الثالثة - الرابعة - الخامسة 

الكتاب : مصباح الاُصول - الجزء الاول   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 4272


 الجهة الثالثة: هل يختص وجوب التعلّم بما إذا علم المكلف تفصيلاً أو إجمالاً أو اطمأنّ بابتلائه بما لا يعلم حكمه، كحكم الشكوك المتعارفة التي يعمّ بها


ــ[580]ــ

الابتلاء، أو يجب بمجرّد احتمال الابتلاء ؟ وجهان بل قولان.

 المشهور بينهم بل المتسالم عليه هو الثاني. وربّما يقال بالأوّل تمسّكاً باستصحاب عدم الابتلاء، وبعد إحراز عدم الابتلاء ولو بالتعبد لا يجب التعلّم.

 وردّ هذا الاستصحاب بوجهين:

 الأوّل: أنّ أدلة الاستصحاب لا تشمل المقام، بدعوى أ نّها لا تشمل إلاّ الاُمور الماضية المتعلق بها اليقين السابق والشك اللاحق، فعدم الابتلاء في المستقبل لا يكون مشمولاً لأدلة الاستصحاب.

 وفيه: أنّ الميزان في جريان الاستصحاب إنّما هو تقدّم زمان المتيقن على زمان المشكوك فيه، من دون فرق بين الاُمور الماضية والاستقبالية، على ما سيجيء الكلام فيه في بحث الاستصحاب(1) إن شاء الله تعالى. ولذا بنينا على ذلك فروعاً كثيرة منها: جواز البدار في أوّل الوقت لذوي الأعذار تمسّكاً باستصحاب بقاء عذره إلى آخر الوقت.

 الثاني: ما ذكره المحقق النائيني(2) (قدس سره) وهو أنّ جريان الاستصحاب متوقف على كون الواقع المشكوك فيه بنفسه أثراً شرعياً أو ذا أثر شرعي. وأمّا إذا لم يكن كل من الأمرين، ولم يكن أثر شرعي في البين، أو كان الأثر مترتباً على نفس الشك دون الواقع، فلا معنى لجريان الاستصحاب. والمقام من هذا القبيل، لأنّ وجوب التعلّم من باب وجوب دفع الضرر المحتمل بحكم العقل مترتب على احتمال الابتلاء لا على واقع الابتلاء، ليتمسّك بالاستصحاب لاحراز عدمه.

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) راجع الجزء الثالث من هذا الكتاب، ص106/ التنبيه الأوّل من تنبيهات الاستصحاب.

(2) أجود التقريرات 1: 231، فوائد الاُصول 1: 207 و 208.

 
 

ــ[581]ــ

 وفيه: أ نّه لا يعتبر في جريان الاستصحاب كون المستصحب أثراً شرعياً أو ذا أثر شرعي، بناءً على ما هو التحقيق من أنّ الاستصحاب يقوم مقام القطع الموضوعي أيضاً، فيكفي في جريان الاستصحاب ترتّب الأثر على نفس الاستصحاب. وعليه فلا مانع من إجراء الاستصحاب في المقام وإحراز عدم الابتلاء بالتعبّد، ويترتب عليه عدم وجوب التعلّم، فلا يبقى موضوع لحكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل. نعم، بناءً على عدم قيام الاستصحاب مقام القطع الموضوعي وكونه بمنزلة القطع الطريقي فقط، كما عليه صاحب الكفاية (1)(قدس سره) يعتبر في جريان الاستصحاب كون المستصحب أثراً شرعياً أو ذا أثر شرعي، فلا يجري في المقام، لما ذكره المحقق النائيني (قدس سره) ولكنّه خلاف ما التزم به في مبحث الاستصحاب، فانّه اختار فيه كون الاستصحاب بمنزلة القطع الموضوعي أيضاً (2).

 هذا، ولكن التحقيق أنّ الاستصحاب غير جار في المقام، للأدلة الدالة على وجوب التعلّم، فانّ إطلاقها يشمل المقام. وتخصيصها بموارد العلم أو الاطمئنان بالابتلاء مستهجن لندرتها، فانّ الغالب في مسائل الشكوك ونحوها مجرد احتمال الابتلاء، فيكون وجوب التعلّم عند احتمال الابتلاء ثابتاً بالدليل، ومعه لا تصل النوبة إلى جريان الاستصحاب كما هو واضح.

 الجهة الرابعة: لا شكّ في أنّ الشاك في التكليف لو ترك الفحص واقتحم في الشبهة فصادف ارتكاب الحرام يستحقّ العقاب على مخالفة الواقع، إذ بعد وجوب الفحص طريقياً تنجّز الواقع عليه. هذا فيما إذا كان الواقع بحيث لو تفحّص المكلف عنه لظفر به. وأمّا فيما إذا كان الواقع على نحو لا يصل المكلف

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) كفاية الاُصول: 263 و 264.

(2) أجود التقريرات 4: 41، راجع أيضاً أجود التقريرات 3: 19.

ــ[582]ــ

إليه بعد الفحص، بل ربّما يؤدّي فحصه إلى خلافه، فهل يستحقّ العقاب على مخالفة الواقع أم لا ؟ وجهان بل قولان.

 ولا يخفى أنّ استحقاق العقاب من جهة التجري وعدم الفحص مبني على ما تقدّم الكلام فيه في مبحث التجري(1)، فمحل الكلام فعلاً إنّما هو استحقاق العقاب على مخالفة الواقع، فالتزم المحقق النائيني(2) (قدس سره) باستحقاق العقاب، بدعوى أنّ مخالفة الواقع ما لم تكن مقرونة بالمؤمّن شرعاً أو عقلاً موجـبة لاستحقاق العقاب. والمقام كذلك لأنّ المفروض عدم جريان البراءة الشرعية ولا العقلية قبل الفحص على ما تقدّم بيانه (3).

 وقد ذكرنا في الدورة السابقة أ نّه يمكن الالتزام بعدم استحقاق العقاب لجريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان، إذ المراد بالبيان جعل التكليف في معرض الوصول على ما تقدّم بيانه، فمع عدم تمكن المكلف من الوصول إليه كان البيان غير تام من قبل الشارع، ومعه يستقل العقل بقبح العقاب، فتكون مخالفة الواقع حينئذ مقرونة بالمؤمّن العقلي، غاية الأمر أنّ المكلف غير ملتفت إلى عدم تمامية البيان من قبل المولى وكان يحتملها فتجرّى واقتحم الشبهة بلا فحص، فلو كان مستحقاً للعقاب، فانّما هو على التجري لا على مخالفة الواقع، لأنّ الواقع ممّا لم تقم الحجّة عليه، فيكون العقاب عليه بلا بيان.

 ولكن التحقيق هو التفصيل في المقام بأن يقال: إن بنينا على وجوب الفحص لآية السؤال والأخبار الدالة على وجوب التعلّم وتحصيل العلم بالأحكام (4)

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) راجع ص 17 وما بعدها.

(2) أجود التقريرات 3: 566، فوائد الاُصول 4: 287 و 288.

(3) راجع ص 566 وما بعدها.

(4) كما تقدّم في ص 571.

ــ[583]ــ

فالحق عدم استحقاق العقاب، لعدم إمكان التعلّم والفحص وتحصيل العلم على الفرض، فلا يكون المقام مشمولاً للآية الشريفة والأخبار الدالة على وجوب التعلّم. وإن بنينا على وجوب الفحص لأجل العلم الاجمالي أو لأجل أدلة التوقف والاحتياط، بناءً على كونها دالة على الوجوب المولوي الطريقي لا الارشادي المحض، على ما استظهرنا منها (1)، فالحق استحقاق العقاب على مخالفة الواقع، لكونه حينئذ منجّزاً بالعلم الاجمالي أو بوجوب التوقف والاحتياط.

 الجهة الخامسة: لا ينبغي الاشكال في أنّ العمل الصادر من الجاهل المقصّر قبل الفحص محكوم بالبطلان ظاهراً، بمعنى أنّ العقل يحكم بعدم جواز الاجتزاء به في مقام الامتثال، لعدم إحراز مطابقته للواقع. وهذا المعنى من البطلان هو المراد لصاحب العروة (قدس سره) في قوله: إنّ عمل العامي بلا تقليد ولا احتياط باطل(2)، فلا وجه لما ذكره المحشّون على قوله المذكور، على تفصيل يأتي، لأنّ التفصيل الذي ذكره بعد سطور (3) بأ نّه إن كان مطابقاً للواقع فكذا، وإن كان مخالفاً له فكذا، إنّما هو بعد انكشاف الواقع. والمراد من البطلان في صدر عبارته بمعنى عدم جواز الاجتزاء به بحكم العقل، إنّما هو قبل انكشاف الواقع، فلا ربط له بالتفصيل المذكور بعد سطور. ولا فرق في الحكم بالبطلان ظاهراً بالمعنى المذكور بين المعاملات والعبادات إذا فرض تمشّي قصد القربة منه في العبادات. وإلاّ فلا ينبغي الشك في بطلان العبادات واقعاً. هذا كلّه قبل انكشاف الحال بالعلم أو بالحجّة. وأمّا إذا تبيّن الحال فالصور المتصورة أربع:

 الصورة الاُولى: أن تنكشف مخالفة المأتي به للواقع بفتوى من كان يجب

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) في ص 346.

(2) العروة الوثقى 1: 18 / المسألة 7.

(3) في المسألة 16.

ــ[584]ــ

الرجوع إليه حين العمل، وبفتوى من يجب الرجوع إليه فعلاً، أو كان من يجب الرجوع إليه فعلاً هو الذي كان يجب الرجوع إليه حين العمل. ولا إشكال في الحكم ببطلان العمل في هذه الصورة، لعدم مطابقته للواقع على حسب الحجّة الفعلية والحجّة حين العمل.

 الصورة الثانية: أنّ تنكشف مطابقة المأتي به للواقع بفتوى كلا المجتهدين، أو كان من يجب الرجوع إليه فعلاً هو الذي كان يجب الرجوع إليه حين العمل، وكان العمل المأتي به مطابقاً للواقع بفتواه. ولا إشكال في الحكم بصحّة العمل في هذه الصورة، لكونه مطابقاً للواقع على حسب الحجّة الفعلية والحجّة حين العمل، بل يستفاد الحكم بصحّته في هذه الصورة من الحكم بالصحّة في الصورة الرابعة بالأولوية القطعية.

 الصورة الثالثة: أن تنكشف مطابقة العمل المأتي به لفتوى من كان يجب الرجوع إليه حين العمل، ومخالفته لفتوى من يجب الرجوع إليه فعلاً. والظاهر هو الحكم بالبطلان في هذه الصورة، لأنّ المقتضي للصحّة إمّا أن يكون الأدلة الخاصّة الدالة على عدم وجوب الاعادة في خصوص الصلاة كحديث لاتعاد(1) بناءً على عدم اختصاصه بالناسي، وشموله للجاهل أيضاً كما هو الصحيح، ولذا نحكم بصحّة عمل الجاهل القاصر خلافاً للمحقق النائيني (قدس سره) فانّه أصرّ على اختصاصه بالناسي(2)، وهو لا يشمل الجاهل المقصّر، لعدم إتيانه بوظيفة العبودية من التعلّم والفحص. وبالجملة: الجاهل المقصّر بمنزلة العامد، فلا يشمله حديث لا تعاد وأمثاله.

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 7: 234 / أبواب قواطع الصلاة ب 1 ح 4.

(2) أجود التقريرات 3: 528، فوائد الاُصول 4: 238 و 239، كتاب الصلاة 3: 5، 6.

ــ[585]ــ

 وإمّا أن يكون المقتضي للصحّة الأدلة العامّة التي أقاموها على دلالة الأوامر الظاهرية للاجزاء، بلا فرق بين الصلاة وغيرها، وعمدتها الاجماع على عدم وجوب الاعادة والقضاء بعد امتثال الأوامر الظاهرية ولو انكشف خلافها، ولا يكون المقام داخلاً في معقد الاجماع يقيناً، لأنّ الاجماع على الاجزاء وعدم وجوب الاعادة والقضاء إنّما هو فيما إذا كان العامل في عمله مستنداً إلى الأمر الظاهري. وأمّا إذا لم يستند إليه كما في المقام فلا إجماع على صحّته.

 الصورة الرابعة: أن تنكشف مطابقة العمل المأتي به للواقع بحسب فتوى المجتهد الفعلي، ومخالفته له بفتوى المجتهد الأوّل. والحكم في هذه الصورة الصحّة، إذ الحجّة الفعلية قامت على صحّة العمل وعدم وجوب القضاء، فجاز الاستناد إليها في ترك القضاء.

 نعم، هنا شيء وهو أ نّه لو كان العمل مخالفاً للواقع في نفس الأمر ومضى وقته، صحّ عقابه على مخالفة الواقع بالنسبة إلى ما مضى من الأعمال، لكون العمل مخالفاً للواقع على الفرض، وعدم الاستناد إلى الحجّة فيه، والسر فيه: أنّ ترك الواجب الواقعي في الوقت له عقاب غير عقاب ترك القضاء، فالاستناد إلى فتوى المجتهد الفعلي بصحّة العمل المأتي به وعدم وجوب القضاء يوجب رفع العقاب على ترك القضاء، لا رفع العقاب على ترك الأداء، إذ تركه كان بلا استناد إلى الحجّة. فمن صلّى بلا استناد إلى فتوى مجتهد ومضى وقتها، ثمّ انكشف صحّتها بفتوى المجتهد الفعلي، بمعنى أ نّه قلّد من أفتى بصحّتها وعدم وجوب القضاء عليه وكانت في الواقع فاسدة، صحّ عقابه لترك الأداء، لكونه بلا استناد إلى حجّة، فلا يكون معذوراً فيه. نعم، لا يصح عـقابه على ترك القضاء، لاستناده فيه إلى الحجّة الفعلية، فيكون معذوراً لا محالة. نعم، لو صلّى بلا تقليد مجتهد ثمّ قلّد من أفتى بصحّة صلاته والوقت باق وكانت صلاته فاسدة

ــ[586]ــ

في نفس الأمر، لا يصح عقابه على ترك الأداء أيضاً، لاستناده حينئذ في عدم الاعادة إلى الحجّة الفعلية.

 ومن جميع ما ذكرناه في حكم المقلد ظهر حكم المجتهد التارك للفحص أيضاً، فانّ نسبة الأمارة إليه نسبة فتوى المجتهد إلى المقلد، بلا تفاوت بينهما من حيث الحكم أصلاً، فلا حاجة إلى الاعادة.




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net