصل. وأمّا عدم جريانها في بعضها، فلقبح الترجيح بلا مرجح. نعم، إن كان بعض الاُصول نافياً للتكليف وبعضها مثبتاً له، فيجري الأصل النافي والمثبت بلا معارض. وأمّا إذا تعلّق العلم الاجمالي بحكم غير إلزامي. فلا مانع من جريان الاُصول المثبتة في جميع أطرافه بحسب مقام الثبوت، كما أ نّه لا مانع من شمول أدلّتها لها في مقام الاثبات. نعم، لا تجري الأمارات في تمام الأطراف لاستلزامها التناقض بحسب الدلالة الالتزامية على ما تقدّم بيانه (1).
 




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net