التنبيه الرابع : خروج بعض الأفراد عن محل الابتلاء بعد العلم الاجمالي 

الكتاب : مصباح الاُصول - الجزء الاول   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 4274


التنبيه الرابع

 قد عرفت الاشارة (1) إلى أ نّه لو كان الأصل النافي للتكليف جارياً في بعض الأطراف دون بعض آخر، فلا مانع من جريانه، فلا يكون العلم الاجمالي منجّزاً حينئذ، كما إذا كان بعض الأطراف خارجاً عن محل الابتلاء أو مضطراً إليه، فانّ الأصل لا يجري فيه، إذ يعتبر في جريان الأصل ترتب الأثر العملي عليه، ولا يترتب أثر على جريانه في الخارج عن محل الابتلاء أو المضطر إليه.

 وكذلك الحـال لو كان الأصل الجاري فى بعض الأطراف مثبتاً للتكليف، فانّه يجري الأصل النافي في الطرف الآخر بلا معارض، كما إذا علمنا بوقوع

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) في ص 416 وفي التنبيهين الأوّلين.

ــ[424]ــ

نجاسة في أحد الاناءين، وكان أحدهما المعيّن متيقن النجاسة سابقاً إمّا وجداناً أو تعبداً لقيام أمارة أو أصل محرز، فكان مجرى لاستصحاب النجاسة، فيجري الأصل النافي في الطرف الآخر بلا معارض. وكذا لو كان بعض الأطراف طرفاً لعلم إجمالي سابق قد تنجّز فيه التكليف بذلك العلم، فيجري الأصل النافي في الطرف الآخر من العلم الاجمالي الثاني بلا معارض.

 ثمّ إنّ هذا الذي ذكرناه لا إشكال فيه فيما إذا كان حدوث العلم الاجمالي متأخراً عن طروء هذه الاُمور وعن العلم بها، أو كان مقارناً له، وإنّما الكلام فيما إذا علم بطروء أحد هذه الاُمور بعد تحقق العلم الاجمالي، فهل يوجب ذلك سقوطه عن التأثير في تنجّز التكليف ليجري الأصل النافي في بعض الأطراف أم لا؟ وبعبارة اُخرى: إذا كان العلم الاجمالي حين حدوثه مقارناً لأحد الاُمور المتقدمة فلا يكون مؤثراً في التنجيز من أوّل الأمر. وأمّا إذا فرض تأثيره في زمان وحكم بتساقط الاُصول في أطرافه، ثمّ طرأ شيء من هذه الاُمور، فهل يوجب ذلك سقوطه عن التأثير بقاءً أم لا؟ قولان:

 الأظهر هو السقوط (1) لأنّ العلم الاجمالي لا يزيد على العلم التفصيلي ولا

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1)                                  والذي يخطر بالبال القاصر هو أنّ الأظهر عدم السقوط، لأنّ الاُصول في أطراف العلم الاجمالي الموجب للتنجز الساقط باقية بحالها على الفرض، وسيصرّح سيّدنا الاُستاذ (دام ظلّه) به في الصفحة 426، وبعد بقاء العلم الاجمالي بحاله لو خرج بعض الأطراف عن محل الابتلاء مثلاً لا يكون الشك في الطرف الآخر شكّاً حادثاً ليرجع فيه إلى الأصل، بل الشك فيه هو الشك الموجود أوّلاً وقد سقط الأصل فيه للمعارضة فكيف يعود بعد سقوطه. وظهر بما ذكرناه عدم انطباق ما استدلّ به (دام ظلّه) ـ من أنّ العلم الاجمالي... إلى قوله: سقط عن التنجز ـ على المقام فانّ العلم الاجمالي باق =

ــ[425]ــ

على سائر الحجج والأمارات في تنجيز التكليف، فكما أ نّه لو تبدّل العلم التفصيلي بالشك الساري أو زالت البيّنة بقاءً لشبهة موضـوعية، كما لو شكّ في عدالـة البيّنة القائمة على نجاسة شيء مثلاً، أو لشبهة حكمية كما إذا شكّ في حجّية البيّنة في مورد اُقيمت عليه، سقط الحكم عن التنجيز في جميع هذه الموارد لعدم منجّز له بقاءً. نعم، لو كان الشك في التكليف راجعاً إلى الامتثال بعد العلم بثبوته تفصيلاً أو بعد قيام الحجّة عليه، كما إذا علم المكلف بوجوب صلاة الظهر مثلاً ثمّ شكّ فيه لاحتمال الاتيان بها والخروج عن عهدتها، كان التنجيز باقياً بحاله، فلا بدّ من الاتيان بها ليحصل الفراغ اليقيني ويؤمّن من احتمال العقاب. فكذا الحال في العلم الاجمالي كما إذا علم إجمالاً بوجوب إحدى الصلاتين القصر أو التمام مثلاً فأتى بإحداهما، فانّ العلم بالتكليف وإن كان زائلاً لا محالة، إلاّ أنّ زواله راجع إلى مرحلة الامتثال، لا إلى مرحلة الحدوث، فالتنجيز باق بحاله، فلا بدّ من الاتيان بالاُخرى، ليحصل الفراغ اليقيني بعد العلم باشتغال الذمّة.

 إن قلت: إذا أتى المكلف بإحدى الصلاتين المعلوم وجوب إحداهما إجمالاً، فالعلم الاجـمالي بحدوث التكليف وإن كان موجوداً فعلاً، إلاّ أ نّه لا يمنع من الرجوع إلى الأصل بالنسبة إلى الصلاة التي لم يؤت بها، فيرفع بذلك وجوبها، فانّ وجوبه فعلاً مشكوك فيه، والأصل الجاري فيها غير معارض بالأصل في الطرف الآخر، لعدم ترتب أثر عليه بعد الاتيان بهذا الطرف، وقد تقدّم (1) أنّ تنجيز العلم الاجمالي إنّما كان من جهة تعارض الاُصول وتساقطها.

ــــــــــــــــــــــــــــ

= بحاله ولم يتبدّل على الفرض باعترافه (دام ظلّه)، نعم الاستدلال المذكور إنّما يتمّ فيما إذا تبدّل العلم الاجمالي بما ذكر، ولكنّه خلاف الفرض، وقد تعرّض (دام ظلّه) للتبدّل في آخر الصفحة الآتية وسيأتي اعترافه بما ذكرنا في التنبيه الثامن الصفحة 443.

(1) في ص 404.

ــ[426]ــ

 قلت: الشك في وجوب الصلاة التي لم يؤت بها وإن كان موجوداً فعلاً، إلاّ أ نّه ليس شكاً حادثاً غير الشك الذي كان موجوداً أوّلاً، وقد فرضنا عدم شمول دليل الأصل له للمعارضة، فكيف يشمله بعد الاتيان بإحدى الصلاتين، وكيف يعود الأصل الساقط بعد سقوطه.

 إن قلت: لا مانع من ذلك بعد إطلاق الدليل لكل حال من الحالات، وإنّما رفع اليد عنه قبل الاتيان بإحدى الصلاتين للمعارضة، والضرورات تقدّر بقدرها، فإذا ارتفعت المعارضة باتيان إحدى الصلاتين لا مانع من التمسك باطلاق دليل الأصل بالنسبة إلى الطرف الآخر. وبعبارة اُخرى: الأمر في المقام دائر بين رفع اليد عن أصل الدليل ورفع اليد عن إطلاقه، وبما أنّ الموجب لرفع اليد هو المحذور العقلي وهو لزوم الترخيص في المعصية، فيقتصر فيه على مورده وهو صورة تعارض الأصلين. وأمّا إذا فرض عدم جريان الأصل في بعض الأطراف ولو بقاءً، فلا مانع من جريان الأصل في الطرف الآخر.

 قلت: نعم، ليس الموجب لرفع اليد عن الدليل إلاّ المحذور العقلي، ولكنّه كما يقتضي عدم شمول دليل الأصل للطرفين في زمان واحد، كذلك يقتضي عدم شموله لهما في زمانين أيضاً. فإذا علم بحرمة أحد المائعين، فكما لا يمكن الحكم بحليتهما معاً في زمان واحد، كذلك لا يمكن أن يحكم بحلية أحدهما في زمان، ويحكم بحلية الآخر في زمان آخر، فانّه من الترخيص في المعصية، فلا يمكن جريان الأصل في كليهما على كل نحو، للزوم الترخيص في المعصية، ولا في أحدهما لعدم الترجيح.

 هذا كلّه فيما إذا كان العلم الاجمالي باقياً على حاله وكان الشك شكّاً في الانطباق. وأمّا إذا زال بتبدله بالعلم التفصيلي بحرمة أحد المائعين بخصوصه من أوّل الأمر، فالشك في نجاسة الآخر ـ لو فرض ـ شك حادث لا مانع من شمول

ــ[427]ــ

دليل الأصل له.

 ولا فرق فيما ذكرناه بين زوال العلم الاجمالي بالوجدان كالمثال المتقدم وبين زواله بالتعبد، كما إذا قامت الأمارة على حرمة أحد المائعين بخصوصه من أوّل الأمر، أو كان ذلك مقتضى الأصل التنزيلي كالاستصحاب، بل الأمر كذلك في الأصل غير التنزيلي أيضاً، كما إذا علمنا بنجاسة أحد الاناءين الأبيض أو الأحمر، ثمّ علمنا بعد ذلك بنجاسة الأبيض، أو إناء آخر من أوّل الأمر، بأن يكون المنكشف سابقاً ولو كان الكشف متأخراً، فالعلم الاجمالي الأوّل ينحل بالعلم الاجمالي الثاني، إذ بعد العلم الثاني لا يبقى لنا علم بحدوث نجاسـة بين الأبيض والأحمر، فيحتمل أن يكون الأبيض هو النجس من أوّل الأمر، وقد فرضنا العلم بنجاسته أو بنجاسة الآخر، فلا يبقى إلاّ الشك في حدوث نجاسة جديدة في الاناء الأحمر، غير ما هو المتيقن بين الأبيض والاناء الآخر، فيكون المرجع في الاناء الأحمر أصالة الطهارة بلا معارض.
 




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net